فضائل اهل البیت علیهم السلام بین تحریف المدونین وتناقض مناهج المحدثین

اشارة

رقم الإیداع فی دار الکتب والوثائق ببغداد

لسنة 2011 __ 158

البلداوی، وسام، 1974 -     م.

فضائل أهل البیت علیهم السلام بین تحریف المدونین وتناقض مناهج المحدثین: دراسة لإثبات وقوع التحریف والتناقض فی مصادر الحدیث وقواعده عند العامة وأثر ذلک علی فضائل أهل البیت علیهم السلام / تألیف وسام برهان البلداوی؛ [تقدیم اللجنة العلمیة، محمد علی الحلو]. - کربلاء: العتبة الحسینیة المقدسة. قسم الشؤون الفکریة والثقافیة، 1433ق. = 2012م.

719ص. – (قسم الشؤون الفکریة والثقافیة؛ 58).

المصادر : ص 671 __ 695 ؛ وکذلک فی الحاشیة.

1 . أهل البیت – فضائل – أحادیث أهل السنة – شبهات وردود. 2. أهل البیت – فضائل – تأثیر محدثون أهل السنة. 3. الصحابة – فضائل – تأثیر محدثون أهل السنة. 4 . تدوین التاریخ الإسلامی – تأثیر محدثون أهل السنة. 5. أحادیث أهل السنة – مصادر – شبهات وردود. 6. الحدیث – علم الرجال – شبهات وردود. 7. الحدیث – منع التدوین. 8. أحادیث مختلقة. 9. الحدیث – جرح وتعدیل. ألف. الحلو، محمدعلی، 1957 -           م، مقدم. ب. العنوان.

6 ف  8 ب / 508 / 36 BP

تمت الفهرسة فی مکتبة العتبة الحسینیة المقدسة قبل النشر

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

ص: 3

فضائل أهل البیت علیهم السلام

بین تحریف المدوّنین وتناقض مناهج المحدّثین دِرَاسةٌ لإثباتِ وُقُوْعِ التَّحْریْفِ والتَّناقُضِ فی مَصَادِرِ الحَدِیثِ وقواعدِه عنْدَ العامَّةِ وأثرُ ذلکَ فی فَضَائِلِ أهْل البَیْتِ علیهِمُ السَّلامُ

تألیف

الشیخ وسام برهان البلداوی

إصدار

قسم الشؤون الفکریة والثقافیة

فی العتبة الحسینیة المقدسة

ص: 4

جمیع الحقوق محفوظة

للعتبة الحسینیة المقدسة

الطبعة الأولی

1433ه_ __ 2012م

العراق: کربلاء المقدسة __ العتبة الحسینیة المقدسة

قسم الشؤون الفکریة والثقافیة __ هاتف: 326499

Web: www.imamhussain-lib.com

E-mail: info@imamhussain-lib.com

ص: 5

الاهداء

إلی السیدة الطاهرة والبضعة الزاکیة.

إلی أم أبیها وریحانة بعلها وفخر بنیها.

إلی من یرضی الله لرضاها ویغضب لغضبها.

إلی من سلبها الأولین نحلتها والآخرین فضائلها.

إلی سیدة نساء العالمین الحوراء الإنسیة فاطمة بنت محمد علیهما السلام

أهدی هذا الجهد المتواضع راجیا من الله سبحانه القبول والرضا والتوفیق

لخدمتها وخدمة أبیها وبعلها وبنیها، وملتمسا بذلک شفاعتهم لی

ولمن یهمنی أمره ویهمهم أمری یوم لا ینفع مال ولا بنون

إلا من أتی الله بقلب سلیم.

عبدکم یا مولاتی الشیخ وسام برهان البلداوی

کربلاء المقدسة، من داخل حرم سید الشهداء علیه السلام

الخامس عشر من شهر محرم الحرام

1432 للهجرة النبویة المشرفة

23 کانون الثانی 2010 میلادی

ص: 6

ص: 7

مقدمة اللجنة العلمیة

شغلت بحوث الحدیث النبوی ودراساته مجالاً واسعاً من اهتمام الباحثین، ونتجت من ذلک جهود أثمرت فی تمتین القواعد الحدیثیة بما ینسجم ومعطیات المدرسة الحدیثیة التی رعاها أئمة أهل البیت علیهم السلام بعد أن اکتسبت مشروعیتها من خلال رعایتهم للحدیث النبوی الذی طورد علی مدی عقود الصدر الأول الإسلامی، وتمخضت هذه المطاردات عن تغییر طائفة کبیرة من الأحادیث النبویة لصالح الرؤیة السیاسیة التی تزعّمها معاویة بن أبی سفیان الذی لاحق رواة الفضائل – فضائل علی بن أبی طالب علیه السلام – بعد أن وِرثَ محاولات التشذیب والمطاردة «اللاشرعیة» والتی حاولت السلطات إلباسها اللبوس الشرعی متکئة علی فتاوی فقهاء السلطة ورواة «فضائلها الموضوعیة».

ولم تزل محاولات المطاردة تأخذ مکانتها «التقدیسیة التقلیدیة» فی ذهنیة المتلقی المرهوبة من سطوات الحاکم؛ وتحذیرات فقهائه الذین یدورون مدار توجهاته وینشّطون «ماکینة الوضع» التی تنتج أحادیث الفضائل بقیاسات الحاکم وذوقه لیرتدیها بحلتها «الشرعیة» متی ما اقتضت الحاجة إلی ذلک، وتنهال توجیهات السلطة علی الحدیث لتطال المحدّث لیجد نفسه مرغوماً علی ترسیم الحدیث بما ینسجم ورؤیة الحاکم فی سلب التراث الروائی أحادیث الفضائل أو إدخال ما لیس منها، ولم یقتصر الوضع علی ذلک بل زجت الکثیر من الأحادیث المنسوبة إلی

ص: 8

النبی صلی الله علیه وآله وسلم إلی مطولات حدیثیة لأسباب:

منها التقرب إلی الخلیفة کما فی روایة غیاث بن إبراهیم الذی روی عن النبی صلی الله علیه وآله وسلم فقال: «لا سبق الا فی خفٍ أو حافر أو فصل أو جناح»، فأمر له المهدی العباسی بعشرة آلاف درهم بعد أن کان مولعاً بالحمام، ولما خرج الراوی قال المهدی: أشهد أن قفاه قفا کذاب علی رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، فکانت دواعی هذا الوضع الارتزاق بعد أن وجد الراوی مجالاً خصباً فی نشر مثل هذه الأحادیث. ومنها کان بعضهم یرغّبون الناس علی قراءة القرآن فوضعوا الأحادیث المرغبة فی ذلک کما عند میسرة بن عبد ربه الذی وضع أصناف الأحادیث المرغبة فی قراءة القرآن، فلما عوتب علی ذلک قال وضعتها بعد أن رأیت الناس قد رغبوا عن القرآن فوضعنا لهم هذا الحدیث لینصرفوا إلی القرآن.

إلی غیر ذلک من محاولات الوضع.

الا أن أهم الأحادیث النبویة التی طالها الوضع والتحریف هی أحادیث الفضائل التی خضعت لجملة «تجریف» منظمة أسّسَ قواعدها رواد مدرسة التحریف الأولی والتی نجمت عن تحولات سیاسیة مقیتة اقتضت الحاجة إلی شطب الکثیر من الفضائل واستبدالها بفضائل أخری تقلل من هیمنتها علی المشروع الإسلامی وتَئِد التأصیلات الرائدة فی هذا المجال، واقتضت عملیات المشروع البدیل أن تُعلن عن حظر تام علی حدیث فضائل أهل البیت علیهم السلام الذی یُعد إحدی آلیات المعارضة وسلب الشرعیة عن النظام، واستطاعت هذه المحاولات أن توقف العمل إلی وقت محدود بأحادیث الفضائل لکنها لم تستطع الاستمرار فحاولت أن تُحبط الجهود الروائیة للفضائل بإیجاد آلیات أخری واختیار محاولات جدیدة توهن من انتشار الفضائل ألا أنها لا تستطیع إیقافها وحدها، وعممت

ص: 9

صیغاً لمعالجة الأحادیث بطرق التضعیف أو محاولات الإهمال، أو أسالیب الترهیب من أجل انحسار المد الجارف لهذه الفضائل التی احتلت مساحات واسعة من مدونات الحدیث وملاحمه الروائیة وذلک من خلال وضع فضائل بدیلة أخری لهذه الأحادیث من أجل تقلیل نفوذها ومحاولات خطرها المحدق بالمشروع السلطوی الحاکم.

وفی محاولة الشیخ وسام برهان البلداوی فی کتابه الموسوم فضائل أهل البیت علیهم السلام بین تحریف المدونین وتناقض مناهج المحدثین حاول تسلیط الضوء علی واقع تاریخی ینساق خلف رغبات السلطة ویعزز من محاولتها فی التقلیل من أهمیة روایات الفضائل الا أنها جوبهت هذه المحاولات برفضٍ یفرضه الواقع العلمی ویعززه التراث النبوی الذی ما زال یسدد هذه الأحادیث ویمتّن علاقتها بالأمة کونها التراث النبوی الذی أریقت من أجله دماء الخیرین.

السید محمدعلی الحلو

ص: 10

ص: 11

بسم الله الرحمن الرحیم

المقدمة

الحمد لله الذی اجتبی من عباده الأنبیاء والمرسلین ثم لم یجعل الناس بعدهم هملا تتقاذفهم أمواج الفتن فجعل لهم برحمته حججا وأوصیاء وسفنا یأمن من رکبها ویغرق ویهلک من تخلف عنها، والصلاة والسلام علی المبعوث رحمة للأنام محمد بن عبد الله وعلی آله الطاهرین المعصومین سفن النجاة وساسة العباد وأرکان البلاد، واللعنة الدائمة التامة علی أعدائهم من الإنس والجن أجمعین، آمین یا رب العالمین.

وبعد: فقد کنت ومنذ مدّة بعیدة، أحدث نفسی بکتابة بحث أجمع فیه بعض اللآلئ المکنونة من بحر فضائل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، ویشدنی إلی ذلک الأحادیث الحاثة علی کتابة فضائلهم، ومدارسة مناقبهم، والنظر إلی أخبارهم، وروایة ما لهم من المنازل المنیفة، والمراتب الجلیلة.

 ولکن کان یصرفنی عن ذلک، وجود کتب کثیرة قدیمة وحدیثة، تکفلت بذکر مثل هذا الموضوع، فارتأیت أن أتناول فضائل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، من زاویة لم یتم تناولها من قبل، أو ندر تناولها بهذه الکیفیة والطریقة، وقد وفقنی

ص: 12

الله سبحانه إلی تناول فضائلهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین من زاویة الحرب الضروس التی أججت بوجه تلک الفضائل الشریفة، تلک الحرب التی بدأت شرارتها الأولی فی الیوم الأول لرحیل النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم ولم تخمد إلی یوم الناس هذا، ولا أظنها ستطفأ إلی خروج الإمام صاحب العصر والزمان صلوات الله وسلامه علیه.

والکتاب الذی بین یدیک وان کان مکرسا لدراسة عدة فضائل مختارة من فضائل الأئمة الأطهار صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وإثباتها، إلا أنی لا أحذو فیه حذو المحدثین الذین یجمعون فی کتبهم الغث والسمین، ولا انتهج فیه منهج السرد الروائی الخالی من التحقیق والمعمول به فی کثیر من کتب الفضائل والمناقب، بل أسیر فیه علی وفق قواعد وأسس ومبادئ ارتضاها محدثو أهل السنة وعلماؤهم، لأنی طالعت فی أثناء عملی فی هذا الکتاب ما یقارب الخمسمائة مصدر وأکثر ما بین کتاب ومقالة، فضلاً عن ذلک المواضیع التی هنا وهناک علی صفحات الانترنت، والأقراص الکمبیوتریة، لأصل بالقارئ العزیز ومن خلال قواعد المخالفین إلی القناعة القطعیة بوجود حرب ضروس شنّها محدثو أهل السنة علی فضائل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ومناقبهم، وان مطارقهم ومعاولهم منذ رحیل النبی الأعظم والی یومنا هذا ما زالت تعمل لیل نهار فی سبیل تحطیمها وإماتتها، وفی المقابل وجود تعاضد وتلاحم لجهود محدثی أهل السنة فی سبیل إعلاء وترمیم وإرساء فضائل باقی الصحابة وبالخصوص رموز الدولة الثلاثة وعائشة بنت أبی بکر ومناصریهم وجمیع من له ید ساعدت السلطة آنذاک لتثبیت کیانها وتدعیم أسسها.

وهو وان احتوی علی عدد محدد ومختصر من الفضائل، بسبب من صعوبة استقصاء جمیع فضائل أهل البیت الأطهار صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین بالطریقة التی انتهجناها فی هذا الکتاب وربما کان مستحیلا، لان فضائلهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین لا

ص: 13

یمکن الإحاطة بها عددا لکثرتها وترامی أطرافها من جهة، ومن جهة أخری لکثرة الشبهات والطعون والمطارق التی وجّهها لها علماء أهل السنة ومحدثوهم بهدف تضعیفها وإماتتها أو تحریف مقاصدها، فکل فضیلة من فضائلهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین تحتاج إلی کتاب مستقل حتی یمکن استیعاب جمیع طعونهم وأقوالهم فیها، وهو جهد لا طاقة لی به، بل هو جهد مؤسساتی ینبغی علی مؤسساتنا الشیعیة تسلیط الضوء علیه أکثر وبذل الغالی والنفیس فی سبیل تحقیقه نصرة منهم لأهل بیت نبیهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین الذین ما زالوا یظلمون قدیما وحدیثا، والذین ما زالت مطارق أهل الحدیث تضرب وبقبضة من حدید علی کل ما من شأنه أن یرفع شأنهم ویعلی نجمهم، إذن فهذا البحث الذی بین یدیک وان کان قد احتوی علی عدد قلیل من فضائل هؤلاء الأطهار صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، إلا انه وباعتقادی یستطیع إیصال حقیقة ما تعرضت له فضائل أهل بیت العصمة والطهارة من الحرب الضروس والمطارق الثقیلة الموجعة من أناس یتبجحون أو یتبجح أتباعهم بأنّ لهم قواعد ومبانی لیست عند غیرهم من المذاهب والأدیان والتی تسمی بقواعد الجرح والتعدیل.

وقد قسمنا هذا البحث علی خمسة فصول، فکرّسنا الفصل الأول للبحث عن معنی السنة النبویة المطهرة وأهمیتها فی القرآن وعند المسلمین، وما تعرضت له من اضطهاد وتعسف بعد رحیل النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، فقد أحرقت وأُتلفت ومنع تدوینها وروایتها وحبس کثیر من الصحابة بسبب روایتهم لها ونشرهم إیاها، إلی أن نشأت سنة أو مجموعة من السنن الأخری البدیلة التی حلت مکان السنة النبویة المطهرة، وقد استعرضنا ملامح هذه السنن وأهدافها وغایاتها التی أسست علی أساسها، وقد مشینا بالقارئ الکریم فی هذا الفصل خطوة فخطوة، وأوضحنا

ص: 14

له مصیر السنة النبویة منذ رحیل النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، ومرورا بزمن أبی بکر ومن بعده عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان، وبعدهم أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه، ومن ثم معاویة، ومن بعد حکام بنی أمیة، والی زمن هشام بن عبد الملک الأموی، الذی کان ومن قبله عمر بن عبد العزیز أول من دون وکتب السنة النبویة المطهرة، ومن ثم ختمنا الفصل بما للإمامین الصادق والباقر صلوات الله وسلامه علیهما من الأثر فی تدوین السنة النبویة المطهرة، والذی لولاهما ولولا جهودهما فی هذا المضمار لبقیت السنة النبویة المطهرة حبیسة الصدور ومحجوراً علیها إلی یوم الناس هذا.

ثم استعرضنا فی الفصل الثانی مصیر السنة النبویة خلال العصر العباسی الذی نشأت فیه جمیع المذاهب الأربعة باستثناء المذهب الحنفی الذی کانت ولادته مبکرة قلیلا، وفی هذا العصر أیضا دونت فیه جمیع الصحاح والمسانید والسنن الموجودة الآن، وقد أوضحنا فی هذا الفصل بما لا یقبل الشک استغلال السلطة العباسیة لعملیة التدوین لدس کثیر من الأخبار والفضائل والمعتقدات المکذوبة علی الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم فی داخل المدونات والکتب التی صارت فیما بعد مصادر للسنة النبویة یأخذ منها المسلمون أحکامهم ومعالم دینهم، ثم أوضحنا حقیقة مهمة هی عدم نزاهة عملیة التدوین التی قام بها أهل الحدیث السنة فی ذلک العصر فضلاً عن عدم هیادیتها، فقد تدخلت الأهواء والعصبیة والتمذهب کعناصر أساسیة قامت علیها عملیة التدوین، أضف إلی ذلک عملیات السرقة والسطو علی کتب بعض أهل الحدیث من بعضهم الآخر، فضلا عن وجود بیوت کاملة تعمل لیل نهار بهدف اختلاق الحدیث، ومن ثم أخذنا بید القارئ الکریم فی جولة قصیرة ومهمة للغایة للبحث فی أهم الصحاح والمسانید والکتب الروائیة الموجودة

ص: 15

والمشهورة فی عصرنا هذا، فأخذنا علی عجالة أربعة نماذج هی؛ موطأ مالک بن أنس، ومسند احمد بن حنبل، وصحیحا مسلم والبخاری، وأثبتنا بما لا یقبل الشک تعرض هذه الکتب إلی التحریف والتزویر والدس والتلاعب من النساخ والناقلین والتلامیذ والرواة، وان لیس للقوم کتاب واحد لم یتعرض لکل ذلک، کما انهم لا یستطیعون أن یجزموا بصحة صدور جمیع هذه الکتب، وکذلک لا یستطیعون أن یقطعوا بأن هذه الکتب التی بین أیدینا هی نفسها التی کتبها أصحابها من دون زیادة ولا نقیصة، وهذه مصیبة عظیمة وطامة کبیرة تقضی علی مصداقیة جمیع مدونات أهل السنة الروائیة ووثاقتها.

وهذا المبحث ما کنا لنثیره ونتعرض له لولا تلک الهجمة الشرسة التی تتعرض لها مدونات الشیعة وکتبهم الروائیة من کثیر من علماء أهل السنة ومحدثیهم ومثقفیهم، وبالخصوص تلک الهجمات التی تشنها الفرقة الوهابیة المارقة، فیکون إثارة هذا الأمر بناءً علی هذا ردا ودفاعا عن أهم مقدساتنا، لان مدوناتنا الروائیة هی التی نقلت جمیع الکلمات والأحادیث والعقائد والأحکام التی ورثناها عن أهل بیت العصمة والطهارة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، فضربهم لها وحربهم علیها معناه ضرب جمیع تلک الأحکام والعقائد والأحادیث، کما ان الدفاع عنها یعدّ بمنزلة الدفاع عن جمیع تلک الأمور المهمة.

وقد کرسنا الفصل الثالث لدراسة تناقض علماء أهل السنة ومحدثیهم وتضاربهم فی قواعد الجرح والتعدیل التی علی أساسها قیموا جمیع أحادیث الفضائل وروایاتها لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وفضائل غیرهم من الصحابة، وقد استطعنا بحمد الله إثبات شیئین مهمین:

الأول: هو عدم وجود قواعد واضحة ومتفق علیها بین علماء أهل السنة

ص: 16

ومحدثیهم فی مسألة التقییم والتصحیح والتضعیف للروایات النبویة الشریفة، فکل محدث له قواعد خاصة به تختلف عن قواعد باقی المحدثین وضوابطهم، وکل محدث له موازین للتوثیق والجرح تختلف عن غیره، فتری الراوی الواحد تختلف فیه الأقوال بشکل متضارب وملفت للانتباه، فشخص یوثقه وآخر یکذبه وثالث یتوقف بأمره وآخر یرمیه بالبدعة وهکذا، وکذلک فعلوا مع الأحادیث والروایات الشریفة، فکل محدث یحکم علی الروایة من جهة ما وضع من موازین خاصة به،لذلک تری بعض یحکم علی روایة ما بأنها صحیحة، بینما یحکم بعض الآخر بأنها مکذوبة ضعیفة لا یحل ذکرها ولا روایتها، ولم یقتصر هذا التضارب فی القواعد والمناهج بین المتقدمین حتی سرت نار الاختلاف والتضارب بین المتقدمین والمتأخرین، وبین المتأخرین بعضهم مع بعضهم الآخر.

الثانی: تأثیر العصبیة المذهبیة والحسد والبغضاء فی قواعد التوثیق والجرح المعتمدة عندهم ومنهجه، فکم من ثقة ردت روایته بسبب الحسد، وکم ثبت شنع علیه بسبب العصبیة المذهبیة، وکم من روایة صحیحة قد کذبت بسبب البغضاء ما بین المحدثین أنفسهم، أو ما بینهم وبین باقی المحدثین من المذاهب الأخری، وقد ضربنا لهذه الحقیقة عدة شواهد مهمة.

ومن ثم ختمنا هذا الفصل باستعراض مجموعة من التناقضات فی مناهج بعض المحدثین الذین علیهم المعول فی علم الجرح والتعدیل کالبخاری وابن حبان وابن معین وغیرهم، ثم أوردنا تعجب بعضهم من بعض علی عدم مراعاتهم للقواعد التی أسسوها، ومن تضارب أقوالهم فی مسألة واحدة، ومن اختلاف أقوالهم فی ثوثیق راو واحد وغیر ذلک من الطامات.

ولم نکن لنخوض فی هذا الفصل لولا ارتباط هذا الموضوع بموضوع کتابنا

ص: 17

ارتباطا وثیقا؛ لان هذه القواعد المتضاربة والمتناقضة هی التی استغلت فی سبیل ضرب أحادیث فضائل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وتحطیمها، وکذلک لم نکن لنخوض هذا المبحث لولا الهجمة الشرسة التی شنها کثیر من علماء أهل السنة وکتّابهم ومحدثیهم علی مذهب أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، فکثیر ما کتب علماء أهل السنة وشنعوا وروجوا بأن علماء الشیعة لا موازین لهم فی علم الحدیث، ولا قواعد لهم فی علم الرجال والدرایة، وان أهل السنة وعلماءهم هم من أسس أساس هذا العلم ووضع قواعده، وأنّهم أصح حدیثا وأسلم قواعد من علماء الشیعة ومحدثیهم، وهذا الفصل فیه فصل لهذه الفریة فهو یثبت ان القوم لا قواعد لهم ولا هم یحزنون، وانهم لا یملکون سوی آراء متضاربة، ومذاهب وقواعد متشعبة مختلفة لا یجمع بینهم جامع.

أما الفصل الرابع فقد استعرضنا فیه أربعة من فضائل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وأوضحنا موقف علماء أهل السنة ومحدثیهم تجاهها، وکیف حاولوا بکل جهد وحیلة، أن یحطموا هذه الفضائل بما أوتوا من قوة ووسیلة، وکیف سخروا معاولهم ومطارقهم لهدم هذا الصرح الذی أسس أساسه النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، ولم یخل هذا الفصل من شرح لکثیر من القواعد الرجالیة، وتراجم کثیر من الرواة، والرد علی کثیر من إشکالات ابن تیمیة وغیره من المتعصبین وشبهاتهم، ومسائل أخری کثیرة وجدیرة بالمطالعة.

أما الفصل الخامس والذی ختمنا به هذا الکتاب فقد کرسناه للحدیث عن تساهل علماء أهل السنة ومحدثیهم فی تعاملهم مع أحادیث فضائل الصحابة من غیر أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، فأخذنا بعض أحادیث فضائل کل من أبی بکر بن أبی قحافة وعمر بن الخطاب کنموذج من نماذج الازدواجیة فی تعاملهم مع أحادیث

ص: 18

الفضائل، ففی الوقت الذی نراهم یتعاملون مع فضائل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین بکل تصلب وشدة ویدوسون معها علی کل قیمة وقاعدة علمیة، فیکذبون تارة ویدلسون أخری ویحرفون ویحذفون ویرتکبون کل عظیمة فی سبیل تحطیمها وتکذیبها، لکنهم وحینما یأتون إلی فضائل الصحابة عموما وفضائل أبی بکر وعمر وعائشة علی وجه الخصوص یتغیرون وتتبدل تلک الشدة وذلک التصلب إلی لین وسهولة وتسامح، فنراهم یصححون الضعیف، ویقوون الهالک، ویوصلون المنقطع، ویجعلون أوضح قواعد الجرح والتعدیل تحت أقدامهم، کل ذلک وغیره قد تم إثباته فی هذا الفصل.

نسأل الله أن یوفقنا وجمیع القراء الکرام إلی کل خیر إنّه نعم المولی ونعم النصیر، والحمد لله أولا وآخرا، وصلی الله علی نبینا الکریم محمد وعلی أهل بیته الطیبین الطاهرین، واللعنة الدائمة علی أعدائهم إلی قیام یوم الدین.

الشیخ وسام برهان البلداوی

کربلاء المقدسة، من داخل حرم سید الشهداء صلوات الله وسلامه علیه

الخامس عشر من شهر محرم الحرام 1432 للهجرة النبویة المشرفة

23 کانون الأول 2010 میلادی

ص: 19

      

الفصل الأول: السنة النبویة المطهرة أهمیتها ومراحل تدوینها حتی العصر العباسی

اشارة

ص: 20

ص: 21

لا یمکن لنا الکلام عن الفضائل من دون الکلام عن الحدیث الشریف والسنة النبویة المطهرة، کیف لا والفضائل قسم من أقسام الحدیث الشریف وجزء من أجزاء السنة النبویة المطهرة، فما یجری علیه یجری علیها، وما یلزم منه یلزم منها، وعلیه فلا یصبح الکلام عن أصل موضوع الحدیث الشریف والسنة المطهرة حدیثاً عن أمر جانبی عارض علی بحثنا فی الفضائل، بل هو حدیث عن جوهر هذا الموضوع وصلبه، لذا سنستعرض فیما یأتی تعریف السنة النبویة وأهمیتها والمراحل التی مر بها تدوین الحدیث وکتابة السنة المطهرة حتی بدایة العصر العباسی.

ماذا نعنی بالسنة النبویة؟

السنة لغة: هی الطریقة والسیرة والنهج، قال الجوهری فی (الصحاح): (السنن: الطریقة. یقال: استقام فلان علی سنن واحد)(1)، وقال ابن منظور: (وقد تکرر فی الحدیث ذکر السنة وما تصرف منها، والأصل فیه الطریقة والسیرة)(2)، أو هو الفعل الذی یقتدی به قال ابن منظور: (وکل من ابتدأ أمرا عمل به قوم بعده قیل: هو الذی سنه)(3). وقال ابن منظور: (وسَنَنُ الطریق وسُنَنُهُ وسُنُنُهُ: نهجه)(4).


1- الصحاح للجوهری  ج 5 ص 2138.
2- لسان العرب لابن منظور  ج 13 ص 225.
3- المصدر نفسه.
4- المصدر نفسه ص226.

ص: 22

والسنة فی الشرع هی: (ما شرعه رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم قولا، أو فعلا، أو تقریرا. وهی ما أمر به النبی علیه الصلاة والسلام. ونهی عنه، وندب إلیه. مما لم ینطق به الکتاب العزیز)(1).

والسنة باصطلاح أهل الأصول والحدیث: (ما جاء عن النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم من أقواله، وأفعاله، وتقریره، وما همّ بفعله)(2).

وفی اصطلاح أهل الفقه: (هی الطریقة الشرعیة. وهی أعم من الواجب. والمندوب، وقد تطلق کثیرا علی المفروض)(3).

أهمیة السنة النبویة المطهرة فی القرآن الکریم

ان منزلة السنة النبویة وأهمیتها نابعة من منزلة النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم وأهمیته، لأنها ثمرة من ثمرات وجوده المقدس، وعلیه فلا یمکن معرفة أهمیتها إلا إذا تعرفنا علی منزلة نفس النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم وأهمیته، وهذا الأمر قد تکفلت به الآیات القرآنیة وعلی أکمل وجه، فقد تحدّث کثیر من آیات الکتاب العزیز عن الموقعیة الدینیة التی یمثلها شخص النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، وعن قداسة کل ما یصدر عنه من قول أو فعل أو تقریر، وعن التأسی والاقتداء بکل حرکات هذه الشخصیة العظیمة وسکناتها، فوصفته بأکمل أنواع الوصف وبما لم


1- القاموس الفقهی للدکتور سعدی أبو حبیب  ص 184.
2- المصدر نفسه.
3- المصدر نفسه. ملاحظة مهمة: ان هذه التعاریف للسنة النبویة المطهرة هی من وجهة نظر أهل السنة، لان موضوع الکتاب یدور حول السنة والحدیث من وجهة نظرهم، وعلیه فلیس بالضرورة أن یکون تعریف السنة المطهرة عند الإمامیة هو عینه ما ورد آنفا.

ص: 23

یوصف به نبی ولا رسول قبله، فوصفته بأنه صلی الله علیه وآله وسلم علی خلق عظیم، ووصفته بالعبودیة لله سبحانه کما فی قوله: ((وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا * وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ یَدْعُوهُ کَادُوا یَکُونُونَ عَلَیْهِ لِبَدًا))(1).

وهو أرقی مقام یمکن أن یعطی لإنسان وهو أرفع من مقام الرسالة کما قیل، ووصفته بالسراج المنیر الذی یمد المکلفین بالهدایة، کما تنیر الشمس لأهل الأرض وتمدهم بالحیاة، فالشمس سبب لإدامة الحیاة المادیة، والنبی صلی الله علیه وآله وسلم سبب لإدامة الحیاة المعنویة کما قال سبحانه: ((شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِیرًا * وَدَاعِیًا إِلَی اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِیرًا))(2).

وتوجد آیات أُخر تعرف بالتتبع.

ولم یکتف الله سبحانه وتعالی بأنْ عظم النبی صلی الله علیه وآله وسلم فی القرآن الکریم بأرفع أنواع التعظیم والتبجیل، حتی أوجب علی المؤمنین تعظیمه وتبجیله وتوقیره فرفض رفضا قاطعا التعامل معه علی انه فرد عادی کسائر أفراد المجتمع، فأمر المؤمنین ألاّ یخاطبوه کمخاطبة بعضهم لبعض وألزم علیهم أن یوقروه ویفخموه ویشرفوه، قال سبحانه وتعالی: ((لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَیْنَکُمْ کَدُعَاءِ بَعْضِکُمْ بَعْضًا))(3).

وأمرهم بألاّ یرفعوا أصواتهم فوق صوته صلی الله علیه وآله وسلم، ثم هدد من یرفع صوته بحبط العمل وضیاع الإیمان کما قال سبحانه وتعالی: ((یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَکُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِیِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ کَجَهْرِ بَعْضِکُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُکُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ))(4).


1- سورة الجن الآیة رقم 18 __ 19.
2- سورة الأحزاب الآیة رقم 45 __46.
3- سورة النور الآیة رقم 63.
4- سورة الحجرات الآیة رقم 2.

ص: 24

ووصف من یغض صوته توقیرا لشخص نبیه العظیم صلی الله علیه وآله وسلم بغفران الذنب والأجر العظیم وجعل خفض الصوت وغضه فی محضر النبی الأعظم من علامات التقوی کما قال سبحانه وتعالی: ((إِنَّ الَّذِینَ یَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِکَ الَّذِینَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَی لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِیمٌ))(1).

وکذلک أوجب سبحانه وتعالی علی الأمة المؤمنة برسالة خاتم الأنبیاء صلی الله علیه وآله وسلم أن تطیعه بشکل مطلق کی لا تفشل وتذهب قوتها کما قال سبحانه وتعالی: ((وَأَطِیعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِیحُکُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِینَ))(2).

وقال سبحانه وتعالی: ((یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آَمَنُوا أَطِیعُوا اللَّهَ وَأَطِیعُوا الرَّسُولَ وَأُولِی الْأَمْرِ مِنْکُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِی شَیْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَی اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ کُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْیَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِکَ خَیْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِیلًا))(3).

ولأن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم بلغ من الکمال منتهاه، صار أهلا لان یأمر الخالق سبحانه وتعالی جمیع المؤمنین بالسیر علی خطاه والتأسی به، قال سبحانه وتعالی: ((لَقَدْ کَانَ لَکُمْ فِی رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ کَانَ یَرْجُو اللَّهَ وَالْیَوْمَ الْآَخِرَ وَذَکَرَ اللَّهَ کَثِیرًا))(4).

والأمر بالتأسی عام یشمل کل فعل من أفعاله صلی الله علیه وآله وسلم وأقواله، فی مجال الأحکام وتبیان الشریعة وفی غیرها.

وهذا الکمال والرفعة والتربیة الإلهیة هی التی جعلت من النبی صلی الله علیه وآله وسلم طریقا موصلا لمحبة الله سبحانه، قال تعالی: ((قُلْ إِنْ کُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِی یُحْبِبْکُمُ اللَّهُ وَیَغْفِرْ لَکُمْ ذُنُوبَکُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِیمٌ))(5).


1- سورة الحجرات الآیة رقم 3.
2- سورة الأنفال الآیة رقم 46.
3- سورة النساء الآیة رقم 59.
4- سورة الأحزاب الآیة رقم 21.
5- سورة آل عمران الآیة رقم 31.

ص: 25

وقال سبحانه وتعالی: ((فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِیِّ الْأُمِّیِّ الَّذِی یُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَکَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّکُمْ تَهْتَدُونَ))(1).

والأمر بالاتباع فی هاتین الآیتین کما لا یخفی مطلق یشمل اتباع النبی صلی الله علیه وآله وسلم بکل جزء من جزئیات الحیاة، هذا لمن یرید ان یکون محبا لله سبحانه وتعالی أما من لا یرید أن یصل إلی هذه الثمرة فهذا شأنه.

ولان النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم بلغ من صفات الکمال أعلاها وأرقاها وبعد أن صنع علی عین الله ورعایته وبعد أن أدبه ربه فأحسن تأدیبه، فقد وصل إلی مرتبة ((وَمَا یَنْطِقُ عَنِ الْهَوَی * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْیٌ یُوحَی))(2).

فصار صلی الله علیه وآله وسلم خلقه إلهیا ومنطقه إلهیا وتفکیره إلهیا، فکیف لا یقتدی به ویسار علی أثره.

أهمیة السنة النبویة المطهرة عند المسلمین

تحتل السنة النبویة المطهرة من حیث الأهمیة الدینیة عند المسلمین المرتبة الثانیة بعد القرآن الکریم، فهی المفسرة والموضحة والمبینة للکتاب العزیز ولولاها ما عرف المسلمون أبسط شأن من شؤون دینهم، فلولا السنة النبویة المطهرة ما عرف المسلمون عدد رکعات الصلاة المفروضة، لان الله سبحانه أمر بأداء الصلاة وجعلها کتابا موقوتا حیث قال سبحانه: ((فَأَقِیمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ کَانَتْ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ کِتَابًا مَوْقُوتًا))(3).


1- سورة الأعراف الآیة رقم 158.
2- سورة النجم الآیة رقم 3 __ 4.
3- سورة النساء الآیة رقم 103.

ص: 26

ولکنه سبحانه لم یبین للمکلفین کم هی هذه الصلاة، وکیف تؤدی، ومتی تجب، وما هی شروطها وأحکامها، وأوکل إیضاح کل ذلک للسنة النبویة المطهرة، وعلی ذلک فقس باقی أحکام الشریعة، ابتداء من أوضح الأحکام وأصغرها، وانتهاء بأدق المسائل وأکثرها تعقیدا وغموضا، فالإسلام وکل فرد من أفراد المسلمین مدینون لشخص النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، ومدینون لکل کلمة خرجت منه وکل حرکة صدرت عنه، لان کل واحدة من هذه الأشیاء کانت بمنزلة حکم شرعی استفاد منه المسلمون لمعرفة أحکام دینهم ودنیاهم.

وقد وردت کلمات لا تحصی من علماء أهل السنة وغیرهم توضح جمیعها أهمیة السنة النبویة ومکانتها عند المسلمین، ومن تلک الکلمات ما نقله الخطیب البغدادی فی کتابه (الکفایة فی علم الروایة) حیث قال: (أخبرنا أبو سعید محمد بن موسی الصیرفی قال حدثنا أبو العباس محمد بن یعقوب الأصم قال ثنا محمد بن إسحاق الصاغانی قال حدثنا روح بن عبادة قال حدثنا الأوزاعی عن مکحول قال القرآن أحوج إلی السنة من السنة إلی القرآن)(1).

وعن: (الفضل بن زیاد قال سمعت أحمد بن حنبل وسئل عن الحدیث الذی روی أن السنة قاضیة علی الکتاب قال ما أجسر علی هذا أن أقوله ولکن السنة تفسر الکتاب وتعرف الکتاب وتبینه)(2).

وعن: (حسان بن عطیة قال کان جبرائیل ینزل علی رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم بالسنة کما ینزل علیه بالقرآن یعلمه إیاها کما یعلمه القرآن)(3).


1- الکفایة فی علم الروایة للخطیب البغدادی  ص 30.
2- المصدر نفسه.
3- المصدر نفسه ص27، وراجع أیضا ما قاله ابن حجر عند إیراده الحدیث: (واخرج البیهقی بسند صحیح عن حسان بن عطیة أحد التابعین من ثقات الشامیین... __ ثم ذکر الخبر__) راجع فتح الباری لابن حجر ج13 ص248

ص: 27

وقد ذکرت فی کتب أهل السنة ومصنفاتهم أمثلة کثیرة توضح مقدار ما للسنة النبویة المطهرة من أهمیة وهیمنة شرعیة وفیما یأتی استعراض لبعض تلک الأمثلة:

1: قال الخطیب البغدادی: (قال الله تعالی: ((یُوصِیکُمُ اللَّهُ فِی أَوْلَادِکُمْ لِلذَّکَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَیَیْنِ فَإِنْ کُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَیْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَکَ وَإِنْ کَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَیْهِ لِکُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَکَ إِنْ کَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ یَکُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ))(1).

فکان ظاهر هذه الآیة یدل علی أن کل والد یرث ولده وکل مولود یرث والده حتی جاءت السنة بأن المراد ذلک مع اتفاق الدین بین الوالدین والمولودین وأما إذا اختلف الدینان فإنه مانع من التوارث واستقر العمل علی ما وردت به السنة فی ذلک)(2).

2: وقال الخطیب البغدادی أیضا: (وقال الله تعالی: ((وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُمَا))(3).

فکان ظاهر هذا القول یوجب القطع علی کل سارق بسرقته کثرت أو قلت حتی دلت السنة أن المراد به بعض السراق وهو من بلغت سرقته فی القیمة ربع دینار فصاعدا وأما من لم تبلغ قیمة سرقته هذا القدر فلا قطع فیه... ولما ذکرناه نظائر کثیرة فی الکتاب والسنة اقتصرنا منها علی ما أوردناه)(4).


1- سورة النساء الآیة 11.
2- الکفایة فی علم الروایة للخطیب البغدادی ص28 باب تخصیص السنن لعموم محکم القرآن وذکر الحاجة فی المجمل إلی التفسیر والبیان.
3- سورة المائدة الآیة 32.
4- المصدر نفسه ص29 __ 30.

ص: 28

3: وعن (علی بن زید عن الحسن أن عمران بن حصین کان جالسا ومعه أصحابه فقال رجل من القوم لا تحدثونا إلا بالقرآن. قال: فقال له أدنه فدنا، فقال أرأیت لو وکلت أنت وأصحابک إلی القرآن أکنت تجد فیه صلاة الظهر أربعا وصلاة العصر أربعا والمغرب ثلاثا تقرأ فی اثنتین أرأیت لو وکلت أنت وأصحابک إلی القرآن أکنت تجد الطواف بالبیت سبعا والطواف بالصفا والمروة ثم قال أی قوم خذوا عنا فإنکم والله إن لا تفعلوا لتضلن)(1).

فیتمخض مما سبق:

* ان السنة شأنها فی الأهمیة شأن القرآن الکریم، لان مصدرهما واحد، فکلاهما کان ینزل بهما جبرائیل علیه السلام إلی النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، وکذلک من حیث الإلزامیة والوجوب لقوله سبحانه وتعالی: ((وَمَا آَتَاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِیدُ الْعِقَابِ))(2).

* وان النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم هو المعبر الحقیقی والواقعی للمفاهیم الشرعیة فإذا ما وسع أو ضیق مفهوما من المفاهیم أو حکما من الأحکام الشرعیة فإننا نستدل بذلک علی ان الله سبحانه هو الذی أراد تضییق ذلک المفهوم أو توسعته، لقوله تعالی: ((وَمَا یَنْطِقُ عَنِ الْهَوَی (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْیٌ یُوحَی (4) عَلَّمَهُ شَدِیدُ الْقُوَی))(3).

ولیس القول بأهمیة السنة النبویة المطهرة وتخصیصها وتفسیرها وتبیینها للقرآن الکریم من القول الجزاف وبلا دلیل شرعی یرکن إلیه، فقد وردت أحادیث کثیرة تقرر هذه الحقیقة وتشدد علیها، منها أحادیث الأریکة التی أخبر بها النبی الأعظم


1- المصدر نفسه ص30 __31.
2- سورة الحشر الآیة رقم 7.
3- سورة النجم الآیة 3 __ 5.

ص: 29

صلی الله علیه وآله وسلم أمته عن قوم کانوا موجودین فعلا فی أیام حیاته الشریفة، أو أنهم سیأتون بعد ذلک، لا یرتضون السنة النبویة الشریفة، ولا یعتقدون بحرمتها وأهمیتها، ویطالبون بالاکتفاء بالقرآن الکریم فقط، وهم المقصودون من قوله صلی الله علیه وآله وسلم: (بحسب امرئ قد شبع وبطن وهو متکئ علی أریکته لا یظن أن لله حراما إلا ما فی القرآن وإنی والله قد حرمت ونهیت ووعظت بأشیاء انها لمثل القرآن أو أکثر)(1).

وعن عبید الله بن أبی رافع عن أبیه أبی رافع قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: (لا أعرفن الرجل یأتیه الأمر مما أمرت به أو نهیت عنه فیقول ما أدری ما هذا، عندنا کتاب الله لیس هذا فیه)(2).

وعن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: (ألا عسی رجل ان یبلغه عنی حدیث وهو متکئ علی أریکته فیقول لا أدری ما هذا علیکم بالقرآن فمن بلغه عنی حدیث فکذب به أو کذب علی متعمدا فلیتبوأ مقعده من النار)(3).

وعن الحسن بن جابر قال سمعت المقدام بن معد یکرب یقول: (حرم رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم أشیاء یوم خیبر ثم قال یوشک رجل متکئ علی أریکته یحدث بحدیثی فیقول بیننا وبینکم کتاب الله فما وجدنا فیه من حلال استحللناه وما وجدنا فیه من حرام حرمناه وان ما حرم رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم مثل ما حرم الله عز وجل)(4)(5).


1- سنن أبی داود لابن الأشعث السجستانی ج2 ص45.
2- صحیح ابن حبان ج1 ص190.
3- الکفایة فی علم الدرایة للخطیب البغدادی ص26.
4- مسند احمد بن حنبل ج4 ص132.
5- وأقول مستفهما بعد معرفة هذه الأحادیث الأخیرة: إذا کان الصحابة قد سمعوا هذا الکلام من النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، وعلموا یقینا ان القرآن لا یستغنی عن السنة المطهرة، وان من یستغنی بأحدهما دون الآخر فقد باء بالخسران المبین، فما معنی قول عمر بن الخطاب حینما کان النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم علی فراش موته: (ان النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم قد غلب علیه الوجع وعندکم القرآن حسبنا کتاب الله) والذی رواه البخاری فی صحیحه وغیره بقوله: (لما حضر رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم وفی البیت رجال فیهم عمر بن الخطاب قال النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم هلم اکتب لکم کتابا لا تضلوا بعده فقال عمر إنّ النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم قد غلب علیه الوجع وعندکم القرآن حسبنا کتاب الله فاختلف أهل البیت فاختصموا منهم من یقول قربوا یکتب لکم النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم کتابا لن تضلوا بعده ومنهم من یقول ما قال عمر فلما أکثروا اللغو والاختلاف عند النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم قوموا قال عبید الله وکان ابن عباس یقول إن الرزیة کل الرزیة ما حال بین رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم وبین ان یکتب لهم ذلک الکتاب من اختلافهم ولغطهم) صحیح البخاری ج 7 ص9 کتاب المرضی والطب.

ص: 30

إذا کانت السنة النبویة بهذه الأهمیة فلماذا أحرقت ولم تدون کالقرآن؟

اشارة

بعد أن تعرفنا علی الأهمیة البالغة للسنة النبویة المطهرة فی القرآن الکریم وعند المسلمین، یبقی سؤال مهم یطرح نفسه، وهو إذا کان للسنة النبویة هذه المرتبة الجلیلة والمنزلة الرفیعة، وإذا کانت تعد فی نظر المسلمین عدل القران، وان من دونها لا یمکن للمسلم فهم القرآن علی وجه الدقة، وان القرآن یحتاج إلی السنة أکثر من احتیاج السنة للقران، فلماذا یا تری لم یهتم المسلمون بحفظها وتدوینها وتقییدها کما تم تقیید آیات القرآن الکریم وسوره، مع ان وسائل التقیید والکتابة کانت متوفرة وممکنة، وعلی اقل التقادیر فانها متوفرة ممکنة بالنسبة للدولة التی تملک بیت المال تنفقه فی المصالح العامة للمسلمین، ولا اعتقد أن هنالک مصلحة عامة أهم

ص: 31

وانفع للمسلمین من حفظ تراث نبیهم صلی الله علیه وآله وسلم وسنته التی ما ترکت شیئا من أمور الدین والدنیا إلا وأوضحته؟

والسؤال الأخطر من ذلک هو لماذا عمدت الدولة وحکامها بعد رحیل النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم إلی إحراق ما قد کان کتبه بعض الصحابة من السنة النبویة المطهرة التی سمعوها أو شاهدوها أو نقلت له وإتلافه، فلماذا فرطت الدولة بهذه الکنوز التی کانت ستنجی الأمة من ویلات الاختلاف فی الآراء والاجتهاد والقیاس والاستحسان وغیر ذلک؟

وهذان السؤالان وان تم طرحهما من قبل عدة من الباحثین والکتاب والمفکرین إلا أننا وجدنا أنّ عدم ذکرهما غیر ممکن فی بحثنا هذا، للاعتقاد بأن أساس الظلم والحیف والاضطهاد الذی مورس ضد فضائل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین قد ابتدأ من هذه المرحلة بالتحدید، وان أول مطرقة وجهت لسحق فضائل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین هی مطرقة إحراق السنة من حکام الدولة الإسلامیة، ومن اجل الاطلاع علی حقیقة ما جری فی تلک الحقبة التاریخیة المهمة سنستعرض للقارئ الکریم بعض النصوص التی تحدثت عن فاجعة إحراق مدونات السنة النبویة المطهرة والأمر بترک کتابتها.

1: إتلاف السنة النبویة المدونة فی عهد أبی بکر

ولعل أوضح وثیقة تاریخیة تحدثت وبشکل صریح عن إتلاف السنة النبویة المدونة هی التی روتها عائشة بنت أبی بکر، حیث قالت: (جمع أبی الحدیث عن رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم وکانت خمسمائة حدیث فبات لیلته یتقلب کثیرا قالت فغمنی فقلت أتتقلب لشکوی أو لشیء بلغک؟ فلما أصبح قال

ص: 32

أی بنیة هلمی الأحادیث التی عندک فجئته بها فدعا بنار فحرقها، فقلت لم أحرقتها؟ قال خشیت أن أموت وهی عندی فیکون فیها أحادیث عن رجل قد ائتمنته ووثقت ولم یکن کما حدثنی فأکون قد نقلت ذاک)(1). لکن الذهبی وبعد إیراده لهذا الحدیث قال: (فهذا لا یصح والله أعلم)(2).

واعترض علیه ابن کثیر کما نقل المتقی الهندی فی کنز العمال بان: (الأحادیث عن رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم أکثر من هذا المقدار بألوف ولعله إنما اتفق له جمع تلک فقط ثم رأی ما رأی لما ذکرت قلت قال الشیخ جلال الدین السیوطی رحمه الله تعالی أو لعله جمع ما فاته سماعه من النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم وحدثه عنه به بعض الصحابة کحدیث الجدة ونحوه والظاهر أن ذلک لا یزید علی هذا المقدار لأنه کان أحفظ الصحابة وعنده من الأحادیث ما لم یکن عند أحد منهم کحدیث «ما دفن نبی إلا حیث یقبض» ثم خشی أن یکون الذی حدثه وهم فکره تقلد ذلک وذلک صریح فی کلامه)(3).

أقول: ان الذهبی لم یبین سبب عدم صحته واکتفی بقوله (والله أعلم) وهو لا یکفی کدلیل علمی لتفنید الروایات والوثائق التاریخیة أوردّها، أما ابن کثیر فالواضح من کلامه انه لم ینفِ أصل إحراق أبی بکر لأحادیث النبی صلی الله علیه وآله وسلم، وإنما اعترض علی مقدار ما تم إحراقه، لأنه یعتقد بان السنة النبویة کانت أکثر من خمسمائة حدیث، ونحن أیضا نعتقد انها کانت أکثر من ذلک بکثیر، لکنها کانت متفرقة بین الصحابة، فیصبح اعتراض ابن کثیر علی الروایة مبنیّاً علی وجه غیر وجیه.


1- تذکرة الحفاظ للذهبی  ج1 ص5.
2- المصدر نفسه.
3- کنز العمال للمتقی الهندی ج10 ص286.

ص: 33

ثم وبغض النظر عن دواعی تکذیب الذهبی لهذا الحدیث وأسبابه، ولو فرضنا ان اعتراض ابن کثیر علی الروایة مبنی علی القواعد العلمیة ولم یکن مبنیا علی قاعدة «انصر خلیفتک ظالما أو مظلوما»، فان الواقع التاریخی یثبت روایة عائشة ویقوی حصول مثل هذا الاعتداء علی سنة النبی صلی الله علیه وآله وسلم وأحادیثه، وإذا لم یحرقوا سنة النبی صلی الله علیه وآله وسلم فأین هی سنته؟، ولِمَ لَمْ یجمعها أبو بکر وبیده جمیع أسباب جمعها، فالکتاب موجودون، والصحابة متوفرون لم یمت منهم أحد، وبیت المال فیه ما یکفی لتمویل هذا المشروع العظیم، الذی یعود بالنفع علی المسلمین جمیعا والی یوم القیامة، ثم هل یکفی دفاعهم بأن أبا بکر کان أحفظ الصحابة، أو کان لدیه من العلم والحدیث ما لیس لدی باقی الصحابة، جوابا علی تماهل أبی بکر وجهاز حکمه فی جمع السنة والحدیث النبوی، وما قیمة ما لدی أبی بکر من العلم أو الحدیث إذا لم یدون ویخرج للناس، فالاعتذار عنه بهذه الأعذار الرکیکة فیه حجة علیه وعلیهم لا لهم، ثم إذا کان أبو بکر کما یقول السیوطی (أحفظ الصحابة وعنده من الأحادیث ما لم یکن عند أحد منهم) فأین أحادیثه؟ ولماذا لم ترو الصحاح والمسانید وباقی کتب الحدیث عنه إلا النزر القلیل من الحدیث؟ ولماذا کان غیره أروی للحدیث منه؟ کعائشة وأبی هریرة وابن عمر وأمثالهم، فاللوم إما أن یکون علی السیوطی؛ لأنه کذب هذه الکذبة الشنعاء، أو علی الرواة السنة لأنهم لم ینقلوا أحادیث أبی بکر وروایاته، أو علی المدونین وأصحاب الصحاح والمسانید لأنهم لم یدونوا ذلک، أو ان اللوم علی أبی بکر لأنه لم یخرج هذه الروایات إلی العامة وترکها تموت بموته، وکل واحدة من هذه الافتراضات تکفی لإدانتهم وتثبت تقصیرهم تجاه سنة نبیهم صلی الله علیه وآله وسلم.

ص: 34

2: إتلاف السنة النبویة ومنع تدوینها وروایتها فی عهد عمر بن الخطاب

اشارة

الأحادیث التی نصت علی إتلاف السنة النبویة والمنع من روایتها فی زمن أبی بکر تکاد تکون عزیزة أو نادرة کما عرفنا آنفا، إلا أنها کثیرة ومتنوعة فی زمن حکومة عمر بن الخطاب، ولعل ذلک یعود إلی الطبیعة الشخصیة التی کان یتمتع بها کل من أبی بکر وعمر، لان عمر بن الخطاب کما هو معروف عنه تاریخیا، کان اشد من أبی بکر فی تطبیق ما یعزم علی فعله، فلعل المنع الذی صدر فی عهد أبی بکر کان فیه بعض الاستثناءات أو التراخی فی التطبیق، لکن فی عهد عمر لم یکن فیه استثناء لأحد من الصحابة وکانت الشدة دیدنه مع الجمیع.

أو لعل السبب فی ندرة أخبار المنع من تدوین السنة النبویة وإتلافها فی عهد أبی بکر، یرجع إلی ان فکرة المنع یومئذ کانت عبارة عن بذرة وأساس لقانون غیر منظم، لذلک جاء تطبیقها علی مستوی شخصی، فأحرق أبو بکر أحادیثه الشخصیة، وأحادیث أخری لم تصل إلینا أخبارها، بسبب ان التطبیق لمبدأ إلغاء التدوین ومحو السنة کان محدودا فی دائرة ضیقة، لعدم تمکن السلطة آنذاک من فرض سیطرتها ونفوذها علی جمیع الصحابة، وإجبارهم علی إتلاف السنة النبویة أو التوقف عن تدوینها بشکل شخصی، بسبب الوضع المتخلخل الذی عاشه أبو بکر أیام ولایته، ولکثرة انشغاله بنزاعاته مع بنی هاشم والأنصار وغیرهم من المناوئین لإمارته وحکومته، فمن جهة کان أبو بکر مشغولا بإرساء قواعد حکومته الجدیدة، ومن جهة ثانیة فانه وکما ذکرنا لو أمر وعزم علی إحراق السنة جمیعها وإتلافها لما استطاع لعدم سماع أمره من قبل کثیر من الصحابة کبنی هاشم وکثیر من الأنصار، ولهذا وغیره جاء التطبیق العملی لإتلاف السنة النبویة والمنع من تدوینها تطبیقا محدودا وشخصیا.

ص: 35

ولکن هذا الوضع المتخلخل للدولة الحاکمة قد تغیر شیئا فشیئا إلی أن استقر فی أیام عمر بن الخطاب، لأسباب لیس هاهنا محل تفصیلها، فخرجت فکرة محو تدوین السنة من نطاقها الضیق والمحدود، لتصبح فی زمن حکومة عمر بن الخطاب قانونا یسری علی الجمیع بلا أدنی تهاون أو استثناء، لذلک اشتهر أمرها ونقلها لنا بروایات متعددة رواة متعددون، ومن هذه الروایات:

الشاهد الأول: حدیث عروة بن الزبیر

روی الخطیب البغدادی فی (تقیید العلم) عن عروة بن الزبیر: (أن عمر بن الخطاب، أراد أن یکتب السنن، فاستشار فی ذلک أصحاب رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم، فأشاروا علیه أن یکتبها فطفق عمر یستخیر الله فیها شهرا، ثم أصبح یوما وقد عزم الله له، فقال: إنی کنت أردت أن أکتب السنن وإنی ذکرت قوما کانوا قبلکم کتبوا کتبا فأکبوا علیها وترکوا کتاب الله تعالی، وإنی والله لا ألبس کتاب الله بشیء أبدا)(1).

الشاهد الثانی: عن الزهری عن عروة بن الزبیر

ونقل الخطیب البغدادی أیضا عن الزهری قال أخبرنی عروة بن الزبیر: (أن عمر بن الخطاب أراد أن یکتب السنن فاستشار فیها أصحاب رسول الله صلی الله علیه فأشار علیه عامتهم بذلک فلبث عمر شهرا یستخیر الله فی ذلک شاکا فیه ثم أصبح یوما وقد عزم الله له فقال إنی قد کنت ذکرت لکم من کتابة السنن ما قد علمتم ثم تذکرت فإذا أناس من أهل الکتاب قبلکم قد کتبوا مع کتاب الله کتبا فأکبوا علیها وترکوا کتاب الله وإنی والله لا ألبس کتاب الله بشیء أبدا فترک کتابة السنن)(2).


1- تقیید العلم للخطیب البغدادی ج1 ص76.
2- المصدر السابق ص50.

ص: 36

وعلی هذه الحادثة علق الکاتب طه حسین: (وکان الصواب ما رأی عمر، فالعصر عصر صحابة للنبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم لا عصر تابعین، وهم أشبه ما یکون بحواری عیسی علیه السلام، ولنا فی أهل الکتاب تجربة حین سجل أصحاب النبی عیسی علیه السلام ما سمعوه وما رأوه، نسبت الأناجیل إلیهم لا إلی عیسی ولا إلی الله،...فکان الحذر والحیطة من عمر رضی الله عنه بالعدول عن التدوین، إذ لو فعل لم یأمن أن تتعدد کتب السنة بتعدد قائلیها، وتتنوع بتنوع أسماء کاتبیها، فتکون أناجیل فی الأمة، ویهمل الکتاب الأصلی الذی هو درة التاج وقلادة العقد)(1).

أقول: لماذا یا تری خالف عمر بن الخطاب رأی الصحابة الذین أجمعوا فی مشورتهم علی تدوین السنة وکتابتها؟، ولماذا استشارهم أصلا إذا لم یکن عازما علی سماع مشورتهم؟، ولماذا بقی یستخیر الله شهرا کاملا؟، وهل هذا الأمر یحتاج إلی کل هذه الحیرة؟ وهل یشک مسلم عاقل بأهمیة أن یصان کلام النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم ویحفظ لتستفید منه الأجیال؟، وکیف غاب عن باله الأحادیث التی رویت فی صحاح أهل السنة من أن الأمة لا تجمع علی خطأ أو باطل، وأن الصحابة جمیعهم کالنجوم بأیهم اقتدی الإنسان اهتدی، فکیف إذا اجتمعوا کلهم علی رأی واحد، فمن هذین الحدیثین(2) وغیرهما یصبح معلوما للجمیع صواب ما


1- السنة فی مواجهة أعدائها ص 243،244.
2- حدیث لا تجتمع الأمة علی خطأ وحدیث أصحابی کالنجوم  هی من الأحادیث التی علیها مؤاخذات کثیرة من وجهة  نظر الشیعة الإمامیة أعزهم الله لکننا أوردناها لاعتقاد أهل السنة بصحتها فحجیتها أعظم، فیکون ذکرنا لها ولأمثالها فی هذا الکتاب هو من باب الإلزام وهو أمر جرت علیه العادة قدیما وحدیثا.

ص: 37

أجمع علیه الصحابة المشیرون بضرورة کتابة السنة النبویة، وأن مخالفتهم قد جرت علی الأمة ویلات لا یحصی مضارها سوی الله سبحانه وتعالی.

ثم أی حجة ضعیفة هذه التی اتخذها عمر بن الخطاب لمنع التدوین؟، وهل یصح أن یتخذ فعل بنی إسرائیل لعنهم الله ذریعة لتضییع التراث النبوی؟، وهل یکفی هذا الاحتمال الضعیف والنادر فی محو المصدر الثانی من مصادر التشریع بعد القرآن الکریم؟، فهب أن بنی إسرائیل حرفوا کتبهم فإن کتاب الله محفوظ قد تکفل الله سبحانه بحفظه وعدم تزویره وتحریفه، وهب ان أهل الکتاب عکفوا علی کتب أحادیث أنبیائهم فهل یکون هذا مبررا لان لا نعکف ونتدارس أحادیث نبینا الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، ثم من أین جاء عمر بن الخطاب بفکرة ان أهل الکتاب قد عکفوا علی کتب أحادیث أنبیائهم؟! لان القرآن الکریم لم یتعرض لهذا الأمر ولم یعبه علیهم، وإنما عاب علیهم تحریف التوراة والإنجیل، وهو أمر لا یمکن أن یقع فی القرآن الکریم.

فضلاً علی ذلک فان عمر بن الخطاب لو کان قد دون السنة النبویة الشریفة، لکان دون من ضمنها الأحادیث الکثیرة جدا التی حث فیها النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم علی الاعتناء بالقرآن وحفظه وتلاوته ومدارسته وعدم إهماله ونسیانه وغیر ذلک الکثیر الکثیر، فتکون السنة النبویة بهذا التدوین سببا ودافعا لحفظ القرآن والاهتمام به وعدم تفضیل شیء آخر علیه، لا أنها تکون سببا لنسیان القرآن وإهماله، فعمر بفعله لا حفظ السنة النبویة ولا حفظ القرآن الذی هو درة التاج وقلادة العقد کما نعته طه حسین، لان المسلمین حینما ضاعت السنة أضاعوا نفس الکتاب العزیز، إذ إن الکتاب بقی وحیدا تتلاعب به آراء المفسرین والمحدثین

ص: 38

وطلاب الجاه والدنیا، ویستفید منه کل صاحب بدعة علی حسب مزاجه وهواه، فالخوارج کانوا یتخذونه دلیلا علی صدق حرکتهم وکذب من یخالفهم، وکذلک فعل أصحاب الجمل وأهل النهروان وبنو أمیة وبنو العباس والی یوم الناس هذا، فبالقضاء علی السنة النبویة قضوا علی نفس الکتاب فوقعوا بأمر وأدهی مما خافوا منه.

ومن هنا یعلم مقدار التعصب الذی حدا بالمؤلف طه حسین إلی تصویب رأی عمر بن الخطاب وتسفیه رأی جمیع الصحابة الذین أشاروا علیه بضرورة کتابة السنة وتدوینها، فهو قد انتفض لعمر بن الخطاب وفعله، ولم ینتفض لسنة نبیه الأکرم صلی الله علیه وآله وسلم، أو لمصادرة جمیع آراء الصحابة ومخالفة أقوالهم المؤیدة لجمع السنة النبویة وکتابتها والحفاظ علیها.

الشاهد الثالث: حدیث الصحابی قرظة بن کعب

ومن الأحادیث الأخری التی ذکرت قرار منع تدوین السنة بل منع الحدیث بغیر القرآن الکریم حدیث قرظة بن کعب حیث قال:

(خرجنا نرید العراق فمشی معنا عمر إلی صرار فتوضأ فغسل اثنتین ثم قال أتدرون لم مشیت معکم قالوا نعم نحن أصحاب رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم مشیت معنا فقال إنکم تأتون أهل قریة لهم دوی بالقرآن کدوی النحل فلا تصدوهم بالأحادیث فتشغلوهم جودوا القرآن وأقلوا الروایة عن رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم امضوا وأنا شریککم فلما قدم قرظة قالوا حدثنا قال نهانا عمر بن الخطاب)(1).


1- جامع بیان العلم وفضله لابن عبد البر  ج 2  ص 120 __ 121.

ص: 39

وقد علق أبو حاتم علی هذه الروایة بالقول: (لم یکن عمر بن الخطاب __ وقد فعل __ یتهم الصحابة بالتقول علی النبی __ صلی الله علیه __ وآله __ وسلم __ ولا ردهم عن تبلیغ ما سمعوا من رسول الله __ صلی الله علیه __ وآله __ وسلم __... ولکنه علم ما یکون بعده من التقول علی رسول الله «صلی الله علیه __ وآله __ وسلم» لأنه علیه السلام قال: «إن الله __ تبارک وتعالی __ نزل الحق علی لسان عمر وقلبه» وقال: «أن یکون فی هذه الأمة محدثون فعمر منهم» فعمد عمر إلی الثقات المتقنین الذین شهدوا الوحی والتنزیل فأنکر علیهم کثرة الروایة عن النبی «صلی الله علیه __ وآله __ وسلم» لئلا یجترئ من بعدهم ممن لیس فی الإسلام محله کمحلهم فیکثر الروایة فیزل فیها...)(1).

أقول: إن توجیه أبی حاتم لمنع عمر بن الخطاب الروایة عن النبی صلی الله علیه وآله وسلم أهون من بیت العنکبوت، وأعجب ما فیه زعمه بأن سبب منع تدوین السنة هو علم عمر بن الخطاب بما ستؤول إلیه حال الروایة عن النبی صلی الله علیه وآله وسلم، فهو لکی یحول دون کثرة الروایة من التابعین منع الصحابة من الروایة، وهذا کما یقول المثل عذر أقبح من فعل، وذلک لان عمر بن الخطاب بمنعه لهؤلاء الثقات المتقنین الذین شهدوا الوحی والتنزیل من الروایة عن النبی صلی الله علیه وآله وسلم مهد إلی ظهور رواة لیسوا من أهل الإتقان ولم یشهدوا الوحی والتنزیل حدثوا بآلاف الأحادیث والروایات المکذوبة المفتعلة، ولو ان السنة النبویة المطهرة قیدت ودونت عن لسان هؤلاء الثقات الذین شهدوا الوحی والتنزیل، لما اجترأ الذین جاؤوا من بعدهم علی الکذب والتزویر والوضع ولما احتجنا إلی الأسانید وعنعنتها.


1- کتاب المجروحین لابن حبان  ج 1 ص 36 __ 37.

ص: 40

الشاهد الرابع: تهدید عمر بن الخطاب لبعض الصحابة بالضرب

وعن أبی هریرة أنه قال: (لقد حدثتکم بأحادیث لو حدثت بها زمن عمر بن الخطاب لضربنی عمر بالدرة)(1).

وعن أبی سلمة عن أبی هریرة: (وقلت له أکنت تحدث فی زمان عمر هکذا؟ فقال لو کنت احدث فی زمان عمر مثلما أحدثکم لضربنی بمخفقته)(2).

أقول: وسبب ضرب عمر بن الخطاب بالدرة لأبی هریرة لو کان حدث بتلک الأحادیث فی أیامه، لا یخلو من فرضین:

فإما أن یضربه بسبب کذبه وافترائه علی رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، وهو أمر یستحیل علی أبی هریرة وغیره فعله لو کانت السنة النبویة مدونة محفوظة مکتوبة، لان السنة لو کانت مکتوبة مدونة لافتضح کذب کل من یحاول أن یکذب علی رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، کما یفتضح الیوم کل من یحاول أن یدعی بأن هنالک آیة فی القرآن زائدة غیر مدونة.

وإما أن یضربه بسبب روایة الحدیث الصادق عن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم وهو اشد وأمر من الفرض الأول، فلماذا یضرب عمر بدرته من یحدث صادقا عن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم؟ وما الضیر فی ذلک؟ وهل نقل الحدیث الصادق عن النبی الأعظم یستلزم الضرب بالدرة؟ فلو کان کذلک لکانت عائشة وابن عمر وغیرهما المئات من الصحابة یستحقون الضرب والتنکیل بسبب نقلهم لأحادیث قالها النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم.


1- جامع بیان العلم وفضله لابن عبد البر ج2 ص121.
2- تذکرة الحفاظ للذهبی ج1 ص7.

ص: 41

الشاهد الخامس: حبس عمر بن الخطاب لبعض الصحابة بسبب إکثارهم للروایة

وعن شعبة عن سعد بن إبراهیم عن أبیه: (ان عمر حبس ثلاثة ابن مسعود وأبا الدرداء وأبا مسعود الأنصاری فقال قد أکثرتم الحدیث عن رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم)(1).

ویشهد علی صحة حدیث حبس عمر بن الخطاب لابن مسعود ما قاله ابن حزم فی تشنیعه علی أصحاب المذهب المالکی بسبب إیمانهم واعتقادهم بان عمر بن الخطاب قد حبس وضرب بعض الصحابة لکثرة روایتهم عن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، قال:

إن المالکیین المحتجین بأن عمر رضی الله عنه حبس ابن مسعود، وأبا موسی وأبا الدرداء بالمدینة، علی الإکثار من الحدیث ینبغی لهم أن یحاسبوا أنفسهم فیقولوا: إذا أنکر عمر علی ابن مسعود وأبی موسی وأبی الدرداء، الإکثار من الحدیث، وسجنهم علی ذلک، وهم أکابر الصحابة وعدول الأمة، ولیس لابن مسعود إلا ثمانمائة حدیث ونیف، فقط لعله إنما یصح منها عنه أقل من النصف ولیس لأبی الدرداء إلا مائة حدیث ونیف، لعله لا یصح عنهما إلا أقل من نصف هذین العددین ماذا کان یصنع بمالک لو رأی موطأه، قد جمع فیه ثمانمائة حدیث ونیفا وثلاثین حدیثا من مسند ومرسل)(2).

أقول: ویرد علی هذا الحدیث نفس ما ورد فی حدیث أبی هریرة السابق حذو القذة بالقذة.


1- المصدر السابق ص8، وراجع الحد الفاصل للرامهرمزی ص553.
2- الأحکام لابن حزم  ج 2 ص 250 __ 251.

ص: 42

الشاهد السادس: عمر بن الخطاب یمنع الصحابة من الرحیل عن المدینة لمنعهم عن الروایة

عن صالح بن إبراهیم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبیه قال: (والله ما مات عمر بن الخطاب حتی بعث إلی أصحاب رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فجمعهم من الآفاق عبد الله بن حذافة وأبا الدرداء وأبا ذر وعقبة بن عامر فقال: ما هذه الأحادیث التی قد أفشیتم عن رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فی الآفاق؟ قالوا: أتنهانا؟ قال: لا أقیموا عندی لا والله لا تفارقونی ما عشت فنحن أعلم نأخذ ونرد علیکم فما فارقوه حتی مات)(1).

أقول: وهل توجد تهمة للصحابة اکبر من قول عمر بن الخطاب لهم: (فنحن أعلم نأخذ ونرد علیکم) فان کان الذی یرد علیهم من الباطل الذی یقولونه وینسبونه إلی رسول الله فهو مصیبة ما بعدها مصیبة، وان کان ما یرده علیهم من الحق الذی قاله رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فهو أکثر مرارة من سابقه وفیه ما فیه، وهو کما قال ابن حزم: (لأنه لا یخلو عمر من أن یکون اتهم الصحابة، وفی هذا ما فیه، أو یکون نهی عن نفس الحدیث وعن تبلیغ سنن رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم إلی المسلمین، وألزمهم کتمانها وجحدها وأن لا یذکروها لأحد، فهذا خروج عن الإسلام...)(2).

ولا یخفی ان جمیع هذه الإشکالات کان یمکن لها ان تحل فیما لو حسمت مادة النزاع عن طریق تقیید السنة الشریفة وتدوینها لیسد الباب فی وجه کل متقول


1- کنز العمال للمتقی الهندی  ج 10  ص 292 __ 293، وراجع أیضا تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج 40 ص 500 __ 501.
2- الأحکام لابن حزم  ج 2  ص 249 __ 250.

ص: 43

بغیر الحق، ولکن وللأسف فان المسلمین لم یعوا أو حال دون جمعهم سیف السلطة ومخافة الحبس والضرب فمات کثیر من أحادیث النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم وانقرض، وفتح الباب بعمد أو بغیر عمد إلی الکذابین والوضاعین لیدخلوا فی السنة ما شاؤوا وأحبوا.

الشاهد السابع: عمر بن الخطاب یکتب لجمیع الأمصار بمحو السنة النبویة

قال ابن عبد البر: (عن عمر بن دینار عن یحیی بن جعدة أن عمر بن الخطاب رضی الله عنه أراد أن یکتب السنة ثم بدا له أن لا یکتبها ثم کتب فی الأمصار من کان عنده شیء فلیمحه)(1).

هذه بعض الشواهد الدالة وبصراحة علی وقوع الإتلاف العمدی للسنة النبویة المطهرة والمنع من تدوینها.

ما حقیقة بعض الأخبار التی صرحت باهتمام عمر بن الخطاب بالسنة النبویة المطهرة؟

اشارة

إنّ الأخبار التی تحدثت عن تعامل عمر بن الخطاب مع السنة النبویة جاءت علی صنفین، الصنف الأول هی تلک الأحادیث التی تقدمت وصرحت بوقوع النهی والضرب والحبس لکل من تسول له نفسه بتدوین السنة النبویة الشریفة أو روایتها.

بینما نجد صنفاً آخر من الأخبار صرحت بان عمر بن الخطاب کان یوصی عماله وولاته بتعلیم السنة النبویة والعمل بما فیها، کما فی مسند أحمد بن حنبل


1- جامع بیان العلم وفضله لابن عبد البر ج 1 ص 65.

ص: 44

حیث روی عن عمر بن الخطاب قوله: (وانی اشهد الله علی أمراء الأمصار فإنما بعثتهم لیعلموا الناس دینهم وسنة نبیهم صلی الله علیه __ وآله __ وسلم ویقسموا فیهم فیأهم...)(1).

وعن الشعبی عن شریح أنه کتب إلی عمر یسأله فکتب إلیه: (أن اقض بما فی کتاب الله فإن لم یکن فی کتاب الله فبسنة رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فان لم یکن فی کتاب الله ولا فی سنة رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فاقض بما قضی به الصالحون فان لم یکن فی کتاب الله ولا فی سنة رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم ولم یقض به الصالحون فإن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر ولا أری التأخر إلا خیرا لک والسلام علیکم)(2) أفی هذا تناقض بین هاتین الطائفتین من الأخبار أم أن للحقیقة وجهاً آخر؟.

والصحیح أن لا تناقض ما بین تلک الأخبار، لان التی ذکرت منع عمر بن الخطاب للصحابة من التدوین والروایة للسنة النبویة ومعاقبته لمن یخالف ذلک قد اشتهر أمرها وذاع ووردت من أکثر من مصدر تاریخی وتناقله أکثر من صحابی فلا یمکن والحال هذه رفع الید عن القول بحصوله علی نحو الیقین.

وأما الطائفة الثانیة من الأخبار التی یستشعر منها اهتمام عمر بن الخطاب بالسنة النبویة فلیس فیها تناقض مع أخبار المنع السابقة، وان هذا التضارب نتج عن الطریقة الانتقائیة التی تعاملت فیها الدولة مع السنة النبویة المطهرة، لان السنة النبویة کانت فی نظر الدولة تنقسم علی قسمین، فکانت تتعاطی مع کل قسم بما یناسبه.


1- مسند أحمد بن حنبل ج1 ص28، والسنن الکبری للبیهقی ج8 ص150.
2- سنن النسائی ج 8 ص 231.

ص: 45

القسم الأول من أقسام السنة والمتعلق بالأحکام والتشریع والقضاء

 والذی کان یعد ضرورة ملحة، فبه تنتظم شؤون الرعیة، وتستقیم الحیاة، ویستتب الأمن، وتحفظ الحقوق الفردیة والاجتماعیة، فهی تخدم مصالح الدولة والمجتمع فی الوقت ذاته، والأهم من ذلک کله هو عدم وجود خطر من هذا القسم علی أمن الدولة وسیادتها آنذاک، وعلیه فلم یکن هنالک مانع من الدولة وقادتها بالعمل والأخذ بهذا القسم من أقسام السنة النبویة المطهرة، واهتمام عمر بن الخطاب بالسنة یندرج تحت هذا القسم من أقسام السنة النبویة، فوصیته لشریح القاضی واضحة للغایة فهو یوصیه بالرجوع إلی السنة النبویة فی باب القضاء، وهو وان کان جیدا بل واجبا، إلا أن هذه الوصیة لا تعبر بالضرورة عن اهتمام عمر بن الخطاب بالسنة النبویة، لان عمر بن الخطاب قد أدخل فی وصیته هذه بابا خطیرا للغایة، فتح علی الأمة الإسلامیة أبوابا من الویلات لم تکن موجودة فیما سبق، لأنه قد أعطی فی وصیته هذه مجالا للاستحسان والاجتهاد والقیاس، وجعلها فی مصف واحد مع کتاب الله سبحانه وسنة نبیه صلی الله علیه وآله وسلم، فعمر بن الخطاب قد أعطی الضوء الأخضر لشریح القاضی بالأخذ بآراء الصلحاء فی حالة عدم وجود أصل للحکم فی الکتاب العزیز والسنة النبویة المطهرة، ولا أدری من هم الصلحاء؟ إذ إن مفهوم الصلاح مفهوم واسع ومقیاسه نسبی، فلرب رجل صالح عند شریح القاضی ولکنه طالح عند غیره، وکذلک فتح له مجال الرأی والاستحسان حینما لا یجد حکما فی کتاب الله وسنة نبیه وحکم الصالحین، فساوی بین کتاب الله وسنة نبیه وبین حکم الصالحین واجتهاد شریح القاضی وهو أمر خطیر للغایة لا یخفی علی متدبر.

ص: 46

ولکن لا ینبغی ان نغفل عن أمر مهم للغایة وهو ان محافظة الدولة علی السنة النبویة المطهرة المتعلقة بمسائل التشریع والأحکام بدأت تضعف کلما قویت شوکتها وسطوتها، وبدأ تدخّل الحاکم وبعض مؤیدیه فی معارضة سنة النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم بسنة ثانیة یزداد یوما بعد یوم، وصار التدخل یطال الأحکام التی کانت تُعَدّ من الأمور المسلّم بها والبدیهیة، حتی بلغ الحال ببعض الصحابة والتابعین البکاء علی الحالة المزریة التی بلغتها الأمة الإسلامیة من حیث التغییر والتبدیل لبدیهیات الأحکام الشرعیة فضلا عن غیرها من الأحکام، فقد روی البخاری فی صحیحه: (حدثنا موسی بن إسماعیل قال حدثنا مهدی عن غیلان عن أنس قال: ما أعرف شیئا مما کان علی عهد النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم؟ قیل: الصلاة، قال: ألیس ضیعتم ما ضیعتم فیها؟)(1).

 وقال أیضا: (حدثنا عمرو بن زرارة قال أخبرنا عبد الواحد بن واصل أبو عبیدة الحداد عن عثمان بن أبی رواد أخو عبد العزیز قال سمعت الزهری یقول دخلت علی أنس بن مالک بدمشق وهو یبکی فقلت له ما یبکیک فقال لا اعرف شیئا مما أدرکت إلا هذه الصلاة وهذه الصلاة قد ضیعت)(2).

وروی البخاری أیضا: (حدثنا عمر بن حفص قال حدثنا أبی قال حدثنا الأعمش قال سمعت سالما قال سمعت أم الدرداء تقول دخل علی أبو الدرداء وهو مغضب فقلت: ما أغضبک؟ فقال: والله ما اعرف من أمة محمد صلی الله علیه __ وآله __ وسلم شیئا إلا أنهم یصلون جمیعا)(3).


1- صحیح البخاری ج 1  ص 134 باب تضییع الصلاة عن وقتها.
2- صحیح البخاری ج 1، ص 134 باب تضییع الصلاة عن وقتها.
3- المصدر السابق ج 1، ص 159 باب وجوب صلاة الجماعة.

ص: 47

وعن البخاری أیضا قال: (حدثنی أحمد بن اشکاب حدثنا محمد بن فضیل عن العلاء بن المسیب عن أبیه قال لقیت البراء بن عازب رضی الله عنهما فقلت طوبی لک صحبت النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم وبایعته تحت الشجرة فقال یا ابن أخی انک لا تدری ما أحدثنا بعده)(1).

وعن مالک بن أنس فی کتابه (الموطأ) قال: (حدثنی یحیی عن مالک، عن عمه أبی سهیل بن مالک، عن أبیه، أنه قال: ما أعرف شیئا مما أدرکت علیه الناس، إلا النداء بالصلاة)(2).

وبهذه الطریقة ضاعت سنة النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم المتعلقة بالأحکام والتشریعات والقضاء لیحل محلها سنن الحکام وتشریعاتهم التی کانت تختلف عن تلک السنن والتشریعات التی اعتادها المسلمون فی أیام النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، حتی لم یبق من الدین إلا قشره، وهذا الضیاع للسنة هو الذی أبکی أعین الصحابة وأدمی أفئدتهم.

القسم الثانی: السنة المتعلقة بفضائل بعض الذین عاصروا النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم أو مثالبهم

مثلما أعطی الله سبحانه لنبیه العظیم صلی الله علیه وآله وسلم مهمة التبلیغ لإحکام الشرع الحنیف، والحکم بین الناس بما انزل الله سبحانه، کذلک أعطاه مهمة إرشاد الأمة وتقویمها والأخذ بیدها وإخراجها من الظلمات إلی النور، والنبی صلی الله علیه وآله وسلم بحکم کونه قائدا ربانیا حکیما مؤیدا بنور الله سبحانه وتأییده، تعایش مع أمته فی مختلف الظروف والأحوال، فخبرهم وسبر مکنون ضمائرهم، فعرف


1- صحیح البخاری  ج 5  ص 65 __ 66 باب غزوة الحدیبیة.
2- کتاب الموطأ للإمام مالک  ج 1 ص 72 کتاب الصلاة باب ما جاء فی النداء للصلاة.

ص: 48

ومن خلال تجربته معهم فی السراء والضراء، وحین الحرب والبأساء، وفی أوقات الشدة والرخاء، المصلح منهم والمفسد، والمؤمن والمنافق، والصالح والطالح، فکان یتعامل مع کل فرد من أفراد أمته علی حسب حاله وما تنطوی علیه نفسه من الکفر أو الإیمان أو النفاق، فیشکر محسنهم، ویذم إساءة مسیئهم، ویعفو عن کثیر، ویمکن لنا من خلال الاستقراء لکثیر من النصوص التاریخیة أن نقسم الأمة الإسلامیة علی ثلاث فئات:

الفئة الأولی: فئة أجمعت الأمة الإسلامیة وعلی اختلاف مذاهبها بان النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم لم یذکرهم إلا بالمدح والتعظیم والتقدیم ورفعة المنزلة وعلو الشأن، وتکاد هذه الفئة تقتصر علی أربعة أنفار من الأمة هم کل من الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه والسیدة فاطمة بنت محمد صلوات الله وسلامه علیها، والإمامین الهمامین الحسن والحسین صلوات الله وسلامه علیهما، فهؤلاء الأطهار اجتمعت کلمة الأمة علی القول بفضلهم، لذا تری جمیع الفرق الإسلامیة تختلف مع بعضها البعض فی تقییم الصحابة وتفضیلهم، ففرقة تمدح وأخری تقدح، وفرقة توالی وأخری تکفر، ولم تجتمع کلمتهم إلا علی هؤلاء الأربعة الأطهار صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، فلا تجد مسلما یغمزهم أو یطعن فیهم بسابقة أو فضل، ومن یفعل هذا فلیس بمسلم بإجماع أقوال علماء الإسلام.

الفئة الثانیة: وهم قوم لم یؤثر عن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم فی حقهم سوی القدح والذم لأشخاصهم وأفعالهم، والتأخیر والحط من مراتبهم ومنازلهم، والفضح لمخططاتهم وألاعیبهم، وهؤلاء کثیر، لکننا نخص بالذکر منهم آل أمیة وآل مروان وأمثالهم من الذین لعنهم النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم فی کل موطن وموقف وقفه النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، کما وردت الإشارة إلی هذا المعنی فی زیارة

ص: 49

عاشوراء وغیرها، بل ونجد فی کثیر من النصوص ان النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم لم یکتف بذم الأفراد الموجودین منهم ولعنهم، بل ذم ولعن بیوتا کاملة من کان منهم حیا یرزق ومن لم یکن ومن کان منهم مولودا ومن لم یولد، کما فعل صلی الله علیه وآله وسلم مع الحکم والد مروان بن الحکم وغیره من آل أُمیة، فقد أخرج الحاکم النیسابوری فی (المستدرک علی الصحیحین): (... عن عبد الرحمن بن عوف رضی الله عنه قال کان لا یولد لأحد مولود إلا أتی به النبی صلی الله علیه وآله فدعا له فادخل علیه مروان بن الحکم فقال هو الوزغ ابن الوزغ الملعون ابن الملعون) وقال الحاکم بعد إیراد هذا الحدیث: (هذا حدیث صحیح الإسناد ولم یخرجاه)(1).

وعن النسائی فی (السنن الکبری) عن عائشة بنت أبی بکر انها قالت: (ولکن رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم لعن مروان ومروان فی صلبه فمروان فضض من لعنة الله)(2)، وقد علق ابن حجر علی هذا الحدیث وغیره بقوله فی (فتح الباری): (وقد وردت أحادیث فی لعن الحکم والد مروان وما ولد أخرجها الطبرانی وغیره غالبها فیه مقال وبعضها جید)(3).

وقال الحاکم النیسابوری:(عن أبی حمزة قال سمعت حمید بن هلال یحدث عن عبد الله بن مطرف عن أبی برزة الأسلمی قال: کان أبغض الأحیاء إلی رسول الله صلی الله علیه وآله بنو أمیة وبنو حنیفة وثقیف. هذا حدیث صحیح علی شرط الشیخین ولم یخرجاه)(4).


1- المستدرک للحاکم النیسابوری  ج 4 ص 479.
2- السنن الکبری للنسائی  ج 6 ص 459.
3- فتح الباری لابن حجر  ج 13 ص 9.
4- المستدرک للحاکم النیسابوری  ج 4  ص 480 __ 481.

ص: 50

الفئة الثالثة: وهم من لم تجتمع الأمة علی القول بصلاحهم واختلفت أقوالهم فی مقدار مدح النبی الأعظم وذمه لهم، ویدخل فی هذا القسم سائر الصحابة، فلا یوجد إجماع من سائر مذاهب الأمة الإسلامیة علی التزکیة المطلقة لأفراد هذه الفئة، فأهل السنة مثلا ینسبون لبعض رموزهم بعض الفضائل فتکذبهم الشیعة الإمامیة أو الزیدیة أو المعتزلة وغیرهم فیرون مقابلها کثیراً من المثالب، وبالعکس فقد تروی الشیعة أو الزیدیة أو الخوارج وغیرهم فضیلة لأحد أفراد هذه الفئة فیکذبهم أهل السنة، فهذه الفئة علی اقل التقادیر مختلف فی أمر قدحها ومدحها فاستحقت ان تکون فئة ثالثة تختلف عن تلک الفئتین السابقتین.

وبعد معرفة هذه الفئات الثلاث من فئات الأمة نقول: إنّ الدولة ومنذ اللحظة الأولی لنشوئها کانت توجس فی نفسها خیفة من تثبیت أقوال النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم تجاه هذه الفئات الثلاث، وجعلها فی متناول أیدی الناس جمیعا، لان الدولة لو کتبت فضائل الفئة الأولی التی لم تصدر فی حقهم مثلبة ولا منقصة، وکتبت معها مثالب الفئة الثانیة والثالثة، لفتحت علی نفسها بابا عظیما لا یُسَد إلی یوم القیامة، فکل جیل من أجیال المسلمین سیأتی فیتساءل لماذا أخّر الصحابة أشخاصاً لا توجد فیهم منقصة ولا مثلبة بإجماع المسلمین، بینما تقدمهم وتقدم المسلمین من هم اقل منهم مرتبة وشأنا وفضیلة، ومن اختلف المسلمون فی تزکیتهم وعدالتهم ___ علی اقل التقادیر __ إن لم نقل بعدم ثبوت عدالتهم أصلا، فلماذا ترکوا ما هو متیقن العدالة والوثاقة والنزاهة وتمسکوا بمن هو مشکوک فی فضله __ قسم یفضله وقسم آخر یقدح فیه __.

 ولو کانت الدولة دونت وثبتت مثالب الفئة الملعونة وجعلت أقواله صلی الله علیه وآله وسلم فی حق آل أمیة وأمثالهم فی متناول أیدی الناس، لتساءل أجیال

ص: 51

المسلمین کیف وصل هؤلاء الملعونون علی لسان النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم إلی کرسی الحکم علی رغم وجود هذه اللعنات الکثیرة لهم حتی قبل ولادتهم ومجیئهم إلی هذه الدنیا، ولتساءل المسلمون کیف سمحت الدولة فی زمن کل من أبی بکر وعمر وعثمان بالاستعانة بهؤلاء الملعونین وجعلهم ولاة وأمراء علی بلاد المسلمین، بینما لم توکل لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین أی ولایة أو إمارة فی طول مدّة حکم أبی بکر وعمر وعثمان.

وعلیه وللحفاظ علی ماء الوجه، ولکی لا تستغل هذه المثالب وتلک الفضائل ورقة إدانة توجهها الأجیال الإسلامیة ضد حکومة الثلاثة، ارتأت الدولة آنذاک ضرورة تغییب القسم الثانی من أقسام السنة النبویة وطمسها، مع محاولة المجیء بسنة جدیدة تقفل تلک الصفحات وتمحو تلک الأقوال وتؤسس لعالم جدید من الفضائل والمثالب کما سیأتی شرحه فی موضعه إن شاء الله تعالی.

الملامح العامة لسنة الشیخین والتی صارت بدیلا عن السنة النبویة

اشارة

المشکلة التی تواجه الباحث انه لا یوجد شیء مدون مکتوب بعنوان سنة الشیخین، فسنة الشیخین وغیرها من السنن قد اندمجت مع سنة النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم واختلطت مع بعضها فی کتب الحدیث، فان السنن النبویة لما دونت فی سنة 125 للهجرة لم یکتف الرواة المدونون بکتابة السنة النبویة وحدها حتی خلطوا معها سنة باقی الصحابة، ففی (الطبقات الکبری) لابن سعد عن صالح بن کیسان قال: (اجتمعت أنا والزهری ونحن نطلب العلم فقلنا نکتب السنن. قال: وکتبنا ما جاء عن النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم، قال: ثم قال __ أی الزهری __ نکتب ما جاء عن الصحابة فإنه سنة، قال: قلت __ والقائل هو صالح بن کیسان __ إنه لیس

ص: 52

بسنة فلا نکتبه، قال فکتب ولم أکتب فأنجح وضیعت)(1)، وفی هذا النص المهم تصریح واضح بان الزهری، وهو کما سنعرف فیما بعد یمثل بمدوناته الحجر الأساس لکتابة السنة النبویة وتدوینها __ قد زج مع سنة النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم سنة الصحابة أیضا وأقوالهم وأفعالهم لاعتقاده بان هذه أیضا سنة کسنة النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، وإذا عرفنا أیضا بان الزهری کان لا یهتم بقضیة الأسانید واتصال بعضها ببعض، حیث کان یرفع ویرسل ویدلس ویروی بالمعنی ما یشاء، نصل إلی نتیجة قطعیة بان کثیرا من السنن التی هی سنن الصحابة وأقوالهم وأفعالهم انقلبت فیما بعد لتصبح من ضمن السنة النبویة، وانقلبت من کونها قولاً لأحد الصحابة إلی قول من أقوال النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، ومما یؤکد هذا المعنی إننا والی الآن نری علماء الحدیث من أهل السنة یترددون فی الحکم علی کثیر من الأحادیث الموجودة فی صحاحهم وسننهم ومسانیدهم، ولا یستطیعون التمییز بین کونها من کلام النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم أم من کلام احد الصحابة، وهو ما یسمی بمشکلة التمییز ما بین المرفوع والموقوف.

فاختلطت بذلک أقوال النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم بأقوال أصحابه، وسنته صلی الله علیه وآله وسلم بسننهم، وأصبح التمییز فیما بین السنتین مع مرور الوقت وتطاول السنین عسیراً جدا، وأصبح فی وقتنا أعسر وأصعب لدخول کثیر من الروایات والنصوص المزیفة والمکذوبة وإلصاقها عنوة بکتب السنة النبویة، ونحن وان کنا لا نستطیع تحدید المکذوب والذی تم إضافته علی انه من ضمن السنة النبویة إلا أننا نستطیع إیجاد ملامح عامة لهذه السنة المزورة التی تم إضافتها وإقحامها فی ضمن السنة النبویة الحقیقیة، وفیما یأتی عدة من تلک الملامح:


1- الطبقات الکبری لمحمد بن سعد  ج 2 ص 388 __ 389.

ص: 53

أولا: التأکید علی بشریة النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم بشکل مبالغ فیه

سیأتی لاحقا إن شاء الله تعالی ان الشیخین وان منعا بعض الصحابة من تدوین السنة النبویة المطهرة، وعاقبا الکثیرین ممن کان یروی عن النبی صلی الله علیه وآله وسلم لأسباب قد تبینت فیما سبق، إلا أنهما قد فتحا باب الروایة علی مصراعیه أمام فئة ثانیة لم تکن الدولة تتخوف منهم کعائشة بنت أبی بکر وعبد الله بن عمر وزید بن ثابت وأبی هریرة(1)، وغیرهم ممن کانوا یعدون من مؤیدی السلطة آنذاک.

وهؤلاء المؤیدون الذین سمحت الدولة لهم بالروایة قد أکدوا فی أحادیثهم المنقولة وبشدة علی موضوع بشریة النبی الأکرم صلی الله علیه وآله وسلم من دون أن یعطوا لشخصیته مصداقیة غیبیة، إلا فی جانب یسیر من جوانب حیاته المبارکة، وهو الجانب التبلیغی للأحکام الشرعیة، وأما ما یتعلق بتدبیر سیاسة البلاد، وإدارة شؤون الناس، وبقیة الأمور المتعلقة بدنیا المکلفین، فقد جعلوا من النبی صلی الله علیه وآله وسلم بشرا کسائر البشر بل دون سائر البشر یری فیها الرأی ثم یتبین له خطأه فیطلب من المسلمین السماح والغفران(2)، ویصلی بأصحابه فیتوقف فجأة


1- أبو هریرة قد سمح له بالحدیث علی عهد الشیخین لکن المشکلة التی کانت تحرج السلطة هی ان أبا هریرة لم یدخل فی الإسلام إلا فی السنة أو السنتین الأخیرتین من عمر النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، لکنه مع هذا  کان یحدث عنه آلاف الأحادیث بما لا یتناسب ومدة لقائه بالنبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم فمنعته السلطة من الإکثار الذی یجذب انتباه بقیة المسلمین، ویثیر التساؤل عن مصداقیة هذه الأحادیث.
2- قال النووی فی شرحه لصحیح مسلم، وصحتها. (شرح مسلم  النووی  ج 5  ص 61 __ 62): (قوله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم ولکن إنما أنا بشر أنسی کما تنسون فإذا نسیت فذکرونی فیه دلیل علی جواز النسیان علیه صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فی أحکام الشرع وهو مذهب جمهور العلماء وهو ظاهر القرآن والحدیث... قال القاضی واختلفوا فی جواز السهو علیه صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فی الأمور التی لا تتعلق بالبلاغ وبیان أحکام الشرع من أفعاله وعاداته وأذکار قلبه فجوزه الجمهور).

ص: 54

ویأمرهم بالانتظار وسط الصلاة ثم یذهب إلی بیته لیغتسل ویعود لیخبرهم بأنه کان جنبا ونسی ان یغتسل(1)، ویصلی بهم فلا یدری کم صلی وکم رکع وسجد فیعتذر بأنه بشر مثلهم ینسی کما ینسون ویسهو کما یسهون(2)، ویأمرهم بعدم تلقیح نخل المدینة ثم یتبین له ان النخلة لکی تثمر فانها لا یمکن ان تستغنی عنه، فیعتذر لهم ویفوض لهم أمر التصرف بما یتعلق بأمور دنیاهم لأنهم اعرف بها منه(3).

والظاهر ان هذا التأکید المبالغ فیه علی بشریة النبی صلی الله علیه وآله وسلم، وانه کغیره من سائر الناس ینسی ویسهو، ویلعن ویسب، ویصلی مجنبا، بل ویترک صلاة الصبح، ویبول واقفا، وأمثال ذلک، الهدف منه هو سلب قدسیة النبی


1- فی مسند أحمد بن حنبل  ج 5 ص 41: (عن أبی بکرة ان رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم استفتح الصلاة فکبر ثم أومأ إلیهم أن مکانکم ثم دخل فخرج ورأسه یقطر فصلی بهم فلما قضی الصلاة قال إنما أنا بشر وانی کنت جنبا).
2- مسند أحمد بن حنبل  ج 1 ص 420: (عن عبد الله بن مسعود قال صلی رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم خمسا الظهر أو العصر فلما انصرف قیل له یا رسول الله أزید فی الصلاة قال لا قالوا فإنک صلیت خمسا قال فسجد سجدتی السهو ثم قال إنما أنا بشر أذکر کما تذکرون وأنسی کما تنسون).
3- صحیح مسلم ج7 ص 95: (عن رافع بن خدیج قال قدم نبی الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم المدینة وهم یأبرون النخل یقولون یلقحون النخل فقال ما تصنعون قالوا کنا نصنعه قال لعلکم لو لم تفعلوا کان خیرا فترکوه فنفضت أو فنقصت قال فذکروا ذلک له فقال إنما أنا بشر إذا أمرتکم بشیء من دینکم فخذوا به وإذا أمرتکم بشیء من رأیی فإنما انا بشر).

ص: 55

صلی الله علیه وآله وسلم من نفوس المسلمین، وتحطیم مصداقیة أقواله وأفعاله، وبمعنی آخر تحطیم السنة النبویة، حتی یمکن للسلطة وأتباعها مناقشتها ومعارضتها وعدم الاعتقاد بإلزامیتها، لتبدأ بعد ذلک مرحلة جدیدة من مراحل المخطط وهو ما سنتکلم عنه فی النقطة الثانیة.

ثانیا: تضخیم شخصیة السلطة وإعطاؤها مقام الأنبیاء

بعد أن نجحت السلطة مع مرور الوقت فی سحق قداسة النبی صلی الله علیه وآله وسلم وقتلها إعلامیا، جاءت الخطوة المکملة لهذه المهمة وهی تضخیم شخصیة الخلیفة وبعض الحاشیة المشارکة له فی الأهداف والمصالح، لجعله وإیاهم مرجعا یرجع إلیه فی کل صغیرة وکبیرة، ولم یکتفوا بان جعلوا من الخلیفة __ وبالخصوص الشیخین __ أفضل الصحابة حتی صیروهم أفضل أهل السماوات والأرض، کما نقل عن أبی هریرة قوله: (إن رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم قال: أبو بکر وعمر خیر أهل السماوات والأرض، وخیر الأولین والآخرین، إلا النبیین والمرسلین)(1).

 ومنحوهما مقام الإفتاء فی زمن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم کما نقل عن ابن عمر: (أنه سئل عمن کان یفتی فی زمن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فقال: أبو بکر وعمر ولا أعلم غیرهما)(2).


1- تاریخ بغداد للخطیب البغدادی ج2 ص333، وکنز العمال للمتقی الهندی ج11 ص567 فضائل أبی بکر وعمر من الإکمال.
2- التمهید لابن عبد البر ج9 ص77، والسؤال الذی یطرح نفسه هنا: هل کان المسلمون بحاجة إلی من یفتیهم ورسول الله صلی الله علیه وآله وسلم علی قید الحیاة وهو صلی الله علیه وآله وسلم معروف بعدم رد أی سائل یطلب التفقه فی الدین، فإذا کان الحال هذا فما الداعی إلی ان یسأل الناس الفتوی من ابی بکر وعمر؟!.

ص: 56

وجعلوا الخلیفة یلقی فی روعه ولا یتکلم إلا بإلهام من الملائکة، فعن عائشة: (عن النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم انه کان یقول قد کان یکون فی الأمم قبلکم محدثون، فإن یکن فی أمتی منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم)(1) قال العینی: (المحدث الملهم الذی یلقی الشیء فی روعه فکأنه قد حدث به یظن فیصیب، ویخطر الشیء بباله فیکون، وهی منزلة جلیلة من منازل الأولیاء، وقیل: المحدث هو من یجری الصواب علی لسانه، وقیل: من تکلمه الملائکة...وقد وقع ذلک بحمد الله تعالی. وفیه منقبة عظیمة لعمر بن الخطاب)(2) وقال المناوی: (کأنه جعله فی انقطاع قرینه فی ذلک کأنه نبی)(3) وقال الشیخ الأمینی نقلا عن الحافظ محب الدین الطبری: (ویجوز أن یحمل علی ظاهره وتحدثهم الملائکة لا بوحی وإنما بما یطلق علیه اسم حدیث، وتلک فضیلة عظیمة)(4).

وان النبی صلی الله علیه وآله وسلم کان یخاف أن ینتقل جبرائیل علیه السلام بالوحی إلی عمر بن الخطاب، حتی کان یجهر بالقول: (ما أبطأ عنی جبریل إلا خشیت أنه ذهب إلی عمر)(5).

وان الخلیفة أعطی تسعة أعشار العلم وترک بقیة أحیاء العرب یتشارکون فی جزء واحد، وان مجلسا واحدا یجلسه الإنسان بین یدی عمر بن الخطاب أفضل من عبادة أو عمل سنة کاملة، قال ابن مسعود: (لو وضع علم أحیاء العرب فی کفة


1- صحیح مسلم ج7 ص116 باب من فضائل عمر.
2- عمدة القاری للعینی  ج 16 ص 55.
3- فیض القدیر شرح الجامع الصغیر للمناوی ج4 ص664حرف القاف.
4- الغدیر للشیخ الامینی ج5 ص44 نصوص العامة حول المحدث.
5- شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید المعتزلی ج12 ص178 ذکر الأحادیث الواردة فی فضل عمر.

ص: 57

میزان ووضع علم عمر فی کفة لرجح علم عمر ولقد کانوا یرون أنه ذهب بتسعة أعشار العلم ولمجلس کنت أجلسه مع عمر أوثق فی نفسی من عمل سنة)(1).

وفی مقارنة سریعة بین ما سطروه هنا للسلطة من صفات ترتفع بهم عن مرتبة سائر المخلوقین، وبین ما نسبوه للنبی صلی الله علیه وآله وسلم من موبقات عظام تحط به دون مراتب بقیة المخلوقین، تتضح اللعبة وتتبین تفاصیلها، ویتیقن المسلم ان ذلک التمجید للسلطة، وهذا الانتقاص من مقام النبی صلی الله علیه وآله وسلم، کان الهدف منه استبدال القدسیة لیتسنی للخلیفة أن یتمتع بمقام التشریع، وحتی إذا ما سن سنة یطاع ویتبع، وکیف لا یتبع وقد صوروه خیر أهل السماوات والأرض، وما دام ملهما محدثا من قبل الملائکة، ولکی إذا ما خالفت سنة الحاکم سنة النبی صلی الله علیه وآله وسلم تقدم سنة الخلیفة وتشریعاته لأنه ملهم بینما النبی صلی الله علیه وآله وسلم کما صوره إعلام الدولة یسهو وینسی ویخطئ ویعتذر بأنه بشر مثل غیره من البشر.

ثالثا: إیجاد التغطیة الإعلامیة وشراء ذمم المغطین

ان الحدیث عن سنة الشیخین لا ینبغی أن ینفصل عن مسألة مهمة للغایة، وهی ان الشیخین ما کانا لینجحا لولا إیجادهما لشبکة إعلامیة قویة وفعالة، تروج ما یسن ویبتدع من فتاوی وسنن، وتعطیه زخما شرعیا، وتغطیة إسلامیة، وقد وقع اختیار السلطة علی مجموعة من الأشخاص الذین کانوا یتمتعون بمزایا خاصة وفریدة فضلاً علی اشتراکهم مع السلطة بالمصالح والغایات، فعلی سبیل المثال اختیرت عائشة بنت أبی بکر لتغطیة الجانب الشرعی وإعطاء الأحکام والفتاوی، وقد منحت مرتبة من قبل السلطة لم یمنح مثلها إنسان، کل ذلک بسبب الخدمات الجلیلة التی


1- الاستیعاب لابن عبد البر  ج 3  ص 1149 __ 1150.

ص: 58

بذلتها فی هذا المجال، وفی مقابل هذه الخدمات منحتها الدولة مقاما رفیعا للغایة، ورفعتها لتصبح ثالث شخصیة مهمة بعد أبی بکر وعمر بن الخطاب، وأوکلت إلیها مقام المرجعیة فی الفتوی والأحکام، فعن عبد الرحمن بن القاسم عن أبیه قال: (کانت عائشة قد استقلت بالفتوی فی خلافة أبی بکر وعمر)(1).

وقد منحتها السلطة مبارکتها وأیدتها بنصوص مکذوبة علی لسان النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم کروایتهم بأن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم أوصی أمته بقوله: (خذوا ثلثی دینکم من هذه الحمیراء)(2) یقصد بذلک عائشة.

ولم تکتف السلطة بذلک حتی فتحت أمامها أبواب بیت المال ومیزتها براتبها الشهری، عن جمیع نساء المسلمین، قال ابن سعد: (عن مصعب بن سعد أن عمر أول من فرض الأعطیة فرض لأهل بدر والمهاجرین والأنصار ستة آلاف ستة آلاف وفرض لأزواج النبی علیه السلام ففضل علیهن عائشة فرض لها فی اثنی عشر ألفا ولسائرهن عشرة آلاف عشرة آلاف غیر جویریة وصفیة فرض لهما فی ستة آلاف ستة آلاف)(3).

وأعطت الدولة القضاء لزید بن ثابت فعن سلیمان بن یسار قال: (ما کان عمر ولا عثمان یقدمان علی زید بن ثابت أحدا فی القضاء والفتوی والفرائض والقراءة)(4) مع العلم أنّ زید بن ثابت یصرح بما لا یقبل الشک أن


1- الطبقات الکبری لمحمد بن سعد  ج 2 ص 375.
2- تفسیر الرازی ج32 ص32 فی تفسیر قوله تعالی (لیلة القدر خیر من ألف شهر) وقریب من هذا اللفظ تجده فی المبسوط للسرخسی ج4 ص213 باب نکاح الصغیر والصغیرة.
3- المصدر السابق ج3 ص304 ذکر استخلاف عمر.
4- المصدر السابق ج 2  ص 359.

ص: 59

جمیع ما کان یقضی به هو اجتهادات شخصیة لا تمت للشریعة بصلة فعن الشعبی قال: (إن مروان دعا زید بن ثابت، وأجلس له قوما خلف ستر، فأخذ یسأله، وهم یکتبون; ففطن زید، فقال: یا مروان، أغدرا، إنما أقول برأیی)(1).

وقد استفاد زید بن ثابت أیضا من بحبوحة بیت المال کما استفادت عائشة بنت أبی بکر قبله، لان الدولة لم تکن تبخل علی من یخدمها بإخلاص، قال ابن حجر: (وروی البغوی بإسناد صحیح عن خارجة بن زید کان عمر یستخلف زید ابن ثابت إذا سافر فقلما رجع إلا أقطعه حدیقة من نخل)(2) ولا نرید الدخول بتفصیل القول حول طلحة والزبیر وعبد الرحمن بن عوف وآل أبی سفیان وغیرهم ممن قدم خدمات للدولة فمنحتهم الدولة من الذهب والفضة ما کان یکسر بالفؤوس.

ولم تکن السلطة فی قوانین سنتها الجدیدة تری بأسا فی ان یری رجالها المعتمدون ما یشاءون ما دامت هذه الآراء لا تخل بأمن الدولة ولا تزعزع کرسی الخلیفة، قال ابن عبد البر: (وعن ابن عمر أنه سئل عن شیء فعله أرأیت رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم یفعل هذا أو شیء رأیته قال بل شیء رأیته وعن أبی هریرة رضی الله عنه أنه کان إذا قال فی شیء برأیه قال هذه من کیسی ذکره ابن وهب عن سلیمان بن بلال عن کثیر بن زید عن ولید بن رباح عن أبی هریرة وعن ابن مسعود أنه قال فی غیر ما مسألة أقول فیها برأی)(3).


1- سیر أعلام النبلاء للذهبی  ج 2  ص 438.
2- الإصابة لابن حجر ج2 ص492.
3- جامع بیان العلم وفضله لابن عبد البر  ج 2  ص 58.

ص: 60

کما ان السلطة وأعوانها لم تکن تری بأسا فی أن تطمس کثیرا من النصوص النبویة فیما تعلقت مصلحة الدولة بطمسها وإخفائها، قال ابن أبی الحدید المعتزلی:

(وقد أطبقت الصحابة إطباقا واحدا علی ترک کثیر من النصوص لما رأوا المصلحة فی ذلک کإسقاطهم سهم ذوی القربی وإسقاط سهم المؤلفة قلوبهم وهذان الأمران أدخل فی باب الدین منهما فی باب الدنیا وقد عملوا بآرائهم أمورا لم یکن لها ذکر فی الکتاب والسنة، کحد الخمر فإنهم عملوه اجتهادا، ولم یحد رسول الله صلی الله علیه وآله شاربی الخمر وقد شربها الجم الغفیر فی زمانه بعد نزول آیة التحریم ولقد کان أوصاهم فی مرضه أن أخرجوا نصاری نجران من جزیرة العرب فلم یخرجوهم حتی مضی صدر من خلافة عمر، وعملوا فی أیام أبی بکر برأیهم فی ذلک باستصلاحهم وهم الذین هدموا المسجد بالمدینة وحولوا المقام بمکة، وعملوا بمقتضی ما یغلب فی ظنونهم من المصلحة ولم یقفوا مع موارد النصوص، حتی اقتدی بهم الفقهاء من بعد، فرجح کثیر منهم القیاس علی النص، حتی استحالت الشریعة وصار أصحاب القیاس أصحاب شریعة جدیدة)(1).

وکذلک کانت السلطة وأتباعها یرون جواز إخفاء الحقائق والأحادیث التی تؤدی إلی تفرق الناس عنهم کما جاء علی لسان عثمان بن عفان حیث خطب فی أیام إمارته فقال: (أیها الناس إنی کتمتکم حدیثا سمعته من رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم کراهة تفرقکم عنی...)(2).


1- شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید  ج 12 ص 83 __ 84 نکت من کلام عمر وسیرته وأخلاقه.
2- مسند أحمد بن حنبل ج1 ص65 مسند عثمان بن عفان.

ص: 61

رابعا: إیجاد طبقة اسمها أهل الحل والعقد

لم یکن فی زمن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم شیء اسمه أهل الحل والعقد، وهو مصطلح أُنشئ بعد السقیفة، وأطلق علی من أید حکومة أبی بکر بن أبی قحافة، وبالتحدید علی عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف، ثم وسع فی عهد عمر بن الخطاب لیدخل فیه طلحة والزبیر وغیرهما، ثم اخذ یتوسع أکثر فأکثر مع مرور الأیام، وأهل الحل والعقد هم الذین یملکون شعبیة عند الناس ویملکون رصیدا اجتماعیا یستطیعون من خلاله تغییر موازین القوی وتحشید الجماهیر علی أمر معین، ولکن من یرجع إلی تاریخ الکثیر من أهل الحل والعقد فی زمن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم یجد بأنهم لم یکونوا فی أیامه یمتلکون مثل هذه الشعبیة وهذه الجماهیریة، وان هذه الجماهیریة والشعبیة قد حصلت لهم بعد رحیله صلی الله علیه وآله وسلم من دار الدنیا.

 وذلک لان التاریخ لم یذکر بان أبا بکر وعمر بن الخطاب وطلحة والزبیر وسعد بن أبی وقاص وعائشة کانوا یملکون مدا جماهیریا وشعبیا کبیرا فی أیام النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، مثل المد والشعبیة التی کان یمتلکها أمثال سعد بن عبادة الأنصاری أو سعد بن معاذ الأنصاری، وهذا دلیل علی ان هذه الشعبیة والجماهیریة التی صارت لأهل الحل والعقد قد منحت لهم بعد رحیل النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم وبعد تولی الشیخین زمام حکم الدولة الإسلامیة ومقالیده.

وعلیه فمن حق الباحث أن یتساءل کیف تحول أهل الحل والعقد فجأة من أفراد عادیین لا یملکون إلا أنفسهم إلی طبقة خاصة اسمها أهل الحل والعقد، فصاروا لا تنعقد إمامة إلا بموافقتهم، ولا یمضی شیء یخص مصیر المسلمین إلا بمبارکتهم، قال النووی: (وأجمعوا علی انعقاد الخلافة بالاستخلاف وعلی

ص: 62

انعقادها بعقد أهل الحل والعقد لإنسان إذا لم یستخلف الخلیفة ...)(1).

ولعلنا لا نجد صعوبة إذا قلنا بأن الدولة __ أی دولة کانت __ تستطیع ان ترفع من تشاء بشیئین:

أحدهما: إعطاؤه الأموال التی یستطیع من خلالها شراء طاعة الناس وتأییدهم، فان الناس قدیما وحدیثا نفس الناس وهم یمیلون إلی من یعطیهم ویقضی حوائجهم ویساعدهم علی نوائب دهرهم وهو أمر یکاد یکون بدیهیا.

والآخر: التغطیة القانونیة والتأیید الحکومی، لان الناس إذا ما علمت بان فلانا یملک تغطیة دولیة وتأییدا حکومیا وله کلمة مسموعة عند السلطان فانهم ینقادون له ومع مرور الأیام یصبح مطاعا لا ترد له کلمة ولا یناقش فی فعل.

وبالعکس فإذا ما أرادت الدولة سلب شعبیة شخص ما سحبت وجماهیریته عنه التأیید والتغطیة الحکومیة، وقطعت عنه الموارد المالیة، فتری الناس بعد ذلک یفرون منه کفرارهم من المجذوم.

وهذا ما حصل بالفعل مع طبقة أهل الحل والعقد، فالدولة وسیاسة الشیخین وسنتهما هی التی صنعتهم، فمنحتهم المال والتأیید فارتفع شأنهم، وعلا نجمهم وصاروا أولی حل وعقد فی عشائرهم وأقوامهم، ومن باب المثال لا الحصر نعرض للقارئ الکریم مجموعة من هؤلاء الذین درت علیهم الدنیا ببرکات سنة الشیخین، فوصلوا إلی حد التخمة، ومن هؤلاء:

1: الزبیر بن العوام: قال البخاری (خلف إحدی عشرة دارا بالمدینة، ودارین بالبصرة، ودارا بالکوفة، ودارا بمصر)(2)، وقال البخاری وغیره:(وکان له


1- شرح مسلم للنووی  ج 12 ص 205.
2- صحیح البخاری ج4 ص52

ص: 63

أربع نسوة أصاب کل واحدة من الثمن بعد رفع الثلث ألف ألف ومائتا ألف)(1)، وقال المسعودی: (خلف ألف فرس وألف عبد وألف أمة وخططا)(2).

2: طلحة بن عبید الله: وقد (کان طلحة یغل بالعراق ما بین أربعمائة ألف إلی خمسمائة ألف، ویغل بالسراة عشرة آلاف دینار أو أکثر أو أقل)(3). وقال ابن قتیبة وغیره: (وکانت غلته کل یوم ألف درهم وافی)(4)،قال ابن الأثیر وغیره: (والوافی وزنه وزن الدینار)(5)، وعن موسی بن طلحة ان طلحة (ترک ألفی ألف درهم ومائتی ألف درهم ومائتی ألف دینار)(6)، وعن إبراهیم بن محمد بن طلحة قال: (کان قیمة ما ترک طلحة من العقار والأموال وما ترک من الناض(7) ثلاثین ألف ألف درهم، وترک من العین ألفی ألف ومائتی ألف درهم ومائتی ألف دینار والباقی عروض(8)، وعن عمرو بن العاص: أن طلحة ترک مائة بهار فی کل بهار ثلاث قناطر ذهب وسمعت أن البهار جلد ثور(9)، وقال ابن عبد ربه: وجدوا فی ترکته ثلاثمائة بهار من ذهب وفضة.


1- المصدر السابق ج4 ص53، السنن الکبری للبیهقی ج6 ص287، فتح الباری ج6 ص163، سیر أعلام النبلاء للذهبی ج1ص67.
2- مروج الذهب ج1 ص434.
3- الطبقات الکبری لابن سعد ج3 ص221، تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج25 ص101.
4- المعارف لابن قتیبة ص231، الفایق فی غریب الحدیث لجار الله الزمخشری ج3 ص421، المستدرک للحاکم النیسابوری ج3 ص378، تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج25 ص102، سیر أعلام النبلاء للذهبی ج1 ص33.
5- الاستیعاب لابن عبد البر ج2 ص770، اُسد الغابة لابن الأثیر ج3 ص 61.
6- الطبقات الکبری لابن سعد ج3 ص221، سیر أعلام النبلاء للذهبی ج1 ص33.
7- الناض: النقود من الدراهم والدنانیر. من هامش تهذیب الکمال للمزی: ج13، ص423.
8- الطبقات الکبری لابن سعد ج3 ص222، تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج25 ص120.
9- الطبقات الکبری لابن سعد ج3 ص222.

ص: 64

وقال ابن الجوزی: خلف طلحة ثلاثمائة جمل ذهبا)(1).

3: زید بن ثابت: قال المسعودی: (خلف من الذهب والفضة ما کان یکسر بالفؤوس غیر ما خلف من الأموال والضیاع بقیمة مائة ألف دینار)(2).

4: عبد الرحمن بن عوف الزهری: وقد (ترک عبد الرحمن بن عوف ألف بعیر، وثلاثة آلاف شاة، ومائة فرس ترعی بالنقیع، وکان یزرع بالجرف علی عشرین ناضحا)(3). وقال محمد بن سعد فی الطبقات الکبری وغیره: (ان عبد الرحمن بن عوف توفی وکان فیما ترک ذهب قطع بالفؤوس حتی مجلت أیدی الرجال منه)(4)، قال ابن خلدون: (وکان علی مربط عبد الرحمن بن عوف ألف فرس، وله ألف بعیر، وعشرة آلاف من الغنم)(5).

ولا عجب بعد هذا أن یصبح هؤلاء من أهل الحل والعقد وممن یملکون التصرف فی مقدرات المسلمین وشؤونهم الخاصة والعامة، ولا عجب أیضا فی أن یطالب عبد الرحمن بن عوف کما سیأتی بسنة الشیخین وان لا یکتفی بکتاب الله وسنة رسوله صلی الله علیه وآله وسلم، لان هذه القارونیة والطبقیة لم یکن لها وجود علی عهد رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، فلم یکن من سنته أن یعطی إنسان الملایین بینما لا یجد أکثر المسلمین لقمة تشبع بطونهم.

فسنة رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم هی التی سمعها الناس بأجمعهم وسمعها أصحاب الحل والعقد أیضا وهو یحدد أفضل الناس وأحبهم إلیه بقوله: (إن أغبط


1- الغدیر للعلامة الامینی ج8 ص283.
2- مروج الذهب ج1 ص434، تاریخ ابن خلدون ج1 ص205
3- الاستیعاب لابن عبد البر ج2 ص847، الطبقات الکبری لابن سعد ج3 ص136.
4- اُسد الغابة لابن الأثیر ج3 ص317، الطبقات الکبری لابن سعد ج3 ص136.
5- تاریخ ابن خلدون ج1 ص205.

ص: 65

أولیائی عندی لمؤمن خفیف الحاذ ذو حظ من الصلاة، أحسن عبادة ربه وأطاعه فی السر وکان غامضا فی الناس لا یشار إلیه بالأصابع، وکان رزقه کفافا فصبر علی ذلک)(1).

وهو صلی الله علیه وآله وسلم جعل الفقر من علامات حبه، فالمحب لشخصه المقدس لابد أن یکون فقیرا وإذا لم یکن فقیرا فلیستعد للفقر فقد جاء رجل إلیه صلی الله علیه وآله فقال له:

(إنی لأحبک فی الله، قال صلی الله علیه وآله: إن کنت صادقا فیسر للفقر تجفافا فالفقر إلی من یحبنی أسرع من السیل إلی منتهاه)(2).

ولا عجب من اتفاقهم واجتماعهم علی عدم تدوین سنته صلی الله علیه وآله وسلم والتکتم علیها وتفضیل غیرها علیها، اذ ان سیرته وسنته کانت تذکرهم علی الدوام بمقدار بعدهم عن النبی صلی الله علیه وآله وسلم وعن سیرته وسنته، فهو الذی ما شبع من خبز شعیر یومین متتابعین حتی قبض(3)، وهو الذی کان یبیت اللیالی المتتابعة طاویا وأهله لا یجدون عشاء لیلتهم وکان أکثر خبزهم خبز الشعیر(4)، فقس هؤلاء علیه صلی الله علیه وآله وسلم، وقس سنته صلی الله علیه وآله وسلم وسیرته علی سنة الشیخین وسیرتهما، تجد العجب العجاب، وکما قیل قدیما تعرف الأشیاء بأضدادها.


1- تفسیر البغوی ج1 ص177، کنز العمال ج3 ص153، الجامع الصغیر ج1 ص337، سنن الترمذی ج4 ص6.
2- سنن الترمذی ج4 ص7، المستدرک علی الصحیحین ج4 ص331، ریاض الصالحین ص269، الجامع الصغیر للسیوطی ج1 ص410.
3- سنن الترمذی ج4 ص9، مسند أبی داود الطیالسی ص198، البدایة والنهایة لابن کثیر ج6 ص58.
4- مسند أحمد بن حنبل ج1 ص255، سنن الترمذی ج4 ص10، المعجم الکبیر للطبرانی ج11 ص259.

ص: 66

مصیر السنة النبویة المطهرة فی زمن عثمان بن عفان

لما وضع عمر بن الخطاب قبل موته الأمر فی ستة أشخاص، وهم کل من أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبید الله، والزبیر بن العوام، وسعد بن أبی وقاص، فأوکل کل من سعد وطلحة والزبیر عبد الرحمن بن عوف فی أن یختار عنه وعنهم احد الرجلین إما علیاً أو عثمان، وبعد جدل ومماطلة مذکورة فی محلها، اشترط عبد الرحمن بن أبی بکر علی من یرید أن یصبح خلیفة منهما أن یسیر بسیرة الشیخین أبی بکر وعمر بن الخطاب وسنتهما.

فکان جواب الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه هو الرفض القاطع بالسیر بغیر کتاب الله سبحانه وسنة نبیه صلی الله علیه وآله وسلم ورأیه بوصفه إماماً مفترض الطاعة، ولکن عثمان بن عفان قبل هذا الشرط فبایعه عبد الرحمن بن عوف وبایعه بقیة الصحابة والناس، وقد ذکر الذهبی فی (تاریخ الإسلام) هذه الکارثة بقوله: (...ثم نودی الصلاة جامعة وخرج عبد الرحمن علیه عمامته التی عممه بها رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم. متقلدا سیفه، فصعد المنبر ووقف طویلا یدعو سرا، ثم تکلم فقال...قم إلی یا علی، فقام فوقف بجنب المنبر فأخذ بیده وقال: هل أنت مبایعی علی کتاب الله وسنة نبیه وفعل أبی بکر وعمر قال: اللهم لا ولکن علی جهدی من ذلک وطاقتی، فقال: قم یا عثمان، فأخذ بیده فی موقف علی فقال: هل أنت مبایعی علی کتاب الله وسنة نبیه وفعل أبی بکر وعمر قال: اللهم نعم، قال فرفع رأسه إلی سقف المسجد ویده فی یده ثم قال: اللهم اشهد اللهم إنی قد جعلت ما فی رقبتی من ذلک فی رقبة عثمان. فازدحم الناس یبایعون حتی غشوه عند المنبر وأقعدوه علی الدرجة الثانیة، وقعد عبد الرحمن مقعد رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم من المنبر. قال: وتلکأ علی، فقال عبد

ص: 67

الرحمن: فمن نکث فإنما ینکث علی نفسه ومن أوفی بما عاهد علیه الله فسیؤتیه أجرا عظیما. فرجع علی یشق الناس حتی بایع عثمان وهو یقول: خدعة وأیما خدعة)(1).

وقال البیهقی فی (السنن الکبری): (وأخذ بید عثمان وقال أبایعک علی سنة الله وسنة رسوله والخلیفتین من بعده فبایعه عبد الرحمن وبایعه الناس المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون)(2)، وهو أمر خطیر للغایة إذ صارت سنة الشیخین تعدل کتاب الله سبحانه وتعالی وسنة نبیه صلی الله علیه وآله وسلم، والأخطر منه ما وصل إلیه حال المسلمین الذین أصبحوا لا یقبلون بکتاب الله سبحانه وسنة نبیه صلی الله علیه وآله وسلم من دون ضم سنة الشیخین معهما.

وعلی أی حال فقد وصل عثمان بن عفان إلی السلطة بشرط العمل بسنة الشیخین، ولکن عثمان بن عفان ولاعتقاده بان سنة الشیخین ما هی إلا آراء للحکام الذین سبقوه استحسنوها فدونوها، وانها ما فرضت علی الناس ولا سنت ولا روجت إلا لان القائل لها هو الحاکم ولیس شخصا آخر، وها هو قد وصل إلی ما وصل إلیه کل من أبی بکر وعمر، رأی أنّ مِن حقه حینئذ ان یضع لمساته کخلیفة علی الفقه والعقیدة والقضاء وغیر ذلک، لیکون له اثر یذکر کما لغیره، ولیسمی الناس بعده السنة باسم سنة أبی بکر وعمر وعثمان، لذلک حاول بعد مدّة لیست بالطویلة من تولیه الإمارة أن یشرع بعض الأحکام التی یناقض فیها کلاً من النبی صلی الله علیه وآله وسلم وأبی بکر وعمر، نظیر ما رواه الطبری فی (تاریخ الطبری): (عن عبد الملک بن عمرو بن أبی سفیان الثقفی عن عمه قال صلی عثمان بالناس بمنی أربعا فأتی آت عبد الرحمن بن عوف فقال هل لک فی أخیک قد صلی بالناس أربعا


1- تاریخ الإسلام للذهبی  ج 3  ص 305.
2- السنن الکبری للبیهقی  ج 8 ص 147.

ص: 68

فصلی عبد الرحمن بأصحابه رکعتین ثم خرج حتی دخل علی عثمان فقال له ألم تصل فی هذا المکان مع رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم رکعتین قال بلی قال أفلم تصل مع أبی بکر رکعتین قال بلی قال أفلم تصل مع عمر رکعتین قال بلی قال ألم تصل صدرا من خلافتک رکعتین... فقال عثمان هذا رأی رأیته)(1).

وقال ابن الأثیر: (أمر عثمان بتجدید أنصاب الحرم، وفیها زاد عثمان فی المسجد الحرام، ووسعه، وابتاع من قوم فأبی آخرون فهدم علیهم ووضع الأثمان فی بیت المال، فصاحوا بعثمان فأمر بهم فحبسوا، وقال لهم: قد فعل هذا بکم عمر فلم تصیحوا به. فکلمه فیهم عبد الله بن خالد بن أسید فأطلقهم)(2). وعن عاصم عن شقیق قال: (لقی عبد الرحمن بن عوف الولید بن عقبة فقال له الولید ما لی أراک قد جفوت أمیر المؤمنین عثمان رضی الله عنه فقال له عبد الرحمن أبلغه انی لم أفر یوم عینین قال عاصم یقول یوم أحد ولم أتخلف یوم بدر ولم أترک سنة عمر)(3).

ویمکن لنا بوضوح ملاحظة ما کان یواجهه عثمان بن عفان من المعارضة الشدیدة جراء تغییره لبعض الأحکام والسنن وبالخصوص سنة الشیخین، مع ان أکثر هذه الأصوات لم تکن ترفع ضد إضافات أبی بکر وعمر وتغییراتهما للسنة النبویة، مع ان تغییرهما للسنة النبویة وللأحکام الشرعیة کان اشد وأعظم من تغییر عثمان لها، وهذا التناقض فی ردة فعل الصحابة تجاه هذین التغییرین هو الذی حدا بعثمان بن عفان أن یصرخ بوجه أولئک المعترضین ویواجههم بهذه الحقیقة علانیة بقوله فی إحدی خطبه: (ألا فقد والله عبتم علی بما أقررتم لابن الخطاب بمثله ولکنه


1- تاریخ الطبری ج3 ص 322 __ 323.
2- الکامل فی التاریخ لابن الأثیر  ج 3  ص 87.
3- مسند أحمد لأحمد بن حنبل  ج 1 ص 68.

ص: 69

وطئکم برجله وضربکم بیده وقمعکم بلسانه فدنتم له علی ما أحببتم أو کرهتم ولنت لکم وأوطأت لکم کتفی وکففت یدی ولسانی عنکم فاجترأتم علی أما والله لأنا أعز نفرا وأقرب ناصرا وأکثر عددا)(1).

ولعل سبب هذه المعارضة یعود إلی عدم فهم عثمان بن عفان لقواعد اللعبة، وذلک لان الشیخین أشرکوا فی الحکم کل قبائل العرب، وادخلوا فی جهاز الدولة جمیع من کان له مطمع فی الإمارة من الصحابة وغیرهم، فأعطوا الأموال العظیمة وقسموا الهدایا الجسیمة، وولوا البلدان لمن کان یتشوق للولایة، فأحبهم الناس وأحبوا بقاءهم وصبروا علی ما فی إمارتهم من العلل والنقص رجاء أعطیاتهم وصلاتهم، والأهم من ذلک کله هو إیجادهم لشبکة إعلامیة قویة تغطی جمیع تصرفاتهم وتغییراتهم وتبررها وتلبسها لباسا شرعیا.

لکن عثمان بن عفان خالف قواعد اللعبة، وأراد ان یستفرد بالغنیمة کاملة هو وأهل بیته من بنی أمیة دون أهل الحل والعقد من الصحابة الذین کانوا یمنحون الدولة المساندة مقابل نظام المحاصصة، فصیرهم أسوة بغیرهم من الناس، وأعطی الأموال الجسیمة إلی قرابته وأهل بیته، فثارت لذلک ثائرة الذین تم إقصاؤهم ومساواتهم بغیرهم، فشعروا بان مصالحهم باتت مهددة بالزوال والضیاع، وان منازلهم ومقاماتهم التی تمتعوا ببحبوحتها لسنوات طویلة صارت عرضة لانتهاک الأمیر الجدید، فلذلک وقفوا بوجه کل محاولة من محاولات تغییره مهما کانت صغیرة وتافهة.

فلو کان عثمان قد فهم اللعبة جیدا، ولو کانت مصالح تلک الشبکة الإعلامیة مضمونة لدیه، ولو لم ینفرد بالغنیمة وحده مع أهل بیته من الأمویین، ولو تقاسمها وشارکها مع غیره من أهل الحل والعقد لما تجرأ علیه متجری،


1- تاریخ الطبری ج 3  ص 377.

ص: 70

ولدعمت وأسندت وألبست جمیع تغییراته للسنة لباسا شرعیا ولاستحدثت فتاوی وأحادیث جدیدة تلبی جمیع رغباته وتغییراته.

وما ذکره الیعقوبی فی تاریخه بقوله: (وکان بین عثمان وعائشة منافرة وذلک أنه نقصها مما کان یعطیها عمر بن الخطاب، وصیرها أسوة بغیرها من نساء رسول الله، فإن عثمان یوما لیخطب إذ دلت عائشة قمیص رسول الله، ونادت: یا معشر المسلمین هذا جلباب رسول الله لم یبل، وقد أبلی عثمان سنته فقال عثمان: رب اصرف عنی کیدهن إن کیدهن عظیم)(1).

خیر شاهد ودلیل علی ما قدمنا، من ان الصراع ما بین عثمان ومعارضیه لم یکن بداع الخوف علی الأمة الإسلامیة، أو علی سنة نبیها الکریم صلی الله علیه وآله وسلم، بل کان صراع مصالح شخصیة ومنافع دنیویة آنیة، ولکن المعارضین لعثمان صبغوه بصبغة شرعیة، واستغلوا فیه اسم النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم ولوحوا بتغییر عثمان لسنته، من اجل استمالة قلوب الجهال والبسطاء من الناس، لان عائشة لم تبک علی سنة رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم یوم کان عمر بن الخطاب یفضلها علی سائر المسلمین فی العطاء، ولم تصرخ یوم لم یبق من الدین ومن سنة النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم إلا القشر، ولکنها انتفضت صارخة حینما نقصها عثمان بن عفان ما کان یعطیها عمر بن الخطاب، وفی الیوم الذی صیرها عثمان بن عفان أسوة بغیرها من نساء رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم التفتت فجأة إلی ان السنة النبویة فی خطر وانها أصبحت بالیة قبل أن یبل جلباب رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ، وکأنها لم تلتفت إلی ان السنة النبویة قد بلیت منذ زمن أبیها وخلیفته وان ما فعله عثمان بسنة النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم لا یساوی نقطة من بحر ذلک التزویر والتحریف والإضاعة للسنة النبویة المطهرة فی عهد الشیخین.


1- تاریخ الیعقوبی  ج 2 ص175 أیام عثمان بن عفان.

ص: 71

مصیر السنة النبویة فی خلافة الإمام علی بن أبی طالب علیه السلام

استمر العمل بسنة الشیخین لسنین طویلة، حتی هرم علیها الکبیر، وشاب علیها الصغیر، فصارت واقعا معاشا مفروغا منه، لا یعرف المسلمون غیره، فلما جاء الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه لم یأت علی ارض ممهدة، وقلوب مؤتلفة، وأوضاع متسقة، وهذه الحقیقة لم تکن خافیة علی أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه، لذلک خاطب المسلمین حینما تجمهر الناس علیه للبیعة بعد مقتل عثمان بن عفان بقوله: (دعونی والتمسوا غیری، فإنا مستقبلون أمرا له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت علیه العقول. وإن الآفاق قد أغامت، والمحجة قد تنکرت. واعلموا أنی إن أجبتکم رکبت بکم ما أعلم، ولم أصغ إلی قول القائل، وعتب العاتب)(1).

ولولا إصرار الأمة علی بیعته وإلحاحهم علیه لما قبل الإمارة، وقد بلغ إصرار الناس علیه مبلغا عظیما، حتی انه صلوات الله وسلامه علیه ذکرهم بذلک بعد حین قائلا لهم: (وبسطتم یدی فکففتها، ومددتموها فقبضتها، ثم تداککتم علی تداک الإبل الهیم علی حیاضها یوم وردها; حتی انقطعت النعل، وسقط الرداء، ووطئ الضعیف، وبلغ من سرور الناس ببیعتهم إیای أن ابتهج بها الصغیر، وهدج إلیها الکبیر، وتحامل نحوها العلیل، وحسرت إلیها الکعاب)(2).

ولکن الجمیع کان یتشوق إلی معرفة أی السنن سوف یتبعها أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه فی حکومته، أفسیتبع سنة النبی صلی الله علیه وآله وسلم التی اندثرت أو


1- شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید  ج 7 ص 33.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید ج13  ص3.

ص: 72

أصبحت علی وشک الاندثار، أم انه سینتهج منهج من قبله من الولاة ویتخذ من سنة الشیخین سنة لحکومته؟، ولم یکن الوقت طویلا حتی اکتشف الجمیع بان الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه فی صدد إرجاع ما اندثر، وبعث ما کاد یقبر من سنة المصطفی صلی الله علیه وآله وسلم، فقد صارت بوادر إرجاع السنة النبویة ظاهرة للعیان، فوضوءه  وصلاته هو وضوء رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وصلاته، وکذلک باقی الأحکام المتعلقة بالشریعة، کلها کانت تذکر الناس بأحکام رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وتشریعاته، قال البخاری فی صحیحه: (عن غیلان بن جریر عن مطرف بن عبد الله قال صلیت خلف علی ابن أبی طالب رضی الله عنه أنا وعمران بن حصین فکان إذا سجد کبر وإذا رفع رأسه کبر وإذا نهض من الرکعتین کبر فلما قضی الصلاة اخذ بیدی عمران بن حصین فقال قد ذکرنی هذا صلاة محمد صلی الله علیه __ وآله __ وسلم أو قال لقد صلی بنا صلاة محمد علیه الصلاة والسلام)(1).

وروی البخاری أیضا قال: (عن عمران بن حصین قال صلی مع علی رضی الله عنه بالبصرة فقال ذکرنا هذا الرجل صلاة کنا نصلیها مع رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فذکر أنه کان یکبر کلما رفع وکلما وضع)(2).

وأما ما یتعلق بسیاسته المالیة وتقسیم العطاء والحقوق، فلعل أول نبأ صدم أنصار سنة الشیخین هو ما أعلنه الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه من عزمه علی استرجاع الأموال العامة التی أعطاها عثمان بن عفان إلی بعض أقاربه وغیرهم وردها إلی بیت المال، والتی اقسم الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه علی استرجاعها بقوله: (والله لو وجدته قد تزوج به النساء وملک به الإماء لرددته، فإن


1- صحیح البخاری ج 1 ص 191.
2- المصدر نفسه.

ص: 73

فی العدل سعة، ومن ضاق علیه العدل، فالجور علیه أضیق)(1).

ثم استتبع ذلک بخطوات عملیة أخری، فقد ساوی فی العطاء ما بینه وبین خادمه قنبر، وما بین السادة وعبیدهم، وما بین أصحاب الحل والعقد وبین ضعاف المسلمین وفقرائهم، فتیقن أهل الحل والعقد ان أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه لو بدأ باسترجاع أموال أنصار عثمان فانه سینتهی حتما بإرجاع ما تحت أیدیهم من الکنوز والأراضی والذهب الذی یکسر بالفؤوس، والتی جاءتهم من برکات سنة الشیخین، فوقفوا بوجهه وقفة رجل واحد، وأشعلوا نار الفتنة والحروب والهرج والمرج.

فکان ما کان مما لست اذکره                       ***     فظن خیرا ولا تسأل عن الخبر

واستشهد الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه فی مسجد الکوفة علی ید ابن ملجم أشقی الأولین والآخرین واستشهدت معه السنة النبویة المطهرة، وکان اقتفاؤه أثر النبی صلی الله علیه وآله وسلم وسنته من أهم أسباب استشهاده صلوات الله وسلامه علیه، فلأنه ساوی بالعطاء ولم یفضل أهل الحل والعقد علی بقیة المسلمین، خرجت علیه عائشة بنت أبی بکر وطلحة والزبیر وبقیة الناکثین، ولان الناکثین کسروا هیبة دولته تجرأ معاویة بن أبی سفیان وبقیة القاسطین علی مخالفته والخروج علیه، ولولا فتنة القاسطین ووقوفهم بوجه الحق لما تشکل وتکون کیان الخوارج المارقین، فهم کما تری حلقة یتبعها حلقة أخری لیشکلوا بمجموعهم سلسلة کبلت ید الإسلام ورجله وقیدت محاولات إرجاع السنة النبویة ونفخ الحیاة فیها مرة أخری، فالإمام علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه لو أنصفه التاریخ والمسلمون لسمی بشهید السنة النبویة، وکذلک جمیع أولاده المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین الذین بذلوا دماءهم وأعطوا الغالی والنفیس فی سبیل إحیاء السنة النبویة المطهرة.


1- المصدر السابق ج1 ص269.

ص: 74

لماذا لم یکتب الإمام علی علیه السلام السنة النبویة فی زمن خلافته؟

ولعل سائلا یسأل، لماذا لم یدون الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه السنة النبویة المطهرة فی زمن خلافته؟ فإذا کان یعتقد فعلا بضرورتها ووجوب إحیائها ولزوم ترک سنة الشیخین والرجوع إلیها، فلماذا لم یکتبها ویضیع الفرصة علی من جاء قبله أو یأتی بعده، مستغلا وجوده کحاکم للدولة الإسلامیة، ومستفیدا من قیمومیته علی بیت المال فإذا ما اعترضه معترض ردعه بالوسائل المتاحة له کرئیس للدولة؟.

والإجابة عن هذا التساؤل تکمن فی معرفة ان الإمام صلوات الله وسلامه علیه کان قد کتب فی حیاة النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم السنة النبویة المتعلقة بالأحکام والتشریعات، وکذلک المتعلقة بتفسیر القرآن الکریم وتبیان غوامض آیاته الشریفة وتوضیح الناسخ من المنسوخ والمحکم من المتشابه والعام من الخاص وأسباب النزول، وقد کان هذا التفسیر من الدقة والشمول ان أوضح فیه الإمام صلوات الله وسلامه علیه نزول کل آیة بلیل أو نهار بسفر أو حضر فی سهل أو فی جبل، کل ذلک بإملاء من النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم وبخطه صلوات الله وسلامه علیه.

فعن أبی بصیر قال: (دخلت علی أبی عبد الله علیه السلام فقلت له: جعلت فداک إنی أسألک عن مسألة، ههنا أحد یسمع کلامی؟ قال: فرفع أبو عبد الله علیه السلام سترا بینه وبین بیت آخر فأطلع فیه ثم قال: یا أبا محمد سل عما بدا لک، قال: قلت: جعلت فداک إن شیعتک یتحدثون أن رسول الله صلی الله علیه وآله علم علیا علیه السلام بابا یفتح له منه ألف باب؟ قال: فقال: یا أبا محمد علم رسول الله صلی الله علیه وآله علیا علیه السلام ألف باب یفتح من کل باب ألف

ص: 75

باب قال: قلت: هذا والله العلم قال: فنکت ساعة فی الأرض ثم قال: إنه لعلم وما هو بذاک.

 قال: ثم قال: یا أبا محمد وإن عندنا الجامعة وما یدریهم ما الجامعة؟ قال: قلت: جعلت فداک وما الجامعة؟ قال: صحیفة طولها سبعون ذراعا بذراع رسول الله صلی الله علیه وآله وإملائه من فلق فیه وخط علی بیمینه، فیها کل حلال وحرام وکل شیء یحتاج الناس إلیه حتی الأرش فی الخدش وضرب بیده إلی فقال: تأذن لی یا أبا محمد؟ قال: قلت: جعلت فداک إنما أنا لک فاصنع ما شئت، قال: فغمزنی بیده وقال: حتی أرش هذا __ کأنه مغضب __ قال: قلت: هذا والله العلم قال إنه لعلم ولیس بذاک.

ثم سکت ساعة، ثم قال: وإن عندنا الجفر وما یدریهم ما الجفر؟ قال قلت: وما الجفر؟ قال: وعاء من أدم فیه علم النبیین والوصیین، وعلم العلماء الذین مضوا من بنی إسرائیل، قال قلت: إن هذا هو العلم، قال: إنه لعلم ولیس بذاک.

ثم سکت ساعة ثم قال: وإن عندنا لمصحف فاطمة علیها السلام وما یدریهم ما مصحف فاطمة علیها السلام؟ قال: قلت: وما مصحف فاطمة علیها السلام؟ قال: مصحف فیه مثل قرآنکم هذا ثلاث مرات(1)، والله ما فیه من قرآنکم حرف واحد، قال: قلت: هذا والله العلم قال: إنه لعلم وما هو بذاک.

ثم سکت ساعة ثم قال: إن عندنا علم ما کان وعلم ما هو کائن إلی أن تقوم الساعة قال: قلت: جعلت فداک هذا والله هو العلم، قال: إنه لعلم ولیس


1- یقصد صلوات الله وسلامه علیه ان حجمه اکبر من القرآن ثلاث مرات ولکنه لیس فیه من القرآن حرف واحد.

ص: 76

بذاک. قلت: جعلت فداک فأی شیء العلم؟ قال: ما یحدث باللیل والنهار، الأمر من بعد الأمر، والشیء بعد الشئ، إلی یوم القیامة)(1).

والأحادیث فی ذکر الصحیفة الجامعة وغیرها من الصحف الأخری التی کانت عند الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه کثیرة جدا قد عقد لها المحدثون أبوابا خاصة فی کتبهم، وهذه الصحیفة هی التی کان یستخرج منها الإمام علی صلوات الله وسلامه علیه الأحکام والتشریعات أیام ولایته، ولو کان مقدرا لأهل البیت أن یحکموا بعده لما تعدوا عن الحکم بها والتقید فیها کما فی الحدیث المروی عن محمد بن مسلم قال: (قال أبو جعفر علیه السلام إن عندنا صحیفة من کتب علی طولها سبعون ذراعا فنحن نتبع ما فیها لا نعدوها)(2).

وفیما یخص تفسیر القرآن یروی سلیم بن قیس عن أمیر المؤمنین علیه السلام قال: (کنت إذا سئلت رسول الله صلی الله علیه وآله أجابنی وان فنیت مسائلی ابتدأنی فما نزلت علیه آیة فی لیل ولا نهار ولا سماء ولا ارض ولا دنیا ولا آخرة ولا جنة ولا نار ولا سهل ولا جبل ولا ضیاء ولا ظلمة إلا أقرأنیها وأملاها علی وکتبتها بیدی وعلمنی تأویلها وتفسیرها ومحکمها ومتشابهها وخاصها وعامها وکیف نزلت وأین نزلت وفیمن أنزلت إلی یوم القیمة دعا الله لی ان یعطینی فهما وحفظا فما نسیت آیة من کتاب الله ولا علی من أنزلت إلا أملاه علی)(3).


1- الکافی للشیخ الکلینی  ج 1 ص 238 __ 240.
2- بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار ص163 باب 12 فی ان الائمة عندهم الصحیفة الجامعة التی هی املاء رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وخط علی علیه السلام بیده وهی سبعون ذراع.
3- بحار الانوار للعلامة المجلسی ج40 ص139 فی قول امیر المؤمنین لو ثنیت لی وسادة لحکمت بین اهل القرآن بالقران....

ص: 77

وعن الحاکم الحسکانی فی شواهد التنزیل عن سلیم بن قیس الهلالی قال: (سمعت علیا یقول: ما نزلت علی رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم آیة من القرآن إلا أقرأنیها أو أملاها علی فأکتبها بخطی وعلمنی تأویلها وتفسیرها وناسخها ومنسوخها ومحکمها ومتشابهها ودعا الله لی أن یعلمنی فهمها وحفظها، فلم أنس منه حرفا واحداً)(1).

فبعد هذه الأحادیث لا ینبغی ان یشک فی ان النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم کتب السنة النبویة بخط علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه وأودعها عنده، لکن الأمة الإسلامیة ولشدید الأسف لم تکن تعی أهمیة هذه السنة حتی فی وقت الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه، فکم من مرة حاول الإمام علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه أن یشجع باقی المسلمین علی استغلال هذه الفسحة من الحریة ویکتبوا عنه سنة نبیهم وأشیاء ستندثر بعده، فکان یصیح من علی منبر الکوفة حتی بح صوته یسأل الناس من یرید منهم ان یشتری علما بدرهم، والدرهم لا یریده الإمام صلوات الله وسلامه علیه لنفسه حاشاه، بل هو ثمن الصحیفة والقلم یشتریهما المرء لیملی أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه له بها علما بقدرها، ولو جاء بألف صحیفة لملأها له، ولکن المجتمع لم یکن یقدر هذه الفرصة الذهبیة، ولم یستغل الظرف للاغتراف من هذا النبع الصافی، فعن محمد بن سعد فی الطبقات الکبری قال: (علباء بن أحمر أن علی بن أبی طالب خطب الناس فقال من یشتری علما بدرهم فاشتری الحارث الأعور صحفا بدرهم ثم جاء بها علیا فکتب له علما کثیرا ثم إن علیا خطب الناس بعد فقال یا أهل الکوفة غلبکم نصف رجل)(2).


1- شواهد التنزیل للحاکم الحسکانی ج1 ص47 __ 48.
2- الطبقات الکبری لمحمد بن سعد ج 6 ص168.

ص: 78

وفی کتاب الحد الفاصل للرامهرمزی قال: (حدثنا الحضرمی، ثنا یحیی، ثنا داود بن عبد الجبار، ثنا أبو إسحاق، عن الحارث، عن علی أنه قال: من یشتری علما بدرهم؟ فذهبت فاشتریت صحفا بدرهم فجئت بها فأملی علی حتی کتبت ثم قال علی یا أهل الکوفة أعجزتم أن تکونوا کشطر رجل وکان الحارث أعور)(1).

مصیر السنة النبویة فی زمن معاویة بن أبی سفیان

ان الحدیث عن السنة النبویة المطهرة فی زمن معاویة بن أبی سفیان  هو حدیث عن مرحلة جدیدة من مراحل التبدیل والتحریف لها، لان معاویة وبقیة الأمویین لم یکونوا یرون من السنة النبویة وبالخصوص المتعلقة بالفضائل والمثالب إلا ورقة إدانة تهدد وجودهم الجدید، لان النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم وکما ذکرنا سابقا قد لعنهم وحذر الأمة منهم وأمر أصحابه بان یقتلوا معاویة بن أبی سفیان  عند رؤیته علی المنبر أمیرا للمسلمین، ودعا علیه أن لا یشبع الله بطنه، وغیر ذلک الکثیر الکثیر، وعلیه فلا یوجد سبب واحد یدعو معاویة بن أبی سفیان وبقیة الأمویین إلی تدوین السنة النبویة المطهرة، بل یکون الداعی إلی طمسها ومواجهتها واستبدالها وتغییرها اشد وأوکد، وهذا ما حصل بالفعل.

الملامح العامة للسنة الأمویة الجدیدة

حینما لم یکن لمعاویة بن أبی سفیان وبقیة الأمویین مصلحة فی إخراج السنة النبویة الأصیلة وتدوینها، قرر جهاز الحکم الأموی إنشاء سنة جدیدة تنسب إلی النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم ولیس فیها مطعن واحد علی الأمویین، أو تعدیل تلک


1- الحد الفاصل للرامهرمزی ص370، وراجع ایضا تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج 46 ص301.

ص: 79

السنة التی کانت موجودة ومتداولة فی ذلک العصر، عن طریق وضع أحادیث جدیدة مفتریات تخفف من وطأة تلک الأحادیث التی ورد فیها لعن صریح لمعاویة وبقیة آل أمیة ½، أو تحولها من مثالب إلی فضائل(1).

ولکن معاویة بن أبی سفیان  کان یعلم ان هذه المهمة الضخمة لا یمکن أن تتم إلا من خلال إرجاع الأوضاع إلی ما کانت علیه مسبقا فی عهد الشیخین، لأنه  قد اتخذ من أیام عثمان بن عفان درسا له تعلم منه الکثیر، فقد تعلم بأنه إن کان یرید لنفسه البقاء والاستمرار فی الحکم فیجب علیه أولا العودة إلی العمل بسنة


1- کما فعلوا مع الحدیث الذی أخرجه مسلم فی صحیحه ج 8  ص 27: (عن أبی حمزة القصاب عن ابن عباس قال کنت ألعب مع الصبیان فجاء رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فتواریت خلف باب قال فجاء فحطأنی حطأة وقال اذهب وادع لی معاویة قال فجئت فقلت هو یأکل قال ثم قال لی اذهب فادع لی معاویة قال فجئت فقلت هو یأکل فقال لا أشبع الله بطنه) وهو صریح فی ذم معاویة، إلا أن السیاسة الأمویة صیرت هذا الحدیث منقبة من مناقب معاویة وفخرا من مفاخره، وذلک بروایتهم لأحادیث أخری کاذبة تنص علی ان لعن النبی صلی الله علیه وآله وسلم لبعض الناس ینقلب وبقدرة قادر إلی کفارة وزکاة وقربة یتقرب بها إلی الله سبحانه، فیکون اللعن لهم رحمة لا نقمة ومنقبة لا مثلبة، قال ابن کثیر فی البدایة والنهایة  ج 8  ص128: (وقد انتفع معاویة بهذه الدعوة فی دنیاه وأخراه، أما فی دنیاه فإنه لما صار إلی الشام أمیرا، کان یأکل فی الیوم سبع مرات یجاء بقصعة فیها لحم کثیر ویصل فیأکل منها، ویأکل فی الیوم سبع أکلات بلحم، ومن الحلوی والفاکهة شیئا کثیرا ویقول والله ما أشبع وإنما أعیا، وهذه نعمة ومعدة یرغب فیها کل الملوک. وأما فی الآخرة فقد أتبع مسلم هذا الحدیث بالحدیث الذی رواه البخاری وغیرهما من غیر وجه عن جماعة من الصحابة. أن رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم قال: " اللهم إنما أنا بشر فأیما عبد سببته أو جلدته أو دعوت علیه ولیس لذلک أهلا فاجعل ذلک کفارة وقربة تقربه بها عندک یوم القیامة ". فرکب مسلم من الحدیث الأول وهذا الحدیث فضیلة لمعاویة، ولم یورد له غیر ذلک) فانظر عزیزی القارئ إلی أی مدی یصل التعصب الأعمی بالإنسان فیصبح یری الحقائق معکوسة والموازین مقلوبة.

ص: 80

الشیخین، والاعتماد من جدید علی الشبکة الإعلامیة القدیمة التی کانت تعطی الدولة فی السابق زخما جماهیریا شرعیا، والاهم من ذلک کله إرجاع قانون الامتیازات ونظام الطبقیة والبرجوازیة التی کانت تتمتع بها بعض الشخصیات من الصحابة والصحابیات فی عهد الشیخین، ولم یکن لدی معاویة خیار آخر، خصوصا بعد التحذیرات الصریحة والمباشرة من قبل عائشة بنت أبی بکر، وتشدیدها علی ضرورة العودة إلی الوضع السابق فیما لو أراد لحکمه البقاء والدوام، وقد روی الزهری تفاصیل هذا اللقاء السری الذی جری ما بین عائشة ومعاویة، فقال کما فی (البدایة والنهایة) لابن کثیر: (إن معاویة حین قدم المدینة یرید الحج دخل علی عائشة فکلمها خالیین لم یشهد کلامهما أحد إلا ذکوان أبو عمر ومولی عائشة، فقالت: أمنت أن أخبأ لک رجلا یقتلک بقتلک أخی محمدا؟ فقال: صدقتِ، فلما قضی معاویة کلامه معها تشهدت عائشة ثم ذکرت ما بعث الله به نبیه صلی الله علیه __ وآله __ وسلم من الهدی ودین الحق، والذی سن الخلفاء بعده، وحضت معاویة علی العدل وإتباع أثرهم، فقالت فی ذلک فلم تترک له عذرا، فلما قضت مقالتها قال لها معاویة: أنت والله العالمة العاملة بأمر رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم، الناصحة المشفقة البلیغة الموعظة، حضضت علی الخیر، وأمرت به، ولم تأمرینا إلا بالذی هو لنا مصلحة، وأنت أهل أن تطاعی)(1)، فعائشة بنت أبی بکر أوضحت له فی المقدمة ما یمکنها أن تصنع به إن لم تلبَّ طلباتها، وأفهمته ان باستطاعتها أن ترتب له عملیة اغتیال مبررة ومشروعة، وان بإمکانها استغلال مقتل أخیها للثورة علیه والإطاحة به متی ما شاءت وأحبت، ومن ثم طالبته بالرجوع إلی العهد السابق ولم تترک له عذراً، فلم یکن أمام معاویة


1- البدایة والنهایة لابن کثیر  ج 8 ص 140.

ص: 81

إلا القبول والرضوخ والطاعة لها.

وقد وفی کل طرف بما وعد وبما شرط علی نفسه، فقد أغرق معاویة بن أبی سفیان عائشة وابن عمر وأبا هریرة وغیرهم من أفراد تلک الشبکة الإعلامیة بالهدایا والعطایا، والشواهد علی ذلک کثیرة منها ما رواه ابن کثیر فی (البدایة والنهایة) بقوله: (قضی معاویة عن عائشة أم المؤمنین ثمانیة عشر ألف دینار، وما کان علیها من الدین الذی کانت تعطیه...وقال عطاء: بعث معاویة إلی عائشة وهی بمکة بطوق قیمته مائة ألف فقبلته)(1).

وفی المقابل أعلنت هذه الشبکة الإعلامیة مساندتها وتأییدها الصریح لإمارته وتغطیتها بالتغطیة الشرعیة المناسبة، فحینما کان بعضهم یسأل عائشة بنت أبی بکر عن انقلاب موازین الحیاة وصیرورة الطلیق اللعین خلیفة للمسلمین، کانت تجیبهم بجواب یسکت الأفواه ویخرس الألسنة، فعن الأسود قال: قلت لعائشة: (ألا تعجبین لرجل من الطلقاء ینازع أصحاب محمد فی الخلافة؟ قالت وما العجب؟ هو سلطان الله یؤتیه البر والفاجر. وقد ملک فرعون مصر أربع مئة سنة)(2)، وکلامها هذا کما لا یخفی کلمة باطل یراد بها باطل، لان السلطان سلطان الله سبحانه وقد أعطاه الله لأنبیائه ومن ینوب عنهم من الأوصیاء کما قال تعالی: ((کَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِیِّینَ مُبَشِّرِینَ وَمُنْذِرِینَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْکِتَابَ بِالْحَقِّ لِیَحْکُمَ بَیْنَ النَّاسِ فِیمَا اخْتَلَفُوا فِیهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِیهِ))(3).

لکن الناس بظلمهم وبجهلهم وبسوء اختیارهم مکنوا الطغاة والکفرة


1- البدایة والنهایة لابن کثیر  ج 8  ص 145 __ 146.
2- سیر أعلام النبلاء للذهبی  ج 3  ص 143 __ 144.
3- سورة البقرة الآیة رقم 213.

ص: 82

والفراعنة من مقالید أمورهم والسیطرة علی البلاد ومقادیر العباد، ومثل هذا التمکین لا یعد شرعیا ومرضیا لدی الباری جل وعلا کما حاولت عائشة إفهامه للناس، فالله لا یعطی السلطان للفاجر حاشاه، وإنما قدر وقضی ان السلطان هو لأنبیائه فضلاً علی ان بقاء فرعون أربعمائة سنة لا یصیر حکمه شرعیا، ولا یکون مبررا لوصول معاویة بن أبی سفیان الملعون الطلیق إلی منصب الولایة علی المسلمین وفیهم الآلاف ممن هم خیر منه ومن أبیه.

ثم ان معاویة وبعد ان ضمن الجانب الإعلامی والتغطیة القانونیة، وبعد أن تأکد من عدم ثورة الناس ضده فیما لو أراد أن یتلاعب بسنة النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، کشر عن أنیابه، وأسفر عن مقاصده، وجعل یطعن السنة النبویة بکل ما من شأنه أن یزهق روحها، ویجهز علی البقیة الباقیة منها، وقد کان همه وهمته منصرفة إلی تحقیق غرضین أساسین:

أحدهما: هو إرغام أنوف الصحابة والمسلمین بإرجاع سنة عثمان وإضافاته التی قتل من أجلها، لتصبح دین الدولة الجدید، ولتکون مساویة أو منافسة لسنة کل من النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم وسنة الشیخین، وفی کتب التاریخ شواهد کثیرة علی إحیاء معاویة بن أبی سفیان لسنة عثمان منها ما رواه الهیثمی فی (مجمع الزوائد): (عن عباد بن عبد الله بن الزبیر قال لما قدم علینا معاویة حاجا قدمنا مکة قال فصلی بنا الظهر رکعتین ثم انصرف إلی دار الندوة قال وکان عثمان حین أتم الصلاة إذا قدم مکة صلی بها الظهر والعصر والعشاء الآخرة أربعا فإذا خرج إلی منی وعرفات قصر الصلاة فإذا فرغ من الحج وأقام بمنی أتم الصلاة حتی یخرج فلما صلی بنا معاویة الظهر رکعتین نهض إلیه مروان بن الحکم وعمرو بن عثمان فقالا له ما عاب أحد ابن عمک بأقبح ما عبته به فقال لهما ویحکما وهل کان غیر ما

ص: 83

صنعت؟ قد صلیتهما مع رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم ومع أبی بکر وعمر فقالا فان ابن عمک قد کان أتمها وان خلافک إیاه عیب له قال فخرج معاویة إلی العصر فصلاها بنا أربعا)(1).

ومنها ما صرح به الشوکانی فی (نیل الأوطار) بقوله: (أن أول من ترک تکبیر النقل أی الجهر به عثمان، ثم معاویة، ثم زیاد، ثم سائر بنی أمیة)(2).

وقال المتقی الهندی فی (کنز العمال) فی معرض حدیثه عن حکم القصر فی الصلاة عند السفر:

(خرج رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم آمنا لا یخاف إلا الله فصلی اثنتین حتی رجع، ثم خرج أبو بکر لا یخاف إلا الله فصلی رکعتین حتی رجع، ثم خرج عمر آمنا لا یخاف إلا الله فصلی اثنتین حتی رجع، ثم فعل ذلک عثمان ثلثی إمارته أو شطرها ثم صلاها أربعا، ثم أخذ بها بنو أمیة)(3).

وقال ابن حجر فی (فتح الباری): (وروی الطبرانی عن أبی هریرة أن أول من ترک التکبیر معاویة وروی أبو عبید أن أول من ترکه زیاد وهذا لا ینافی الذی قبله لأن زیادا ترکه بترک معاویة وکان معاویة ترکه بترک عثمان)(4).

وأما الغرض الآخر الذی کرس معاویة له کل جهده وبذل فی سبیله الغالی والنفیس، فهو إعادة هیکلیة السنة النبویة المطهرة المتعلقة بالفضائل والمثالب،


1- مجمع الزوائد للهیثمی  ج 2  ص 156 __ 157وقد علق الهیثمی علی هذا الحدیث بقوله: (رواه أحمد وروی الطبرانی بعضه فی الکبیر ورجال أحمد موثقون).
2- نیل الأوطار للشوکانی  ج 2  ص 269.
3- کنز العمال للمتقی الهندی  ج 8 ص 238.
4- فتح الباری لابن حجر  ج 2  ص224، وراجع نیل الأوطار للشوکانی ج2 ص266.

ص: 84

والسعی لتغییر المعادلة الموجودة فی زمن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، فحشد الجهود، وسخر بیت المال، واشتری الذمم، وروع الأبریاء، وسفک دماء المعترضین، وأنشأ منظومة جدیدة للسنة النبویة المتعلقة بالفضائل والمثالب تقوم علی أربع رکائز.

 الرکیزة الأولی: الحجب والإخفاء لأکبر قدر ممکن من المطاعن والمثالب التی قیلت فی شأن بنی أمیة عموما ومعاویة وآل أبی سفیان علی وجه الخصوص، وما لا یمکن حجبه منها لشهرته أو لرسوخه فی أذهان الناس فیجب تأویله وإیجاد مخرج له لقلبه من عنوان المذمة والمثلبة إلی عنوان المدح والثناء والمحمدة.

الرکیزة الثانیة: الاستمرار بالنهج القدیم الذی تم العمل به طول مدّة إمارة أبی بکر وعمر وعثمان والذی ینص علی إخفاء فضائل الإمام أمیر المؤمنین وأهل بیته صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ومناقبهم وإماتتها، وتحشید الجهود لإیجاد أخبار جدیدة وروایات تنسب زورا إلی النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم یذکر فیها مثالب ومطاعن تنسب إلی أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین لتمحی من أذهان الناس فکرة أن آل علی صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین لم یرد فی حقهم إلا الفضائل.

الرکیزة الثالثة: فتح باب الروایة علی مصراعیه أمام کل من لدیه القدرة علی وضع الفضائل والکرامات فی حق الشیخین وعثمان بن عفان، والتأکید علی الإکثار فی ذلک حتی تتساوی أو ترجح هذه الفضائل والکرامات علی روایات فضائل آل علی صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وبقیة بنی هاشم.

الرکیزة الرابعة: معارضة الفضائل التی جاءت فی حق علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه عن طریق إیجاد فضائل مماثلة تنسب إلی الشیخین وعثمان، ومعارضة الفضائل التی جاءت فی حق السیدة فاطمة الزهراء والسیدة خدیجة

ص: 85

صلوات الله وسلامه علیهما عن طریق إیجاد فضائل مماثلة ونسبتها إلی عائشة وحفصة.

وقد نقل تفاصیل هذا المخطط ابن أبی الحدید المعتزلی نقلا عن أبی الحسن علی بن محمد بن أبی سیف المداینی فی کتاب (الأحداث) قال: (کتب معاویة نسخة واحدة إلی عماله بعد عام الجماعة أن برئت الذمة ممن روی شیئا من فضل أبی تراب وأهل بیته فقامت الخطباء فی کل کورة وعلی کل منبر یلعنون علیا ویبرأون منه ویقعون فیه وفی أهل بیته وکان أشد الناس بلاء حینئذ أهل الکوفة لکثرة من بها من شیعة علی علیه السلام.

فاستعمل علیهم زیاد بن سمیة وضم إلیه البصرة فکان یتتبع الشیعة وهو بهم عارف لأنه کان منهم أیام علی علیه السلام فقتلهم تحت کل حجر ومدر وأخافهم وقطع الأیدی والأرجل وسمل العیون وصلبهم علی جذوع النخل وطرفهم وشردهم عن العراق فلم یبق بها معروف منهم وکتب معاویة إلی عماله فی جمیع الآفاق الا یجیزوا لأحد من شیعة علی وأهل بیته شهادة.

وکتب إلیهم أن انظروا من قبلکم من شیعة عثمان ومحبیه وأهل ولایته والذین یروون فضائله ومناقبه فأدنوا مجالسهم وقربوهم وأکرموهم واکتبوا لی بکل ما یروی کل رجل منهم واسمه واسم أبیه وعشیرته.

ففعلوا ذلک حتی أکثروا فی فضائل عثمان ومناقبه لما کان یبعثه إلیهم معاویة من الصلات والکساء والحباء والقطائع ویفیضه فی العرب منهم والموالی فکثر ذلک فی کل مصر وتنافسوا فی المنازل والدنیا فلیس یجیء أحد مردود من الناس عاملا من عمال معاویة فیروی فی عثمان فضیلة أو منقبة إلا کتب اسمه وقربه وشفعه فلبثوا بذلک حینا.

ثم کتب إلی عماله أن الحدیث فی عثمان قد کثر وفشا فی کل مصر وفی کل

ص: 86

وجه وناحیة فإذا جاءکم کتابی هذا فادعوا الناس إلی الروایة فی فضائل الصحابة والخلفاء الأولین ولا تترکوا خبرا یرویه أحد من المسلمین فی أبی تراب إلا وتأتونی بمناقض له فی الصحابة فان هذا أحب إلی وأقر لعینی وادحض لحجة أبی تراب وشیعته وأشد علیهم من مناقب عثمان وفضله.

فقرئت کتبه علی الناس فرویت أخبار کثیرة فی مناقب الصحابة مفتعلة لا حقیقة لها وجدّ الناس فی روایة ما یجری هذا المجری حتی أشادوا بذکر ذلک علی المنابر وألقی إلی معلمی الکتاتیب فعلموا صبیانهم وغلمانهم من ذلک الکثیر الواسع حتی رووه وتعلموه کما یتعلمون القرآن وحتی علموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم فلبثوا بذلک ما شاء الله.

ثم کتب إلی عماله نسخة واحدة إلی جمیع البلدان انظروا من قامت علیه البینة انه یحب علیا وأهل بیته فامحوه من الدیوان وأسقطوا عطاءه ورزقه وشفع ذلک بنسخة أخری من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنکلوا به واهدموا داره فلم یکن البلاء أشد ولا أکثر منه بالعراق ولا سیما بالکوفة حتی إن الرجل من شیعة علی علیه السلام لیأتیه من یثق به فیدخل بیته فیلقی إلیه سره ویخاف من خادمه ومملوکه ولا یحدثه حتی یأخذ علیه الأیمان الغلیظة لیکتمن علیه.

فظهر حدیث کثیر موضوع وبهتان منتشر ومضی علی ذلک الفقهاء والقضاة والولاة وکان أعظم الناس فی ذلک بلیة القراء المراؤون والمستضعفون الذین یظهرون الخشوع والنسک فیفتعلون الأحادیث لیحظوا بذلک عند ولاتهم ویقربوا مجالسهم ویصیبوا به الأموال والضیاع والمنازل حتی انتقلت تلک الأخبار والأحادیث إلی أیدی الدیانین الذین لا یستحلون الکذب والبهتان فقبلوها ورووها وهم یظنون أنها حق ولو علموا انها باطلة لما رووها ولا تدینوا بها.

ص: 87

 فلم یزل الأمر کذلک حتی مات الحسن بن علی علیه السلام فازداد البلاء والفتنة فلم یبق أحد من هذا القبیل إلا وهو خائف علی دمه أو طرید فی الأرض. ثم تفاقم الأمر بعد قتل الحسین علیه السلام وولی عبد الملک بن مروان فاشتد علی الشیعة وولی علیهم الحجاج بن یوسف فتقرب إلیه أهل النسک والصلاح والدین ببغض علی وموالاة أعدائه وموالاة من یدّعی من الناس انهم أیضا أعداؤه فأکثروا فی الروایة فی فضلهم وسوابقهم ومناقبهم وأکثروا من الغض من علی علیه السلام وعیبه والطعن فیه والشنآن له حتی إن إنسانا وقف للحجاج فصاح به أیها الأمیر إن أهلی عقونی فسمونی علیا وإنی فقیر بائس وأنا إلی صلة الأمیر محتاج فتضاحک له الحجاج وقال للطف ما توسلت به قد ولیتک موضع کذا.

وقد روی ابن عرفة المعروف بنفطویه وهو من أکابر المحدثین وأعلامهم فی تاریخه ما یناسب هذا الخبر وقال إن أکثر الأحادیث الموضوعة فی فضائل الصحابة افتعلت فی أیام بنی أمیة تقربا إلیهم بما یظنون أنهم یرغمون به أنوف بنی هاشم)(1).

أقول: وهاهنا توجد ملاحظتان ینبغی التنبیه علیهما:

إحداهما: ان هذا الخبر وان لم یتم تداوله وتدوینه فی أمهات کتب أهل السنة ولم یشتهر عندهم وتم إخفاؤه بعمد إلا ان الوقائع التاریخیة والشواهد الروائیة فی صحاح أهل السنة ومسانیدهم وسننهم تثبت وعلی نحو الیقین وقوع ما ذکره ابن أبی الحدید بحذافیره، فکتبهم مشحونة بذکر مئات الروایات فی فضائل الشیخین وعائشة وحفصة ومعاویة وغیرهم حکم علیها بالوضع والکذب والافتراء، کما


1- شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید ج 11 ص 44 __ 47.

ص: 88

وتوجد مئات الروایات الأخری التی یتضح من سیاقها وترکیبها اللفظی انها وضعت وافتریت فی مقابل روایات أخری صحیحة قالها النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم فی حق الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه أو السیدة الزهراء صلوات الله وسلامه علیها أو الإمامین الحسن والحسین صلوات الله وسلامه علیهما لکنها بدلت ورفعت الأسماء الحقیقیة ووضعت مکانها أسماء الشیخین أو عائشة أو غیرهم(1)، ومجموع هذه الأمور تثبت بما لا یقبل الشک وقوع ذلک التدخل الأموی الخبیث فی أحادیث النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم وسننه.

الملاحظة الأخری: إن محاولات معاویة بن أبی سفیان  لقلب أحادیث فضائل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وطمسها وتزویرها وان لم تکن الأولی من نوعها لان الذین کانوا من قبله حاولوا ذلک وحققوا بعض الانجازات، لکنها کانت انجازات بسیطة بالنسبة لما وصل إلیه معاویة وحققه، ویعود سبب ذلک إلی ان المحاولات التی کانت علی عهد الشیخین وعثمان کانت محاولات فردیة ارتجالیة وغیر منظمة، أما فی زمن معاویة بن أبی سفیان فقد تحولت إلی حرکة ذات طابع جماعی منظم ومخطط له مسبقا، لذلک وصلت من حیث التأثیر والنتائج إلی ما لم تصل إلیه محاولات السابقین.


1- سیاسة قلب الاحادیث سیاسة معروفة ولها مئات الشواهد الروائیة وسیأتی بعض هذه الشواهد فی الفصول القادمة، نذکر منها هنا وعلی عجالة روایتهم للفظ (سنتی) بدل لفظ (عترتی) فی حدیث الثقلین کتاب الله وعترتی، وروایتهم لحدیث (فضل عائشة علی سائر النساء کفضل الثرید علی سائر الطعام) فی مقابل وصف النبی صلی الله علیه وآله وسلم للسیدة فاطمة بانها سیدة نساء العالمین او سیدة نساء اهل الجنة، او کروایتهم لحدیث ابی بکر وعمر سیدا کهول اهل الجنة، فی مقابل حدیث (الحسن والحسین سیدا شباب اهل الجنة) وغیر ذلک الکثیر الکثیر.

ص: 89

بدء التدوین الرسمی للسنة النبویة المطهرة فی عهد عمر بن عبد العزیز

بقیت السنة النبویة المطهرة من غیر تدوین لأکثر من مئة سنة تقریبا، ولا نقصد بالتدوین هنا مطلق التدوین، لان التدوین الشخصی للسنة النبویة کان موجوداً فعلا، فعدة من الصحابة کانوا قد دونوا بعض الأحادیث فی وریقات أحرقت فیما بعد، أو أبعدت عن أنظار السلطة، وإنما مقصودنا من التدوین الذی تأخر مائة عام وأکثر هو تدوین الدولة للسنة النبویة المطهرة بشکل رسمی وبأمر حکومی.

وقد اختلف فی تحدید بدء هذا التدوین الرسمی، لکن المشهور هو أن عمر بن عبد العزیز الأموی هو أول من أمر بتدوین السنة النبویة الشریفة، فقد أخرج البخاری حدیثا غیر مسند، فی باب کیف یقبض العلم جاء فیه: (وکتب عمر بن عبد العزیز إلی أبی بکر بن حزم انظر ما کان من حدیث رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فاکتبه فانی خفت دروس العلم وذهاب العلماء ولا یقبل إلا حدیث النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم ولیفشوا العلم ولیجلسوا حتی یعلم من لا یعلم فان العلم لا یهلک حتی یکون سرا)(1).

ولکن جلال الدین السیوطی أخرج حدیثا مسندا یذکر فیه أن عمر بن عبد العزیز أمر عامله بعدم الاکتفاء بجمع سنة رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، وأمره أن یجمع معها حدیث عمر بن الخطاب، قال السیوطی: (فأمر أمیر المؤمنین عمر بن عبد العزیز أبا بکر الحزمی فیما کتب إلیه أن انظر ما کان من سنة أو حدیث عمر فاکتبه.


1- صحیح البخاری ج 1 ص 33 باب کیف یقبض العلم.

ص: 90

وقال مالک فی الموطأ: روایة محمد بن الحسن أنا یحیی بن سعید أن عمر بن عبد العزیز کتب إلی أبی بکر بن محمد بن عمرو بن حزم أن انظر ما کان من حدیث رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم أو سنة أو حدیث عمر أو نحو هذا، فاکتبه لی فإنی خفت دروس العلم وذهاب العلماء)(1).

وأخرج البیهقی عن عبد الله بن دینار: (أن عمر بن عبد العزیز کتب إلی بکر ابن محمد بن عمرو بن حزم یأمره: أنظر ما کان من حدیث رسول الله «صلی الله علیه __ وآله __ وسلم» أو سنة ماضیة أو حدیث عمرة فاکتبه فإنی خفت دروس العلم وذهاب أهله)(2).

وعمرة هذه التی فی خبر البیهقی هی التی کانت تحفظ حدیث عائشة کله، قال البیهقی: (شعبة عن محمد بن عبد الرحمن قال: قال لی عمر بن عبد العزیز: ما بقی أحد أعلم بحدیث عائشة منها __ یعنی عمرة __ قال: وکان عمر یسألها. قال أحمد: فعلی هذا الوجه کان حال عمرة بنت عبد الرحمن فی التابعین)(3).

وعن سعید بن زیاد مولی الزبیر قال: (سمعت ابن شهاب یحدث سعد بن إبراهیم أمرنا عمر بن عبد العزیز بجمع السنن فکتبناها دفترا دفترا فبعث إلی کل أرض له علیها سلطان دفترا)(4)، وهذا النص یوضح أنّ تدوین عمر بن عبد العزیز للسنة النبویة کان تدوینا بسیطا ولیس بواسع النطاق، لان السنة النبویة وسنة الشیخین وحدیث عائشة کان حتما أکثر من أن یجمع فی دفتر واحد أو دفترین،


1- تنویر الحوالک لجلال الدین السیوطی ص 5.
2- معرفة السنن والآثار للبیهقی ج 6 ص 389 __ 390.
3- المصدر السابق ج6 ص390.
4- جامع بیان العلم وفضله لابن عبد البر: ج1 ص76.

ص: 91

ولعل هذا التدوین البسیط یرجع إلی انتقاء عمر بن عبد العزیز لبعض ذلک الحدیث والسنن وإدخال ما تم انتقاؤه فی دفتر أو دفترین ومن ثم إرساله بعد ذلک الی عماله وولاته، ولعله راجع إلی قصر المدّة التی قضاها عمر بن عبد العزیز فی الحکم حیث لم یمهله الزمن إتمام هذه المهمة.

وعن ابن حجر قال: (وأول من دون الحدیث ابن شهاب الزهری علی رأس المائة بأمر عمر بن عبد العزیز ثم کثر التدوین ثم التصنیف وحُصّل بذلک خیر کثیر)(1).

وقال الترمذی متحدثا عن ابن شهاب الزهری: (هو واضع علم الحدیث بأمر عمر بن عبد العزیز مخافة ضیاعه بضیاع أهله)(2).

ولا تعارض بین هذه الأخبار لأنه ربما کتب أولا إلی عامله بان یجمع له سنة النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم أولا، ثم کتب له مرة أخری بجمع أحادیث عمر بن الخطاب وعمرة بنت عبد الرحمن، أما ابن شهاب الزهری فقد کان من حاشیة السلطان فلا حاجة له بالکتابة إلیه.

ولعلنا نکتشف من النصوص السابقة وغیرها، ان عمر بن عبد العزیز لم یأمر إلا بکتابة سنة النبی صلی الله علیه وآله وسلم وسنة عمر بن الخطاب، وسنة عائشة، أما سنة عثمان ومعاویة وغیرهما من الأمویین فلم یأتِ علی ذکرها ولا طلبها، وهذا یعدّ خروجا منه عن الخط الأموی الذی کان ملتزما وبصرامة فی سنة عثمان بن عفان ومعاویة بن أبی سفیان، و یعدّ أیضا عودة صریحة منه لتفعیل سنة الشیخین من جدید، وإحیائها بعد سبات طویل، وهنالک شواهد وتصریحات عدیدة تؤکد


1- فتح الباری لابن حجر ج1 ص185 باب کتابة العلم.
2- محو السنة أو تدوینها لحسین غیب غلامی ص52 نقلا عن مختصر الشمائل المحمدیة ص125.

ص: 92

هذا المعنی منها:

1: ما قاله ابن حبان فی کتابه (الثقات): (عمر بن عبد العزیز بن مروان بن الحکم بن أبی العاص بن أمیة بن عبد شمس الأموی من الخلفاء الراشدین المهدیین الذی أحیا ما أمیت قبله من السنن وسلک مسلک من تقدمه من الخلفاء الأربع ... وکانت خلافته مثل خلافة أبی بکر سواء تسع وعشرین شهرا وکانت أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب)(1). وقوله أحیا ما أمیت قبله من السنن وسلک مسلک من تقدمه من الخلفاء الأربع) واضح فی ان مسلکه کان مغایرا لعمل من کان قبله من آل أمیة ومسلکه.

2: وعن ابن عساکر عن داود بن أبی هند قال: (دخل علینا عمر بن عبد العزیز من هذا الباب یعنی بابا من أبواب مسجد مدینة الرسول «صلی الله علیه __ وآله __ وسلم»...فقال...بعث إلینا الفاسق بابنه هذا یتعلم الفرائض والسنن ویزعم أنه لن یموت حتی یکون خلیفة ویسیر بسیرة عمر بن الخطاب فقال لنا داود فوالله ما مات حتی رأینا ذلک)(2) وهو یدل علی انه سار حینما تولی الإمارة بسیرة عمر بن الخطاب.

3: وعن ابن سعد قال: (قال أخبرنا محمد بن عمر قال سمعت عبد الحکیم ابن عبد الله بن أبی فروة یقول کان عمر بن عبد العزیز یؤمنا بالمدینة فلا یجهر ببسم الله الرحمن الرحیم)(3) ومعلوم ان سنة عدم الجهر ببسم الله الرحمن الرحیم هی سنة الشیخین، أما سنة أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه فقد کانت الجهر ببسم الله الرحمن الرحیم.


1- الثقات لابن حبان  ج 5 ص 151.
2- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج 45 ص 137.
3- الطبقات الکبری لمحمد بن سعد  ج 5 ص 335.

ص: 93

وإحیاؤه لسنة الشیخین هو الذی أعلی مقامه عند مؤرخی أهل السنة ومحدثیهم، فضخموا شخصیته ونسبوا له أمورا میزوه عن غیره من الحکام الأمویین، ووضعوا له من الأحادیث ما لا یقبله عقل ولا وجدان وفیما یأتی جملة من هذه النصوص:

 فقد روجوا له بأنه المهدی الذی وعد به النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، قال محمد بن سعد فی (الطبقات الکبری): (عبد الجبار بن أبی معن قال سمعت سعید ابن المسیب وسأله رجل فقال له: یا أبا محمد من المهدی؟ فقال له سعید: أدخلت دار مروان؟ قال: لا. قال: فادخل دار مروان تری المهدی. قال: فأذن عمر بن عبد العزیز للناس فانطلق الرجل حتی دخل دار مروان فرأی الأمیر والناس مجتمعین ثم رجع إلی سعید بن المسیب فقال یا أبا محمد دخلت دار مروان فلم أر أحدا أقول هذا المهدی. فقال له سعید بن المسیب وأنا أسمع: هل رأیت الأشج عمر بن عبد العزیز القاعد علی السریر قال نعم قال فهو المهدی)(1).

وعن ابن سعد أیضا قال: (أخبرنا أحمد بن عبد الله بن یونس قال حدثنی مسلمة أبو سعید قال سمعت العرزمی یقول سمعت محمد بن علی یقول النبی منا والمهدی من بنی عبد شمس ولا نعلمه إلا عمر بن عبد العزیز قال وهذا فی خلافة عمر بن عبد العزیز)(2).

وزعموا بأنه کان یلتقی بالخضر ویحدثه بأنه سیلی أمر الأمة ویعدل فیها، فعن ریاح بن عبیدة قال: (خرج عمر بن عبد العزیز إلی الصلاة وشیخ متوکئ علی یده فقلت فی نفسی إن هذا الشیخ جافٍ فلما صلی ودخل لحقته فقلت أصلح الله الأمیر من الشیخ الذی کان متکئا علی یدک؟ فقال: یا ریاح رأیته؟ قلت: نعم،


1- الطبقات الکبری لمحمد بن سعد ج 5 ص 333.
2- المصدر نفسه.

ص: 94

 قال: ما أحسبک یا ریاح إلا رجلا صالحا ذاک أخی الخضر أتانی فأعلمنی أنی سألی أمر هذه الأمة وأنی سأعدل فیها)(1).

وجعلوا الجن تنادیه وتبشره بإخبار النبی صلی الله علیه وآله وسلم بأنه خیر هذه الأمة، قال ابن عساکر: (بینما عمر بن عبد العزیز یمشی إلی مکة بفلاة من الأرض إذ رأی حیة میتة فقال علیّ بمحفار فقالوا نکفیک أصلحک الله قال لا ثم أخذه فحفر له ثم لفه فی خرقة ودفنه فإذا هاتف یهتف لا یرونه رحمة الله علیک یا سرق فأشهد لسمعت رسول الله «صلی الله علیه __ وآله __ وسلم» یقول تموت یا سرق فی فلاة فی الأرض فیدفنک خیر أمتی فقال له عمر بن عبد العزیز من أنت یرحمک الله قال أنا رجل من الجن وهذا سرق ولم یکن ممن بایع رسول الله «صلی الله علیه __ وآله __ وسلم» من الجن غیری وغیره وأشهد لسمعت رسول الله «صلی الله علیه __ وآله __ وسلم» یقول تموت یا سرق بفلاة من الأرض ویدفنک خیر أمتی)(2).

تدوین السنة النبویة فی زمن هشام بن عبد الملک بن مروان الأموی

اشارة

ان الحدیث عن التدوین فی زمن هشام بن عبد الملک الأموی لا ینفک عن الحدیث عن ابن شهاب الزهری، لان الزهری هذا هو الذی دون عنه هشام بن عبد الملک جمیع السنن، فلکی نتعرف علی مستوی هذه السنن المدونة وأهمیتها لابد من الحدیث أولا عن ابن شهاب الزهری ومدی ما یتمتع به من صدق ونزاهة وأمانة علمیة، لان بمعرفتنا مقدار صدقه ونزاهته نعرف مقدار صدق أخباره ونزاهة مرویاته، ومن هذه الأخیرة نتعرف علی صدق ما دون عنه وحفظ منه ونزاهته وأمانته.


1- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج 45 ص 156.
2- المصدر نفسه ص146.

ص: 95

من هو ابن شهاب الزهری؟

اشارة

هو وکما یعرفه لنا الذهبی بقوله: (محمد بن مسلم بن عبید الله بن عبد الله ابن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن کلاب بن مرة الإمام أبو بکر القرشی الزهری المدنی)(1).

وکان ینحدر من سلالة معروفة بإساهمها فی بعض الفتن، فحینما دخل علی عبد الملک بن مروان وطلب منه ان ینتسب ویبین اسمه وأسماء آبائه، قال: (دخلت معه __ یشیر إلی شخص کان برفقته __ علی أمیر المؤمنین فأجد بین یدیه المصحف قد أطبقه وأمر به فرفع ولیس عنده غیر قبیصة، فسلمت بالخلافة، فقال: من أنت؟ قلت: محمد بن مسلم بن عبید الله بن عبد الله بن شهاب، فقال: أوه قوم نعارون فی الفتن، قال: وکان أبی مع ابن الزبیر...)(2).

تضخیم محدثی أهل السنة لشخصیة الزهری ومرویاته

قال الذهبی: (وقال اللیث بن سعد عن یحیی بن سعید قال: ما بقی عند أحد من العلم ما بقی عند ابن شهاب. وقال سعید بن بشر عن قتادة قال: ما بقی أحد أعلم بسنة ماضیة من ابن شهاب ورجل آخر، کأنه عنی نفسه.

وقال أبو بکر الهذلی مع مجالسته للحسن وابن سیرین: لم أر قط مثل الزهری. وقال سعید بن عبد العزیز: ما الزهری إلا بحر. سمعت مکحولا یقول: ابن شهاب أعلم الناس.

وقال مالک: بقی ابن شهاب وماله فی الناس نظیر. وقال موسی بن


1- تاریخ الإسلام للذهبی  ج 8 ص 227.
2- المصدر نفسه ص 231.

ص: 96

إسماعیل: شهدت وهیبا وبشر بن المفضل وغیرهما ذکروا الزهری فلم یجدوا أحدا یقیسونه به إلا الشعبی. وقال ابن المدینی: أفتی أربعة: الحکم وحماد وقتادة والزهری، والزهری عندی أفقههم)(1).

وقال ابن المدینی: (دار علم الثقات علی ستة: فکان بالحجاز عمرو بن دینار والزهری، وبالبصرة قتادة ویحیی بن أبی کثیر، وبالکوفة أبو إسحاق والأعمش)(2).

وسیأتی فیما سیأتی من سطور شواهد کثیرة تکذب وتعارض هذه الهالة القدسیة التی ألقیت علی ابن شهاب الزهری لتحسین صورته من جهة ولإبعاد الشبهة عن مرویاته ومنقولاته من جهة ثانیة.

إکراهه من قبل هشام بن عبد الملک علی التدوین

أخرج ابن عساکر عن مرزوق بن أبی الهذیل قال: (کان الزهری لا یترک أحدا یکتب بین یدیه قال فأکرهه هشام بن عبد الملک فأملی علی بنیه فلما خرج من عنده دخل المسجد فأسند إلی عمود من عمده ثم نادی یا طلبة الحدیث قال فلما اجتمعوا إلیه قال إنی کنت منعتکم أمرا بذلته لأمیر المؤمنین آنفا هلم فاکتبوا قال فکتب عنه الناس من یومئذ)(3).

وعن أبی ملیح قال: (کنا لا نطمع أن نکتب عن الزهری حتی أکره هشام الزهری فکتب لبنیه فکتب الناس عنه)(4).


1- تاریخ الإسلام للذهبی ج 8 ص 244 __ 245.
2- المصدر السابق ص239.
3- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج 55 ص333.
4- حلیة الأولیاء لأبی نعیم ج3 ص363.

ص: 97

وعن ابن عساکر عن سعید: (أن هشام بن عبد الملک سأل الزهری أن یملی علی بعض ولده فدعا بکاتب فأملی علیه أربع مائة حدیث ثم خرج الزهری من عند هشام قال أین أنتم یا أصحاب الحدیث فحدثهم بتلک الأربعمائة الحدیث)(1).

وعن الذهبی: (وقال ابن عیینة: قال الزهری: کنا نکره الکتاب حتی أکرهنا علیه السلطان فکرهنا أن نمنعه الناس)(2).

تلاعب هشام بن عبد الملک بأحادیث ابن شهاب الزهری

قد نصت الروایات السابقة علی ان ابن شهاب الزهری لم یکتب لبنی هشام ابن عبد الملک سوی أربعمائة حدیث، وبمجرد خروجه علی الناس صاح بهم وأمرهم بکتابتها عنه أیضا، أی صار فی أیدی الناس نفس الأحادیث التی عند هشام وبنیه، وعلی فرض ان ابن شهاب الزهری قد دون لهشام وبنیه أکثر من أربعمائة حدیث، فینبغی علی وفق قوله: (إنی کنت منعتکم أمرا بذلته لأمیر المؤمنین آنفا هلم فاکتبوا) ان یکون کل ما دونه الزهری لهشام وبنیه قد قاله لطلبته ومن کان یکتب عنه من العامة، لان الزهری کان لا یری ان یحرم الناس من شیء قد بذل للأمراء، فعن معمر قال: (سمعت الزهری یقول کنا نکره الکتاب حتی أکرهنا علیه الأمراء فرأیت أن لا أمنعه مسلما)(3).

وبناء علی قاعدة ان کل ما کان عند هشام وبنیه، کان أیضا عند سائر الناس بعینه أو قریب منه من حیث العدد والکم، نری مقدار ما تم التلاعب به من قبل هشام بن عبد الملک أو الذین جاؤوا من بعده من بنیه، لأنهم وبعد موت ابن شهاب


1- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج 55 ص332.
2- تاریخ الإسلام للذهبی  ج 8 ص 240
3- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج 55 ص 334.

ص: 98

الزهری أخرجوا للناس کتبا ودواوین حملت علی البغال من کثرتها ادعوا ان الزهری کان قد حدث بها، بینما کان الموجود فی أیدی الناس لا یتعدی المجلد أو المجلدین، أو کما یقول البعض ألفی حدیث، قال أبو داود: (حدیثه ألفان ومائتا حدیث النصف منها مسند. وقال ابن المدینی: نحو ألفی حدیث)(1).

وقال الذهبی: (قد جمع أحمد بن صالح المصری علم الزهری وکذا ألف محمد بن یحیی الذهلی حدیث الزهری فأتقن واستوعب وهو فی مجلدین)(2).

وعن عبد الرزاق قال: (سمعت معمرا یقول: کنا نری ان قد أکثرنا عن الزهری حتی قتل الولید فإذا الدفاتر قد حملت علی الدواب من خزائنه من علم الزهری)(3).

وروی ابن عساکر عن الأحوص انه قال: (کنا نری أن قد أکثرنا عن الزهری حتی قتل الولید فإذا الدفاتر قد حملت علی الدواب من خزانته یقول من علم الزهری)(4).

وروی ابن عساکر أیضا: (قال الولید یعنی ابن عبد الملک(5) للزهری یعنی


1- تاریخ الإسلام للذهبی  ج 8  ص 228.
2- المصدر السابق ص 247.
3- جامع بیان العلم وفضله لابن عبد البر ج2 ص177.
4- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج 55 ص334.
5- ان ذکر الولید بن عبد الملک فی هذه النصوص هو غلط واضح من فعل النساخ وهو من التصحیف، لان المقصود هو هشام بن عبد الملک، لان الولید بن عبد الملک توفی کما هو معروف فی السنة السادسة والتسعین من الهجرة، أی قبل عمر بن عبد العزیز الذی تولی الإمارة فی السنة التاسعة والتسعین من الهجرة، والإجماع من المؤرخین قائم علی ان ابن شهاب الزهری لم یدون إلا فی زمن عمر بن عبد العزیز بشکل جزئی وبسیط، ثم دون بشکل موسع وعام فی إمارة هشام ابن عبد الملک الذی ولی الإمارة فی سنة مائة وخمس للهجرة، والذی بقی إلی سنة مائة وخمس وعشرین والزهری مات قبله بسنة واحدة فقط، فیکون ذکر الولید بن عبد الملک غیر مناسب البتة، والصحیح هو هشام بن عبد الملک لذلک قال ابن عساکر بعد ذکره للروایة الأخیرة: (المحفوظ أن الذی أمر الزهری بذلک هشام بن عبد الملک) راجع تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج41  ص47.

ص: 99

محمد بن مسلم: حدثنی ولا تحدث الناس فقال لا أحدثک أو أحدث الناس، قال: حدثنی وحدث الناس، قال: فحدثه بأحادیث ثم کتبها وأخرجها إلی الناس فحدثهم بها فاجتمع الناس علیه وکثروا فقال کلکم لا یقدر علی أن یأخذ هذه ولکن خذوها من دیوان الولید. فأتوا دیوان الولید فأخذوها منه فإذ قد ألصق إلیها أربعة أحادیث زیادة لم یحدثه بها...وکان الولید قال للزهری حین أراد أن یحدثه أروِ حدیثا وأسنده قال لا والله إلا أن أنصه إلیک فلم یفعل فألزق إلی حدیثه أربعة أحادیث کذب فاحتملت من دیوان الولید ورویت)(1)، وفی هذه النصوص تصریح واضح بوقوع التزویر المتعمد فی أحادیث ابن شهاب الزهری من الذین دون لهم من الحکام الأمویین، وان الزیادة کانت أکثر من مجرد أربعة أحادیث فقط، لان علم الزهری کله قد جمع فی مجلدین، والذی خرج إلی الناس بعد وفاة الزهری أکثر بکثیر حتی احتاجوا إلی البغال لنقله، لکن القوم أرادوا تخفیف الصدمة فقالوا ان الذی تم التلاعب به هو أربعة أحادیث لا غیر.

والسؤال المهم هو: این ذهبت هذه الاحادیث التی حملتها السلطة علی البغال من کثرتها؟ ولماذا لم تصل إلینا؟، لان مجموع ما هو مدون الآن فی کتب الحدیث السنیة لا تتعدی اکثر من عدة آلاف مع إسقاط المکرر منها، ثم من یضمن


1- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج41  ص47.

ص: 100

لنا عدم تدخل الدولة ایضا فی بقیة الصحاج والمسانید وباقی کتب الحدیث، لا سیما اذا عرفنا أنّ کثیرا من هذه الکتب الحدیثیة کتبت بأمر من السلطة أو تحت إشرافها ورعایتها کما هو الحال مع موطأ مالک بن أنس.

لماذا کان الزهری یکذب فی ادعائه عدم الکتابة للأحادیث؟

قد وجهت للزهری أسئلة کثیرة ومن أشخاص عدة حول مسألة حفظ الزهری للحدیث وکتابته وهل کان یستعید الحدیث ویستذکره ام لا، فکان الزهری یصر علی انه لم یکن یکتب الحدیث ولا یدونه وانه کان یحفظه حفظا وانه لا یستعید الحدیث ولا یتذاکر به، حتی عدّت هذه الصفة فیما بعد صفة فریدة امتاز بها الزهری عن غیره، فعن مالک بن انس قال: (حدثنا الزهری بحدیث طویل فلم أحفظه فسألته عنه فقال: ألیس قد حدثتکم؟ قلت: بلی. ثم قلت: أما کنت تکتب؟ قال: لا، قلت: ولا تستعید قال: لا)(1).

وعن مالک أیضا قال: (قلت لابن شهاب وأنا أرید أن أخصمه: ما کنت تکتب قال: لا، قلت: ولا تسأل أن یعاد علیک الحدیث قال: لا. ولقد سألته عن حدیث قال: الذی أعجبنی منه قد حدثتکم به)(2).

وعن ابن المبارک عن یونس قال: (قلت للزهری: أخرج لی کتبک، فأخذ بیدی فأدخلنی ثم قال: یا جاریة هاتی تلک الکتب، فأخرجت صحفا فیها شعر، وقال: ما عندی إلا هذا)((3).


1- تاریخ الإسلام للذهبی  ج 8 ص 230.
2- المصدر السابق ص 237 – 238.
3- ()المصدر نفسه ص 240.

ص: 101

ومن هذه النصوص وغیرها یتضح لنا أن الزهری کان یصر إصرارا واضحا علی عدم کتابته للحدیث وعدم امتلاکه للکتب إلا صحفا فیها قصائد شعریة، وانه لم یکن یستعید حدیثا واحدا، والأخطر من ذلک کله هو اعترافه بأنه کان یحدث بالأحادیث التی کانت تعجبه فقط وما لم یعجبه منها أخفاه.

غیر أننا إذا تتبعنا أقوال ابن شهاب الزهری نفسه، وأقوال معاصریه، نجد أن ابن شهاب الزهری کان یکذب فی ادعائه بعدم کتابته للحدیث، وعدم امتلاکه لکتب الحدیث، وکذلک کان یکذب فی ادعاء الاعتماد علی حفظه فقط، وکذبه فی عدم إعادة الحدیث الذی کان یسمعه واسترجاعه ومدارسته، وبین أیدینا نصوص کثیرة تؤکد وتثبت أکاذیب الزهری نختار منها علی سبیل الإیجاز والاختصار ما یأتی:

روی ابن أبی الزناد عن أبیه قال: (کنا نطوف مع الزهری ومعه الألواح والصحف ویکتب کل ما سمع)(1).

وعن صالح بن کیسان قال: (اجتمعت أنا والزهری نطلب العلم فقلنا: نکتب السنن فکتبنا ما جاء عن النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم، ثم قال: نکتب ما جاء عن أصحابه فإنه سنة، فقلت أنا: لیس بسنة، فکتب ولم أکتب فأنجح وضیعت)(2).

وعن ابن خلکان قال: (وکان إذا جلس فی بیته وضع کتبه حوله فیشتغل بها عن کل شیء من أمور الدنیا فقالت له امرأته یوما والله لهذه الکتب أشد علی من


1- الأعلام لخیر الدین الزرکلی ج7 ص97، وتاریخ الإسلام للذهبی  ج 8 ص 245.
2- التمهید لابن عبد البر ج16 ص280، تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج23 ص368.

ص: 102

ثلاث ضرائر)(1).

وعن الثوری انه قال: (أتیت الزهری فتثاقل علی فقلت له: أتحب لو أنک أتیت مشایخک فصنعوا بک مثل هذا فقال: کما أنت، ودخل فأخرج إلی کتابا فقال: خذ هذا فاروه عنی، فما رویت عنه حرفا)(2).

وروی انه کان یدخل إلی بیته (فیأتی جاریة له نائمة فیوقظها فیقول لها: حدثنی فلان وفلان بکذا، فتقول: ما لی ولهذا، فیقول: قد علمت أنک لا تنتفعین به ولکن سمعت الآن فأردت أن أستذکره)(3).

فیثبت بهذا وغیره ان ابن شهاب الزهری لم یکن صادقا فی ادعائه بعدم کتابته للحدیث، وکذلک لم یکن صادقا فی عدم امتلاکه للکتب، وکذلک لم یکن صادقا فی عدم استعادته للحدیث بهدف الحفظ، فکیف یعقل حینئذ أن یکون مثل هذا الکذاب سببا وأساسا ومصدرا من مصادر تدوین السنة النبویة المطهرة، ویکون منبعا من المنابع التی اخذ عنها مالک بن انس موطأه واحمد بن حنبل مسنده والبخاری صحیحه ومسلم وغیره کتبهم وسننهم؟.

لماذا لم یکن ابن شهاب الزهری یعید أحادیثه مرتین؟

وردت نصوص کثیرة أکدت جمیعها علی ان ابن شهاب الزهری کان یرفض إعادة الحدیث الواحد لمرتین علی من کانوا یحضرون عنده مجالس الحدیث، فعن مالک بن أنس قال: (أخذت بلجام بغلة الزهری فسألته أن یعید علی حدیثا فقال ما


1- وفیات الأعیان وأنباء أبناء الزمان لابن خلکان  ج 4 ص 177 __ 178.
2- تاریخ الإسلام للذهبی  ج 8 ص 245.
3- المصدر السابق ص243.

ص: 103

استعدت حدیثا قط)(1).

وعن مالک أیضا قال: (حدثنی ابن شهاب بحدیث فیه طول وأنا آخذ بلجام دابته فقلت له أعد علی فقال لا. قلت له أریت أنت أما کنت تحب أن یعاد علیک قال لا فقلت له کنت تکتب قال لا)(2).

والذی ظهر لی من خلال التأمل فی أخبار ابن شهاب الزهری هذا، ان رفضه لإعادة الحدیث الواحد وتکریره کان یعود إلی سببین مهمین:

الأول: عدم حفظ الزهری للحدیث النبوی الشریف وعدم دقته فی النقل، لذلک کان یستصعب إعادة الحدیث بنفس إسناده ومتنه، ویری بان إعادة الحدیث الواحد مرتین اشد علیه من نقل الصخر، فعن سفیان بن عیینة عن الزهری انه قال: (إعادة الحدیث أشد من نقل الصخر)(3)، فلو کان الزهری حافظا متقنا فلماذا تصبح إعادة الحدیث الواحد بنفس الإسناد والمتن أصعب علیه من نقل الحجر؟.

الثانی: ان عدم حفظه وإتقانه للحدیث الشریف أدی إلی وقوعه فی مشکلة عظیمة، وهی عدم تمکنه من أداء الألفاظ کما سمعها وکما صدرت من فم رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، واعتماده علی روایة الأحادیث بالمعنی، مع اعتقاده بصحة التقدیم والتأخیر فی فقرات الحدیث وعباراته وجوازه، فعن أبی أویس قال: (سألت الزهری عن التقدیم والتأخیر فی الحدیث فقال: هذا یجوز فی القرآن فکیف به فی الحدیث إذا أصیب معنی الحدیث فلا بأس)(4).


1- التمهید لابن عبد البر ج6 ص107، تاریخ مدینة دمشق ج55 ص327.
2- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج 55 ص 327.
3- تهذیب الکمال للمزی ج 26 ص439.
4- سیر أعلام النبلاء للذهبی ج5 ص347.

ص: 104

فیتلخص مما سبق من کلام أن لا قیمة علمیة لتدوین الدولة للسنة النبویة فی زمن هشام بن عبد الملک، لعدة أسباب ذکرناها فیما سبق مطولا ونذکرها فیما یأتی باختصار:

1: لوقوعه علی نحو الإکراه وما وقع بالإکراه کانت له عواقب وخیمة.

2: لعدم صیانة هذا التدوین من التحریف والتلاعب والتزویر من هشام بن عبد الملک وبقیة جهاز الدولة الأمویة.

3: ان هذا التدوین للسنة النبویة قد تکفل به ابن شهاب الزهری الذی لم یکن علی مستوی عالٍ من الصدق والأمانة والنزاهة فی النقل، فهو مدلس کبیر، یروی المراسیل، حتی صرح غیر واحد من أعلام أهل السنة بان نصف أحادیثه کانت مرسلة غیر مسندة.

4: حتی أحادیثه التی أسندها فانه کان یرویها بالمعنی ولیس بالنص، مع تقدیم وتأخیر فی فقراتها، مع روایته للأحادیث التی تعجبه ویترک التی لا توافق هواه.

5: ان ابن شهاب الزهری کان یتعمد ولأسباب متعددة تضخیم شأن نفسه، وتصویرها بصورة النابغة الذی لا یدانیه أحد فی حفظه وسعة علمه، مما أدی إلی وقوعه فی الکذب والخلط والاضطراب فی مسائل متعددة أوضحنا قسما منها.

فتدوین یحمل فی طیاته إکراهاً وتزویراً وقلباً لفقرات الحدیث وکتابة بالمعنی دون النص صادرٌ من إنسان لا یتورع عن الکذب والتفاخر وحب الظهور، حری أن لا یعتمد علیه ولا یوثق به ولا یعد مشروعا ومبرئا للذمة.

ص: 105

لماذا دون هشام السنة النبویة ولم یکتف بتدوین عمر بن عبد العزیز لها؟

إن طریقة جمع عمر بن عبد العزیز للسنة وآلیته لم تکن مرضیة عند بقیة الحکام الذین أتوا بعده واعتلوا کرسی الحکم، وسبب عدم رضاهم یعود إلی اقتصار عمر بن عبد العزیز فی جمعه للسنة علی سنة النبی وسنة الشیخین وأحادیث عائشة بنت أبی بکر فقط، وأغفل __ أو تعمد __ عن جمع السنة الأمویة التی سنها وشرعها عثمان بن عفان ومعاویة بن أبی سفیان وغیرهما من الحکام الأمویین، وهذا یعنی بدوره أن السنة الأمویة قد بقیت بلا تدوین، وهذا ما سیعرضها إلی الضیاع والنسیان والاندثار کلما طالت علیها الأیام ومرت السنین، فمن أجل تثبیتها والحفاظ علیها وضمان عدم انتصار السنن الأخری علیها عمد هشام بن عبد الملک إلی إعادة تدوین السنة مرة أخری، فزاد فیها ما زاد وحرف فیها ما حرف وادخل فیها کثیراً من الأحادیث التی لم یدونها عمر بن عبد العزیز ولا قالها ابن شهاب الزهری، ومن ثم نشرها فی البلدان کی تغطی وتکتسح تلک السنة المدونة من قبل عمر بن عبد العزیز.

الإمامان الباقر والصادق علیهما السلام وأثرهما فی تدوین السنة

ان الذی یتابع حیاة الأمویین، ومقدار ما یکنونه من اهتمام بمسائل الشرع والدین، یجزم قطعا ببعدهم عن روح الحرص والخوف عن کل ما یمت إلی الشریعة بصلة، وکیف یهتمون بأمر سعوا ومنذ أن قامت دولتهم إلی استئصال أصوله وکسر فروعه، فلماذا إذن یعید مثل هؤلاء تدوین السنة التی سعوا إلی إماتتها واضمحلال شأنها، وإذا لم یکن الحرص علیها هو الذی دفعهم لجمعها، فأی أمر آخر قد

ص: 106

استجد ودفعهم واضطرهم إلی التدوین؟.

وهذا الأمر المستجد الذی اضطرهم إلی التدوین یمکن معرفته من خلال معرفة الظروف والملابسات والشخصیات فی الحقبة الممتدة ما بین إمارة عمر بن عبد العزیز وهشام بن عبد الملک وما بعده، لأننا وبمعرفة تلک الحقبة الزمنیة سنکتشف أنها تتزامن مع عصر الإمامین محمد بن علی الباقر وجعفر بن محمد الصادق صلوات الله وسلامه علیهما، ففی السنة الخامسة والتسعین استشهد الإمام علی بن الحسین السجاد صلوات الله وسلامه علیه(1)، وبدأت إمامة الإمام الباقر صلوات الله وسلامه علیه، أی قبل إمارة عمر بن عبد العزیز بأربع سنوات تقریبا(2)، واستمرت إمامته إلی سنة مئة وأربع عشرة للهجرة ثم استشهد، فبدأت إمامة الإمام جعفر بن محمد الصادق صلوات الله وسلامه علیه لتستمر إلی سنة مئة وثمانٍ وأربعین للهجرة.

ومعلوم للجمیع أنّ الإمامین الباقر والصادق صلوات الله وسلامه علیهما نشرا من العلوم فی زمنیهما ما ملأ الدنیا وانتشر انتشار ضوء الشمس بعد لیل طویل، فالإمام الباقر صلوات الله وسلامه علیه اعترف له العامة قبل الخاصة بأنه إنما سمی بالباقر لأنه بقر العلم بقرا أی شقه وبین خفایاه وغوامضه، کما قال النووی فی شرحه لصحیح مسلم: (أبو جعفر هذا هو محمد بن علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب رضی الله عنهم المعروف بالباقر لأنه بقر العلم أی شقه وفتحه فعرف أصله وتمکن فیه)(3)، وقال فی


1- مستدرک سفینة البحار للشیخ علی النمازی الشاهرودی  ج 5 ص 217.
2- لان عمر بن عبد العزیز تولی الحکم فی السنة الثامنة والتسعین او التاسعة والتسعین للهجرة، واستمر بها الی سنة 101للهجرة، اما هشام بن عبد الملک بن هشام فقد تولی الحکم فی سنة مائة وخمس للهجرة وبقی فی الحکم الی سنة مائة وخمس وعشرین للهجرة.
3- شرح مسلم للنووی ج1 ص102.

ص: 107

موضع ثانٍ: (والبقر الشق ومنه قولهم بقر بطنه ومنه سمی محمد الباقر رضی الله عنه؛ لأنه بقر العلم ودخل فیه مدخلا بلیغا ووصل منه غایة مرضیة)(1).

وقال العینی فی عمدة القاری: (وأما محمد بن علی فهو: محمد بن علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب، رضی الله تعالی عنهم أجمعین، الهاشمی المدنی، أبو جعفر المعروف: بالباقر، سمی به لأنه بقر العلم أی: شقه بحیث عرف حقائقه، وهو أحد الأعلام التابعین الأجلاء)(2).

وقال الصفدی: (وکان أحد من جمع العلم والفقه والدیانة والثقة والسؤدد وکان یصلح للخلافة وهو أحد الأئمة الاثنی عشر الذین یعتقد الرافضة عصمتهم وسمی بالباقر لأنه بقر العلم أی شقه فعرف أصله وخفیه)(3).

وعدد الذهبی الذین رووا عنه من علماء أهل السنة وغیرهم بقوله: (حدث عنه ابنه __ أی الإمام الصادق صلوات الله وسلامه علیه __، وعطاء بن أبی ریاح، والأعرج مع تقدمهما، وعمرو بن دینار، وأبو إسحاق السبیعی، والزهری، ویحیی بن أبی کثیر، وربیعة الرأی، ولیث بن أبی سلیم، وابن جریج، وقرة بن خالد، وحجاج بن أرطاة، والأعمش، ومخول بن راشد، وحرب بن سریج، والقاسم بن الفضل الحدانی، والأوزاعی، وآخرون...وکان أحد من جمع بین العلم والعمل والسؤدد، والشرف، والثقة، والرزانة، وکان أهلا للخلافة...وشهر أبو جعفر بالباقر، من: بقر العلم، أی شقه فعرف أصله وخفیه. ولقد کان أبو جعفر إماما، مجتهدا، تالیا لکتاب الله، کبیر الشأن)(4).


1- المصدر السابق ح6 ص137.
2- عمدة القاری للعینی  ج 3 ص 52.
3- الوافی بالوفیات للصفدی  ج4  ص77.
4- سیر أعلام النبلاء للذهبی  ج 4  ص 401 __ 402

ص: 108

أما الإمام الصادق صلوات الله وسلامه علیه فیقول عنه ابن حبان فی کتابه الثقات: (جعفر بن محمد بن علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب رضوان الله علیهم کنیته أبو عبد الله یروی عن أبیه وکان من سادات أهل البیت فقها وعلما وفضلا روی عنه الثوری ومالک وشعبة والناس)(1).

وقال عبد الله بن عدی فی کتابه الکامل: (ولجعفر بن محمد حدیث کبیر عن أبیه عن جابر وعن أبیه عن آبائه ونسخا لأهل البیت بروایة جعفر بن محمد وقد حدث عنه من الأئمة مثل ابن جریج وشعبة بن الحجاج وغیرهم ممن ذکرت بعضهم ولم أذکر بعضا وجعفر من ثقات الناس کما قال یحیی بن معین)(2).

وقال السمعانی: (روی عنه یحیی بن سعید الأنصاری، وأبو عبد الله مالک ابن أنس إمام دار الهجرة، وسفیان بن سعید الثوری، وأبو بسطام شعبة بن الحجاج العتکی، وسفیان بن عیینة أبو محمد الهلالی، وسلیمان بن بلال، ومحمد بن إسحاق بن یسار، وابنه موسی بن جعفر)(3).

وقال الذهبی معددا لمن روی عنه من علماء العامة وغیرهم: (وعنه مالک والسفیانان وحاتم بن إسماعیل ویحیی القطان وأبو عاصم النبیل وخلق کثیر قیل مولده سنة ثمانین فالظاهر أنه رأی سهل بن سعد الساعدی وثقه الشافعی ویحیی بن معین. وعن أبی حنیفة قال: ما رأیت أفقه من جعفر بن محمد، وقال أبو حاتم: ثقة لا یسأل عن مثله. وعن صالح بن أبی الأسود سمعت جعفر بن محمد یقول سلونی قبل أن تفقدونی فإنه لا یحدثکم أحد بعدی بمثل حدیثی)(4).


1- الثقات لابن حبان  ج 6 ص 131.
2- الکامل لعبد الله بن عدی  ج 2 ص 134.
3- الأنساب للسمعانی  ج 3 ص 507.
4- تذکرة الحفاظ للذهبی  ج 1 ص 166.

ص: 109

فمن هذه الأقوال نعرف أن الإمامین الباقر والصادق صلوات الله وسلامه علیهما قد فتحا باب الروایة والعلم علی مصراعیه، وکانا لا یمانعان فی تدوین الآخرین لأقوالهما وأحادیثهما بعکس باقی محدثی العامة، فنشرا من السنة النبویة الأصیلة والموروثة فی الصحف الجامعة وغیرها، فدونها الطلاب وعامة الخلق، وانتشرت بینهم وتناقلتها أقلام أربعة آلاف طالب کانوا یجلسون تحت منبر الإمام الصادق صلوات الله وسلامه علیه، فرأی عمر بن عبد العزیز ان إبقاء باب التدوین للسنة النبویة __ المتداولة عند أهل السنة __ ولسنة الشیخین مغلقا سیؤدی إلی هیمنة سنة الإمامین الباقر والصادقصلوات الله وسلامه علیه ونسیان تلک السنن واضمحلالها، لان البقاء إنما یکون للعلم المدون المکتوب أما المحفوظ فیموت مع موت حافظیه.

ولهذا السبب سارع عمر بن عبد العزیز بجمع السنة النبویة التی ارتضتها الحکومات التی سبقت حکومته، ومن هنا أیضا نفهم سبب إصرار عمر بن عبد العزیز بالتأکید علی عماله بجمع سنة عمر وعائشة وأحادیثهما، وهو دلیل علی انه إنما کان بصدد جمع سنة معینة مخصوصة فی مقابل سنة معینة مخصوصة وهی التی کان الإمامان الصادق والباقر صلوات الله وسلامه علیهما یبثانها بین الناس.

أما هشام بن عبد الملک فقد وجد نفسه وجمیع ما سنه الأمویون بین سنتین، بین سنة الإمامین الباقر والصادق صلوات الله وسلامه علیهما التی لیس لآل أمیة فیها أی روایة أو تشریع، وبین سنة عمر بن عبد العزیز التی أحیت سنة الشیخین وعائشة فقط، والتی لم یکن له ولا لآبائه فیها نصیب یذکر، فلکی یحفظ مآثر آبائه وما ابتدعوه من الأحکام والسنن اجبر ابن شهاب علی التدوین والتأصیل لسنة جدیدة وأضاف علیها ما الله أعلم به.

ص: 110

ص: 111

الفصل الثانی: تدوین السنة النبویة فی العصر العباسی بین تدخل السلطة وتحریف المدونین

اشارة

ص: 112

ص: 113

أهمیة التدوین للسنة النبویة خلال العصر العباسی

إن الحدیث عن التدوین فی العصر العباسی طویل ومهم فی نفس الوقت، لذلک أفردناه فی فصل مستقل، فالمذاهب الثلاثة المالکی والشافعی والحنبلی کلها قد أحدثت وأنشئت فی هذا العصر، وحتی المذهب الحنفی الذی کان تاریخ نشوئه فی العهد الأموی، فانه کاد أن ینقرض ویتلاشی حینما قتل أبو حنیفة النعمان علی ید المنصور العباسی، لولا إحیاه أبی یوسف تلمیذ ابی حنیفة إیاه، حین تولیه منصب قاضی القضاة لأحد الحکام العباسیین، فصار لا یعین قاضیا إلا من کان حنفیا، فراج مذهبه وانتشر.

وفی العصر العباسی کتبت ودونت أغلب إن لم نقل جمیع المدونات الروائیة المشهورة فی عصرنا الحاضر، إبتداء من موطأ مالک بن أنس، ومرورا بکتب الشافعی ومسند أحمد بن حنبل، وانتهاء بالمسانید الأخری والصحاح المشهورة المعروفة حالیا.

وفی العصر العباسی أیضا خضعت هذه الصحاح والمسانید والسنن إلی تدخل السلطة التی کانت ترفع شعار العداء والنصب والحرب ضد أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وکذلک خضعت إلی عملیات واسعة من التحریف والتزویر والتلاعب من مؤلفیها أو جامعیها أو من أشخاص آخرین کالتلامیذ والوراقین وغیرهم.

ص: 114

کل هذه الأمور وغیرها استدعتنا لإفراد فصل خاص نتحدث فیه عن جمیع هذه المسائل المهمة وغیرها، نسأله تعالی التوفیق لکشف ما ستر وأبهم من الحقائق المغیبة عن أعین الناس إنه ولی کل خیر والهادی له.

ما هی السنة الرسمیة للدولة العباسیة؟

حینما سقطت الدولة الأمویة وقامت الدولة العباسیة، وجدت نفسها أمام مجموعة من السنن، فسنة عمر بن عبد العزیز التی أحیا بها سنة الشیخین مع بعض التدخلات والإضافات التی قام بها عمر بن عبد العزیز، وسنة الأمویین التی دونها الزهری لهم والتی أضافوا إلیها أشیاء کثیرة لم یقلها أو یدونها والتی تتناغم مع التوجهات والنزعات الأمویة، وسنة الإمامین الباقر والصادق صلوات الله وسلامه علیهما والتی کانت تمثل النسخة الأصل من بین تلک السنن المزورة والمحرفة، إضافة إلی سنة القیاس التی ابتدعها أبو حنیفة النعمان.

ولکن جمیع هذه السنن لم تکن لتلائم طموحات الدولة العباسیة الجدیدة، فلم یکن من المعقول أن یأخذ العباسیون بالسنة الأمویة التی کتبها ابن شهاب الزهری لهشام بن عبد الملک، لان هذه السنة فیها إعلاء لشأن الأمویین، وتسطیر لمفاخرهم، وطمس لکل ما من شأنه أن یعیبهم، وینتقص من شأنهم، وهذا ما لم یکن یرتضیه العباسیون، لان بنی العباس کانت واحدة من أهم أولویاتهم هی إماتة کل ما من شأنه أن یعلی ذکر الأمویین ویرفع شأنهم، فلهذا السبب وغیره لم یکن بإمکان الدولة العباسیة الأخذ بالسنة الأمویة.

وکذلک لم یکونوا یرغبون بالأخذ بسنة الإمامین الباقر والصادق صلوات الله وسلامه علیهما والتی هی السنة الحقیقیة للنبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، لعدم وجود

ص: 115

فضائل أو مواقف مهمة وکبیرة لهم فیها، ولان سنتهما صلوات الله وسلامه علیهما وسنة آبائهما صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین تقوم علی أساس أن الإمامة والخلافة وحق تولی أمور الرعیة وإدارة شؤون الدولة وغیر ذلک هو من حق الإمام المعصوم المنصوص به من النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، وعلیه فلو اخذ العباسیون بسنة الإمامین الصادق والباقر صلوات الله وسلامه علیهما لوجب علیهم تسلیم الخلافة إلی الإمامین الصادق والباقر ومن بعدهما إلی الإمام الذی یلیهما وهکذا، وهذا ما لم یکن العباسیون لیسمحوا به، ویضاف إلی ذلک کله ان العباسیین کانوا یعتقدون اعتقادا راسخا أن بنی فاطمة عموما وبنی الحسین علی وجه الخصوص لا یقلون خطرا علی دولتهم من الأمویین، بل هم اشد خطرا منهم، وذلک لان الأمویین قد فنی سلطانهم وهدمت أرکانهم واستؤصلت جذورهم، أما أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فعلی الرغم من کل حروب الإبادة لهم ولشیعتهم، وعلی رغم کل محاولات التعتیم والتضلیل والمحو لفضائلهم ومآثرهم فما زال حبهم فی قلوب الناس یکبر ویکبر، وما زالت قواعدهم الشعبیة تتوسع کل یوم، وعلیه فسیکون أی عمل بسنة الإمامین الصادق والباقر صلوات الله وسلامه علیهما من السلطة العباسیة هو بمنزلة الانتحار لهم، لأنه سیوسع من رقعة محبی أئمة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ویضمن حقوقهم ویقوی سلطانهم ویجر البساط من تحت أرجلهم شیئا فشیئا.

أما سنة القیاس والرأی التی ابتدعها أبو حنیفة النعمان، فلم یکن أیضا بإمکان الدولة العباسیة الأخذ بها کسنة رسمیة للدولة، لان أبا حنیفة کان عدوا لدودا للعباسیین، ومن المحرضین علی القیام والثورة ضدهم، حتی أفتی بصحة الخروج علی حکمهم، وقتل نتیجة هذه الفتوی، إضافة إلی ان مدرسة القیاس والرأی کانت فی ذلک الوقت قید الإنشاء والتکوین، وقد رفعت ضدها آلاف

ص: 116

الأصوات المعرضة لها والمنددة بأسلوبها ومنهجها بل والمکفرة لکل من یعتقد بها  او ینتمی إلیها، وعلیه فلم یکن من المناسب ان تتخذها الدولة العباسیة سنة رسمیة لها.

فلم یبقَ أمام العباسیین غیر الأخذ بسنة الشیخین، لأنها تمتلک ما لا تمتلکها سنة أخری، إضافة إلی أنها ستوفر لهم مزایا لا توفرها لهم أی سنة من السنن السابقة، فهی:

1: سترغم أنوف معارضیهم من الأمویین، وهی أیضا ضربة قویة لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وشیعتهم وأنصارهم، لان السیر علی منهج الشیخین وسنتهما یعنی استمرار معاناتهم ودوام تغییبهم وهضم حقوقهم وحقوق شیعتهم.

2: ان سنة الشیخین کما عرفنا سابقا فیها مطاطیة ومرونة فیما یتعلق بحقوق الحاکم وإمکانیة تغییره لبعض السنن وتشریع بعض الأحکام التی تحتاجها الدولة للتعامل مع المتغیرات التی یمر بها الحاکم وحکومته.

3: ان سنة الشیخین تعطی للحاکم مقام القیمومة علی مصادر الثروة فیعطی ویفضل فی العطاء من یشاء علی من یشاء، ویعطی ما یشاء لمن یشاء، وهو أمر یفرح به کل حاکم، وهو ما بدا واضحا فی إحدی خطب المنصور العباسی التی یقول فیها: (أیها الناس إنما أنا سلطان الله فی أرضه أسوسکم بتوفیقه ورشده وخازنه علی فیئه بمشیئته أقسمه بإرادته وأعطیه بإذنه وقد جعلنی الله تعالی علیه قفلا إذا شاء أن یفتحنی لإعطائکم وقسم أرزاقکم وإذا شاء أن یقفلنی علیه أقفلنی...)(1).

وکنتیجة لصیرورة سنة الشیخین السنة الرسمیة للدولة العباسیة فتح باب


1- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر: ج2، ص310 __ 311.

ص: 117

التدوین أمامها علی مصراعیه، وسمح للمحدثین تدوین الأحادیث لکن من وجهة نظر أنصار الشیخین وأشیاعهم، دون غیرهم من أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین أو الأمویین، وفیما لو اضطر أهل الحدیث لتدوین شیء عنهم أو لهم فیجب أن لا یکون فیه ذکر لما یؤهلهم لمنصب الخلافة ولا فیه تفضیل لمرتبتهم علی مرتبة الشیخین، ولا یکون فیه تقویة لأمرهم أو أمر شیعتهم، وبالجملة فقد أوجبت السلطة علی المدونین أن یلتزموا بمبدأ التکتم والإماتة لأمر أهل البیت وهو نفس النظام القدیم المعمول به منذ أن تولی الشیخان والی یوم الناس هذا.

استغلال المحدثین لوضع فضائل للدولة الجدیدة

لم یکن لبنی العباس فی زمن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم فضل کبیر، فالعباس ابن عم المطلب جد العباسیین وعم النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، أسلم قبل الفتح بقلیل، فلیس هو من أوائل المسلمین ولا من السابقین للهجرة ولا من أهل بدر وأحد ولا من أصحاب بیعة الشجرة والرضوان، وهو بعد الفتح کغیره من بقیة المسلمین من حیث العلم والفقه والإنفاق والجهاد فی سبیل الله سبحانه، نعم کان له موقف مشرف بعد استشهاد النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، فقد دعا الناس علانیة إلی مناصرة الإمام أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه ومبایعته والرجوع عن بیعة أبی بکر وترکها، ولکن هذا الموقف حجة علی بنی العباس لا لهم، لان هذا الموقف منه یثبت بما لا یقبل الشک أن العباس بن عبد المطلب کان یعتقد بإمامة علی بن أبی طالب وبنیه من بعده، وان بنی العباس حینما اخذوا الخلافة واستولوا علی الملک وأقصوا أهل البیت عنها فانهم بذلک خالفوا سنة جدهم العباس ومشوا علی غیر منهجه، فلیس لهم فضل فی ذلک ولا کرامة.

ص: 118

وأما عبد الله بن عباس وغیره من أولاد العباس بن عبد المطلب، فقد کانوا صغار السن فی عهد النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، فعبد الله بن عباس الذی هو عماد هذه الأسرة وأفضلها قد ولد قبل الهجرة النبویة بثلاث سنین، ولم یشترک فی بدر ولا احد ولا غیرهما من الحروب الأولی المهمة، نعم هو حبر الأمة وترجمان القرآن وله علم وافر لا ینکر حتی سمی بالبحر لسعة علمه، ولکن ابن عباس قد اعترف فی غیر مصدر من مصادر المسلمین وفی غیر حدیث ان علمه کله وحکمته ومعرفته کلها مستقاة ومأخوذة من علم أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلی الله علیه وآله وسلم ومعرفته وحکمته، وان نسبة علمه وعلم أصحاب النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم بالنسبة إلی علم الإمام أمیر المؤمنین کالقطرة إلی البحر، وعلیه فجمیع ما عند عبد الله بن عباس من الفضل فأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین أصله وسببه وأساسه.

فضلاً عن ان عبد الله بن عباس وإخوته کانوا معروفین بالولاء لأمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه وأولاده الإمامین الحسن والحسین صلوات الله وسلامه علیهما، ولابن عباس محاورات ومناقشات طویلة مع عمر بن الخطاب وغیره تدل دلالة لا تقبل الشک علی ان أبناء العباس الأوائل کانوا یرون أنفسهم أتباعا ومأمومین لأمیر المؤمنین علی بن أبی طالب وآل علی صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.

وهذا الولاء لم یقتصر علی عبد الله بن عباس وإخوته، فحتی الذین قاموا بالثورة علی الأمویین منهم لم یکونوا سوی جنودٍ من جنود محمد بن عبد الله ذی النفس الزکیة احد أبناء الإمام الحسن صلوات الله وسلامه علیه، ولم یستطیعوا أن یستقطبوا الجماهیر إلا بعد رفعهم لشعار الأخذ بثارات أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، ثم حصل خیانة وانقلاب داخلی معروف أمره ومشهور خبره لا حاجة لنا إلی سرده، غیر انا نذکر من باب الشاهد رسالة محمد بن عبد الله الملقب بذی النفس الزکیة إلی

ص: 119

المنصور وفیها یتضح جلیا تبعیة بنی العباس لبنی علی أبا عن جد، حیث جاء فیها: (...فإن الحق حقنا وإنما ادعیتم هذا الأمر بنا وخرجتم له بشیعتنا وحظیتم بفضلنا وإن أبانا علیا کان الوصی وکان الإمام فکیف ورثتم ولایته وولده أحیاء ثم قد علمت أنه لم یطلب هذا الأمر أحد له مثل نسبنا وشرفنا وحالنا وشرف آبائنا لسنا من أبناء اللعناء ولا الطرداء ولا الطلقاء ولیس یمت أحد من بنی هاشم بمثل الذی نمت به من القرابة والسابقة والفضل... وأنا أولی بالأمر منک وأوفی بالعهد)(1).

وبقیت هذه التبعیة تؤرق بنی العباس، وتقض مضاجعهم، وتنغص علیهم أیام ملکهم، لأنهم کانوا یعدّونها ورقة ضغط وإدانة یرفعها العلویون بوجوههم، کما قرأنا فی رسالة محمد ذی النفس الزکیة إلی المنصور، وعبد الله هذا اقل شأنا ومنزلة وعلما من الإمام جعفر بن محمد الصادق، فإذا کان هذا الأقل یری فی نفسه الکمال والرفعة والتعالی علی العباسیین فکیف سیکون مقام العباسیین فیما لو قسناه بمقام الإمام الصادق صلوات الله وسلامه علیه وغیره من الأئمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، فلذلک رأی بنو العباس انهم سوف لن یتخلصوا من عقدة التبعیة هذه ما لم یمولوا حملة جدیدة لوضع أحادیث تصیرهم سادة لا أتباعا، وتجعلهم مؤثرین لا متأثرین، وقد أفلحت جهود الدولة فی وضع مجموعة کبیرة من الروایات المکذوبة التی تحدثت عن مناقب وفضائل وهمیة للعباس بن عبد المطلب وبنیه، وفیما یلی جملة من تلک الفضائل المکذوبة نقدمها للقارئ کدلیل علی ما مر من کلام:

1: أخرج النسائی عن: (أحمد بن سلیمان قال أنبأنا عبید الله عن إسرائیل عن عبد الأعلی أنه سمع سعید بن جبیر یقول أخبرنی ابن عباس: أن رجلا وقع فی أب کان له فی الجاهلیة فلطمه العباس فجاء قومه فقالوا لیلطمنه کما لطمه فلبسوا


1- تاریخ الطبری ج 6 ص 196 __ 197.

ص: 120

السلاح فبلغ ذلک النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فصعد المنبر فقال أیها الناس أی أهل الأرض تعلمون أکرم علی الله عز وجل فقالوا أنت فقال إن العباس منی وأنا منه لا تسبوا موتانا فتؤذوا أحیاءنا فجاء القوم فقالوا یا رسول الله نعوذ بالله من غضبک استغفر لنا)(1) وهو حدیث حکم علیه بالضعف(2).

وهذا الحدیث کما لا یخفی قد وضع فی مقابل حدیث صحیح روته کتب الحدیث فی حق أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه، فعن الذهبی فی تاریخ الإسلام: (عن عمران بن حصین قال: بعث رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم سریة، واستعمل علیهم علیا، وکان المسلمون إذا قدموا من سفر أو غزوا، أتوا رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم قبل أن یأتوا رحالهم، فأخبروه بمسیرهم، فأصاب علی جاریة فتعاقد أربعة من أصحاب رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم لنخبرنه، قال: فقدمت السریة فأتوا رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فأخبروه بمسیرهم، فقام إلیه أحد الأربعة فقال: یا رسول الله قد أصاب علی جاریة، فأعرض عنه، ثم قام الثانی فقال: صنع کذا وکذا، فأعرض عنه، ثم الثالث کذلک، ثم الرابع، فأقبل رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم علیهم مغضبا فقال: ما تریدون من علی، علی منی وأنا منه، وهو ولی کل مؤمن بعدی)(3)، وقد علق الذهبی بعد إیراده لهذا الخبر بقوله: (أخرجه أحمد فی المسند والترمذی، وحسنه، والنسائی)(4).


1- سنن النسائی ج8 ص33 القود من اللطمة حدیث رقم 4775.
2- راجع علی سبیل المثال (ضعیف سنن النسائی تألیف محمد ناصر الدین الألبانی الناشر: المکتب الإسلامی بیروت الطبعة الأولی سنة الطبع 1411ه_).
3- تاریخ الإسلام للذهبی  ج 3 ص 630 __ 631.
4- المصدر نفسه ص631.

ص: 121

2: روی بطرق شتی عن النبی صلی الله علیه وآله وسلم انه قال: (هبط علی جبریل وعلیه قباء أسود، وعمامة سوداء، فقلت: ما هذه الصورة التی لم أرک هبطت علی فیها قط قال: هذه صورة الملوک من ولد العباس عمک، قلت وهم علی حق؟ قال جبریل نعم، قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم: اللهم اغفر للعباس ولولده حیث کانوا، وأین کانوا، قال جبریل لیأتین علی أمتک زمان یعز الله الإسلام بهذا السواد، قلت رئاستهم ممن؟ قال من ولد العباس، قال قلت وأتباعهم؟ قال من أهل خراسان، قلت وأی شیء یملک ولد العباس؟ قال یملکون الأصفر، والأخضر والحجر، والمدر، والسریر، والمنبر، والدنیا إلی المحشر، والملک إلی المنشر)(1).

وقد أورد ابن الجوزی فی الموضوعات جمیع طرق هذا الحدیث وعلق علیها قائلا: (هذا حدیث لا یصح من جمیع طرقه)(2).

3: وروی ابن عساکر عن أبی أسید الأنصاری الخزرجی البدری: (أن رسول الله «صلی الله علیه __ وآله __ وسلم» قال للعباس بن عبد المطلب یا أبا الفضل لا ترم منزلک غدا أنت وبنوک فإن لی فیکم حاجة فانتظروه فجاء فقال السلام علیکم قالوا وعلیک السلام ورحمة الله وبرکاته قال کیف أصبحتم قالوا بخیر نحمد الله کیف أصبحت أنت یا رسول الله قال بخیر أحمد الله فقال تقاربوا لیزحف بعضکم إلی بعض ثلاثا فلما أمکنوه اشتمل علیهم بملاءته وقال هذا العباس عمی وصنو أبی وهؤلاء أهل بیتی اللهم استرهم من النار کستری إیاهم بملاءتی هذه قال فأمنت أسکفة الباب وحوائط البیت آمین آمین ثلاثا)(3).


1- تاریخ بغداد للخطیب البغدادی ج 10 ص 28 __ 29.
2- الموضوعات لابن الجوزی  ج 2 ص 36.
3- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر  ج 26 ص 311.

ص: 122

وعن الخطیب البغدادی عن ثور بن یزید عن مکحول بن کریب مولی ابن عباس عن ابن عباس قال: (قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم: «لأبی» إذا کانت غداة الاثنین فائتنی أنت وولدک قال: فغدا وغدونا معه، فألبسنا کساء له ثم قال:اللهم اغفر للعباس وولده مغفرة ظاهرة باطنة لا تغادر ذنبا، اللهم أخلفه فی ولده)(1).

ثم ذکر الخطیب قائلا: (فکان یحیی بن معین یقول: هذا موضوع. وعبد الوهاب لم یقل فیه حدثنا ثور، ولعله دلس فیه)(2).

وهذه الأحادیث کما لا یخفی قد اختلقت فی مقابل حدیث الکساء المتواتر الذی روته صحاح أهل السنة وغیرها، منهم مسلم النیسابوری فی صحیحه قال: («حدثنا» أبو بکر بن أبی شیبة ومحمد بن عبد الله بن نمیر «واللفظ لأبی بکر» قالا حدثنا محمد بن بشر عن زکریاء عن مصعب بن شیبة عن صفیة بنت شبیة قالت: قالت عائشة خرج النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم غداة وعلیه مرط مرحل من شعر أسود فجاء الحسن بن علی فأدخله ثم جاء الحسین فدخل معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء علی فأدخله ثم قال: ((إِنَّمَا یُرِیدُ اللَّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیرًا))(3).

وغیر ذلک من النصوص التی یطول استقصاؤها بأجمعها.

4: وعن ابن عساکر: (عن محمد بن إبراهیم بن الحارث التیمی أن رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم قال اللهم إن عمی العباس حاطنی بمکة من أهل


1- تاریخ بغداد للخطیب البغدادی ج11 ص25.
2- تاریخ بغداد للخطیب البغدادی ج11 ص25.
3- صحیح مسلم ج 7 ص130.

ص: 123

الشرک وأخذنی علی الأنصار ونصرنی فی الإسلام مؤمنا بالله مصدقا بی اللهم فأحفظه وحطه وأحفظ له ذریته من کل مکروه)(1)، قال ابن عساکر بعد إیراده لهذا الخبر: (هذا منقطع)(2).

وهذا الحدیث المنقطع أرادوا به التمویه وسلب مقام شیخ البطحاء ومؤمنها أبی طالب رضوان الله تعالی علیه الذی منع النبی صلی الله علیه وآله وسلم من أن یصل إلیه الأذی أیام دعوته فی مکة، وهو أمر أشهر من أن یطال الکلام حوله(3)، ثم لماذا لم یحدثنا التاریخ عن تلکم المواقف المزعومة للعباس بن عبد المطلب، فأین مواقفه فی شعب أبی طالب وغیره من المواقف التی تتزلزل فیها قلوب الرجال؟.

فبهذه الأحادیث الموضوعة والمنکرة والمنقطعة حاول بنو العباس ان یخرجوا أنفسهم من صفة التبعیة والانقیاد لآل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ولکنهم لم یفلحوا، وبقیت خیانتهم وصعودهم إلی مراکز السلطة باسم المطالبة بمظالم أهل البیت وحقوقهم شاهد حق علی کونهم أناساً انتهازیین بلا أی مبدأ ولا ضمیر.


1- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج 26 ص 312.
2- المصدر نفسه.
3- أخرج الطبری فی (تاریخ الطبری ج 2 ص 67 __68) (ویکفی فیه ما رواه الطبری وغیره بقوله: (إن قریشا حین قالت لأبی طالب هذه المقالة بعث إلی رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فقال له یا ابن أخی إن قومک قد جاءونی فقالوا لی کذا وکذا فأبق علی وعلی نفسک ولا تحملنی من الأمر ما لا أطیق فظن رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم انه قد بدا لعمه فیه بداء وانه خاذله ومسلمه وانه قد ضعف عن نصرته والقیام معه فقال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم یا عماه لو وضعوا الشمس فی یمینی والقمر فی یساری علی أن أترک هذا الأمر حتی یظهره الله أو أهلک فیه ما ترکته ثم استعبر رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فبکی ثم قام فلما ولی ناداه أبو طالب فقال أقبل یا ابن أخی فأقبل علیه رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فقال اذهب یا ابن أخی فقل ما أحببت فوالله لا أسلمک لشیء أبدا... ومنع الله رسوله منهم بعمه أبی طالب).

ص: 124

فتحهم باب الروایة والتدوین وتقلیص فضائل أهل البیت علیهم السلام

فی بدایة العصر العباسی وبالتحدید فی سنة مائة وثلاث وأربعین للهجرة فتحت شهیة المدونین للتدوین وأعطت الدولة العباسیة الضوء الأخضر أمام کل من یرید أن یحدث أو یدون أو یروی أی شیء.

قال الذهبی: (أحداث سنة ثلاث وأربعین ومائة.... وفی هذا العصر شرع علماء الإسلام فی تدوین الحدیث والفقه والتفسیر، فصنف ابن جریج التصانیف بمکة، وصنف سعید بن أبی عروبة، وحماد بن سلمة وغیرهما بالبصرة، وصنف الأوزاعی بالشام، وصنف مالک الموطأ بالمدینة، وصنف ابن إسحاق المغازی، وصنف معمر بالیمن، وصنف أبو حنیفة وغیره الفقه والرأی بالکوفة، وصنف سفیان الثوری کتاب الجامع، ثم بعد یسیر صنف هشیم کتبه، وصنف اللیث بمصر وابن لهیعة ثم ابن المبارک وأبو یوسف وابن وهب. وکثر تدوین العلم وتبویبه، ودونت کتب العربیة واللغة والتاریخ وأیام الناس. وقبل هذا العصر کان سائر الأئمة یتکلمون عن حفظهم أو یروون العلم من صحف صحیحة غیر مرتبة. فسهل ولله الحمد تناول العلم، وأخذ الحفظ یتناقص، فلله الأمر کله)(1).

ولکن الحظر علی روایة فضائل الإمام أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب وبقیة أهل بیته وزوجته الصدیقة فاطمة بنت محمد صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، کان لا یزال ساری المفعول، وکانت الدولة العباسیة لا تسمح بل وتعاقب کل من یتجاهر


1- تاریخ الإسلام للذهبی ج 9 ص 12 __13.

ص: 125

ویعلن الروایة أو التدوین لفضائلهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وبالخصوص المحدثین والمدونین الشیعة، وقصة المتوکل مع أحد المحدثین السنة الذین روی منقبة لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین معروفة مشهورة حیث أمر به لیضرب ألف سوط وما نجا من العذاب حتی قیل للمتوکل انه من أهل السنة فعفا عنه لأجل ذلک، ولو کان یعلم بأنه من الشیعة لما ترکه حتی یموت تحت العذاب، قال الخطیب البغدادی: (...حدثنی نصر بن علی(1) قال: أخبرنی علی بن جعفر بن محمد بن علی بن حسین بن علی، حدثنی أخی موسی بن جعفر عن أبیه جعفر بن محمد عن أبیه عن علی بن الحسین عن أبیه عن جده أن رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم أخذ بید حسن وحسین فقال: «من أحبنی وأحب هذین وأباهما وأمهما کان معی فی درجتی یوم القیامة». قال أبو عبد الرحمن عبد الله: لما حدث بهذا الحدیث نصر بن علی أمر المتوکل بضربه ألف سوط، وکلمه جعفر بن عبد الواحد وجعل یقول له: هذا الرجل من أهل السنة، ولم یزل به حتی ترکه، وکان له أرزاق فوفرها علیه موسی. قلت: إنما أمر المتوکل بضربه لأنه ظنه رافضیا، فلما علم أنه من أهل السنة ترکه)(2).

وقصة ابن السکیت مع المتوکل مشهورة معلومة أیضا قد رواها ابن خلکان بقوله: (إن المتوکل کان کثیر التحامل علی علی بن أبی طالب وأبنیه الحسن والحسین رضی الله عنهم أجمعین وقد تقدم فی ترجمة أبی الحسن علی بن محمد المعروف بابن بسام أبیات تدل علی هذا أیضا وکان ابن السکیت من المغالین فی


1- قال الذهبی: (ونصر بن علی، فمن أئمة السنة الاثبات) راجع: (سیر أعلام النبلاء للذهبی  ج12 ص135).
2- تاریخ بغداد للخطیب البغدادی ج 13 ص 289.

ص: 126

محبتهم والتوالی لهم فلما قال له المتوکل تلک المقالة قال ابن السکیت والله إن قنبر خادم علی رضی الله عنه خیر منک ومن ابنیک فقال المتوکل سلوا لسانه من قفاه ففعلوا ذلک به فمات)(1).

فبعد هذا الإرهاب والإجرام والاضطهاد لفضائل العترة الطاهرة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین لا یعقل أن تنتشر فضائلهم وتدون ویتحدث بها مثلما یتحدث وتدون سائر فضائل بقیة الصحابة، نعم القوم قد دونوا بعض فضائل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وبالتحدید الخمسة أهل الکساء اضطرارا، لان المدونین للحدیث والاثر والسنة اهتموا اهتماما بالغا فی ذکر فضائل الشیخین وعثمان وعائشة فی کتبهم ومدوناتهم، فکان علیهم من باب الإکراه والإجبار ذکر بعض فضائل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، لأنهم لو لم یذکروها لافتضحوا وانکشف أمرهم وبان نصبهم علانیة، ولکنهم خرجوا من هذا المأزق بحیلة ماکرة، فقاموا بتثبیت الفضائل التی لا یشم منها رائحة التفضیل علی الشیخین وعثمان وعائشة، والتی لیس فیها ذکر ولا إشارة لمسألة الوصیة والتقدیم لأمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه وأهل بیته، کی لا تستغل هذه النصوص ورقة إدانة ودلیلاً علی أحقیة الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه بمنصب الخلافة والإمامة بعد النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، نعم قد شذ عن هذه القاعدة بعض الأحادیث کحدیث الغدیر وأمثاله والتی دونت لتواترها أو اشتهارها إلی الحد الذی لا قدرة لهم علی إنکارها، ولکنهم مع تدوینها فسروها بتفسیرات وأولوها بتأویلات أخرجتها عن حقیقتها وجوهرها.


1- وفیات الأعیان وأنباء أبناء الزمان لابن خلکان  ج6 ص 400 __ 401.

ص: 127

هل دونت السنة النبویة بشکل نزیه وبعید عن التحریف والتزویر؟

اشارة

کانت خطوة فتح باب التدوین للسنة النبویة المطهرة والتاریخ خطوة مهمة للغایة، فبالتدوین خرجت السنة النبویة المطهرة من تحت رحمة الحفاظ وما یقعون فیه من السهو والنسیان والغلط والتحریف المتعمد وغیر المتعمد، وبالتدوین صار بإمکان عامة الناس الوصول إلی السنة النبویة المطهرة، وبالتدوین أزیحت سلطة الحفاظ وانزلوا من عروشهم العاجیة وأزیح الاحتکار الذی کانوا یمارسونه، لان الأمة الإسلامیة بقیت ولمدّة قرن ونصف تقریبا تحت رحمة المحدثین الحفاظ یتعطفون علیها بإخراج بعض أحادیث رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وسننه ویخفون عنها أکثره، مع أن هذا القلیل الذی تم إخراجه للأمة مقسم ما بین الصحیح __ وهو النسبة القلیلة منه __ وما بین الضعیف __ الذی هو أکثره __ مع تعرضه للدس والکذب والتدلیس ومحاباة السلطة ومراعاة المصالح الشخصیة وغیر ذلک، وبالجملة فلم تعتق رقبة الأمة من حفاظ السوء والمتاجرین بالروایة إلا بنعمة التدوین، وهذه نعمة من نعم التدوین ومحاسنها ولو بقینا نعدد محاسن التدوین لما وقف بنا الحال عند حد معین.

ولکن هل استغلت الأمة الإسلامیة هذه الفسحة والانفراج لتدون السنة النبویة بما یرضی الله سبحانه وتعالی ونبیه الکریم صلی الله علیه وآله وسلم مستفیدین من التجارب السابقة التی وقع فیها حفاظ الحدیث، فینزهون السنة النبویة من کل زیف وتحریف ودس، لیقدموها إلی الأجیال القادمة نقیة صافیة؟.

 هذا هو ما کنا نتمناه، وهو الذی کان یفترض أن یکون، إلا أن الحقیقة کانت بعیدة کل البعد عن هذا الذی تمنیناه وتمناه المسلمون، وذلک لان التدوین

ص: 128

الذی کان من المفترض أن یکون رحمة للناس ومتنفسا للحقیقة، صار سببا لتثبیت الأکاذیب وتدوین الروایات المختلقة المتحیزة لوجهة نظر معینة، فتکرر الخطأ نفسه الذی وقع فیه المحدثون قبل التدوین، بل أصبح الخطر اکبر بعد التدوین، لان المحدث قبل ظهور التدوین کان یحدث ویدلس ویختلق لکنه فی اغلب الأحیان یموت کذبه واختلاقه مع موت راویه، أما فی التدوین فقد کان الأمر مختلفا، فبعد التدوین کان الحدیث المختلق یبقی بعد الراوی قروناً وقروناً، ویتناقل فی مصنفات أخری، فینتشر یوما بعد یوم، فیصبح مع مرور الوقت أمرا مفروغا من صحته، یعاب کل من یعارضه ویخالفه.

وقولنا بوقوع الدس والتزویر والتحریف والاختلاق فی عملیة تدوین السنة النبویة فی مرحلتها الأولی هو لیس تجنیا علی المدونین، أو قولاً بلا دلیل، لان من رجع إلی أخبار التدوین الأولی یصعق من کثرة الأخبار التی تحدثت عن عدم نزاهة ما تم تدوینه وعدم حیادیته، مما یوجب الشک والریبة فی صحة هذه المدونات حتی تلک التی سمیت فی عصرنا هذا بالصحاح والمسانید، وفیما یأتی جملة من تلک الشواهد علی هذه الحقیقة:

الشاهد الأول: سرقة الکتب وإدخال الزیادات فیها

 قال الرازی فی الجرح والتعدیل بسنده عن: (إسحاق بن الصیف قال سمعت أبا مسهر یقول سمعت سعیدا یعنی ابن عبد العزیز یقول: قدم علیهم ابن سمعان فاخرج إلیهم کتبه فزادوا فیها فلما حدثهم بها قالوا: کذاب)(1).

وعن الخطیب البغدادی وهو یتکلم عن عبد الله بن زیاد بن سمعان المذکور


1- الجرح والتعدیل للرازی ج 5  ص 61.

ص: 129

آنفا قال: (سمعت أبا مسهر یقول: سمعت سعید بن عبد العزیز یقول: أتی العراق فأمکنهم من کتبه، فزادوا فیها فقرأها علیهم فقالوا کذاب)(1).

وهذان النصّان یدلان علی أمرین مهمین الأول هو وجود فئة لا تتورع عن إدخال الأحادیث المکذوبة علی مدونات المدونین ودسّها، والثانی عدم انتباه المدونین وغفلتهم عن تلک الزیادات المدسوسة فی کتبهم فیرویها احدهم مثلما یروی سائر فقرات مدونته، فیأخذها التلامیذ ویدونونها ومن ثم یروونها لغیرهم فی الطبقة الثانیة وهکذا تنتقل من طبقة إلی أخری فتصبح مع مرور الوقت جزءاً من السنة النبویة.

الشاهد الثانی: دسهم لأحادیث مکذوبة فی کتاب عطاء بن عجلان

روی العقیلی فی کتابه الضعفاء قال: (حدثنا أحمد بن علی قال حدثنا یحیی ابن أیوب قال حدثنا أبو المنذر الکوفی قال کنا بمکة فقدم علینا عطاء بن عجلان من البصرة فأخذ فی الطواف فجاء غیاث بن إبراهیم وکدام بن مسعر وآخر قد سماه فجعلوا یکتبون حدیث عطاء فإذا مروا بعشرة أحادیث أدخلوا حدیثا من غیر حدیثه حتی کتبوا أحادیث وهو یطوف قال فقال لهم حفص بن غیاث ویلکم اتقوا الله فانتهروه وماجوا به قال فلما فرغ کلموه أن یحدثهم فأخذ الکتاب فجعل یقرأ حتی انتهی إلی حدیث فمر فیه فقرأه قال فنظر بعضهم إلی بعض ثم قرأ حتی انتهی إلی الثالث فانتبه الشیخ واستضحکوا قال فقال لهم إن کنتم أردتم شینی فعل الله بکم وفعل)(2).


1- تاریخ بغداد للخطیب البغدادی ج 9 ص 465.
2- ضعفاء العقیلی ج 3 ص 402.

ص: 130

فوا حسرتاه إذ صارت أحادیث النبی صلی الله علیه وآله وسلم ألعوبة بید هؤلاء یتلاعبون بها لیتضاحکوا فلم یمنعهم من جریمتهم هذه قداسة النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم وخوف النار التی أوعد الله بها کل من یتعمد الکذب علی رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، ولا قداسة المکان وحرمة بیت الله الحرام، ثم ومن هوان الدهر أن یصبح مثل هذا الشیخ المغفل أمینا للسنة النبویة ویترک الإمام الصادق صلوات الله وسلامه علیه وجمیع ما ورثه عن آبائه عن النبی صلی الله علیه وآله وسلم.

الشاهد الثالث: دس حبیب بن أبی حبیب کاتب مالک بن انس فی کتبه وکتب غیره

وما روی فی حق حبیب بن أبی حبیب أعجب وأعجب، فقد کان حبیب هذا کاتبا لمالک بن انس محدث المذهب المالکی، إضافة إلی انه کان وراقا بالمدینة عند شیوخ الحدیث آنذاک، فکان یدخل فی کتبهم ما لیس من أحادیثهم، وکان یقرأ الکتاب علی المدونین فیقرأ بعضه ویترک بعضه، ثم یعطیه إیاهم فیدونونه کله ما قرأه علیهم وما لم یقرأه، والعجیب أکثر من ذلک ان حبیباً هذا کان یستعمل هذا الأسلوب نفسه فی التدلیس والدس مع مالک بن انس حیث کان یقرأ علیه ثم یتصفح ورقتین أو ثلاثة ثم یقرأ علیه فینسخ مالک کتابه ما قرئ علیه وما لم یقرأ، ثم یعطیه مالک إلی الآخرین لیرووه عنه بوصفها من أحادیثه.

قال ابن حبان:

(حبیب بن أبی حبیب کاتب مالک بن أنس...یروی عن مالک وربیعة، کان یورق بالمدینة علی الشیوخ، ویروی عن الثقات الموضوعات کان یدخل علیهم ما لیس من أحادیثهم...فإنه کان إذا قرأ أخذ الجزء بیده ولم یعطهم النسخ ثم یقرأ

ص: 131

البعض ویترک البعض ویقول: قد قرأت کله ثم یعطیهم فینسخونها...سمعت محمد ابن عبد الله الجنید یقول: سمعت قتیبة بن سعید یقول سمعت هذه الأحادیث من مالک وحبیب یقرأ فلما فرغ قلت: یا أبا عبد الله هذه أحادیثک تعرفها أرویها عنک فقال نعم، وربما قال له غیری)(1).

وعن الذهبی فی میزان الاعتدال عند ذکره لحبیب بن أبی حبیب قال: (وقال ابن معین: کان یقرأ علی مالک ویتصفح ورقتین ثلاثة فسألونی عنه بمصر، فقلت: لیس بشیء)(2).

أقول: کیف یبقی وثوق بکتب الثقات والشیوخ ومدوناتهم بعد تعرضها لمثل هذا التلاعب من حبیب بن أبی حبیب وغیره، لان حبیب بن أبی حبیب هو واحد من مئات أولئک المتلاعبین، ثم إنی لا أری فائدة من تضعیف الذهبی وبقیة علماء أهل السنة لحبیب بن أبی حبیب، لان روایاته قد دست فی کتب الشیوخ علی أنها من کتبهم ولیست من أحادیث حبیب بن أبی حبیب لیتم تمییزها والتوقی منها، فلما صارت فی کتب الشیوخ والثقات تلاقفها الناس علی أنها من حدیث أولئک الشیوخ فکتبت باسمهم ووصلت إلینا علی أنها منهم.

وقد تم تداولها بالفعل ونشرها علی أنها من أحادیث الشیوخ، ففی الروایة الأولی نری ان حبیب بن أبی حبیب یقرأ لمالک ثم یسأله قتیبة بن سعید فیقول له: (یا أبا عبد الله هذه أحادیثک تعرفها أرویها عنک) فیقول له نعم، بمعنی ان الدس قد خفی حتی علی مالک بن انس وانها قد أخذت منه وتم نشرها علی أنها أحادیثه ولیست أحادیث حبیب بن أبی حبیب.


1- کتاب المجروحین لابن حبان ج 1 ص 265.
2- میزان الاعتدال للذهبی  ج 1 ص 452.

ص: 132

الشاهد الرابع: غالب بن عبید الله یملی بخلاف ما هو مکتوب عنده

وأخرج مسلم فی صحیحه عن: (الفضل بن سهل قال حدثنا یزید بن هارون قال أخبرنی خلیفة بن موسی قال دخلت علی غالب بن عبید الله فجعل یملی علی حدثنی مکحول حدثنی مکحول فأخذه البول فقام فنظرت فی الکراسة فإذا فیها حدثنی أبان عن انس وأبان عن فلان فترکته وقمت)(1).

أقول: وفیه دلیل قاطع علی ان الشیوخ کانوا یکذبون فی حدیثهم فیغیرون فی الأسانید المرسلة أو المقطوعة ویبدلون فی الرواة عامدین بلا خوف من الله سبحانه وتعالی، فالحدیث المدون فی کتاب غالب بن عبید الله هو حدثنی أبان عن أنس، وأبان هو (أبان بن أبی عیاش) وهو ضعیف متروک، فیقلب إسناده ویصیره عن مکحول، وهو (مکحول الشامی) وهو عندهم أحسن حالا ووثاقة من أبان السابق، ثم یلقیه إلی المدونین وکتاب الحدیث فیصبح حسنا بعد أن کان ضعیفا، ومسندا بعد أن کان مرسلا، وموصولا بعد أن کان مقطوعا، وخلیفة بن موسی وان اکتشف هذه اللعبة إلا أننا نسأل کم واحداً غیره کتب هذه الأحادیث عن غالب ابن عبید الله ودونها ولم یکتشفها ثم نقلت من واحد إلی آخر وانتشرت ودونت فی کتب أخری بعنوانها الجدید (مکحول عن انس).

الشاهد الخامس: یحیی یحدث بخلاف ما هو مدون عنده ثم یکتشف خطأه بعد ست عشرة سنة

 قال القاضی الحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزی: (عن نافع، عن ابن عمر أنه کان یجمع بین المغرب والعشاء إذا جد به السیر بعد ما یغیب الشفق، ویزعم أن


1- صحیح مسلم ج 1 ص14.

ص: 133

النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم یجمع بینهما، قال یحیی: حدثت بهذا الحدیث ست عشرة سنة بمکة، فکنت أقول: قبل أن یغیب الشفق. ثم نظرت فی کتابی فإذا هو بعد ما یغیب الشفق)(1).

أقول: أین یذهب یحیی من الله فی تحدیثه بحدیث خطأ لمدة ست عشرة سنة، وکان یکفیه ان ینظر ولو لمرة واحدة فی کتابه لیعرف حقیقة الأمر، فکم من الناس قد عملوا بحدیثه قبل ان یکتشف خطأه، وکم من الرواة رووه عنه خلال هذه الست عشرة سنة، وکم من الأحادیث التی کان حالها مثل هذا الحدیث غایة ما فی الأمر أنها غطیت وسکت عنها ودونت وعمل بها بینما کشف النقاب عن هذا الحدیث لعلة لا نعلم عنها شیئا.

الشاهد السادس: ابن لهیعة یحذ الوسائط ویأتونه بکتاب مجهول المصدر فیرویه

 وابن لهیعة هو الذی یصفه الذهبی بقوله: (لا ریب أن ابن لهیعة کان عالم الدیار المصریة، هو واللیث معا، کما کان الإمام مالک فی ذلک العصر عالم المدینة، والأوزاعی عالم الشام، ومعمر عالم الیمن، وشعبة والثوری عالما العراق، وإبراهیم بن طهمان عالم خراسان)(2).

وعن الذهبی أیضا قال:

(أبو داود سمعت أحمد بن حنبل یقول: ما کان محدث مصر إلا ابن لهیعة. وقال أحمد بن صالح: کان ابن لهیعة صحیح الکتاب طلابا للعلم وقال زید بن


1- المحدث الفاصل بین الراوی والواعی للقاضی الحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزی  تحقیق الدکتور محمد عجاج الخطیب ص 388.
2- سیر أعلام النبلاء للذهبی  ج 8  ص 14.

ص: 134

الحباب قال سفیان الثوری: عند ابن لهیعة الأصول وعندنا الفروع)(1).

ولکن عالم الدیار المصریة هذا ومن عنده الأصول وعند الآخرین الفروع ومن وصفه احمد بن صالح بأنه صحیح الکتاب، کان یکذب فی حدیثه ویلقی علی طلابه خلاف ما هو موجود فی کتبه، وکان یجیئون له بکتب فیقولون له هذا من حدیثک __ وهی لیست کذلک __ فیرویها.

قال أحمد بن حنبل: (کان ابن لهیعة کتب عن المثنی بن الصباح، عن عمرو ابن شعیب، وکان بعد یحدث بها عن عمرو نفسه)(2)، وهذا یعنی ان ابن لهیعة قد تلاعب بالسند فحذف منه المثنی بن الصباح، وهو غیر مقبول ألبتة، وهو یدل علی عدم وثاقته بل ووضعه وکذبه.

وعن ابن حجر فی تهذیب التهذیب: (قال یحیی بن حسان رأیت مع قوم جزءا سمعوه من ابن لهیعة فنظرت فإذا لیس هو من حدیثه فجئت إلیه فقال ما أصنع یجیئونی بکتاب فیقولون هذا من حدیثک فأحدثهم)(3).

أقول: هل یصح أن یقال عن مثل هذا الشخص بأنه إمام أهل مصر فی الحدیث فإذا کان الإمام بهذه المنزلة من الغباء فما حال من هو أدنی منه مرتبة، والأعجب من ذلک ان المنصور اتخذه قاضیا علی مصر کما نقل الذهبی ذلک بقوله: (ونقلوا أن عبد الله بن لهیعة ولاه أبو جعفر القضاء بمصر، فی سنة خمس وخمسین ومائة، تسعة أشهر، وأجری علیه فی کل شهر ثلاثین دینارا)(4).


1- تذکرة الحفاظ للذهبی  ج 1 ص 238 __ 239.
2- سیر أعلام النبلاء للذهبی  ج 8 ص 15.
3- تهذیب التهذیب لابن حجر  ج 5  ص 330.
4- سیر أعلام النبلاء للذهبی ج 8 ص 26.

ص: 135

الشاهد السابع: عبد الله بن سلمة یحدث بما لا یسمع ویروی غیر ما دون

 قال الرازی: (عمرو بن علی انه سمع عبد الله بن سلمة الأفطس یقول حدثنی موسی بن عقبة، فذکرته لیحیی بن سعید فقال: قدمنا المدینة وقد مات موسی بن عقبة قبل ذلک عاما لم نسمع منه. وسمعته یقول حدثنی عثمان بن حکیم، فذکرته لیحیی بن سعید فقال: قدمنا الکوفة وقد مات. وسمعته یحدث عن جعفر بن محمد أحادیث فذکرته لیحیی فقال: أنا کتبت بیدی ما سمعنا من جعفر له وبعثت بها إلیه ولم تکن هذه الأحادیث فیها)(1).

أقول: فعبد الله بن سلمة الأفطس کذب فی ادعائه بان موسی بن عقبة حدثه بحدیث لان موسی بن عقبة مات قبل أن یأتی عبد الله بن سلمة الأفطس بعام کما قال یحیی بن سعید، وکذلک کذب فی زعمه ان عثمان بن حکیم حدثه، وکذب أیضا فی تحدیث الناس أن جعفر بن محمد حدثه بأحادیث بینما لم یسمع من جعفر أی شیء، وکذلک لم تکن من ضمن الأحادیث التی حدث بها جعفر بن محمد.

الشاهد الثامن: احدهم یشتری کتب غیره ثم یرویها علی أنها کتبه وانطلاء أمره علی أئمتهم

 وقد بلغت الحال بإبراهیم بن أبی اللیث انه اشتری کتبا للأشجعی بعد موته وجلس یحدث بها، من دون ان یذکر انه اشتراها، قال الخطیب البغدادی: (إن إبراهیم ابن أبی اللیث خرج إلی مکة مع ولد أحمد بن نصر فمر بالکوفة، ومضی إلی عیال أبی عبیدة بن الأشجعی بعد موته، فاشتری کتب الأشجعی وقعد یحدث بها)(2).


1- الجرح والتعدیل للرازی  ج 5 ص 69 __ 70.
2- تاریخ بغداد للخطیب البغدادی  ج 6 ص 191.

ص: 136

وعن الخطیب البغدادی أیضا قال: (أخبرنا أبو علی صالح بن محمد الأسدی قال: إبراهیم بن أبی اللیث کان یکذب عشرین سنة، وقد أشکل أمره علی یحیی وأحمد وعلی بن المدینی حتی ظهر بعد بالکذب فترکوا حدیثه)(1).

وعن الخطیب البغدادی: (حدثنا أحمد بن محمد بن القاسم بن محرز قال: سمعت یحیی بن معین وذکر إبراهیم بن أبی اللیث، فذکر عنه شیئا لم أحفظه. فقیل له: یا أبا زکریا إن أحمد بن حنبل یختلف إلیه ویکتب عنه! فقال: لو اختلف إلیه ثمانون کلهم مثل منصور بن المعتمر ما کان إلا کذابا)(2).

أقول: لیس العجیب أن یشتری هذا الکذاب کتب غیره ویحدث بها فقد وقع مثل هذا الأمر کثیرا، ولکن العجیب أن ینخدع به یحیی بن معین وأحمد بن حنبل وعلی بن المدینی، وابن معین کما یدعی أهل السنة صار فی زمانه علما یقتدی به فی الأخبار وإماما یرجع إلیه فی الآثار، وهو من لم تطلع الشمس علی أکبر منه، وهو الذی کان یؤتی بالأحادیث قد خلطت وتلبست فیقول هذا الحدیث کذا وهذا کذا فیکون کما قال، وهو الذی کان الناس عیالا علیه.

قال ابن حجر: (وقال محمد بن رافع سمعت أحمد بن حنبل یقول کل حدیث لا یعرفه ابن معین فلیس هو بحدیث... وکثرت عنایته بها وجمعه وحفظه إیاها حتی صار علما یقتدی به فی الأخبار وإماما یرجع إلیه فی الآثار وقال العجلی ما خلق الله تعالی أحدا کان اعرف بالحدیث من یحیی بن معین ولقد کان یجتمع مع أحمد وابن المدینی ونظرائهم فکان هو الذی ینتخب لهم الأحادیث لا یتقدمه منهم أحد ولقد کان یؤتی بالأحادیث قد خلطت وتلبست فیقول هذا الحدیث کذا وهذا


1- المصدر السابق ص 193.
2- المصدر السابق ص192.

ص: 137

کذا فیکون کما قال)(1).

ولو رجعنا إلی تراجم کل من أحمد بن حنبل وعلی بن المدینی لوجدت توثیقهما ومدحهما قریباً مما ورد فی یحیی بن معین، والسؤال المهم هو إذا کان القوم بهذه المنزلة الرفیعة فکیف استمرت غفلتهم وانخداعهم بأحادیث إبراهیم بن أبی اللیث مدة عشرین سنة، ولنفرض ان القوم فعلا قد اکتشفوا أمره بعد عشرین سنة، لکن ما مصیر الذین رووا عنه فی هذه العشرین سنة، وماتوا أو انتقلوا من ذلک البلد، ألیست قد دونت أقواله فی کتبهم، ألیسوا قد رووها لأناس آخرین.

ثم کیف لم ینته أحمد بن حنبل عن الکتابة عنه حتی بعد انکشاف أمره له، لان کلام ابن معین حسب الظاهر کان بعد العشرین سنة وبعد انکشاف أمر إبراهیم ابن اللیث له ولغیره، ولکن مع ذلک بقی أحمد بن حنبل یتردد علیه ویکتب عنه.

وکدلیل آخر علی کتابة أحمد بن حنبل عنه حتی بعد معرفته بأنه یکذب ویسرق الأحادیث، هو ان عبد الله بن أحمد بن حنبل قد اخرج له حدیثا فی مسند ابیه قائلا: (حدثنی أبی ثنا إبراهیم بن أبی اللیث ثنا الأشجعی عن سفیان عن عمرو بن یعلی بن مرة الثقفی عن أبیه عن جده قال أتی النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم رجل علیه خاتم من الذهب عظیم فقال له النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم أتزکی هذا فقال یا رسول الله فما زکاة هذا فلما أدبر الرجل قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم جمرة عظیمة علیه)(2) وأخرج له حدیثا آخر فی فضائل عثمان بن عفان تحت اسم (إبراهیم بن نصر الترمذی)(3).


1- تهذیب التهذیب لابن حجر  ج 11  ص 250 __ 252.
2- مسند أحمد ج 4 ص 171.
3- المصدر السابق ج1 ص59.

ص: 138

الشاهد التاسع: حقائق مهمة یذکرها ابن حبان

قال ابن حبان فی کتاب المجروحین فی معرض حدیثه عن الأجناس التی لا تؤخذ عن الثقات مع کونهم ثقات فذکر ستة أجناس نذکر منها ما یتوافق وموضوع بحثنا.

قال ابن حبان: (الجنس الأول وهو الذی کثر فی المحدثین، فمنهم من کان یخطئ الخطأ الیسیر، إما فی الکتابة حیث کتب، ولم یعلم به حتی بقی الخطأ فی کتابه إلی أن کبر، واحتیج إلیه، مثل تصحیف اسم یشبه اسم، ومثل رفع مرسل أو إیقاف مسند، أو إدخال حدیث فی حدیث أو ما یشبه هذا)(1).

وقال ابن حبان أیضا: (والجنس الثانی: أقوام ثقات کانوا یروون عن أقوام ضعفاء کذابین، ویکنونهم حتی لا یعرفوا، فربما أشبه کنیة کذاب کنیة ثقة، فیتوهم المتوهم أن راوی هذا الخبر ثقة فیحملون علیه، ولیس ذلک الحدیث من حدیثه، ومن أعملهم بمثل هذا من هذه الأمة الثوری، کان یحدث عن الکلبی، ویقول: حدثنا أبو النضر فیتوهم المستمع أنه أراد به سعید بن أبی عروبة. أو جریر بن حازم. ومثل الولید بن مسلم إذا قال: حدثنا أبو عمر، فیتوهم أنه أراد؟ الأوزاعی، وإنما أراد به عبد الرحمن بن یزید بن تمیم، وقد سمعنا جمیعا عن الزهری، ومثل بقیة إذا قال: حدثنا الزبیری عن نافع فیتوهم أنه أراد به محمد بن الولید الزبیری وإنما أراد زرعة بن عمرو الزبیری، وما یشبه هذا)(2).

وقال ابن حبان أیضا: (الجنس الثالث: الثقات المدلسون الذین کانوا یدلسون فی الأخبار مثل قتادة، ویحیی بن أبی کثیر، والأعمش وأبو إسحاق، وابن جریج، وابن إسحاق، والثوری، وهشیم، ومن أشبههم ممن یکثر عددهم من


1- المصدر نفسه ص90.
2- کتاب المجروحین لابن حبان ج 1 ص 91.

ص: 139

الأئمة المرضیین وأهل الورع فی الدین. کانوا یکتبون عن الکل، ویروون عمن سمعوا منه، فربما دلسوا عن الشیخ بعد سماعهم عنه عن أقوام ضعفاء لا یجوز الاحتجاج بأخبارهم، فما لم یقل المدلس، وإن کان ثقة: حدثنی أو سمعت)(1).

وقال أیضا: (الجنس السادس. أقوام من المتأخرین قد ظهروا یسوقون الأخبار، فإذا کان بین الثقتین ضعیف واحتمل أن یکون الثقتان رأی أحدهما الآخر أسقطوا الضعیف من بینهما حتی یتصل الخبر، فإذا سمع المستمع خبر أسام رواته ثقات اعتمد علیه، وتوهم أنه صحیح، کبقیة بن الولید قد رأی عبید الله بن عمر، ومالک بن أنس، وشعبة بن الحجاج، وسمع منهم، ثم سمع عنهم أقوام ضعفاء عنهم فیروی الرواة عنه أخباره، ویسقطون الضعفاء من بینهم، حتی یتصل الخبر فی جماعة: مثل هؤلاء یکثر عددهم. سمعت ابن جوصاء یقول: سمعت أبا زرعة الدمشقی یقول: کان صفوان بن صالح، ومحمد بن المصفی یسویان الحدیث)(2).

وقال أیضا فی موضوع آخر: (ومنهم من امتحن بابن سوء أو وراق سوء کانوا یضعون له لحدیث، وقد أمن الشیخ ناصیتهم، فکانوا یقرأون علیه ویقولون له: هذا من حدیثک فیحدث به...وجماعة من أهل المدینة امتحنوا: حبیب بن أبی حبیب الوراق، کان یدخل علیهم الحدیث...وکذلک کان عبد الله بن ربیعة القدامی بالمصیصة کان له ابن سوء یدخل علیه الحدیث عن مالک وإبراهیم بن سعد وذویهم، وکان منهم سفیان بن وکیع بن الجراح وکان له وراق یقال له قرطمة یدخل علیه الحدیث فی جماعة مثل هؤلاء یکثر عددهم...)(3).


1- المصدر السابق: ج1، ص92.
2- المصدر السابق ص94.
3- المصدر السابق ص77 __78.

ص: 140

الشاهد العاشر: محمد بن عبد الرحیم الذی کتبت عنه آلاف الأحادیث المکذوبة

قال الخطیب البغدادی: (...محمد بن إسحاق السراج قال سمعت أبا یحیی __ وهو محمد بن عبد الرحیم __ یقول: کان خالد بن القاسم المدائنی کذابا، کان یدعی ما لم یسمع، وکتبت عنه ألوفا، وروی أحادیث لم تکن بمصر، ولم تحدث عن اللیث، کان یضع أحادیث من ذات نفسه... کان یعمد إلی الحدیث المنقطع فیسنده)(1).

خلاصة هذه الشواهد ودلالاتها

ولکی لا یتشتت الموضوع بکثرة الشواهد لابد من تلخیص النتائج التی یمکن استخراجها من تلک الشواهد المتقدمة:

1: دلت جمیع الشواهد المتقدمة علی وقوع التزویر والتحریف والدس والتلاعب فی تدوین نصوص السنة النبویة أو أسانیدها، وهذا التزویر والدس والتلاعب قد حصل إما بفعل نفس المدونین أو بفعل غیرهم من الوراق والتلامیذ والأبناء وغیرهم.

2: غفلة المدونین للسنة النبویة فی کثیر من الأحیان عن تلک الإضافات والتحریفات والدس الذی کان یقوم به الوراق أو التلامیذ، فیأخذها الشیوخ المدونون علی أن تلک المدسوسات جزء من أحادیثهم وجزء من مدوناتهم، فیلقونها علی طلابهم ویدونونها فی کتبهم ثم یکبر هؤلاء الطلاب ویلقونها إلی طلابهم علی أنها من مدونات أستاذهم وأحادیثه فتنتشر مع مرور الوقت وتصبح واقعا لا شک فیه مع ان أصلها مدسوس ومزور.


1- تاریخ بغداد للخطیب البغدادی  ج 8 ص 300.

ص: 141

3: کان للوراقین والکتاب الذین کانوا یعملون عند شیوخ الحدیث أثر مهمٌّ فی تزویر الکثیر من الأحادیث فی کتب شیوخ الحدیث، کما عرفنا من حال حبیب بن أبی حبیب الذی کان کاتبا عند مالک بن انس رئیس المذهب المالکی ومحدثه، والذی استطاع ان یدخل فی أحادیث مالک بن انس الکثیر من المدسوسات الروائیة، وکذلک استطاع ان یدخل الکثیر من تلک المدسوسات الروائیة علی غیر مالک بن انس من بقیة التلامیذ والشیوخ الذین کانوا یکتبون عنه.

4: ان التحریف والدس والتزویر لم یقتصر علی صغار المحدثین ومن لا یعتد بمنزلتهم، فقد ابتلی بهذا الفعل أئمة الحدیث وشیوخ الروایة مثل ابن لهیعة الذی کان عالم الدیار المصریة، والذی کان یسرق الأحادیث ویرویها فیکتب عنه التلامیذ هذه الأحادیث المسروقة ویدونون وتنتقل إلی من یلیهم من التلامیذ جیلا بعد جیل.

وابن لهیعة مع انه اشتهر عند الخاص والعام بسرقة الأحادیث إلا ان أحمد ابن حنبل کان یمتدحه ویکتب عنه، وکان أبو داود یقول: (وسمعت أحمد بن حنبل یقول: من کان مثل ابن لهیعة بمصر فی کثرة حدیثه وضبطه وإتقانه؟ وحدث عنه أحمد بحدیث کثیر)(1)وهذا یعنی ان أکاذیب ابن لهیعة وسرقاته قد انتقلت إلی أحادیث أحمد بن حنبل ومدوناته.

5: ان الرواة الثقات والشیوخ الأثبات قد تورطوا أیضا فی قلب الأسانید وتصحیف الألفاظ والخطأ فی التدوین ورفع المراسیل، ولکن أهل السنة ولأنهم احتاجوا إلی کتبهم بعد حین أخذوها علی علاتها وانتشرت بین العامة علی رغم معائبها ونقائصها.


1- سؤالات الآجری لأبی داود لسلیمان بن الأشعث ج2 ص176.

ص: 142

6: کان هنالک معامل ومصانع خاصة لتصنیع الأحادیث والسنن المکذوبة وتسویقها وروایتها وتدوینها، کتلک البیوت التی عرفت بان عامة أهلها کانوا یضعون الحدیث عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم حتی انه ربما کان بعضهم یسهر عامة لیله یضع الحدیث، فالله سبحانه وحده العالم کم من هذه الأحادیث قد دونت وأدخلت فی کتب السنن ووصلتنا علی أنها أحادیث رواها فلان فی سننه أو فلان فی صحیحه أو فلان فی مستدرکه.

هل الصحاح والمسانید الموجودة فی عصرنا مصانة عن التحریف؟

اشارة

ان البحث عن مدی ثبوت کتب الحدیث والروایة الموجودة فی عصرنا الحاضر ومصداقیتها أمر ضروری للغایة، لان باب التدوین والروایة والنقل قد سد بعد صدور هذه المدونات الروائیة، ووجب علی الأمة أن تقنع بما ورد فی هذه الکتب شاءت أم أبت، وتأخذ منها أحکامها وتشریعاتها، وتتعرف من خلالها علی کتاب الله وغوامضه، وتصل من خلالها إلی معرفة الأحداث والشخصیات التی عاصرت النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم أو تلته، وبالجملة فهذه المصادر هی نافذتنا الوحیدة التی تطل بنا علی الماضی بجمیع جزئیاته التاریخیة والشرعیة وغیرها.

لذا کان لزاما علینا أن نبحث فی مدی وثاقتها وسلامتها بشکل کلی، بغض النظر عما احتوته من مسائل جزئیة، لنری أیمکن لنا الوثوق بصحة صدورها عن مؤلفیها ومدونیها، أم ان تسمیتها باسم الصحاح تارة والمسانید ثانیة والسنن ثالثة، ونسبتها إلی أشخاص محددین __ کنسبة صحیح البخاری إلی البخاری ونسبة الموطأ إلی مالک بن انس __ هی مجرد کذبة کبیرة مورست ضد الجهال، وأخذت صفة الحقیقة والواقعیة حینما احتاج الناس إلیها ولم یبق بأیدی الناس غیرها.

ص: 143

ولنری أیضا مدی سلامة هذه الصحاح والسنن والمسانید من التلاعب والتزویر والتدخل من قبل النساخ أو التلامیذ أو غیرهم، وهل هی عین التی کتبها أصحابها أو تم إضافة أشیاء فیها لم تکن موجودة کما حذفت منها أشیاء کانت موجودة فعلا، کل هذا وغیره سیتم معرفته وإثباته فی الصفحات القادمة إن شاء الله تعالی.

وهذا الموضوع وان کان یحتاج إلی أن یتم تناوله فی کتاب مستقل لکثرة متعلقاته وشواهده وتفریعاته، إلا أننا سنتناوله بشکل مختصر وسنأتی بشواهد تتناسب من حیث العدد مع حجم هذا الکتاب ونترک التفاصیل إلی أبحاث أخری مستقلة، کما وسنقتصر فی کلامنا علی أربعة نماذج لتلک الصحاح والمسانید والسنن ونترک الخوض فی جمیعها مراعاة للاختصار، لکن هذا لا یعنی أن باقی کتب أهل السنة وصحاحهم وأسانیدهم خالیة عن الاعتراض وسلیمة من هذه الانتقادات التی سترد علی هذه النماذج الأربعة.

الأنموذج الأول: موطأ مالک بن انس إمام المذهب المالکی

ألف: مالک بن انس بین المدح والذم

اختلفت آراء معاصری مالک بن انس وتقییماتهم والذین جاؤوا من بعده فی شخصیة مالک ومنزلته العلمیة فی الفقه والحدیث والضبط ما بین مادح وقادح، وان کانت کلمات المادحین دون القادحین هی الموجود والمشهور فی المصنفات الحدیثة ، لان القدح فی مالک معناه القدح فی کتابه الموطأ، والقدح فی الموطأ معناه القدح فی باقی الصحاح والمسانید کمسند أحمد وصحیح البخاری ومسلم وغیرها، لان أساس اعتماد هذه المسانید وتلک الصحاح علی الموطأ وعلی رجال الموطأ

ص: 144

وأسانیده، فإذا سقط الموطأ سقط ما فی أیدیهم من مسانید وصحاح، لذلک تذکر کلمات المدح والتبجیل وتخفی کلمات القدح والتجریح.

فمن المادحین سفیان بن عیینة حیث کان یقول: (ما کان أشد انتقاد مالک للرجال وأعلمه بهم)(1).

وقال یحیی بن معین عن سفیان بن عیینة: (من نحن عند مالک إنما کنا نتبع آثار مالک وننظر إلی الشیخ ان کان مالک کتب عنه وإلا ترکناه)(2).

وقال یحیی بن معین: (کل من روی عنه مالک بن انس فهو ثقة)(3).

وعن ابن عیینة قال: (کان مالک لا یبلغ من الحدیث إلا صحیحا، ولا یحدث إلا عن ثقة، ما أری المدینة إلا ستخرب بعد موته یعنی من العلم)(4).

أقول:

وسیأتی فی محله __ إن شاء الله __ أنّ مالک بن انس قد روی فی کتابه الموطأ عن عدة من المقدوح فی عدالتهم والضعفاء فی الحدیث والمدلسین والکذابین، ومنه یعلم ان القوم یغالون فی تضخیم شأن مالک وکتابه، وان العلة فی هذا التضخیم هی التی أوضحها سفیان بن عیینة بقوله: (من نحن عند مالک إنما کنا نتبع آثار مالک...) فالقوم قد أدرکوا وتیقنوا بان القدح فی مالک هو قدح بمن یأتی بعده لان الجمیع قد مشی علی خطاه واقتدی بمنهجه.

أما القادحون بمالک ومنزلته العلمیة، فمثل یحیی بن عبد الله بن بکیر الذی


1- التمهید لابن عبد البر ج1 ص65.
2- إسعاف المبطأ برجال الموطأ لجلال الدین السیوطی ص 10.
3- المصدر السابق ص9.
4- سیر أعلام النبلاء للذهبی  ج 8 ص 73.

ص: 145

کان یقول: (اللیث أفقه من مالک ولکن کانت الحظوة لمالک)(1).

وعن ابن عساکر عن ابن بکیر أیضا انه کان یقول: (یقول أخبرت عن سعید ابن أبی أیوب قال لو أن مالکا واللیث اجتمعا لکان مالک عند اللیث أبکم ولباع اللیث مالکا فیمن یرید)(2).

وعن یحیی بن معین:

(سمعت یحیی بن سعید القطان یقول: سفیان الثوری أحب إلی من مالک فی کل شیء یعنی فی الحدیث، وفی الفقه، وفی الزهد)(3).

وعن ابن عبد البر قال: (وقد تکلم ابن أبی ذؤیب فی مالک بن أنس بکلام فیه جفاء وخشونة کرهت ذکره وهو مشهور عنه قاله إنکارا منه لقول مالک فی حدیث البیعین بالخیار، وکان إبراهیم بن سعد یتکلم فیه ویدعو علیه وتکلم فی مالک أیضا فیما ذکره الساجی فی کتاب العلل عبد العزیز بن أبی سلمة وعبد الرحمن بن زید بن أسلم وابن إسحاق وابن أبی یحیی وابن أبی الزناد وعابوا أشیاء من مذهبه وتکلم فیه غیرهم...)(4).

قال الهیثم بن جمیل: سمعت مالکا سئل عن ثمان وأربعین مسألة، فأجاب فی اثنتین وثلاثین منها ب «لا أدری»)(5)، وعن خالد بن خداش قال: (قدمت علی مالک بأربعین مسألة، فما أجابنی منها إلا فی خمس مسائل)(6).


1- الجرح والتعدیل للرازی  ج 7 ص 180.
2- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر  ج 50 ص 359.
3- تاریخ بغداد للخطیب البغدادی  ج 9 ص 164.
4- جامع بیان العلم وفضله لابن عبد البر: ج 2 ص 160 __ 161.
5- سیر أعلام النبلاء للذهبی  ج 8 ص 77.
6- المصدر نفسه.

ص: 146

باء: منزلة مالک عند السلطة، وعلاقة المنصور العباسی بانتشار کتاب الموطأ

نقل الذهبی عن ابن سعد قال: (حدثنا محمد بن عمر، سمعت مالکا یقول: لما حج المنصور، دعانی فدخلت علیه، فحادثته، وسألنی فأجبته، فقال: عزمت أن آمر بکتبک هذه یعنی الموطأ فتنسخ نسخا، ثم أبعث إلی کل مصر من أمصار المسلمین بنسخة، وآمرهم أن یعملوا بما فیها، ویدعوا ما سوی ذلک من العلم المحدث، فإنی رأیت أصل العلم روایة أهل المدینة وعلمهم. قلت: یا أمیر المؤمنین، لا تفعل، فإن الناس قد سیقت إلیهم أقاویل، وسمعوا أحادیث، ورووا روایات، وأخذ کل قوم بما سیق إلیهم، وعملوا به، ودانوا به، من اختلاف أصحاب رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم وغیرهم، وإن ردهم عما اعتقدوه شدید، فدع الناس وما هم علیه، وما اختار أهل کل بلد لأنفسهم. فقال: لعمری، لو طاوعتنی لأمرت بذلک)(1).

وقال له فی مجلس آخر: (والله لئن بقیت لأکتبن قولک کما تکتب المصاحف، ولأبعثن به إلی الآفاق، فلأحملنهم علیه)(2).

وعن حاجی خلیفة قال: (روی أبو نعیم فی الحلیة عن مالک بن انس أنه قال شاورنی هارون الرشید فی أن یعلق الموطأ فی الکعبة ویحمل الناس علی ما فیه فقلت لا تفعل فان أصحاب رسول الله صلی الله تعالی علیه وسلم اختلفوا فی الفروع وتفرقوا فی البلدان وکل مصیب فقال وفقک الله تعالی یا أبا عبد الله)(3).

أقول: والمنصور وان لم یوزع موطأ مالک ویلزم الناس باتباعه حصرا


1- سیر أعلام النبلاء للذهبی  ج 8  ص 78 __ 79.
2- المصدر السابق ص 61 __ 62.
3- کشف الظنون لحاجی خلیفة  ج 2 ص 1908.

ص: 147

دون بقیة الکتب بحسب الظاهر من هذه النصوص، إلا انه أعطی مالک بن انس کامل الصلاحیات حتی نودی فی المدینة ان لیس لأحد حق الإفتاء سوی مالک ابن انس، فعن الخطیب البغدادی عن ابن وهب قال: (حججت سنة ثمان وأربعین ومائة. وصائح یصیح: لا یفتی الناس إلا مالک بن أنس وعبد العزیز ابن أبی سلمة)(1).

وأصبحت له بفضل السلطان مهابة وسطوة، حتی ان الشافعی حینما أراد أن یتوسط له والی المدینة عند مالک بن انس قال له الوالی: (والله یا فتی إن مشیی من جوف المدینة إلی جوف مکة حافیا راجلا أهون علی من المشی إلی باب مالک بن أنس فإنی لست أری الذل حتی أقف علی بابه)(2).

وصار مجلسه یشبه مجالس الملوک ودواوینهم، یضرب من یشاء ویخرج من یشاء وفی اغلب الأحیان تکون الأسباب شخصیة أو تافهة، فعن محمد بن الفیض الغسانی قال: (سمعت هشام بن عمار بن نصیر یقول: باع أبی بیتا له بعشرین دینارا، وجهزنی للحج، فلما صرت إلی المدینة، أتیت مجلس مالک بن أنس، ومعی مسائل أرید أن أسأله عنها، فأتیته وهو جالس فی هیئة الملوک وغلمان قیام والناس یسألونه وهو یجیبهم، فلما انقضی المجلس، قال لی بعض أصحاب الحدیث:سل عن ما معک، فقلت له: یا أبا عبد الله ما تقول فی کذا وکذا؟ فقال: حصلنا علی الصبیان، یا غلام احمله فحملنی کما یحمل الصبی وأنا یومئذ غلام مدرک فضربنی بدرة مثل درة المعلمین سبع عشرة درة، فوقفت أبکی...)(3).


1- تاریخ بغداد للخطیب البغدادی ج 10  ص 436.
2- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر  ج 51 ص 285 __ 286.
3- تهذیب الکمال للمزی  ج30 ص251 __ 252.

ص: 148

وعن صالح بن محمد الحافظ قال: (سمعت هشام بن عمار یقول: دخلت علی مالک بن أنس، فقلت له: حدثنی. فقال: اقرأ. فقلت: لا بل حدثنی. فقال: اقرأ، فلما أکثرت علیه. قال: یا غلام تعال اذهب بهذا فاضربه خمسة عشر. قال: فذهب بی فضربنی خمس عشرة درة. ثم جاء بی إلیه، فقال: قد ضربته. فقلت له: لقد ظلمتنی، ضربتنی خمس عشرة درة بغیر جرم، لا أجعلک فی حل...)(1).

وموقفه من ابن إسحاق معروف، فابن إسحاق کان کثیر الانتقاد لمالک بن انس وکتبه، وکان یقول: (هاتوا اعرضوا علی علوم مالک، فإنی أنا بیطارها)(2)،فما کان من مالک إلا أن یتهمه بالدجل، وصرح لبعض الحاضرین بقوله: (نحن نفیناه من المدینة)(3).

وهذا القرب لمالک من السلطة هو الذی أسهم إسهاماً فاعلاً فی نشر کتابه الموطأ ونشر مذهبه، علی الرغم من وجود من هو اعلم منه فقها وفتوی، وقد اعترف ابن حزم بان کلاً من المذهب الحنفی والمذهب المالکی قد انتشر بفعل الریاسة والسلطان، وقد نقل ابن خلکان هذه المقولة فی کتابه (وفیات الأعیان وأنباء أبناء الزمان) بقوله: (قال أبو محمد علی بن أحمد المعروف بابن حزم الأندلسی المقدم ذکره مذهبان انتشرا فی مبدأ أمرهما بالریاسة والسلطان مذهب أبی حنیفة... ومذهب مالک بن انس)(4).


1- تهذیب الکمال للمزی  ج30 ص252.
2- سیر أعلام النبلاء للذهبی ج 7 ص 50
3- المصدر نفسه ص51.
4- وفیات الأعیان وأنباء أبناء الزمان لابن خلکان ج 6 ص 144.

ص: 149

جیم: هل کل رواة الموطأ ثقات ولیس فیهم ضعیف؟

ذکرنا من قبل محاولة الترویج والترسیخ لفکرة ان جمیع من روی لهم مالک بن انس فی الموطأ هم ثقات لیس فیهم ضعیف ولا کذاب، لکن حین الرجوع إلی الموطأ نجد أنّ مالک بن انس قد روی لیس عن الضعفاء حسب بل وعن المشهورین بالوضع والدس والکذب، وفیما یأتی إنموذجان ممن روی عنهم مالک بن انس مع شهرتهما بالضعف والتدلیس.

1: عبد الکریم بن أبی المخارق البصری: عن عبد الله بن أحمد بن حنبل وقد سأل أباه أحمد عنه فقال: (سألته عن عبد الکریم أبی أمیة بصری نزل مکة وکان معلما وهو بن أبی المخارق وکان بن عیینة یستضعفه قلت له قال ضعیف قال نعم)(1).

وعن المزی قال: (عن یحیی بن معین: قد روی مالک عن عبد الکریم أبی أمیة وهو بصری ضعیف)(2).

وقال الذهبی: (فأما عبد الکریم بن أبی المخارق أبو أمیة فشیخ بصری مؤدب لیس بقوی الحدیث روی عن انس بن مالک ومجاهد وسعید بن جبیر حدث عنه السفیانان وحماد بن سلمة ومالک وغیرهم وکان فقیها مرجئا)(3).

وقال الذهبی فی سیر أعلام النبلاء: (أبو أمیة عبد الکریم بن أبی المخارق...فضعیف الحدیث، مؤدب یروی عن أنس، وعن مجاهد، وسعید بن جبیر. وعنه أیضا: مالک، والسفیانان، وحماد بن سلمة. وکان یری الإرجاء مع تعبد وخشوع، یقال: اسم أبیه قیس. قال النسائی والدارقطنی: متروک. وقال


1- العلل لأحمد بن حنبل  ج 1 ص 401.
2- تهذیب الکمال للمزی  ج 27 ص 112.
3- تذکرة الحفاظ للذهبی ج 1 ص 140.

ص: 150

أحمد: ضربت علی حدیثه. وقال ابن عبد البر: اغتر مالک ببکائه فی المسجد، وروی عنه فی الفضائل)(1)، روی له مسلم والبخاری وجماعة آخرون.

2: محمد بن مسلم بن تدرس القرشی الأسدی، أبو الزبیر المکی، مولی حکیم بن حزام: قال المزی: (وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قال أبی: کان أیوب السختیانی یقول: حدثنا أبو الزبیر، وأبو الزبیر أبو الزبیر ! قلت لأبی: کأنه یضعفه؟ قال: نعم)(2).

وعن المزی أیضا قال: (وقال هشام بن عمار عن سوید بن عبد العزیز: قال: لی شعبة: تأخذ عن أبی الزبیر وهو لا یحسن أن یصلی... وقال نعیم بن حماد: سمعت هشیما یقول: سمعت من أبی الزبیر، فأخذ شعبة کتابی فمزقه... وقال محمد بن جعفر المدائنی عن ورقاء: قلت لشعبة: مالک ترکت حدیث أبی الزبیر؟ قال: رأیته یزن ویسترجح فی المیزان... روی له الجماعة إلا أن البخاری روی له مقرونا بغیره)(3).

دال: وقوع التزویر والدس فی کتاب الموطأ لمالک بن أنس

کتاب الموطأ من أعجب الکتب الروائیة وأکثرها غرابة، وفیما یأتی جملة من غرائبه وعجائبه مرتبة علی شکل نقاط لیسهل من خلالها استنتاج ما کررناه مرارا من وقوع التلاعب والدس فی هذه المدونة التی بنیت علیها بعد ذلک جمیع المدونات المسماة بالصحاح والمسانید.


1- سیر أعلام النبلاء للذهبی  ج 6 ص 83.
2- تهذیب الکمال للمزی ج 26 ص 407.
3- المصدر نفسه ص407 __ 411.

ص: 151

1: أودع مالک بن انس فی کتابه الموطأ فی بدایة الأمر أربعة آلاف حدیث، وقیل عشرة آلاف حدیث، لکنه وبعد مدّة جعل یسقط منه الأحادیث شیئا فشیئا، فکلما شک فی حدیث أسقطه، حتی بقی منه ألف حدیث علی بعض الأقاویل وسبعمائة أو قریب منه علی قول آخر، ولو بقی قلیلا لأسقطه کله، قال الباجی: (ألفه من أربعة آلاف علی قول سلیمان بن بلال، وعشرة آلاف علی قول عتیق الزبیری. « فلم یزل ینظر فیه سنة ویسقط منه حتی بقی هذا، ولو بقی قلیلا لأسقطه کله. قال القطان: کان علم الناس فی زیادة وعلم مالک فی نقصان، ولو عاش مالک لأسقط علمه کله)(1).

2: بلغ رواة الموطأ لمالک بن انس من أهل المدینة سبعة عشر راویا، ومن أهل مکة اثنین، ومن مصر عشرة، ومن أهل العراق وغیرهم سبعة وعشرین شخصا، ومن المغرب والأندلس ثلاثة عشر راویا، ومن القیروان اثنین، ومن الشام سبعة، وستة من أمراء بنی العباس، عدا الذین اختلف فیهم(2).

3: ان أحادیث الموطأ وان کانت قلیلة بالنسبة إلی غیره من کتب المسانید والصحاح، إلا ان النسخ التی نقلت لنا هذا الکتاب قد بلغت عشرین نسخة علی قول وثلاثین نسخة علی قول آخر، وقد وقع الاختلاف فیما بین هذه النسخ فی عدد الأحادیث التی یضمها کتاب الموطأ فبعضها یذکر سبعمائة حدیث فقط وبعضها الآخر یذکر ما یقارب الألف وخمسمائة حدیث، وکذلک وقع الاختلاف بین هذه النسخ العشرین أو الثلاثین فی نفس الأحادیث فبعضهم یثبت فی نسخته حدیثا لا نراه فی النسخ الأخری وبعضهم ینفی حدیثا نراه متوفرا فی


1- التعدیل والتجریح لسلیمان بن خلف الباجی  ج 1 ص 125.
2- انظر مقدمة کتاب الموطأ لمالک بن انس ج1 ص6 __ 7 للأستاذ محمد فؤاد عبد الباقی.

ص: 152

باقی النسخ الأخری وهکذا، قال جلال الدین السیوطی نقلا عن القاضی عیاض: (والذی اشتهر من نسخ الموطأ مما رویته أو وقف علیه أو کان من روایات شیوخنا، أو نقل منه أصحاب اختلاف الموطآت نحو عشرین نسخة وذکر بعضهم أنها ثلاثون نسخة)(1).

وقال السیوطی أیضا فی موضع آخر من کتابه: (وقال الحافظ صلاح الدین العلائی: روی الموطأ عن مالک جماعات کثیرة وبین روایاتهم اختلاف من تقدیم وتأخیر وزیادة ونقص وأکبرها القعنبی ومن أکبرها وأکثرها زیادات روایة أبی مصعب. فقد قال ابن حزم فی موطأ أبی مصعب زیادة علی سائر الموطآت نحو مائة حدیث وقال الغافقی فی مسند الموطأ، اشتمل کتابنا هذا علی ستمائة حدیث وستة وستین حدیثا، وهو الذی انتهی إلینا من مسند موطأ مالک)((2).

وقد ألف بعض علماء أهل السنة کتابا اسماه اختلاف الموطآت، قال الذهبی متحدثا عن الباجی: (وقد صنف کتابا کبیرا جامعا، بلغ فیه الغایة، سماه «الاستیفاء»، وله کتاب «الإیماء فی الفقه» خمس مجلدات، وکتاب «السراج فی الخلاف» لم یتم، و«مختصر المختصر فی مسائل المدونة»، وله کتاب فی اختلاف الموطآت)(3)، وکذلک فعل أبو الحسن الدارقطنی حیث أصنف کتابا اسماه (اختلاف الموطآت).

4: عمدة النسخ الموجودة حالیا للموطأ أربع عشرة نسخة، أشهرها نسخة یحیی بن یحیی المصمودی وهی المعروفة والمتوفرة فی المکتبات العامة والأسواق


1- تنویر الحوالک لجلال الدین السیوطی ص 10.
2- (): تنویر الحوالک لجلال الدین السیوطی ص8 __ 9.
3- سیر أعلام النبلاء للذهبی  ج 18 ص 538.

ص: 153

الیوم، أما باقی النسخ فهی متضاربة مع بعضها ومع نسخة المصمودی أیضاً.

وفیما یأتی جملة من تلک الأحادیث التی انفردت بها بعض النسخ عن بعضها الآخر:

أ: انفردت نسخة ابن وهب، وهو أبو محمد عبد الله بن سلمة الفهری المصری بأحادیث منها حدیث: (عن أبی هریرة، أن رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم قال " أمرت أن أقاتل الناس حتی یقولوا لا إله إلا الله) ولا یوجد هذا الحدیث فی الموطآت الأُخر، إلا موطأ ابن القاسم(1).

ب: وانفردت نسخة أبی عبید الله عبد الرحمن بن القاسم بن خالد المصری بأحادیث منها حدیث عن أبی هریرة أن رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم قال: (من عمل عملا أشرک فیه معی غیری، فهو له کله أنا أغنی الشرکاء) قال أبو عمر، ابن عبد البر: هذا الحدیث لا یوجد إلا فی موطأ ابن القاسم، وابن عفیر، من الموطآت(2).

ج: وانفردت نسخة أبی عبد الرحمن عبد الله بن مسلمة بن قعنب الحارثی بأحادیث منها حدیث عن ابن عباس أن رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم قال: (لا تطرونی کما أطرت النصاری عیسی ابن مریم. إنما أنا عبد. فقولوا: عبده ورسوله)(3).

د: وانفردت نسخة عبد الله بن یوسف الدمشقی عن غیرها. إلا نسخة ابن وهب بحدیث عن عروة: (أن رجلا سأل رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم:


1- انظر مقدمة کتاب الموطأ لمالک بن انس ج1 ص10 __ 11، للأستاذ محمد فؤاد عبد الباقی.
2- انظر المصدر السابق ص11.
3- انظر المصدر السابق ص12.

ص: 154

أی الأعمال أفضل؟ قال إیمان بالله)(1).

ه_: وانفردت نسخة معن القزاز بأحادیث منها حدیث عن عائشة، قالت: (کان رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم یصلی فی اللیل، فإن فرغ من صلاته، فإن کنت یقظانة تحدث معی، وإلا اضطجع حتی یأتیه المؤذن)(2).

و: وانفردت نسخة سعید بن عفیر عن غیرها من الموطآت، إلا موطأ محمد ابن الحسن بحدیث عن إسماعیل بن محمد بن ثابت بن قیس بن شهاب عن جده أنه قال:

(یا رسول الله. لقد خشیت أن أکون قد هلکت. قال لم؟ قال: نهانا الله أن نحمد بما لم نفعل، وأجدنی أحب أن أحمد. الحدیث)(3).

ز: وانفردت نسخة ابن بکیر إلا نسخة محمد بن الحسن بأحادیث منها حدیث عن عائشة: (أن رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم قال ما زال جبریل یوصینی بالجار، حتی ظننت أنه لیورثنه). فمتن هذا الحدیث، فی روایة محمد، بروایة مالک عن یحیی بن سعید، عن أبی بکر، عن عمرة، عن عائشة(4).

ح: وانفردت نسخة أبی مصعب الزهری بنحو مائة حدیث علی سائر الموطآت الأخری، وقال ابن حزم: (آخر ما روی عن مالک موطأ أبی مصعب وموطأ أبی حذافة وفیهما زیادة علی الموطآت نحو من مائة حدیث)(5).


1- انظر مقدمة کتاب الموطأ لمالک بن انس ج1 ص12، للأستاذ محمد فؤاد عبد الباقی.
2- انظر المصدر السابق ص12 __ 13.
3- انظر المصدر السابق ص13.
4- انظر المصدر السابق.
5- تذکرة الحفاظ للذهبی  ج 2 ص 483.

ص: 155

هذه بعض الاختلافات التی تفردت بها بعض الموطآت عن بعضها الآخر، واستقصاء الجمیع لیس من شأن هذا الکتاب ویخرج البحث عن حالة الاختصار والإیجاز.

أقول: ان وجود بعض الأحادیث فی بعض النسخ واختفاءها من بعضها الآخر، حتی یصل الاختلاف فی بعض الأحیان إلی مستوی ان یزاد علی الموطأ مائة حدیث کما فی نسخة أبی مصعب الزهری، إنّ هذا الاختلاف لمن أعظم الأدلة علی وجود حالة التلاعب والدس والحذف فی کتاب الموطأ، لان هذه الأحادیث لو کانت مدونة عن مالک فعلا، فلماذا تحذف من بعض النسخ وتضاف إلی أخری، وإذا لم تکن موجودة فکیف تضاف إلیها.

وأوضح مثال یثبت لنا أن هذه الزیادات والحذوفات هی من فعل النساخ والمدونین لموطأ مالک بن أنس، هو ما وقع فی نسخة محمد بن الحسن الشیبانی، حیث ذکر فیها أحادیث تتوافق ووجهة نظر المذهب الحنفی مع خلط نسخته لکتاب الموطا بأحادیث لشیوخ آخرین غیر مالک بن أنس، قال محمد فؤاد عبد الباقی: (ونسخته تزید کثیرا علی موطأ یحیی اللیثی. لکنه شحنها بآثار ضعیفة من غیر طریق مالک. یحتج بها لفقه الحنفیة، کما ذکر فیها ما وافق فقه الحنفیة ظاهر أحادیث الموطأ. وکما زادت نسخته بأحادیث، فهی خالیة من عدة أحادیث ثابتة فی سائر الروایات، کما قاله الزرقانی فی أول شرح الموطأ)(1).

5: ویضاف إلی هذه الأدلة ما قد ذکرناه سابقا من أن مالک بن أنس شأنه شأن الکثیرین من المحدثین قد وقع ضحیة لدس الوراقین والکتاب الذین کانوا ینسخون لهم الکتب ویقرؤون علیهم الأحادیث، کحبیب بن أبی حبیب الذی قال


1- مقدمة کتاب الموطأ لمالک بن انس ج1 ص15، للأستاذ محمد فؤاد عبد الباقی.

ص: 156

فیه ابن حبان: (حبیب بن أبی حبیب کاتب مالک بن أنس...یروی عن مالک وربیعة، کان یورق بالمدینة علی الشیوخ، ویروی عن الثقات الموضوعات کان یدخل علیهم ما لیس من أحادیثهم...فإنه کان إذا قرأ أخذ الجزء بیده ولم یعطهم النسخ ثم یقرأ البعض ویترک البعض ویقول: قد قرأت کله ثم یعطیهم فینسخونها...سمعت محمد بن عبد الله الجنید یقول: سمعت قتیبة بن سعید یقول سمعت هذه الأحادیث من مالک وحبیب یقرأ فلما فرغ قلت: یا أبا عبد الله هذه أحادیثک تعرفها أرویها عنک فقال نعم، وربما قال له غیری)(1).

وعن الذهبی فی میزان الاعتدال عند ذکره لحبیب بن أبی حبیب قال: (وقال ابن معین: کان یقرأ علی مالک ویتصفح ورقتین ثلاثة فسألونی عنه بمصر، فقلت: لیس بشیء)(2).

الأنموذج الثانی: کتاب العلل وکتاب الفضائل وکتاب المسند لأحمد بن حنبل إمام المذهب الحنبلی

ما هی کتب علل الحدیث، وأین یندرج کتاب العلل لأحمد بن حنبل؟

کان طلبة الحدیث فی بدایة حرکة التدوین یجلسون تحت ید الشیخ الذی یلقی علیهم من حافظته، ویبین لهم إضافة إلی السند والروایة بعض الاستدراکات والملاحظات والتصویبات مثل تبیان سنة موت فلان من الرواة، أو إدراک فلان الراوی لفلان وعدم إدراکه لفلان، أو روایته عن فلان مسندا وعن فلان منقطعا، إلی غیر ذلک من الملاحظات والاستدراکات، مع سرد بعض القصص والتواریخ


1- کتاب المجروحین لابن حبان ج 1 ص 265.
2- میزان الاعتدال للذهبی  ج 1 ص 452.

ص: 157

والأحداث، فیستفیدها طالب الحدیث ویدونها فی حاشیة کتابه، أو تحت الحدیث الذی یتم المناقشة فیه، فکانت هذه الملاحظات والاستدراکات والتصویبات بذرة لنشوء ما سمی بعد ذلک بالمسانید المعللة.

ثم تطورت تلک البذرة لتصبح مشروعا أکثر استقلالیة عن کتب المتون والروایة، فجمع البعض تلک الملاحظات والاستدراکات والتصویبات فی کتاب أو کتب منفصلة عن متون الروایة وأسانیدها، فجمعت هذه الکتب کل ما یمکن جمعه عن الرواة من أخبار وقصص وأقوال، ابتداء من اسمه وکنیته وتعدد الأقوال فیهما وفی سنة ولادته ووفاته وموطن سکناه ومحل إقامته وعمن روی ومن روی عنه وأخباره وقصصه مع حکام عصره وأقوال أقرانه فیه وتوثیق اللاحقین له، وانتهاء بذکر بعض روایاته وأخباره، وغیر ذلک من المعلومات، ولعل أوضح مثال علی هذا التطور هو کتاب طبقات ابن سعد وأشباهه من الکتب.

ثم تطور هذا النوع من المؤلفات لتظهر مؤلفات أخری تقوم بحذف کثیر من الأمور التی لا ربط لها بعملیة تقییم الراوی ومرویاته، ویقتصر فیها عرض الأحادیث التی تطرقت إلیها العلل، ثم یتبع ذلک بیان حال الرواة، وجرحهم وتعدیلهم، وقد کانت أغلب هذه الکتب عبارة عن سؤالات کان یوجهها احد تلامیذ الشیخ ویدونها الطالب ومن ثم تجمع فی کتاب محدد، ککتاب سؤالات أبی داود وغیره من الکتب.

وکتاب العلل المنسوب إلی أحمد بن حنبل من هذا القبیل، فهو عبارة عن سؤالات وجهها إلیه ابنه عبد الله بن أحمد بن حنبل فأجاب علیها أحمد.

ص: 158

ملامح عامة لکتاب العلل المنسوب إلی أحمد بن حنبل

1: لا یمکن نسبة هذا الکتاب لأحمد بن حنبل نفسه لأنه لیس من تألیفه بل هو کما عرفنا سابقا عبارة عن أسئلة وجهها ابنه عبد الله إلیه وأجابه علیها، أو هو إخبارات اخبر بها أحمد ولده عبد الله، ومتن الکتاب یدل دلالة واضحة علی هذه الحقیقة فکثیر من فقراته تبتدئ بالقول (حدثنی أبی) أو (أخبرنی أبی) أو وجدت بخط أبی، والقائل حتما هو عبد الله بن أحمد بن حنبل، ولو کان الکتاب لأحمد ابن حنبل لقبح أن یقول حدثنی عبد الله ابنی عنی أنی قلت کذا وکذا.

2: ولو أردنا مزیدا من الدقة لوجب علینا الحکم بان کتاب العلل هو لیس من کتب أحمد بن حنبل ولا من کتب ابنه عبد الله بن أحمد بن حنبل، بل هو من کتب أبی علی محمد بن أحمد بن الحسن الصواف، لان الصواف هذا هو الذی روی ودون أقوال عبد الله بن أحمد بن حنبل، لان الموجود علی ظهر النسخة المخطوطة لکتاب العلل المنسوب إلی أحمد بن حنبل هو: (کتاب العلل ومعرفة الرجال عن أبی عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل. روایة أبی علی محمد بن أحمد ابن الحسن الصواف. عن أبی عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل. عن أبیه. سماع عبید الله بن أحمد)(1).

وکدلیل آخر علی کون کتاب العلل من تدوین محمد بن أحمد بن الحسن الصواف نری أحادیث الکتاب تبدأ بقول الصواف: (حدثنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد قال حدثنی أبی __ أحمد بن حنبل __ رحمه الله...)(2) فلو کان الکتاب لعبد الله بن أحمد لقال حدثنی أبی مباشرة.


1- راجع مقدمة التحقیق لکتاب العلل لأحمد بن حنبل ج1 ص85 تحقیق وتخریج الدکتور وصی الله ابن محمد عباس.
2- العلل لأحمد بن حنبل ج 1 ص 129.

ص: 159

نعم توجد أحادیث أخری کثیرة تبدأ بعبارة (حدثنی أبی) أو (أخبرنی أبی) أو (سمعت أبی) وهی غلط وتدلیس من محمد بن أحمد الصواف حیث حذف ما یشیر إلی انه هو المحدث عن عبد الله بن أحمد عن أبیه أحمد، ولیس عبد الله عن أبیه مباشرة.

3: إن محمد بن أحمد بن الحسن الصواف لا یروی العلل التی ذکرها أحمد ابن حنبل لابنه عبد الله فقط، بل یذکر معها عللا أخری رواها عبد الله بن أحمد عن شیوخ آخرین غیر أبیه، مثل قول الصواف:

(حدثنا عبد الله __ یعنی ابن أحمد بن حنبل __ قال حدثنا هارون بن معروف...)(1).

وقوله: (حدثنا عبد الله قال __ یعنی ابن أحمد بن حنبل __ حدثنی محمد بن سلام الجمحی...)(2).

وقوله: (حدثنا عبد الله __ یعنی ابن أحمد بن حنبل __ قال حدثنا عمرو بن محمد الناقد...)(3).

وقوله: (حدثنا عبد الله قال حدثنی أحمد بن إبراهیم الدورقی...)(4).

إلی غیر ذلک من الأمثلة الکثیرة، مما یعنی ان هذه العلل وان کانت أکثرها لأحمد بن حنبل إلا ان الآخرین یشارکونه فیها أیضا، فلا یمکن والحال هذه نسبة الکتاب إلیه وتخصیصه به.


1- المصدر السابق ص140.
2- المصدر السابق ص 251.
3- العلل لأحمد بن حنبل ج1 ص270.
4- المصدر السابق ص272.

ص: 160

کتاب فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل والدس فیه

قال ابن تیمیة: (أحمد له المسند المشهور وله کتاب مشهور فی فضائل الصحابة روی فیه أحادیث لا یرویها فی المسند لما فیها من الضعف لکونها لا تصلح إن تروی فی المسند...ثم إن هذا الکتاب زاد فیه ابنه عبد الله زیادات ثم إن القطیعی الذی رواه عن ابنه عبد الله زاد عن شیوخه زیادات وفیها أحادیث موضوعة باتفاق أهل المعرفة)(1).

وقال فی موضع ثانٍ: (ثم زاد ابن أحمد زیادات وزاد أبو بکر القطیعی زیادات وفی زیادات القطیعی زیادات کثیرة کذب موضوعة فظن الجاهل أن تلک من روایة أحمد وانه رواها فی المسند وهذا خطأ قبیح فإن الشیوخ المذکورین شیوخ القطیعی وکلهم متأخر عن أحمد وهم ممن یروی عن أحمد لا ممن یروی أحمد عنه)(2).

وفیما یأتی بعض زیادات عبد الله بن أحمد بن حنبل:

1: جاء فی کتاب الفضائل المنسوب لأحمد بن حنبل، قال القطیعی: (حدثنا عبد الله قال: حدثنا أبو محمد عبد الله بن الخزاز، وکان من الثقات، حدثنا إبراهیم بن سعد، عن عبیدة بن أبی رائطة، عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم: الله الله فی أصحابی، لا تتخذوهم غرضا بعدی، فمن أحبهم فبحبی أحبهم، ومن أبغضهم فببغضی أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذانی، ومن آذانی فقد آذی الله، ومن آذی الله یوشک أن


1- منهاج السنة النبویة لأحمد بن عبد الحلیم بن تیمیة ج7 ص399،تحقیق: الدکتور محمد رشاد سالم الناشر: مؤسسة قرطبة الطبعة الأولی 1406.
2- المصدر السابق ج7 ص97.

ص: 161

یأخذه)(1).

أقول: ولا وجود لذکر أحمد بن حنبل فی السند کما تری، فهو حدیث قد أدخله عبد الله بن أحمد بن حنبل فی کتاب أبیه، مما یعنی ان کتاب الفضائل کتاب طالته ید الزیادة فلا یسلم ان تکون ید النقصان والحذف والدس والتحریف والتصحیف قد طالته أیضا، فیسقط عن الاعتبار من أساسه.

2: ومن زیادات عبد الله بن أحمد بن حنبل، قول القطیعی: (حدثنا عبد الله قال: حدثنی یحیی بن معین حدثنا سفیان، عن الزهری، عن عروة، عن عائشة، عن النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم قال: ما نفعنی مال ما نفعنی مال أبی بکر)(2).

أقول: إن أحمد بن حنبل لم یقل ان هذه فضیلة لأبی بکر لعدم وجود اسمه فی السند بل تم إقحامها فی کتابه عنوة من قبل ابنه عبد الله وهذا یضع کتب الفضائل تحت المساءلة والشک لقیام بعض الرواة بدس بعض الأحادیث التی لم یقلها أصحاب المؤلفات علیها بعد موتهم.

3: وقال القطیعی: (حدثنا عبد الله قال: حدثنی هارون بن سفیان البرتی حدثنا بشر بن عبیس بن مرحوم حدثنا النضر بن عربی، عن عاصم، عن سهیل، عن محمد بن إبراهیم، عن أبی سلمة بن عبد الرحمن، عن أبی أروی الدوسی قال: کنت مع النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم جالسا، فطلع أبو بکر وعمر، فقال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم: الحمد لله الذی أیدنی بکما)(3).


1- فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل ج1 ص10 حدیث رقم 9.
2- فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل ج1 ص10 حدیث رقم 9.
3- المصدر السابق ص35 حدیث رقم 33.

ص: 162

أقول: والقول فی هذا الحدیث کسابقه، وبالجملة فما دسَّهُ عبد الله بن أحمد فی کتاب أبیه یفوق ما نحن فیه من الاختصار، وباستطاعة القارئ الکریم ان یراجع بنفسه فإذا ما وجد ان عبد الله بن أحمد لا یقول (حدثنی أبی، أو سمعت أبی، أو قال أبی، أو أی لفظ یشعر بأنه سمع الحدیث من أبیه) فلیعلم انه من زیادات عبد الله بن أحمد بن حنبل فی کتاب أبیه ومدسوساته.

واما زیادات القطیعی ودسه فی کتاب فضائل الصحابة فیمکن ان نذکر له عدة أمثلة:

1: فمن أکاذیبه التی دسها فی الکتاب قوله: (حدثنا الهیثم بن خلف الدوری، سنة تسع وتسعین ومائتین، قثنا عبد الله بن مطیع قثنا هشیم، عن حصین قال: سمعت المسیب بن عبد خیر الهمدانی، عن أبیه قال: سمعت علی بن أبی طالب علی المنبر وهو یقول: إن خیر هذه الأمة بعد النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم أبو بکر، ثم عمر، وإنا قد أحدثنا بعدهما أحداثا یقضی الله فیها ما أحب)(1).

2: ومن أکاذیبه ومدسوساته أیضا قوله: (حدثنا أبو العباس الفضل بن صالح الهاشمی، فی جمادی سنة تسع وتسعین ومائتین، قثنا هدیة بن عبد الوهاب قثنا محمد بن کثیر قثنا الأوزاعی، عن قتادة، عن أنس بن مالک قال: کان رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم جالسا إذ أقبل أبو بکر وعمر، فقال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم:هذان سیدا کهول أهل الجنة من الأولین والآخرین إلا النبیین والمرسلین)(2).


1- فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل ج1 ص127 حدیث رقم 120.
2- المصدر السابق ص128 الحدیث رقم 121.

ص: 163

3: ومن أکاذیبه أیضا: (حدثنا الفضل بن صالح قثنا(1) الحسین بن الحسن المروزی قثنا سفیان بن عیینة، عن مطرف، عن الشعبی، عن أبی جحیفة قال: سمعت علیا یقول: ألا إن خیر هذه الأمة بعد نبیها أبو بکر، ثم عمر، ثم الله أعلم بالثالث)(2).

أقول: ویلاحظ علی القطیعی ان اغلب الزیادات والدس الذی قام به فی فضائل الثلاثة کان فی إتیانه  بفضائل لهم علی لسان أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه لیجعل منها حجة علی خصومهم من أتباع أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.

 والروایات التی زادها القطیعی فی کتاب الفضائل کثیرة جدا لا مجال لاستقصائها جمیعا، إلا أنها وبمجموعها تثبت علی نحو القطع ان هذا الکتاب لا یمکن الوثوق به البتة، فیسقط بکله عن الاعتبار، لإمکان تلاعب القطیعی حتی فی الأحادیث التی صحت نسبتها إلی أحمد بن حنبل، فینفی أو یقص ویحذف، ما یشاء من الفضائل التی قالها أحمد بن حنبل فی حق أهل البیت مثلا أو الأنصار ولکنها لا تروق للقطیعی.

کتاب مسند أحمد بن حنبل والدس فیه
اشارة

قبل الخوض فی تفاصیل شواهد التحریف والدسَّ اللذین وقعا فی کتاب مسند احمد بن حنبل لابد من استعراض عدة نقاط مهمة، منها:

أولا: کم هی عدد أحادیث المسند وما هو رأی احمد بن حنبل فیها

یتکون مسند أحمد الموجود حالیا فی الأسواق والمکتبات العامة من أربعة آلاف حدیث قام بجمعها وانتخابها أحمد بن حنبل من بین أکثر من سبعمائة


1- هذا اختصار لقوله (قال حدثنا) وهو کثیر فی کتاب الفضائل المنسوب لأحمد.
2- فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل ج1 ص129 حدیث رقم122.

ص: 164

وخمسین ألف حدیث، والتی کان یهدف منها أن تکون مرجعا یرجع إلیه المسلمون حین اختلافهم فی حدیث رسول الله، قال موسی بن حمدون البزار:

(قال لنا حنبل بن إسحاق: جمعنا عمی لی ولصالح ولعبد الله وقرأ علینا المسند وما سمعه منه __ یعنی تاما __ غیرنا، وقال لنا: إن هذا الکتاب قد جمعته وأتقنته من أکثر من سبعمائة وخمسین ألفا فما اختلف المسلمون فیه من حدیث رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فارجعوا إلیه، فإن کان فیه وإلا فلیس بحجة)(1).

وکلام احمد بن حنبل هذا یدل علی عدة أمور مهمة منها:

1: ان الحدیث الذی کان علی عهد احمد بن حنبل والمنتشر بین أیدی أهل السنة کان یبلغ سبعمائة وخمسین ألف حدیث، وقد انتخب احمد منها أربعة آلاف حدیث فقط، وحکم علی هذه الأربعة الآلاف بالصحة وعلی البقیة بالکذب وعدم الثبوت، وهذا یؤید ما ذکرناه سابقا من وجود الکم الهائل من الأحادیث المکذوبة والموضوعة والمفتریات علی النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم والتی دخلت عالم التدوین وقیدت فی الکتب والصحف.

2: ویظهر لنا من عبارته (فما اختلف المسلمون فیه من حدیث رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فارجعوا إلیه، فإن کان فیه وإلا فلیس بحجة) ان أحمد بن حنبل یصحح جمیع ما هو مدون فی مسنده، لأنه قد جعل من أحادیث مسنده میزانا یرجع إلیه حین اختلاف المسلمین فی حدیث من الأحادیث فإذا وجد فی کتابه فهو حق یجب الأخذ به، وان لم یوجد حکم علیه بعدم الثبوت وعدم الحجیة.


1- خصائص مسند الإمام أحمد لمحمد بن عمر المدینی ص 13.

ص: 165

3: ان القاعدة التی وضعها احمد بن حنبل تنطوی علی ضرب صریح لکتاب الموطأ الذی ألفه مالک بن أنس، لان کتاب الموطأ کتب قبل کتاب مسند احمد، وکثیر من الأحادیث الموجودة فی الموطأ لیست موجودة فی مسند احمد بن حنبل، فیجزم بعدم حجیتها من وجهة نظره، وکذلک تنطوی علی ضرب وإسقاط حجیة جمیع الصحاح والمسانید والسنن التی أوجدت وکتبت بعده، کصحیح البخاری ومسلم وغیرهما، لأنهم أودعوا فی کتبهم کثیرا من الأحادیث التی لم یذکرها احمد بن حنبل فی مسنده، فهی إذن مکذوبة علی النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم ولیست بحجة من وجهة نظره.

4: یجب علی أتباع مالک بن انس ومقلدیه أن لا یستشهدوا أو یصححوا حدیثا واحدا فی کتب الصحاح والمسانید والسنن ما لم یکن له ذکر فی کتاب مسند أحمد بن حنبل، فان لم یفعلوا ذلک فقد خالفوا قول إمامهم وخرجوا عن طاعته، واتبعوا غیر سنته.

5: ان کلام احمد بن حنبل السابق وقوله:

(إن هذا الکتاب قد جمعته وأتقنته من أکثر من سبعمائة وخمسین ألفا) صریح فی انه قد انتخب هذه الأحادیث الأربعة آلاف بعد إتقان وتدبر وإمعان وتفکر طویل، حتی وصل من ثمَّ إلی صحة هذا المقدار من الأحادیث دون سواها من السبعمائة والخمسین ألف حدیث، ولکن لنا وللمسلمین الحق فی السؤال، هل کان لأحمد بن حنبل فعلا القدرة علی تمییز الأحادیث الصحیحة من غیرها؟ وهل کان یملک الاستعداد الکافی الذی یؤهله لتشخیص مواطن الخلل والعیب والعلل التی تدخل علی الحدیث؟، وهذا ما سنعرفه فی الفقرة التالیة إن شاء الله تعالی.

ص: 166

ثانیا: هل کانت لأحمد بن حنبل قدرة علی تمییز الحدیث الصحیح من غیره؟

المروی عن معاصری أحمد بن حنبل هو: ان احمد بن حنبل لم تکن له القدرة الکافیة من المعرفة التی تؤهله لمقام التمییز ما بین صحیح الحدیث وضعیفه، فضلا عن أن یضع کتابه کمیزان یزن به أحادیث النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم وسننه، لان سیرته العلمیة، وشهادة الذین عاصروه، وتصریحاته الشخصیة، کانت بأجمعها تؤکد علی أنّ احمد بن حنبل لم تکن له القدرة فی کثیر من الأحیان علی معرفة علل وأخطاء کثیر من الأحادیث الموجودة فی عصره وأخطائها، وانه طالما کان یستعین بغیره فی معرفة علل الحدیث، وعلی سبیل المثال فقد کان یرجع الی یحیی بن معین فی کثیر من مسائل العلل، فکان یرسل إلیه من یسأله عن علة بعض الأحادیث، کما کان یتمنی فی کثیر من المواقف وجود یحیی معه لیکشف له أخطاء بعض الأحادیث التی یسمعها من شیخه یعقوب بن إبراهیم، وقد ذکر الخطیب البغدادی فی (تاریخ بغداد) شاهدا صریحا علی هذه الحقیقة حیث قال: (قال ابن الرومی وکنت عند أحمد فجاء رجل فقال یا أبا عبد الله انظر فی هذه الأحادیث فإن فیها خطأ قال علیک بأبی زکریا فإنه یعرف الخطأ قال وکنت أنا وأحمد نختلف إلی یعقوب بن إبراهیم فی المغازی فقال أحمد لیت ان یحیی هنا قلت وما تصنع به قال یعرف الخطأ)(1).

وهذه کما تری ضربة قویة وجهها احمد بن حنبل إلی نفسه کذب من خلالها قدرته علی تمییز ما هو صحیح وضعیف من الأحادیث والسنن والمغازی، وان غیره اعلم منه، فکیف یجعل شخص کهاذا نفسه وکتابه میزانا یرجع المسلمون إلیه حین الاختلاف.


1- تاریخ بغداد للخطیب البغدادی ج14 ص184، وراجع ایضا: تهذیب الکمال للمزی ج31 ص555، وتهذیب التهذیب لابن حجر  ج11 ص249 __ 250.

ص: 167

إضافةً إلی أننا قد سبق وذکرنا أنّ احمد بن حنبل ویحیی بن معین المذکورین آنفاً، قد بقیا یدرسان الحدیث عند إبراهیم بن أبی اللیث مدة عشرین سنة، ثم تبین لهما بعد هذه السنین الطویلة بأنه کذاب، قال الخطیب البغدادی: (أخبرنا أبو علی صالح بن محمد الأسدی قال: إبراهیم بن أبی اللیث کان یکذب عشرین سنة، وقد أشکل أمره علی یحیی وأحمد وعلی بن المدینی حتی ظهر بعد بالکذب فترکوا حدیثه)(1)، فلو کان لأحمد بن حنبل القدرة علی تمییز الأحادیث الصحیحة من الضعیفة والصادقة من المکذوبة لما بقی عشرین سنة یتلاعب به إبراهیم بن أبی اللیث.

إذن فأحادیث احمد بن حنبل ومسنده سواء ثبت وقوع التزویر والدس فیها أم لم یثبت، فإنها أحادیث مشکوک فی مصادرها ومنابعها الأصلیة، لاحتمال انه قد أخذها من إبراهیم بن أبی اللیث الکذاب وأمثاله، فإذا أضفنا إلی ذلک ما أثبتناه من عدم معرفته وقدرته علی التمییز ما بین الغث والسمین فستکون المصیبة أعظم، وإذا أضفنا إلی ذلک کله أدلة تثبت بما لا یقبل الشک وقوع التلاعب والدس والتزویر فی مسند احمد وأحادیثه من ابنه عبد الله أو أناس آخرین فستکون المصیبة علی من یعتقد بمسند احمد أعظم وأعظم.

ثالثا: شواهد وأدلة تثبت وقوع التزویر والتحریف فی مسند احمد بن حنبل
اشارة

وفیما یأتی جملة من الشواهد والأدلة علی حصول التزویر والتلاعب بکتاب مسند احمد بن حنبل من ولده عبد الله وناسخه أبی بکر القطیعی وآخرین، وهی باختصار کالآتی:


1- المصدر السابق ص 193.

ص: 168

أولا: الذهبی یعترف بان احمد لم یصنف المسند ولا رتبه ولا هذبه

 قال الذهبی:

(ثم الإمام أحمد کان لا یری التصنیف، وهذا کتاب «المسند» له لم یصنفه هو، ولا رتبه، ولا اعتنی بتهذیبه، بل کان یرویه لولده نسخاً وأجزاءً، ویأمره: أن ضع هذا فی مسند فلان، وهذا فی مسند فلان)(1).

أقول: وهذا تصریح قاطع علی ان المسند لیس لأحمد بن حنبل قطعا لان أحمد لم یکن یری التصنیف، فقول القائل مسند أحمد فیه مسامحة وغفلة، وإلا فان المسند لعبد الله بن أحمد قد کتبه بیده ورتبه بیده، وزاد علی روایات أبیه روایات کثیرة، وخلط فیه خلطا واضحا سیأتی بعضه لاحقا.

ثانیا: الذهبی یصرح بتلاعب عبد الله بن احمد وأبی بکر القطیعی بکتاب المسند

وقال الذهبی متکلما عن عبد الله بن أحمد بن حنبل: (وله زیادات کثیرة فی مسند والده واضحة عن عوالی شیوخه، ولم یحرر ترتیب المسند ولا سهله، فهو محتاج إلی عمل وترتیب...وعامته من أبی بکر القطیعی...ولم یکن القطیعی من فرسان الحدیث، ولا مجودا، بل أدی ما تحمله، إن سلم من أوهام فی بعض الأسانید والمتون)(2).

أقول: لو سلمنا بان المسند لأحمد بن حنبل فیجب ان نسلم ایضا بأنه غیر مرتب ولا سهل وان التقصیر فی عدم ترتیبه ناتج عن قصور أو تقصیر من کل من عبد الله بن أحمد الذی روی المسند عن أبیه، والقطیعی الذی رواه عن عبد الله وزاد علیه بأحادیث لا تسلم من الأوهام بسبب عدم کونه من فرسان الحدیث.


1- سیر أعلام النبلاء للذهبی ج 13 ص 522.
2- المصدر السابق ص 524.

ص: 169

ثالثا: الذهبی یشجع علماء المسلمین أن یتلاعبوا هم أیضا فی کتاب المسند بهدف إصلاحه

قال الذهبی فی أثناء حدیثه عن حاجة المسند إلی ترتیب وجهد من علماء السنة: (فلعل الله یقیض لهذا الدیوان العظیم من یرتبه ویهذبه، ویحذف ما کرر فیه، ویصلح ما تصحف، ویوضح حال کثیر من رجاله، وینبه علی مرسله، ویوهن ما ینبغی من مناکیره، ویرتب الصحابة علی المعجم، وکذلک أصحابهم علی المعجم، ویرمز علی رؤوس الحدیث بأسماء الکتب الستة، وإن رتبه علی الأبواب فحسن جمیل، ولولا أنی قد عجزت عن ذلک لضعف البصر، وعدم النیة، وقرب الرحیل، لعملت فی ذلک)(1).

أقول: إن وصف الذهبی للمسند بالدیوان العظیم مکابرة واضحة، وإلا فأی عظمة فیه وهو یعترف بوجود التکرار فی المسند والتصحیف والمراسیل والمناکیر وعدم ترتیب الصحابة وغیر ذلک؟!، ولو کانت هذه الموبقات فی احد کتب الشیعة ومصنفاتهم لشمر الذهبی عن سیف جرحه وتشنیعه وطعنه ولأسقط کل ما فیه من اعتبار کما هو عادته فی التعامل مع خصومه ومخالفیه فی العقیدة، هذا أولا، وثانیا ألیست هذه الدعوة من الذهبی دعوة إلی التلاعب بکتاب المسند فهو یدعو إلی تهذیبه وترتیبه وحذف ما تکرر منه وإصلاح ما تصحف من کلماته وترتیب الصحابة بغیر الترتیب الحالی له وغیر ذلک، وکل هذه الأمور کما لا یخفی یدخل فی باب التلاعب والتغییر والتبدیل الذی لا یقبل المسلمون وقوعه لمخالفته للأمانة العلمیة، لان الکتاب أی کتاب کان یجب ان یبقی ویصل للناس کما هو من دون تلاعب أو زیادة أو حذف کی یمکن الحکم علیه من الباحثین والعلماء بما یستحقه.


1- سیر أعلام النبلاء للذهبی ج 13 ص 525.

ص: 170

رابعا: العراقی یصرح ان فی المسند أحادیث مکذوبة وموضوعة وان ولده زاد فیه

 وقال محمد أبو ریة المصری: (وقال العراقی: یرد علی من قال إن أحمد بن حنبل التزم الصحیح فی مسنده: إنا لا نسلم ذلک، وأما وجود الضعیف فی المسند فهو محقق بل فیه أحادیث موضوعة وقد جمعتها فی جزء، ولعبد الله ابنه فیه زیادات فیها الضعیف والموضوع... ومما فیه من المناکیر حدیث بریدة: کونوا فی بعث خراسان ثم انزلوا مدینة مرو فإنه بناها ذو القرنین...)(1).

أقول: ان المسند لا یخرج عن ثلاثة فروض فأما أن یکون المسند لأحمد بن حنبل فیلزم منه ان أحمد لیس دقیقا فی تقییمه لأحادیث مسنده، وان قول أحمد فی وصف کتابه: (إن هذا الکتاب قد جمعته وأتقنته من أکثر من سبعمائة وخمسین ألفا فما اختلف المسلمون فیه من حدیث رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فارجعوا إلیه، فإن کان فیه وإلا فلیس بحجة)(2) وصف غیر صحیح فانه وباعتراف الذهبی والعراقی قد جمع فیه المرسل والمنکر والضعیف والموضوع.

وأما أن یکون الکتاب له ولکن ابنه هو الذی ادخل علیه هذه المراسیل والمناکیر والموضوعات وان أحمد اکبر شأنا من أن یقع فی مثل هذه الطامات، فیثبت ان المسند قد تم التلاعب به والدس فی ضمنه فیسقط عن الاعتبار لتطرق الشک إلی سائر أجزائه الأخری.

وأما أن یکون المسند لابنه وانه کما یدعی البعض متقنا وان هذه الزیادات والمناکیر قد وقعت من القطیعی الذی نقل لنا المسند عن عبد الله، فیسقط أیضا عن الاعتبار لنفس العلة السابقة.


1- أضواء علی السنة المحمدیة لمحمود أبو ریة ص 327.
2- خصائص مسند الإمام أحمد لمحمد بن عمر المدینی ص 13.

ص: 171

خامسا: احمد بن حنبل أمر ولده بإخراج بعض الأحادیث من المسند لکنه لم یمتثل

وأوضح دلیل علی وقوع التلاعب والتزویر فی کتاب مسند أحمد هو ان أحمد بن حنبل کان یضرب بنفسه علی بعض الأحادیث والرواة، أو یأمر ولده عبد الله بان یضرب علیها، ویأمره بان لا یدون حدیثهم ولا ینقل عنهم فی کتاب المسند أو غیره من الکتب المنسوبة إلی أحمد بن حنبل، ولکننا وجدنا بان کثیرا من الذین أمر أحمد بالضرب علی روایاتهم قد ذکرت لهم روایات فی المسند وفیما یأتی جملة منهم مع الاختصار:

أ: من الذین ضرب أحمد بن حنبل علی حدیثه (عبد الکریم بن أبی المخارق) قال الذهبی: (أبو أمیة عبد الکریم بن أبی المخارق... وقال أحمد: ضربت علی حدیثه...)(1)، ومع انه ضرب علی حدیثه إلا أننا نری له عدة أحادیث فی المسند(2).

ب: قال المزی فی تهذیب الکمال: (وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: ضرب أبی علی حدیث کثیر بن عبد الله فی المسند ولم یحدثنا عنه... قال أبو خیثمة: قال لی أحمد بن حنبل: لا تحدث عنه شیئا)(3) ولکننا ومع اعتراف عبد الله بن أحمد بان أباه قد ضرب علی حدیث کثیر بن عبد الله فی المسند إلا أننا وجدنا له عدة أحادیث فی المسند(4).

ج: قال عبد الله بن أحمد: (قال أبی اضرب علی حدیث موسی بن عبیدة وهو


1- سیر أعلام النبلاء للذهبی  ج 6 ص 83.
2- راجع مسند أحمد بن حنبل ج2 ص132، وج3 ص487، وج5 ص6.
3- تهذیب الکمال للمزی ج24 ص137 __ 138.
4- راجع مسند أحمد بن حنبل ج1 ص306.

ص: 172

یقرأ علی حدیث قرآن بن تمام)(1) غیر ان حدیث موسی بن عبیدة موجود فی المسند(2).

د: قال عبد الله بن أحمد: (فقال أبی عبد العزیز وهو الذی یروی عن خصیف اضرب علی أحادیثه هی کذب أو قال موضوعة أو کما قال أبی فضربت علی أحادیث عبد العزیز بن عبد الرحمن)(3) غیر أننا ومع اعتراف عبد الله بن أحمد بأنه قد ضرب علی حدیث عبد العزیز بن عبد الرحمن نجد أحادیثه فی مسند أحمد(4).

سادسا: عبد الله روی عن أبیه فی المسند أشیاء لم یأمره بوضعها فیه

ومن الأدلة القاطعة علی تدخل عبد الله بن أحمد فی مسند أبیه وانه قد روی أشیاء لا علم لأحمد بن حنبل بها أو کان له علم بها ولکنه لم یأمره بوضعها فی المسند، ویدل علی هذه الحقیقة تکرار قول عبد الله بن أحمد بن حنبل: (وجدت فی کتاب أبی بخط یده ولم أسمعها)، وقد بحثت علی عجالة فی المسند فوجدت ان عبد الله کرر قول وجدت فی کتاب أبی أکثر من خمس وستین مرة، ومعنی انه وجد أی انه لم یسمعها من أبیه ومعنی انه لم یسمعها هو ان أحمد لم یأمره بوضعها فی المسند، ومعنی انه لم یأمره بوضعها هو ان هذه الزیادات والوجادات عبارة عن تلاعبات قام بها عبد الله بن أحمد بن حنبل فی کتاب أبیه المسند بعد موته.

هذا وقد ترکنا من باب الاختصار والإیجاز کثیراً من الأدلة الأخری وکذلک ترکنا ما قام به أبو بکر القطیعی من قص وإضافة لکثیر من الأحادیث وإدخالٍ فی الکتاب علی أنها منه.


1- العلل لأحمد بن حنبل ج 3 ص 206 __ 207.
2- مسند أحمد بن حنبل ج6 ص437.
3- العلل لأحمد بن حنبل ج 3 ص319.
4- راجع مسند أحمد ج 6 ص 227.

ص: 173

الأنموذج الثالث: کتاب صحیح البخاری

اسم البخاری ونسبه

قال ابن حجر فی (مقدمة فتح الباری): (هو أبو عبد الله محمد بن إسماعیل ابن إبراهیم بن المغیرة بن بردزبه الجعفی ولد یوم الجمعة بعد الصلاة لثلاث عشرة لیلة خلت من شوال سنة أربع وتسعین ومائة ببخاری... وکان بردزبه فارسیا علی دین قومه ثم أسلم ولده المغیرة علی ید الیمان الجعفی وأتی بخاری فنسب إلیه نسبة ولاء)(1).

وزاد ابن حجر فی تغلیق التعلیق ان جده کان فارسیا مجوسیا: (کان بردزبه مجوسیا فأسلم ابنه المغیرة علی ید الیمان والی بخاری وکان الیمان جعفیا فنسب البخاری إلیه)(2).

وقال الذهبی: (نقل ابن عدی وغیره أن مغیرة بن بردزبه المجوسی جد البخاری أسلم علی ید والی بخاری یمان الجعفی جد المحدث عبد الله بن محمد بن جعفر بن یمان الجعفی المسندی. فولاؤه للجعفیین بهذا الاعتبار)(3).

الاختلاف فی الاسم الحقیقی لصحیح البخاری

قد اختلف فی اسم کتاب البخاری فهو مشهور بین الناس باسم (صحیح البخاری)، أما ابن حجر فقد سماه فی (مقدمة فتح الباری) باسم (الجامع الصحیح المسند من حدیث رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم وسننه وأیامه)، حیث


1- مقدمة فتح الباری لابن حجر ص 478.
2- تغلیق التعلیق لابن حجر ج 5 ص 384.
3- تاریخ الإسلام للذهبی  ج 19 ص 242.

ص: 174

قال: (انه __ أی البخاری __ التزم فیه الصحة وانه لا یورد فیه إلا حدیثا صحیحا هذا أصل موضوعه وهو مستفاد من تسمیته إیاه الجامع الصحیح المسند من حدیث رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم وسننه وأیامه)(1).

لکن ابن حجر عاد فی کتابه (تغلیق التعلیق) لیسمیه بتسمیة ثانیة حیث قال: (الجامع الصحیح المسند المختصر من أمور سیدنا رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم وسننه وأیامه تألیف الإمام الأوحد عمدة الحفاظ تاج الفقهاء أبی عبد الله محمد بن إسماعیل بن إبراهیم البخاری)(2).

وهذا الاختلاف بالاسم ینبئک عن مقدار الاختلاف فی باقی أجزاء الکتاب وأبوابه، لان کتابا لا یتفق علی اسمه کیف یتفق علی عدد أبوابه وأحادیثه، وکتاب لا یصل إلینا اسمه بصورة دقیقة کیف یتوقع منه أن یصل إلینا بجملته وتفصیلاته سالما معافی مصانا من التلاعب والضیاع.

البخاری یدون سبعة آلاف حدیث بینما یضیع علی الأمة ثلاثمائة ألف حدیث کان یحفظها

کان عند البخاری کم هائل من الأحادیث النبویة والسنن والأخبار، فقد صرح البخاری نفسه بأنه یحفظ ثلاثمائة ألف حدیث، منها مائتا ألف حدیث غیر صحیح، ومائة ألف حدیث صحیح، وقد روی عبد الله بن عدی هذا الأمر فی (الکامل) نقلا عن: (محمد بن حمدویه __ حیث کان __ یقول: سمعت محمد بن إسماعیل یقول: أحفظ مائة ألف حدیث صحیح، وأحفظ مائتی ألف حدیث غیر صحیح)(3).


1- مقدمة فتح الباری لابن حجر ص 5 __ 6.
2- تغلیق التعلیق لابن حجر  ج2 ص5.
3- الکامل لعبد الله بن عدی: ج1، ص131، وراجع أیضا: مقدمة فتح الباری لابن حجر ص488.

ص: 175

إلا أن البخاری اقتصر علی الأحادیث التی وصفها هو بأنها صحیحة، وترک المائتی ألف حدیث الأخری، ولم یکتف بذلک حتی اقتصر علی بعض ذلک الصحیح وترک بقیته، وقد نقل الذهبی فی (سیر أعلام النبلاء) عن البخاری قوله: (لم أخرج فی الکتاب إلا صحیحا. قال: وما ترکت من الصحیح أکثر)(1).

ولو رجعنا إلی کتاب صحیح البخاری الموجود الآن لوجدنا انه لم یذکر سوی سبعة آلاف حدیث فقط، وهذا یعنی انه ترک ثلاثة وتسعین ألف حدیث من الأحادیث التی اعترف هو بصحتها، وترک معه مائتی ألف حدیث هو یراها بأنها غیر صحیحه ولعله قد أخطأ فی تقییمه هذا، کما قد أخطأ بالحکم علی جمیع أحادیث کتابه بأنها صحیحة مع أن فیها المرسل والمکذوب والموضوع والمنقطع وغیر ذلک کما سیأتی إثباته فی محله إن شاء الله، ولو جمعنا کلا الرقمین فسنصل إلی نتیجة مهمة وهی: ان البخاری وان کان قد دون فی کتابه سبعة آلاف حدیث، لکنه وللأسف ضیع علی الأمة مائتین وثلاثة وتسعین ألف حدیث رفض تدوینها، مع اعترافه بان ثلاثة وتسعین ألفاً منها صحیحه وقد أعرض عن تدوینها، وترکها تعیش فی مخیلته حتی ماتت بموته، فهو مسؤول إذن عن قتل مائتین وثلاثة وتسعین ألف حدیث نبوی.

 فکان من الأولی والأجدر بالبخاری حینما سمی کتابه ب_(الجامع الصحیح المسند من حدیث رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم وسننه وأیامه) أن یکون جامعا فعلا، فیذکر فیه جمیع ما عنده من حدیث وسنن وأخبار، کی ینطبق الاسم علی المسمی، ثم یترک الحکم علیها بالصحة وعدمه إلی الذین یأتون من بعده، فلرب حدیث لا یراه صحیحا بحسب موازینه الخاصة یراه الآخرون صحیحا بحسب موازینهم، ولرب أحادیث لا تتناسب مع ذوقه ومشربه تجد فیها الأمة کل الخیر فی


1- سیر أعلام النبلاء للذهبی  ج 12  ص 471.

ص: 176

مستقبل أیامها، فکان علی البخاری ووفقا للنزاهة والأمانة العلمیة أن یوصل للأمة والأجیال التی تلیه تلک الأحادیث الثلاثمائة ألف کما هی من دون أن یمارس علیها أسلوب المزاجیة والانتقائیة، وإذا أراد أن یمارس الانتقائیة فیمارسه فی مؤلف مستقل، فینتخب وینتقی منها ما یشاء.

والأدهی من ذلک کله هو ما کان یعتذر به البخاری عن سبب ترکه لهذا العدد الهائل من الأحادیث الصحیحة، فعن إبراهیم بن معقل أنمه قال: (سمعته __ أی البخاری __ یقول: ما أدخلت فی الجامع إلا ما صح، وترکت من الصحاح لأجل الطول)(1).

أقول: فأی عاقل یصدق عذر البخاری فی ترکه لثلاثة وتسعین ألف حدیث صحیح عن النبی صلی الله علیه وآله وسلم  بحجة أنها طویلة، ثم ألیس فی کتابه المعروف بصحیح البخاری قد ذکر أحادیث طوالاً تفوق الإحصاء، ولو عملنا بنظریة البخاری فترکنا تدوین کل شیء طویل، لضاع الدین، وفنیت الأحکام، ولما نقلت ولا دونت سور القرآن الطویلة کالبقرة والنساء وآل عمران، ولاکتفی الناقلون بنقل القصار منها، فأی حرص یمتلکه هذا الرجل علی السنة والدین؟!

البخاری کان من المجبرة وانعکاس ذلک علی مؤلفاته

ان البخاری وبعد رجوعه إلی نیسابور صرح ولأکثر من مرة بان أفعال العباد مخلوقة لله حرکاتهم وأصواتهم وأکسابهم وکتابتهم، وهذا هو مذهب المجبرة بعینه، قال ابن حجر: (فاستقبله محمد بن یحیی وعامة علماء نیسابور فدخل البلد فنزل دار البخاریین...قال فازدحم الناس علی محمد بن إسماعیل حتی امتلأت الدار


1- تاریخ الإسلام للذهبی ج 19 ص 249.

ص: 177

والسطوح فلما کان الیوم الثانی أو الثالث من یوم قدومه قام إلیه رجل فسأله عن اللفظ بالقرآن فقال أفعالنا مخلوقة وألفاظنا من أفعالنا... فلما حضر المجلس قام إلیه رجل فقال یا أبا عبد الله ما تقول فی اللفظ بالقرآن مخلوق هو أو غیر مخلوق فأعرض عنه البخاری ولم یجبه ثلاثا فألح علیه فقال البخاری القرآن کلام الله غیر مخلوق وأفعال العباد مخلوقة... وقال الحاکم حدثنا أبو بکر بن أبی الهیثم حدثنا الفربری قال سمعت محمد بن إسماعیل یقول إن أفعال العباد مخلوقة... قال البخاری وسمعت عبید الله بن سعید یعنی أبا قدامة السرخسی یقول ما زلت أسمع أصحابنا یقولون إن أفعال العباد مخلوقة قال محمد بن إسماعیل حرکاتهم وأصواتهم وأکسابهم وکتابتهم مخلوقة)(1).

ثم ان للبخاری کتاباً خاصاً أسماه (خلق أفعال العباد والرد علی الجهمیة وأصحاب التعطیل) تدور فقراته حول إثبات ان الله سبحانه خالق وموجد للعباد ولجمیع ما یعملون وکما یقول هو: حرکاتهم وأصواتهم وأکسابهم وکتابتهم مخلوقة، حتی لو وضع الإنسان یده علی خده فانه مقدر ومکتوب ومخلوق لله سبحانه، وعلیه فیکون زنی الزانی وسرقة السارق وظلم الظالم وعقوق العاق کلها مخلوقة من الله سبحانه وما یرید الله سبحانه خلقه وإیجاده فلا دافع له عنه، وهذا عین مذهب الجبر الذی اختلقته وأوجدته سنة الشیخین وسنة عثمان بن عفان، ووسعته الدولتان الأمویة والعباسیة ورصدت له الأموال الطائلة لنشره وتشجیع القائلین والمعتقدین به ومکافأتهم، لأنه الباب الذی یبرر ظلم الأمراء وجور السلاطین، لان قانون الجبر لا یجعل من الحاکم سوی أداة ووسیلة بید الله سبحانه یعذب به الأبریاء ویحرم به الفقراء ویسلب به الحقوق، تعالی الله عن هذا القول علوا کبیرا.


1- مقدمة فتح الباری لابن حجر  ص 491 __ 492.

ص: 178

المدح المفرط لکتاب صحیح البخاری

عن أحمد بن محمد الوراق قال: (سمعت أبا حامد أحمد بن حمدون یقول سمعت مسلم بن الحجاج وجاء إلی محمد بن إسماعیل فقبل بین عینیه وقال دعنی حتی اقبل رجلک یا أستاذ الأستاذین وسند المحدثین ویا طبیب الحدیث)(1).

وروی ابن عساکر عن أبی حامد أحمد بن حمدون قوله: (سمعت مسلم ابن الحجاج وجاء إلی محمد بن إسماعیل البخاری فقبل بین عینیه وقال دعنی حتی أقبل رجلیک یا أستاذ الأستاذین وسید المحدثین ویا طبیب الحدیث)(2).

أقول: لا اشک ان مسلم بن الحجاج __ صاحب کتاب صحیح مسلم __ قد بالغ فی قوله هذا، أو ان النقل عنه کان کاذبا، لان مسلم کما قیل لم یخرج للبخاری فی صحیحه أی حدیث، علی الرغم من انه احد تلامیذه ولسنین طویلة وقد کتب عنه آلاف الأحادیث، إلا انه لم یذکره فی کتابه صحیح مسلم، ولو کان البخاری بهذه المنزلة عند مسلم لما أقصاه عن کتابه ولما قدم علیه غیره فی الروایة.

ومن إفراطهم فی مدح صحیح البخاری البیت الذی انشده أبو عامر الفضل ابن إسماعیل الجرجانی:

صحیح البخاری لو أنصفوه  ***     لما خط إلا بماء الذهب(3)

وقال الحاکم أبو أحمد: (رحم الله محمد بن إسماعیل الإمام، فإنه الذی ألف الأصول وبین للناس، وکل من عمل بعده فإنما أخذه من کتابه، کمسلم فرق أکثر کتابه فی کتابه، وتجلد فیه حق الجلادة، حیث لم ینسبه إلیه، وقال أبو الحسن


1- أدب الإملاء والاستملاء للسمعانی ص 155.
2- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج 52 ص 68.
3- المصدر السابق ص74.

ص: 179

الدارقطنی الحافظ: لولا البخاری لما راح مسلم ولا جاء، وقال أیضا: إنما أخذ مسلم کتاب البخاری فعمل فیه مستخرجا وزاد فیه أحادیث)(1).

أقول: وهذا الکلام وان کان فیه مدح للبخاری وصحیحه، إلا ان فیه قدحاً وتشهیراً بمسلم وصحیحه، فهم یثبتون هنا أنّ مسلماً النیسابوری قد سرق جهد البخاری وأحادیثه، ولکی یخفی سرقته هذه، قام بتفریق أحادیث کتاب البخاری فی کتابه، وعمل له مستخرجا، وزاد فیه بعض الأحادیث الأخری، وتجلد وأصر علی عدم الاعتراف بسرقته هذه، فأی طامة أعظم من هذه الطامة وأی تهمة وقدح اکبر من هذا القدح.

وعن محمد بن یوسف الفربری قال: (قال لی محمد بن إسماعیل البخاری: ما وضعت فی کتاب الصحیح حدیثا إلا اغتسلت قبل ذلک وصلیت رکعتین)(2).

وعن أبی إسحاق الریحانی قال: (سمعت عبد الرحمن بن رساین البخاری یقول سمعت محمد بن إسماعیل البخاری یقول صنفت کتابی الصحاح فی ستة عشر سنة خرجته من ستمائة ألف حدیث وجعلته حجة فیما بینی وبین الله تعالی)(3).

وعن أبی الهیثم الکشمیهنی قال: (سمعت محمد بن یوسف الفربری یقول قال لی محمد بن إسماعیل البخاری ما وضعت فی کتاب الصحیح حدیثا إلا اغتسلت قبل ذلک وصلیت رکعتین)(4).


1- مقدمة فتح الباری لابن حجر ص 491.
2- تاریخ بغداد للخطیب البغدادی  ج2 ص9.
3- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج 52 ص 72.
4- المصدر نفسه.

ص: 180

 وقال عمر بن محمد بن بجیر البجیری: (سمعت محمد بن إسماعیل یقول صنفت کتابی الجامع فی المسجد الحرام وما أدخلت فیه حدیثا حتی استخرت الله تعالی وصلیت رکعتین وتیقنت صحته)(1).

وقال سهل بن السری: (قال البخاری دخلت إلی الشام ومصر والجزیرة مرتین وإلی البصرة أربع مرات وأقمت بالحجاز ستة أعوام ولا أحصی کم دخلت إلی الکوفة وبغداد مع المحدثین)(2).

أقول: الهدف من کل هذه المدائح، هو تضخیم شأن هذا الکتاب، وتهویل أمره علی السامع، وإقناع العامة بأن صحیح البخاری کتاب غایة فی الضبط والإتقان والوثاقة، وان جمیع ما فیه من الأحادیث صحیحة، وقد استخیر الله فیها أی انها مرضیة من الله سبحانه وتعالی، وانه لو أنصفه الناس لخط بماء الذهب، ولکن الحقیقة بعیدة کل البعد عن هذا الواقع الذی یراد فرضه علی عقول المسلمین وهذا ما نطمح فی إثباته من خلال ما سیأتی.

روایات الضعفاء والکذابین والمدلسین فی صحیح البخاری
اشارة

أخرج البخاری فی کتابه الجامع الصحیح أحادیث کثیرة عن بعض الرواة الذین وصفوا بالضعف تارة وبالکذب تارة أخری وبالتدلیس والسرقة تارة ثالثة، وهو ما یضع علامة استفهام علی جمیع ما قیل فی تمجید هذا الکتاب وتضخیمه الذی ادعی کاتبه بأنه لم یضع فیه إلا الصحیح الذی یراه حجة فیما بینه وبین الله سبحانه، وفیما یأتی جملة من تلک الشواهد الناطقة بتهافت عنوان کتاب الجامع الصحیح مع ما احتواه من أحادیث غیر صحیحة ومطعون فی مضامینها ونقولاتها.


1- مقدمة فتح الباری لابن حجر ص 490.
2- المصدر السابق ص479.

ص: 181

اشتراط الإسلام فی الراوی ومخالفة البخاری لهذا الشرط

انعقد الإجماع علی عدم قبول روایة غیر المسلم، فلا یؤخذ بروایة الکافر إذا رواها حال کفره، أما بعد إسلامه فتقبل روایاته فیما لو تحققت الشروط الأخری للعدالة، وعدم قبول روایة الکافر حال کفره مرجعه کما علله بعضهم إلی ان الکافر متهم فی الدین، إضافةً إلی ان منصب الشهادة له أهمیة دینیة بالغة الخطورة والأهمیة، فبهذا المنصب المهم تثبت الحقوق أو ترد، وبه تصان الأموال والأعراض، وبه تسفک أو تعصم الدماء والنفوس، والکافر مسلوب الأهلیة عن هذا المنصب الشرعی والاجتماعی المهم بسبب کفره، وقد نقل إجماع اشتراط الإسلام فی قبول الروایة عدة من علماء أهل السنة نخص بالذکر منهم:

ابن الصلاح فی مقدمته حیث یقول: (أجمع جماهیر أئمة الحدیث والفقه علی أنه یشترط فیمن یحتج بروایته أن یکون عدلا ضابطا لما یرویه وتفصیله أن یکون مسلما بالغا عاقلا سالما من أسباب الفسق وخوارم المروءة متیقظا غیر مغفل حافظا إن حدث من حفظه ضابطا لکتابه ان حدث من کتابه)(1).

ومنهم الغزالی حیث یقول: (الشرط الرابع: أن یکون مسلما، ولا خلاف فی أن روایة الکافر لا تقبل، لأنه متهم فی الدین، وإن کان تقبل شهادة بعضهم علی بعض عند أبی حنیفة، ولا یخالف فی رد روایته، والاعتماد فی ردها علی الإجماع المنعقد علی سلبه أهلیة هذا المنصب فی الدین وإن کان عدلا فی دین نفسه)(2).

والبخاری قد خالف هذا الشرط المجمع علیه وأخرج لبعض الکفار حال


1- مقدمة ابن الصلاح لعثمان بن عبد الرحمن ص 84  __ 85.
2- المستصفی للغزالی ص124.

ص: 182

کفرهم وقبل إسلامهم، منهم جبیر بن مطعم، حیث أخرج له البخاری حدیثین رواهما قبل إسلامه باعتراف من ابن حجر شارح صحیح البخاری، وروایتی البخاری عنه کالتالی:

قال البخاری: (وحدثنا مسدد حدثنا سفیان عن عمرو سمع محمد بن جبیر عن أبیه جبیر بن مطعم قال أضللت بعیرا فذهبت أطلبه یوم عرفة فرأیت النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم واقفا بعرفة فقلت هذا والله من الحمس فما شأنه ههنا)(1).

وعن (الزهری عن محمد بن جبیر عن أبیه وکان جاء فی أساری بدر قال سمعت النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم یقرأ فی المغرب بالطور)(2).

وعن (الزهری عن محمد بن جبیر بن مطعم عن أبیه قال سمعت النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم یقرأ فی المغرب بالطور وذلک أول ما وقر الإیمان فی قلبی)(3).

وأما تعلیق ابن حجر واعترافه بان روایة جبیر بن مطعم کانت قبل إسلامه فهو کالتالی: (وأفادت هذه الروایة أن روایة جبیر له لذلک کانت قبل الهجرة وذلک قبل أن یسلم جبیر وهو نظیر روایته أنه سمعه یقرأ فی المغرب بالطور وذلک قبل أن یسلم جبیر أیضا کما تقدم وتضمن ذلک التعقب علی السهیلی حیث ظن أن روایة جبیر لذلک کانت فی الإسلام فی حجة الوداع)(4).


1- صحیح البخاری ج 2 ص 175.
2- المصدر السابق ج 4 ص30 __ 31.
3- المصدر السابق ج 5  ص 20.
4- فتح الباری لابن حجر  ج 3 ص 412.

ص: 183

إخراجه لأحادیث بعض الذین اشتهروا بالکذب علی رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم

واتفقوا علی عدم قبول روایة من اشتهر بالکذب علی رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وبقی یکذب عنادا وإصرارا، لکنهم اختلفوا حول من یتوب عن هذه الصفة، فذهب الأکثر إلی ان توبته لا تنفعه وان عدالته تسقط وان روایته تترک سواء تاب أم لم یتب، وذهب البعض إلی قبول توبته ورجوع عدالته.

وابن الصلاح من نقل عدم قبول توبة الراوی الکاذب علی رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم حتی وان تاب وحسنت توبته حیث یقول: (التائب من الکذب فی حدیث الناس وغیره من أسباب الفسق تقبل روایته إلا التائب من الکذب متعمدا فی حدیث رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فإنه لا تقبل روایته أبدا وان حسنت توبته علی ما ذکر عن غیر واحد من أهل العلم منهم أحمد بن حنبل وأبو بکر الحمیدی شیخ البخاری وأطلق الإمام أبو بکر الصیرفی الشافعی فیما وجدت له فی شرحه لرسالة الشافعی فقال کل من أسقطنا خبره من أهل النقل بکذب وجدناه علیه لم نعد لقبوله بتوبة تظهر ومن ضعفنا نقله لم نجعله قویا بعد ذلک وذکر أن ذلک مما افترقت فیه الروایة والشهادة وذکر الإمام أبو المظفر السمعانی المروزی أن من ذکر فی خبر واحد وجب إسقاط ما تقدم من حدیثه وهذا یضاهی من حیث المعنی ما ذکره الصیرفی والله أعلم)(1).

وقال النووی وهو ینقل رأی ما استقر علیه أکثر أهل السنة: (تحریم الکذب علیه صلی الله علیه __ وآله __ وسلم وأنه فاحشة عظیمة وموبقة کبیرة ولکن لا یکفر بهذا الکذب إلا أن یستحله هذا هو المشهور من مذاهب العلماء من الطوائف وقال الشیخ أبو محمد الجوینی والد إمام الحرمین أبی المعالی من


1- مقدمة ابن الصلاح لعثمان بن عبد الرحمن ص 91 __ 92.

ص: 184

أئمة أصحابنا یکفر بتعمد الکذب علیه صلی الله علیه __ وآله __ وسلم حکی إمام الحرمین عن والده هذا المذهب وأنه کان یقول فی درسه کثیرا من کذب علی رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم عمدا کفر وأریق دمه... ثم إن من کذب علی رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم عمدا فی حدیث واحد فسق وردت روایاته کلها وبطل الاحتجاج بجمیعها فلو تاب وحسنت توبته فقد قال جماعة من العلماء منهم أحمد بن حنبل وأبو بکر الحمیدی شیخ البخاری وصاحب الشافعی وأبو بکر الصیرفی من فقهاء أصحابنا الشافعیین وأصحاب الوجوه منهم ومتقدمیهم فی الأصول والفروع لا تؤثر توبته فی ذلک ولا تقبل روایته أبدا بل یحتم جرحه دائما وأطلق الصیرفی وقال کل من أسقطنا خبره من أهل النقل بکذب وجدناه علیه لم نعد لقبوله بتوبة تظهر ومن ضعفنا نقله لم نجعله قویا بعد ذلک قال وذلک مما افترقت فیه الروایة والشهادة ولم أر دلیلا لمذهب هؤلاء ویجوز أن یوجه بأن ذلک جعل تغلیظا وزجرا بلیغا عن الکذب علیه صلی الله علیه __ وآله __ وسلم لعظم مفسدته فإنه یصیر شرعا مستمرا إلی یوم القیامة بخلاف الکذب علی غیره)(1).

ولکن البخاری ضرب بهذه القاعدة عرض الجدار وأخرج عن جماعة ممن اشتهروا بالکذب المتعمد علی رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وأصروا علی ذلک ولم تنقل لهم توبة، منهم إسماعیل بن أبی أویس، والذی أخرج له البخاری أکثر من ستة عشر حدیثا فی کتابه صحیح البخاری، وکذلک أخرج له مسلم عدة أحادیث فی کتابه صحیح مسلم وأخرج له الجمیع باستثناء النسائی، مع اجتماعهم تقریبا علی ضعفه وتکذیبه، وفیما یأتی جملة من أقوالهم حوله.


1- شرح مسلم للنووی  ج 1 ص 69 __ 70.

ص: 185

قال النسائی فی کتاب الضعفاء والمتروکین: (إسماعیل بن أبی أویس ضعیف)(1).

وقال العقیلی فی کتابه الضعفاء: (إسماعیل بن عبد الله بن أبی أویس المدینی حدثنی محمد بن أحمد قال حدثنا معاویة بن صالح قال سمعت یحیی بن معین یقول أبو أویس وابنه ضعیفان وحدثنی أسامة الرقاق بصری یقول سمعت یحیی بن معین یقول إسماعیل بن أبی أویس لا یسوی فلسا)(2).

وقال المزی فی تهذیب الکمال: (وقال عبد الوهاب بن أبی عصمة، عن أحمد بن أبی یحیی، عن یحیی بن معین: ابن أبی أویس وأبوه یسرقان الحدیث. وقال إبراهیم بن عبد الله الجنید، عن یحیی: مخلط، یکذب، لیس بشیء. وقال أبو حاتم: محله الصدق، وکان مغفلا. وقال النسائی: ضعیف. وقال فی موضع آخر: لیس بثقة)(3).

وفی کتاب إکمال تهذیب الکمال فی أسماء الرجال عن سلمة بن شبیب: (سمعت إسماعیل بن أبی أویس یقول: ربما أضع الحدیث لأهل المدینة إذا اختلفوا فی شیء فیما بینهم)(4).

فإسماعیل بن أبی أویس علی وفق هذه الشهادات یصح وصفه بالضعف وبتعمد الکذب علی رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم لقوله السابق: (ربما أضع الحدیث لأهل المدینة إذا اختلفوا فی شیء فیما بینهم) وانه وعلی وفق رأی المشهور فاسق


1- کتاب الضعفاء والمتروکین للنسائی  ص 152.
2- ضعفاء العقیلی ج 1 ص 87.
3- تهذیب الکمال للمزی  ج 3 ص 127 __ 128.
4- إکمال تهذیب الکمال فی أسماء الرجال لعلاء الدین مغلطای  ج 2 ص 184 __ 185.

ص: 186

یجب ترک جمیع روایاته، وعلی وفق رأی الشیخ أبی محمد الجوینی والد إمام الحرمین أبی المعالی الذی هو من أئمة السنة کافر حلال الدم، والذی حکاه النووی بقوله الآنف الذکر: (یکفر بتعمد الکذب علیه صلی الله علیه __ وآله __ وسلم حکی إمام الحرمین عن والده هذا المذهب وأنه کان یقول فی درسه کثیرا من کذب علی رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم عمدا کفر وأریق دمه).

وقد انبری ابن حجر للدفاع عن إسماعیل بن أبی أویس بقوله: (ولعل هذا کان من إسماعیل فی شبیبته ثم انصلح)(1).

أقول: لم یقدم لنا ابن حجر أی دلیل علی احتمال انصلاح حال إسماعیل ابن أبی أویس، ومع انعدام الدلیل علی توبته وصلاحه یبقی حاله علی ما هو علیه من الضعف والکذب وسرقة الأحادیث ووضعها.

إخراجه لأحادیث رواة وصفوا بالجهالة والضعف

قال الذهبی: (فالمحدث إذا نظر فی سند حدیث ووجد فیه رجلا مجهولا: حکم بضعفه، لاحتمال ضعف ذلک المجهول، وربما حکم بوضعه، لغلبة الظن عنده بأن ذلک المجهول کذاب)(2).

أقول: وقد أخرج البخاری فی کتابه الجامع الصحیح المشهور بصحیح البخاری مجموعة أحادیث عن رجال اشتهروا بالجهالة مثل (أسباط أبو الیسع البصری) الذی شهد بجهالته عدة من علماء أهل السنة، بل شهد بعضهم بضعفه مع جهالته، ومع جهالته وضعفه یحکم بوضع أحادیثه وکذبها بناء علی ما أوضحه الذهبی فی قوله السابق، وفیما یأتی جملة من أقوال الذین وصفوه بالجهالة:


1- تهذیب التهذیب لابن حجر: ج1، ص273.
2- الکاشف فی معرفة من له روایة فی الکتب الستة للذهبی  ج 1 ص 26.

ص: 187

فمنهم الرازی حیث یقول: (أسباط أبو الیسع البصری روی عن شعبة بن الحجاج روی عنه محمد بن عبد الله بن حوشب سمعت أبی یقول ذلک ویقول هو مجهول)(1).

وقال الباجی: (أسباط أبو الیسع البصری أخرج البخاری فی البیوع عن محمد ابن عبد الله بن حوشب الطائفی عنه عن هشام الدستوائی لم یذکره الکلاباذی إلا فی جملة من أضیف إلی غیره فی الإخراج عنه قال أبو عبد الله له حدیث واحد وذکره الدارقطنی ذکره عبد الرحمن من أبی حاتم وقال سمعت أبی یقول هو مجهول)(2).

وقال ابن حجر: (أسباط أبو الیسع البصری یقال اسم أبیه عبد الواحد ضعیف له حدیث واحد متابعة فی البخاری من التاسعة)(3).

إخراجه لأحادیث رواة کانوا یأخذون الأجرة علی الروایة

قال ابن الصلاح: (من أخذ علی التحدیث أجرا منع ذلک من قبول روایته عند قوم من أئمة الحدیث روینا عن إسحاق بن إبراهیم أنه سأل عن المحدث یحدث بالأجر فقال لا یکتب عنه وعن أحمد بن حنبل وأبی حاتم الرازی نحو ذلک وترخص أبو نعیم الفضل بن دکین وعلی بن عبد العزیز المکی وآخرون فی أخذ العوض علی التحدیث وذلک شبیه بأخذ الأجرة علی تعلیم القرآن ونحوه غیر أن فی هذا من حیث العرف خرما للمروءة والظن یساء بفاعله)(4).


1- الجرح والتعدیل للرازی  ج 2 ص 333.
2- التعدیل والتجریح لسلیمان بن خلف الباجی  ج 1 ص 391.
3- تقریب التهذیب لابن حجر ج 1 ص 76.
4- مقدمة ابن الصلاح لعثمان بن عبد الرحمن  ص 92 __ 93.

ص: 188

أقول: قد أخرج البخاری لیعقوب بن إبراهیم، وأخرج کذلک لأبی نعیم الفضل بن دکین خمسة أحادیث فی صحیحه، وأخرج کذلک لهشام بن عمار فی غیر مکان من صحیحه، وأخرج کذلک لعفان بن مسلم فی عدة مواضع أیضا، وکان کل واحد منهم یأخذ الأجرة فی مقابل تحدیثه بالروایة.

قال النسائی: (یعقوب بن إبراهیم قال حدثنا إسماعیل عن یحیی بن عتیق عن محمد بن سیرین عن أبی هریرة قال: قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم لا یبولن أحدکم فی الماء الدائم ثم یغتسل منه. قال أبو عبد الرحمن کان یعقوب لا یحدث بهذا الحدیث إلا بدینار)(1).

وقال السمعانی نقلا عن أبی أحمد عبد الله بن عدی الحافظ بجرجان قال: (سمعت قسطنطین بن عبد الله الرومی مولی المعتمد علی الله أمیر المؤمنین یقول حضرت مجلس هشام بن عمار فقال له المستملی من ذکرت فقال حدثنا بعض مشائخنا ثم نعس ثم قال له من ذکرت فنعس فقال المستملی لا تنتفعوا به فجمعوا له شیئا فأعطوه فکان بعد ذلک یملی علیهم)(2).

وعن ابن حجر قال: (وقال ابن وارة عزمت زمانا أن أمسک عن حدیث هشام؛ لأنه کان یبیع الحدیث وقال صالح بن محمد کان یأخذ علی الحدیث ولا یحدث ما لم یأخذ وقال الإسماعیلی عن عبد الله بن محمد بن سیار کان هشام یلقن وکان یلقن کل شیء ما کان من حدیثه وکان یقول أنا قد خرجت هذه الأحادیث صحاحا وقال الله تعالی: (فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِث_ْمُهُ عَلَی الَّذِینَ یُبَدِّلُونَهُ). وکان یأخذ علی کل ورقتین درهمین ویشارط ولما لمته علی التلقین قال أنا أعرف


1- سنن النسائی ج 1  ص 49.
2- أدب الإملاء والاستملاء للسمعانی ص 121.

ص: 189

حدیثی ثم قال لی بعد ساعة إن کنت تشتهی أن تعلم فأدخل إسنادا فی شیء فتفقدت الأسانید التی فیها قلیل اضطراب فسألته عنها فکان یمر فیها)(1).

إخراجه لأحادیث رواة کانوا من المشهورین بالتدلیس

التدلیس فی اللغة هو المخادعة وعدم تبیان العیب، قال الفراهیدی: (دلس: ودلّس فی البیع وفی کل شیء إذا لم یبین له عیبه)(2)، وقال ابن منظور بعد أن ذکر کلام الفراهیدی نفسه: (والتدلیس فی البیع: کتمان عیب السلعة عن المشتری، قال الأزهری: ومن هذا أخذ التدلیس فی الإسناد وهو أن یحدث المحدث عن الشیخ الأکبر وقد کان رآه إلا أنه سمع ما أسنده إلیه من غیره من دونه، وقد فعل ذلک جماعة من الثقات)(3).

أما فی اصطلاح الفقهاء والمحدثین فالتدلیس وکما یقول محمد قلعجی فی معجم لغة الفقهاء هو: (عند الفقهاء: إخفاء العیب فی السلعة... عند المحدّثین: أن یروی عمن لقیه ولم یسمع منه، أو یروی عن شخص یوهم أنه غیره)(4).

والتدلیس من العیوب التی ابتلی فیها کثیر من الرواة، وهو صفة مذمومة عند أئمة الحدیث وشیوخه، فقد عدّها شعبة أشد من الزنی فقد کان یقول: (التدلیس فی الحدیث أشد من الزنی ولان أسقط من السماء أحب إلی من أن أدلس)(5).


1- تهذیب التهذیب لابن حجر  ج 11  ص 48.
2- کتاب العین للخلیل الفراهیدی  ج 7 ص 228.
3- لسان العرب لابن منظور ج 6 ص 86.
4- معجم لغة الفقهاء لمحمد قلعجی ص 126.
5- الکفایة فی علم الروایة للخطیب البغدادی ص 393.

ص: 190

والتدلیس کان یعد عند أعلام السنة مرادفا للکذب، کما نقله الحسن بن علی حیث کان: (یقول سمعت أبا أسامة یقول خرب الله بیوت المدلسین ما هم عندی إلا کذابون)(1).

وعن خالد بن خداش قال: (قال سمعت حماد بن زید یقول التدلیس کذب ثم ذکر حدیث النبی صلی الله علیه وآله وسلم المتشبع بما لم یعط کلابس ثوبی زور قال حماد ولا أعلم المدلس إلا متشبعا بما لم یعط)(2).

أقول: وقد روی البخاری لأشخاص عرفوا بالتدلیس، عدهم البعض بثمانیة وستین راویا، أخرج لهم ما یقارب ستة آلاف ومائتین واثنین وسبعین ما بین روایة أو تعلیق، وهی نسبة مهولة، تعنی ان أکثر من تسعین بالمائة من أحادیثه وروایاته قد نقلها أناس اشتهروا بالتدلیس.

وقد عثرت وفی أثناء تتبعی لموضوع المدلسین فی صحیح البخاری علی کتاب باسم (روایات المدلسین فی صحیح البخاری، جمعها __ تخریجها __ الکلام علیها) للدکتور عواد الخلف، وهو من أهل السنة، وبحثه عبارة عن رسالة علمیة حصل بها الباحث علی درجة الدکتوراه فی أصول الدین من کلیة أصول الدین بجامعة القرویین فی المغرب، وقد ذکر الدکتور عواد الخلف فی کتابه هذا تلک الأرقام الکبیرة التی ذکرناها آنفا، حیث تتبع جمیع رجال البخاری بحسب طبقاتهم وذکر أسماءهم وعدد روایاتهم وخرج برقم قاطع هو ما ذکرناه سابقا.

غیر انه وبعد ذکره لهذا العدد الهائل من المدلسین وروایاتهم،طبق ما اقترحه ابن حجر فی کتابه (مقدمة فتح الباری) والذی وضع قاعدة للتعامل مع روایات


1- المصدر نفسه.
2- المصدر السابق ص394.

ص: 191

المدلسین فی کتاب صحیح البخاری أوضحها بقوله: (فحکم من ذکر من رجاله __ أی صحیح البخاری __ بتدلیس أو إرسال أن تسبر أحادیثهم الموجودة عنده بالعنعنة فإن وجد التصریح بالسماع فیها اندفع الاعتراض وإلا فلا)(1).

ولکن قاعدة ابن حجر هذه لم تنجَّ صحیح البخاری من ورطته، فقد سبر الدکتور عواد الخلف فی کتابه أحادیث البخاری فاخرج تسعة وعشرین راویا روی لهم البخاری ما یقارب ثمانمائة واثنین وعشرین روایة لم یصرح فیها بالسماع فتکون مردودة بحسب القاعدة التی بناها ابن حجر فی کیفیة التعامل مع روایات المدلسین فی صحیح البخاری.

أقول: والدکتور عواد الخلف وان کان قد فارق الحق فی کثیر ممن اخرج أحادیثهم من دائرة الرد والرفض إلی دائرة القبول، إلا ان العدد النهائی الذی خرج به یعدّ کبیرا جدا، یجعل من صحیح البخاری کتابا غیر دقیق بالمرة ویحطم تلک النظرة الفاضلة له التی حاول المغرضون رسمها وترسیخها فی أذهان الناس.

التزویر والتلاعب بنسخ کتاب صحیح البخاری وروایاته وأبوابه
النسخة الأصلیة لصحیح البخاری ناقصة فأتمها النساخ الذین نقلوا لنا صحیحه

لابد من التنبیه أولا علی مسألة مهمة للغایة، وهی ان جمیع المدونات الروائیة لأهل السنة __ سواء أکانت صحاحا أم سننا أم مسانید أم غیر ذلک __ لم تصل إلینا النسخة الأصلیة منها بخط مؤلفیها ومدونیها الأصلیین، وإنما وصلت عبر وسائط متعددة، فلم تصلنا نسخة لکتاب البخاری بخط یده ولا لصحیح مسلم بخط یده وهکذا الحال بالنسبة لباقی کتب أهل السنة الروائیة، لذلک نجد بأن جمیعها قد


1- مقدمة فتح الباری لابن حجر  ص382.

ص: 192

تعرض للتزویر والدس والتحریف والتبدیل فی أثناء نقلها وإیصالها، وقد أثبتنا ذلک بما لا یقبل الشک فی کل من کتاب الموطأ لمالک بن أنس وکتاب المسند لأحمد بن حنبل، ولیس صحیح البخاری بمستثنی من هذه القاعدة.

وأول طامة منی بها هذا الکتاب هی ان البخاری قد وافته المنیة ومات قبل أن یکمل کتابه (الجامع الصحیح) المشهور بصحیح البخاری، لذلک کانت النسخة الأصلیة لکتاب البخاری تحتوی فی کثیر من الأحیان علی عناوین الأبواب فقط، من دون وجود أی حدیث أو آیة فیها، مما یعنی ان البخاری لم یسعفه الأجل لإتمام هذه الأبواب وتسویدها.

وقد یصادف أیضا ان البخاری یفرد فی کتابه فقرة خاصة للتعلیق علی راو أو روایة ما، ولکنه یترک مکان الترجمة فارغا مبیضا. وربما ذکر البخاری فی کتابه بعض الأحادیث، ولکن من دون وضع باب یعنونها فیه.

ولکننا لا نجد ذلک کله فی النسخ الموجودة الیوم بین أیدینا، وذلک بسبب ان النساخ والرواة الذین أوصلوا لنا صحیح البخاری، قد تلاعبوا فیه، فوصلوا ما هو مقطوع بالنسخة الأصل، وأضافوا الأحادیث والأبواب إلی بعضها، وأکملوا کثیرا من نقائصه، وسودوا ما تبقی من أوراقه التی ترکها البخاری فارغة بیضاء.

 وقد اعترف بعض النساخ بوقوع هذه الأفعال الشنیعة منه ومن بقیة النساخ والرواة الذین أوصلوا هذا الکتاب إلینا، قال ابن حجر: (ویقع فی __ أی فی کتاب صحیح البخاری __ کثیر من أبوابه الأحادیث الکثیرة وفی بعضها ما فیه حدیث واحد وفی بعضها ما فیه آیة من کتاب الله وبعضها لا شیء فیه البتة... ومن ثمة وقع من بعض من نسخ الکتاب ضم باب لم یذکر فیه حدیث إلی حدیث لم یذکر فیه باب فأشکل فهمه علی الناظر فیه.

ص: 193

 وقد أوضح السبب فی ذلک الإمام أبو الولید الباجی المالکی فی مقدمة کتابه فی أسماء رجال البخاری فقال: أخبرنی الحافظ أبو ذر عبد الرحیم بن أحمد الهروی قال حدثنا الحافظ أبو إسحاق إبراهیم بن أحمد المستملی قال انتسخت کتاب البخاری من أصله الذی کان عند صاحبه محمد بن یوسف الفربری فرأیت فیه أشیاء لم تتم وأشیاء مبیضة، منها تراجم لم یثبت بعدها شیئا، ومنها أحادیث لم یترجم لها، فأضفنا بعض ذلک إلی بعض.

قال أبو الولید الباجی: ومما یدل علی صحة هذا القول أن روایة أبی إسحاق المستملی وروایة أبی محمد السرخسی وروایة أبی الهیثم الکشمهینی وروایة أبی زید المروزی مختلفة بالتقدیم والتأخیر مع أنهم انتسخوا من أصل واحد وإنما ذلک بحسب ما قدر کل واحد منهم فیما کان فی طرة أو رقعة مضافة أنه من موضع ما فأضافه إلیه.

ویبین ذلک انک تجد ترجمتین وأکثر من ذلک متصلة لیس بینها أحادیث قال الباجی وإنما أوردت هذا هنا لما عُنی به أهل بلدنا من طلب معنی یجمع بین الترجمة والحدیث الذی یلیها وتکلفهم من ذلک من تعسف التأویل مالا یسوغ انتهی)(1).

وقال ابن حجر بعد ذکره لکلام المستملی وأبی الولید الباجی: (قلت: وهذه قاعدة حسنة یفزع إلیها حیث یتعسر وجه الجمع بین الترجمة والحدیث)(2).

أقول: فکیف یمکن بعد هذا الاطمئنان إلی هذا الکتاب، وکیف یمکن أن نتیقن بعدم حذف النساخ لکثیر مما لا یعجبهم من الأحادیث أو إضافة کثیر منها قد أعجبتهم؟!.


1- مقدمة فتح الباری لابن حجر  ص  6.
2- المصدر نفسه.

ص: 194

من هم الذین نسخوا صحیح البخاری ونقلوا للناس روایاته

1: أبو عبد الله محمد بن یوسف بن مطر بن صالح بن بشر الفَرَبْرِیُّ، وهو یروی الصحیح عن البخاری مباشرة، قال ابن حجر فی فتح الباری: (اتصلت لنا روایة البخاری عنه __ أی عن البخاری __ من طریق أبی عبد الله محمد بن یوسف بن مطر بن صالح بن بشر الفربری وکانت وفاته فی سنة عشرین وثلثمائة وکان سماعه للصحیح مرتین مرة بفربر سنة ثمان وأربعین ومرة ببخاری سنة اثنتین وخمسین ومائتین)(1).

وهذه هی الروایة أو النسخة المتداولة فی هذه العصور أو العصور القریبة الماضیة، قال ابن حجر فی مقدمة فتح الباری: (والروایة التی اتصلت بالسماع فی هذه الأعصار وما قبلها هی روایة محمد بن یوسف بن مطر بن صالح بن بشر الفربری)(2).

2: ومن رواة صحیح البخاری القاضی أبو إسحاق إبراهیم بن مَعْقِل بن الحجاج النسفی، قاضی نسف. قال ابن حجر: (ومن طریق إبراهیم بن معقل بن الحجاج النسفی وکان من الحفاظ وله تصانیف وکانت وفاته سنة أربع وتسعین ومائتین)(3).

3: أبو محمد حماد بن شاکر بن سوِّیة النسفی. قال ابن حجر: (ومن طریق حماد بن شاکر النسوی وأظنه مات فی حدود التسعین)(4).


1- فتح الباری لابن حجر  ج 1 ص 1.
2- مقدمة فتح الباری لابن حجر ص 493.
3- فتح الباری لابن حجر  ج 1 ص 1.
4- المصدر السابق ص3.

ص: 195

4: أبو طلحة منصور بن محمد بن علی بن قرینة بن سویة البزدیُّ، ویقال: البزدویُّ، النسفی. قال ابن حجر: (ومن روایة أبی طلحة منصور بن محمد بن علی ابن قرینة بقاف ونون بوزن یسیرة البزدوی بفتح الموحدة وسکون الزای وکانت وفاته سنة تسع وعشرین وثلاثمائة وهو آخر من حدث عن البخاری بصحیحه کما جزم به ابن ماکولا وغیره)(1).

5: القاضی أبو عبد الله الحسین بن إسماعیل المحاملی. قال ابن حجر: (ممن سمع من البخاری القاضی الحسین بن إسماعیل المحاملی ببغداد ولکن لم یکن عنده الجامع الصحیح وإنما سمع منه مجالس أملاها ببغداد فی آخر قدمة قدمها البخاری وقد غلط من روی الصحیح من طریق المحاملی المذکور غلطا فاحشا)(2).

أقول: هؤلاء هم الذین نسخوا کتاب البخاری من أصل واحد، وکل واحد من هؤلاء قد نقلت لنا نسخته عبر عدة رواة آخرین، هم __ وکما ذکرهم ابن حجر __ کل من:

ألف: قال ابن حجر: (فأما روایة الفربری فاتصلت إلینا عنه من طریق الحافظ أبی علی سعید بن عثمان بن سعید بن السکن والحافظ أبی إسحق إبراهیم ابن أحمد المستملی وأبی نصر أحمد بن محمد بن أحمد الأخبسیکتی والفقیه أبی زید محمد بن أحمد المروزی وأبی علی محمد بن عمر بن شبویه وأبی أحمد محمد بن محمد الجرجانی وأبی محمد عبد الله بن أحمد السرخسی وأبی الهیثم محمد بن مکی الکشمیهنی وأبی علی إسماعیل بن محمد بن أحمد بن حاجب الکشانی وهو آخر من حدث بالصحیح عن الفربری)(3).


1- فتح الباری لابن حجر  ج 1 ص 3.
2- المصدر نفسه.
3- فتح الباری لابن حجر ج 1 ص 3.

ص: 196

باء: قال ابن حجر: (فأما روایة ابن السکن فرواها عنه عبد الله بن محمد بن أسد الجهنی وأما روایة المستملی فرواها عنه الحافظ أبو ذر عبد الله بن أحمد الهروی وعبد الرحمن بن عبد الله الهمدانی)(1).

جیم: قال ابن حجر: (وأما روایة أبی علی الشبوی فرواها عنه سعید بن أحمد بن محمد الصیرفی العیار وعبد الرحمن بن عبد الله الهمدانی أیضا وأما روایة أبی أحمد الجرجانی فرواها عنه أبو نعیم والقابسی أیضا)(2)

دال:قال ابن حجر: (وأما روایة السرخسی فرواها عنه أبو ذر أیضا وأبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن المظفر الداودی)(3).

هاء: قال ابن حجر: (وأما روایة الکشمیهنی فرواها عنه أبو ذر أیضا وأبو سهل محمد بن أحمد الحفصی وکریمة بنت أحمد المروزیة)(4)

واو: قال ابن حجر: (وأما روایة الکشانی فرواها عنه أبو العباس جعفر بن محمد المستغفری)(5).

زای: قال ابن حجر: (وأما روایة الاخسبیکتی فرواها عنه إسماعیل بن إسحاق بن إسماعیل الصفار الزاهد وأما روایة أبی زید فرواها عنه الحافظ أبو نعیم الأصبهانی والحافظ أبو محمد عبد الله بن إبراهیم الأصیلی والإمام أبو الحسن علی ابن محمد القابسی)(6).


1- فتح الباری لابن حجر ج 1 ص 3.
2- المصدر نفسه.
3- المصدر نفسه.
4- المصدر نفسه.
5- المصدر نفسه.
6- المصدر نفسه.

ص: 197

أقول: قد ذکرنا هذه الأسماء هنا لأنها ستتکرر لاحقا، ولکی یعلم القارئ الکریم ارتباط هذه الأسماء بعضها ببعضها الآخر.

أوهام النساخ وتصحیفاتهم فی متون أحادیث صحیح البخاری

توجد فی ما بین نسخ صحیح البخاری السالفة الذکر أوهام واختلافات وأغلاط اکبر من ان یستوعبها هذا البحث المختصر، لکن وکما قیل فی المثل: «ما لا یدرک کله لا یترک جُلّه»، وفیما یأتی جملة من تلک التصحیفات والأغلاط والأوهام التی وقع فیها نساخ کتاب صحیح البخاری، والتی ستوصلنا بمجموعها إلی الحکم وبضرس قاطع بان کتاب البخاری الذی هو الآن بین أیدینا والذی یتداوله الناس باسم صحیح البخاری هو لیس عینه الذی کتبه البخاری وان التزویر والتغییر والدس قد طال جمیع أجزاء الکتاب ابتداء من اسمه وانتهاء بروایاته وأسانیدها وترتیب أبوابه وتخریج تراجمه، فالنساخ لم یقوموا بنسخ الکتاب وتکثیره ونشره، بل قاموا بمسخه وتشویهه ومحقه ان صح التعبیر، وهو ما سنراه فیما یأتی.

1: جاء فی صحیح البخاری عن أنس بن مالک انه قال: (قدم النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم المدینة فنزل أعلی المدینة فی حی یقال لهم بنو عمرو بن عوف فأقام النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فیهم أربع عشرة لیلة ثم أرسل إلی بنی النجار فجاؤوا متقلدی السیوف کأنی انظر إلی النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم علی راحلته وأبو بکر ردفه وملا بنی النجار حوله حتی القی بفناء أبی أیوب وکان یحب ان یصلی حیث أدرکته الصلاة ویصلی فی مرابض الغنم وانه أمر ببناء المسجد فأرسل إلی ملأ من بنی النجار فقال یا بنی النجار ثامنونی بحائطکم هذا قالوا لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلی الله فقال أنس فکان فیه ما أقول لکم قبور المشرکین وفیه خرب وفیه نخل فأمر النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم بقبور

ص: 198

المشرکین فنبشت ثم بالخرب فسویت وبالنخل فقطع فصفوا النخل قبلة المسجد وجعلوا عضادتیه الحجارة وجعلوا ینقلون الصخر وهم یرتجزون والنبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم معهم وهو یقول:

اللهم لا خیر إلا خیر الآخرة            ***     فاغفر للأنصار والمهاجرة)(1)

أقول: إلا أن الکشمیهنی أثبت فی نسخته کلمة (حرث) بدل کلمة (خرب) وقد نبه ابن حجر علی هذا الوهم بقوله: (وللکشمیهنی حرث بفتح الحاء المهملة وسکون الراء بعدها مثلثة وقد بین أبو داود ان روایة عبد الوارث بالمعجمة والموحدة وروایة حماد بن سلمة عن أبی التیاح بالمهملة والمثلثة فعلی هذا فروایة الکشمیهنی وهم لان البخاری إنما أخرجه من روایة عبد الوارث)(2).

وقال ابن حجر کذلک: (قوله فی آخره فاغفر للأنصار کذا للأکثر وللمستملی والحموی فاغفر الأنصار بحذف اللام)(3).

2: عن عائشة قالت: (قالت خرجنا مع النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم ولا نری إلا أنه الحج فلما قدمنا تطوفنا بالبیت فأمر النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم من لم یکن ساق الهدی أن یحل فحل من لم یکن ساق الهدی ونساؤه لم یسقن فأحللن قالت عائشة رضی الله عنها فحضت فلم أطف بالبیت فلما کانت لیلة الحصبة قالت یا رسول الله یرجع الناس بعمرة وحجة وأرجع أنا بحجة قال وما طفت لیالی قدمنا مکة قلت لا)(4).


1- صحیح البخاری ج 1 ص 111.
2- فتح الباری لابن حجر ج 1 ص 439.
3- المصدر نفسه.
4- صحیح البخاری ج 2 ص 151.

ص: 199

أقول: إن المستملی أحد نساخ صحیح البخاری ورواته ثبت فی نسخته (قلت بلی) بدل (قلت لا) وقد نبه ابن حجر علی وقوع هذا الاختلاف بقوله: (قوله فیه ما کنت تطوفین بالبیت لیالی قدمنا مکة «قلت لا» کذا للأکثر وفی روایة أبی ذر عن المستملی قلت بلی)(1).

3: وروی البخاری قال: (حدثنا إسحاق بن منصور حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام عن أبی هریرة قال: قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم...)(2).

أقول: قد وردت فی نسخة النسفی (إسحاق بن نصر) بدل (إسحاق بن منصور) وفی بعض النسخ الأخری (کذبنی عبدی وشتمنی ولم یکن له ذلک) بدل (کذبنی ابن آدم ولم یکن له ذلک وشتمنی ولم یکن له ذلک)، وقد سقط من نسخة الفربری والنسفی عدة رواة موجودین فی نسخ أخری، وقد نبه ابن حجر علی کل ذلک بقوله: (قوله «حدثنا إسحاق بن منصور» کذا للجمیع قال المزی فی الأطراف فی بعض النسخ حدثنا «إسحاق بن نصر»، قلت: وهی روایة النسفی وهما مشهوران من شیوخ البخاری ممن حدثه عن عبد الرزاق)(3).

 وقال ابن حجر: («قوله کذبنی ابن آدم ولم یکن له ذلک» فی روایة أحمد عن عبد الرزاق «کذبنی عبدی وشتمنی ولم یکن له ذلک» ثبت هنا فی روایة الکشمیهنی وکذا هو عند أحمد وسقط بقیة الرواة عن الفربری وکذا للنسفی)(4).


1- فتح الباری لابن حجر ج 3 ص 469.
2- صحیح البخاری ج 6 ص 95.
3- فتح الباری لابن حجر ج 8  ص 568 __ 569
4- المصدر نفسه.

ص: 200

4: وأخرج البخاری: (کتاب العقیقة باب تسمیة المولود غداة یولد لمن لم یعق عنه)(1).

أقول: کلمة (عنه) سقطت من نسخ أکثر النساخ باستثناء ما فی روایة أبی ذر عن الکشمیهنی، وذکر النسفی فی نسخته عبارة (وان لم یعق عنه) بدل عبارة (لمن لم یعق عنه)، وقد نبه ابن حجر علی هذا الاختلاف بقوله: (قوله «باب تسمیة المولود غداة یولد لمن لم یعق عنه» کذا فی روایة أبی ذر عن الکشمیهنی، وسقط لفظة «عن» للجمهور، وللنسفی «وان لم یعق عنه» بدل «لمن لم یعق عنه» وروایة الفربری أولی)(2).

اختلاف النساخ فی عناوین الأبواب والکتب التی احتواها صحیح البخاری

1: ورد فی صحیح البخاری عبارة (دعاؤکم إیمانکم)(3).

أقول: والوارد فی کثیر من نسخ البخاری القدیمة إضافة کلمة «باب» قبل هذه العبارة فتصبح هکذا: (باب دعاؤکم إیمانکم) وهو غلط فاحش کما نبه علیه النووی وابن حجر، قال ابن حجر: (قال النووی یقع فی کثیر من النسخ هنا باب وهو غلط فاحش وصوابه بحذفه ولا یصح إدخال باب هنا إذ لا تعلق له هنا «قلت» ثبت باب فی کثیر من الروایات المتصلة منها روایة أبی ذر...)(4).

2: ورد فی صحیح البخاری عبارة: (کتاب مواقیت الصلاة * بسم الله الرحمن الرحیم)(5).


1- صحیح البخاری ج 6 ص 215.
2- فتح الباری لابن حجر ج 9 ص 507.
3- صحیح البخاری ج 1 ص 8.
4- فتح الباری لابن حجر  ج 1 ص 46.
5- صحیح البخاری ج 1 ص 132.

ص: 201

أقول: فی بعض النسخ قدمت (بسم الله الرحمن الرحیم) علی قوله (کتاب مواقیت الصلاة)، وفی بعض النسخ ذکرت عبارة (بسم الله الرحمن الرحیم) بلا ذکر لعبارة (کتاب مواقیت الصلاة)، وفی بعضها بالعکس، وقد نبه ابن حجر علی هذا الاختلاف بقوله: (بسم الله الرحمن الرحیم کذا للمستملی وبعده البسملة ولرفیقیه البسملة مقدمة وبعدها باب مواقیت الصلاة وفضلها وکذا فی نسخة الصغانی وکذا لکریمة لکن بلا بسملة وکذا للأصیلی لکن بلا باب)(1)

3: ورد فی صحیح البخاری عبارة: (باب الصلاة کفارة)(2).

أقول: ورد هذا اللفظ فی أکثر نسخ کتاب صحیح البخاری، إلا ان نسخة المستملی جاء فیها عبارة (باب تکفیر الصلاة)، وقد نبه ابن حجر علی ذلک بقوله: (قوله «باب الصلاة کفارة» کذا للأکثر وللمستملی باب تکفیر الصلاة)(3).

4: وردت فی صحیح البخاری عبارة: (باب تضییع الصلاة عن وقتها)(4).

أقول: وردت هذه العبارة فی نسختین فقط من نسخ صحیح البخاری، لکنها حذفت فی جمیع النسخ الأخری، وقد نبه ابن حجر علی هذا بقوله: (قوله «باب فی تضییع الصلاة عن وقتها» ثبتت هذه الترجمة فی روایة الحموی والکشمیهنی وسقطت للباقین)(5).

5: وردت فی صحیح البخاری عبارة: (کتاب التوحید)(6).


1- فتح الباری لابن حجر  ج 2 ص 2.
2- صحیح البخاری ج 1  ص 133.
3- فتح الباری لابن حجر  ج 2  ص 6.
4- صحیح البخاری ج 1 ص 134.
5- فتح الباری لابن حجر  ج 2  ص 10 __ 11.
6- صحیح البخاری ج 8 ص 163.

ص: 202

أقول: وردت هذه العبارة فی بعض النسخ، بینما وردت عبارات أخری بدلها فی نسخ أخری، ففی نسخة المستملی وردت عبارة: (کتاب التوحید والرد علی الجهمیة وغیرهم)، وفی نسخة ابن بطال وابن التین وردت هکذا: (کتاب رد الجهمیة وغیرهم التوحید)، وفی نسخة ابی ذر وردت البسملة قبل عبارة (کتاب التوحید) وقد نبه العینی فی عمدة القاری علی ذلک کله بقوله: (وکذا وقعت الترجمة للنسفی، وعلیه اقتصر الأکثرون عن الفربری، وفی روایة المستملی: کتاب التوحید والرد علی الجهمیة وغیرهم، ووقع لابن بطال وابن التین: کتاب رد الجهمیة وغیرهم التوحید)(1).

وقال العینی أیضا: (وقال الکرمانی: وفی بعض النسخ: کتاب التوحید ورد الجهمیة، بالإضافة، إلی المفعول، ولم تثبت البسملة قبل لفظ: الکتاب، إلا لأبی ذر)(2). وتوجد عشرات المصادیق الأخری ترکناها للاختصار، وفیما سبق کفایة لمستبصر.

أقول: هذا الاختلاف والتضارب والتزویر کله قد وقع فی النسخ الأصل لکتاب الجامع الصحیح، أما الاختلافات والتزویر والدس والإضافات والحذوفات فی النسخ الحدیثة الموجودة بین أیدی الناس الیوم فأکثر من ذلک بأضعاف وأضعاف، فکل طبعة من الطبعات الحدیثة تأخذ نسخة معینة وتدخل فیها من باقی النسخ وتحذف بعض العبارات والأبواب وتضیف عبارات وأبواباً أخری وترقم الأحادیث، مع ان النسخة الأصل لا أرقام فیها إلی غیر ذلک مما یطول ذکره ویحتاج إلی کتاب مفصل، عسی الله أن یوفق له بعض الباحثین آمین یا رب العالمین.


1- عمدة القاری للعینی  ج 25 ص 81.
2- المصدر نفسه.

ص: 203

الأنموذج الرابع: کتاب صحیح مسلم

اشارة

صحیح مسلم هو الکتاب الذی ینسب إلی مسلم القشیری، ومسلم وکما یقول الذهبی هو: (مسلم بن الحجاج بن مسلم بن ورد بن کوشاذ، القشیری النیسابوری، صاحب «الصحیح»، فلعله من موالی قشیر)(1)، ولا نرید الدخول فی تفاصیل نسبه وهل کان فعلا من موالی قشیر أو لا، وهل کان ینحدر من جذور مجوسیة أو لا، لان فی الموضوع خلافاً ینبئک عنه تلمیح الذهبی وقوله: (فلعله من موالی قشیر) والحر تکفیه الإشارة.

اختلافهم فی اسم الکتاب المنسوب لمسلم

اختلف فی اسم کتاب مسلم بن الحجاج القشیری مثلما اختلف فی کتاب صاحبه البخاری الذی مر خبره، ففی خبر محمد بن نعیم ان مسلم بن الحجاج قد أطلق علی کتابه اسم (المسند الصحیح)، فعن الخطیب البغدادی عن محمد بن نعیم قال: (سمعت الحسین بن محمد الماسرجسی یقول: سمعت أبی یقول: سمعت مسلم بن الحجاج یقول: صنفت هذا المسند الصحیح من ثلاثمائة ألف حدیث مسموعة)(2).

وکذلک فعل النووی فی شرحه لصحیح مسلم، حیث أطلق علیه اسم (المسند الصحیح) فقال: (وعدد من احتج بهم مسلم فی المسند الصحیح ولم یحتج بهم البخاری فی الجامع الصحیح ستمائة وخمسة وعشرون شیخا والله أعلم)(3).


1- سیر أعلام النبلاء للذهبی  ج 12 ص 557 __ 558.
2- تاریخ بغداد للخطیب البغدادی ج 13 ص 102.
3- شرح مسلم للنووی  ج 1 ص 16

ص: 204

وکذلک فعل الحاکم النیسابوری فی مستدرکه علی الصحیحین، إذ أطلق ولمرات کثر اسم (المسند الصحیح) علی کتاب مسلم النیسابوری، فقال فی احد هذه الموارد: (قد احتج مسلم فی المسند الصحیح بحدیث سماک بن حرب عن النعمان بن بشیر...)(1).

ولکن النسخ المطبوعة المنتشرة بین الناس قد خط علی غلافها اسم (الجامع الصحیح للإمام أبی الحسین مسلم بن الحجاج بن مسلم القشیری

 النیسابوری) وفی بعض الطبعات یکتب علی الغلاف الخارجی اسم (صحیح مسلم) وفی الداخل یکتب (الجامع الصغیر....).

وقد سمی ابن شیبة فی مواضع عدیدة من کتبه کتاب مسلم النیسابوری باسم (الجامع الصحیح) فقال فی معرض کلامه علی شخص مسلم: (محمد بن مسلم صاحب الجامع الصحیح)(2)، وقال فی موضع آخر: (وأشهر الصحاح وأوثقها: الجامع الصحیح للإمام البخاری والجامع الصحیح للإمام مسلم)(3).

وقد أطلق علیه بعض المعاصرین من أهل السنة اسم (المسند الصحیح المختصر من السنن بنقل العدل عن العدل عن رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم) وقد شنع البعض علی من أسمی هذا الکتاب بغیر هذا الاسم، قال الدکتور الشیخ حاتم بن عارف الشریف: (کتاب الإمام مسلم فإن اسمه: «المسند الصحیح المختصر» أما تسمیته بالجامع فإنه خطأٌ محض ؛ لأن «الجامع» کتابٌ آخر لمسلم غیر الصحیح وتسمیته ب_«الصحیح» اختصاراً، واسمه الصحیح هو «المسند الصحیح


1- المستدرک للحاکم النیسابوری  ج 1  ص 88.
2- المصنف لابن أبی شیبة الکوفی ج 1 ص 5.
3- المصدر السابق ص7.

ص: 205

المختصر من السنن بنقل العدل عن العدل عن رسول الله __ صلی الله علیه __ وآله __ وسلم __» فسمّاه مسنداً مع أنه مرتبٌ علی أبواب الفقه وأبواب العلم)(1).

ومستند هذا القول الأخیر کما أظن هو ما قاله القاضی أبو الفضل عیاض بن موسی بن عیاض المالکی فی کتابه (مشارق الأنوار علی صحاح الآثار) حیث ذکر الآتی: (وأما کتاب المسند الصحیح المختصر بنقل العدل عن العدل عن رسول الله علیه السلام للإمام أبی الحسین مسلم بن الحجاج القشیری النسب النیسابوری الدار فإنه وصل إلینا من روایتین أیضا)(2).

وقد استدعی هذا الخلاف حول تحدید الاسم الصحیح لکتاب مسلم النیسابوری، ان یؤلف الشیخ عبد الفتاح أبو غدة کتابا خاصا یحقق فیه الاسم الحقیقی لکل من کتب البخاری ومسلم والترمذی اسماه: (تحقیق اسمی الصحیحین وجامع الترمذی).

اختلافهم فی عدد أحادیث صحیح مسلم

اختلفت الأقوال وتضاربت فی عدد أحادیث کتاب مسلم بن الحجاج المعروف بصحیح مسلم، وهی علی ما تتبعته کثیرة نختار المهم منها وهی کالآتی:

ألف: قد ذکر عن مسلم النیسابوری أنّه أخرج أحادیث کتابه من بین ثلاثمائة ألف حدیث مسموعة، قال الذهبی فی تذکرة الحفاظ: (وقال محمد بن الماسرجسی سمعت مسلما یقول: صنفت هذا الصحیح من ثلاث مائة ألف حدیث مسموعة)(3).


1- التخریج ودراسة الأسانید للشیخ الدکتور حاتم بن عارف الشریف ص18.
2- مشارق الأنوار علی صحاح الآثار للقاضی أبو الفضل عیاض بن موسی بن عیاض الیحصبی السبتی المالکی ص19.
3- تذکرة الحفاظ للذهبی  ج 2 ص 589.

ص: 206

وذکر الذهبی نقلا عن أحمد بن سلمة وهو احد الذین ساعدوا مسلماً النیسابوری فی کتابة أحادیث کتابه المعروف بصحیح مسلم، ان عدد أحادیث هذا الکتاب هو اثنا عشر ألف حدیث، فقال فی تذکرة الحفاظ: (وقال أحمد بن سلمة کتبت مع مسلم فی صحیحه خمس عشرة سنة وهو اثنا عشر ألف حدیث)(1).

غیر ان الذهبی زعم فی کتابی (تاریخ الإسلام) و(سیر أعلام النبلاء) ان هذا العدد الذی ذکره أحمد بن سلمة یشمل الأحادیث المکررة أیضا، فقال فی سیر أعلام النبلاء: (قال أحمد بن سلمة: کنت مع مسلم فی تألیف «صحیحه» خمس عشرة سنة. قال: وهو اثنا عشر ألف حدیث. قلت: یعنی بالمکرر، بحیث إنه إذا قال: حدثنا قتیبة، وأخبرنا ابن رمح یعدان حدیثین، اتفق لفظهما أو اختلف فی کلمة)(2).

باء: وقد نص أبو قریش الحافظ وهو من معاصری مسلم النیسابوری علی ان مسلما قد أودع فی کتابه أربعة آلاف حدیث فقط، فقد نقل المزی فی کتاب (تهذیب الکمال) عن الحاکم أبی عبد الله انه قال: (سمعت أبا عمرو بن أبی جعفر یقول: سمعت أبا قریش الحافظ یقول: کنت عند أبی زرعة الرازی، فجاء مسلم ابن الحجاج فسلم علیه، وجلس ساعة، وتذاکرا، فلما أن قام، قلت له: هذا جمع أربعة آلاف حدیث فی «الصحیح» فقال أبو زرعة: فلم ترک الباقی. ثم قال: لیس لهذا عقل، لو داری محمد بن یحیی لصار رجلا)(3).


1- تذکرة الحفاظ للذهبی ج 2 ص 589.
2- سیر أعلام النبلاء للذهبی ج 12 ص 566، وراجع تاریخ الإسلام للذهبی ج 20 ص 186.
3- تهذیب الکمال للمزی  ج 26 ص 627، وراجع أیضا: سیر أعلام النبلاء للذهبی  ج 12 ص280 __ 281.

ص: 207

جیم: وقال بدر الدین محمد بن بهادر بن عبد الله الزرکشی الشافعی المصری فی کتابه (النکت علی مقدمة ابن الصلاح): (وقال أبو حفص المیانشی» اشتمل کتاب مسلم علی ثمانیة آلاف حدیث)(1).

دال: وقال عبد المحسن بن حمد العباد البدر فی کتابه (الإمام مسلم وصحیحه(: (وقد عد أحادیثه الشیخ محمد فؤاد عبد الباقی من المعاصرین وبلغت عنده بدون المکرَّر ثلاثة آلاف وثلاثة وثلاثین حدیثا وقال: «وهو عمل ما سبقنی إلیه أحد من جمیع المشتغلین بهذا الصحیح إذ کان جلُّ جهدهم أن یطلقوا عددا ما ورقما تخمینا وارتجالا لا یرتکز علی أساس سلیم، فجئت أنا بهذا الحصر کی أضع حدا حاسما فاصلا لهذا الاضطراب والبلبلة»)(2).

وأما المکررات فی نظر الشیخ محمد فؤاد عبد الباقی فعددها مائة وسبعة وثلاثون حدیثا، إذ قال فی (فهارس صحیح مسلم): (کرر مسلم فی صحیحه 137 حدیثا فی مواضع متعددة منها 71 حدیثا یضع الحدیث منها فی کتاب غیر الکتاب الذی وضع الحدیث فیه لأول مرة)(3) فیصبح العدد من وجهة نظر محمد فؤاد عبد الباقی هو ثلاثة آلاف ومائة وسبعین حدیثا مکررا وغیر مکرر.

 هاء: وقال حاجی خلیفة فی (کشف الظنون): (وروی عن مسلم ان کتابه أربعة آلاف حدیث أصول دون المکررات وبالمکررات سبعة آلاف ومائتان وخمسة


1- النکت علی مقدمة ابن الصلاح لبدر الدین محمد بن بهادر بن عبد الله الزرکشی الشافعی المصری ج1 ص190 __192.
2- الإمام مسلم وصحیحه لعبد المحسن بن حمد العباد البدر، الناشر: الجامعة الإسلامیة، المدینة المنورة، السنة الثالثة __ العدد الأول، 1390ه_/1970م.
3- فهارس صحیح مسلم لمحمد فؤاد عبد الباقی ص601 الطبعة الخامسة.

ص: 208

وسبعون حدیثا)(1).

أقول وتوجد هاهنا عدة ملاحظات مهمة یجب التنبیه علیها:

1: إن الفرق الواسع والهائل ما بین الأرقام المذکورة آنفا یوجب الریبة والشک حول مصداقیة کتاب صحیح مسلم ووثاقته، والظاهر انه تعرض وعبر عصور من الزمن إلی عملیة اختزال وتشذیب وحذف، وإلا بماذا نفسر هذا الاختلاف الفاحش ما بین العدد الذی صرح به احمد بن مسلم الذی ساعد مسلماً علی کتابة صحیحه والذی کتب اثنی عشر ألف حدیث، وبین ما هو موجود بین أیدینا الیوم وهو ثلاثة آلاف ومائة وسبعون حدیثا مع المکرر، فأین ذهب یا تری الباقی؟!، وأی ید قد تلاعبت به؟!.

2: إن الاختلاف فی العدد الحقیقی لأحادیث کتاب صحیح مسلم یعود بالتأکید إلی الإحصاء الذی کان یقوم به کل شخص بحسب زمانه وظرفه، وهو یعکس مقدار ما تم حذفه واختزاله من الأحادیث فی هذا الکتاب، ففی زمن مسلم النیسابوری والمتوفی فی سنة (261 للهجرة) کان عدد أحادیث الکتاب هو اثنی عشر ألف حدیث، أما فی زمن أبی حفص المیانشی المتوفی فی سنة (581 للهجرة) فقد کان العدد هو ثمانیة آلاف حدیث، وفی وقتنا الحالی بلغت وکما أحصاها محمد فؤاد عبد الباقی ثلاثة آلاف ومائة وسبعین حدیثا مع المکرر، وهو فرق مهول وخطیر فی الوقت نفسه، وهو یعنی ان ید التلاعب والتزویر قد حذفت ما یقارب التسعة الآلاف حدیث من هذا الکتاب، وسیأتی فی الفصل الرابع إن شاء الله تعالی ان واحداً من الأحادیث التی حذفت هو حدیث (خیر نساء العالمین أربع مریم بنت عمران وآسیة بنت مزاحم وخدیجة بنت خویلد وفاطمة بنت محمد) وعلی هذا


1- کشف الظنون لحاجی خلیفة  ج 1 ص 556.

ص: 209

الحدیث فقس ما سواه، ومنه یتضح نوع الأحادیث التی تم حذفها والتلاعب بها، فکل حدیث لا یرضیهم ویخالف عقیدتهم ویکشف سرا لا یحبون کشفه فانه یتم حذفه.

3: حاول الذهبی فی کتابه (سیر أعلام النبلاء) التوفیق ما بین قول احمد بن سلمة الذی اعترف فیه بأن عدد أحادیث کتاب مسلم هو اثنا عشر ألف حدیث، وما بین ما هو موجود فی عصره، بأن عدد الاثنی عشر ألف حدیث یشمل الأحادیث المکررة، وفیما یأتی نص کلامه: (قال أحمد بن سلمة: کنت مع مسلم فی تألیف «صحیحه» خمس عشرة سنة. قال: وهو اثنا عشر ألف حدیث. قلت: یعنی بالمکرر، بحیث إنه إذا قال: حدثنا قتیبة، وأخبرنا ابن رمح یعدان حدیثین، اتفق لفظهما أو اختلف فی کلمة)(1).

وهو کلام غیر مقبول مطلقا، لان منهج مسلم النیسابوری فی کتابه یخالف مسألة تکرار الحدیث الواحد عدة مرات، إلا فی حال اضطر إلی تکراره لعلة تستلزم التکرار، وقد صرح بهذا فی مقدمة کتابه حیث قال: (ثم إنا إن شاء الله مبتدئون فی تخریج ما سألت وتألیفه علی شریطة سوف اذکرها لک وهو إنا نعمد إلی جملة ما أسند من الأخبار عن رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فنقسمها علی ثلاثة أقسام وثلاث طبقات من الناس علی غیر تکرار إلا أن یأتی موضع لا یستغنی فیه عن ترداد حدیث فیه زیادة معنی أو إسناد یقع إلی جنب إسناد لعلة تکون هناک لان المعنی الزائد فی الحدیث المحتاج إلیه یقوم مقام حدیث تام فلابد من إعادة الحدیث الذی فیه ما وصفنا من الزیادة أو أن یفصل ذلک المعنی من جملة الحدیث علی اختصاره إذا أمکن ولکن تفصیله ربما عسر من جملته فإعادته بهیئته إذا ضاق ذلک


1- سیر أعلام النبلاء للذهبی ج 12 ص 566، وراجع تاریخ الإسلام للذهبی ج 20 ص 186.

ص: 210

أسلم فأما ما وجدنا بدا من إعادته بجملته من غیر حاجة منا إلیه فلا نتولی فعله إن شاء الله تعالی)(1).

فالقاعدة عنده هی عدم التکرار من دون حاجة، وعلیه فمن غیر المعقول أن یذکر مسلم ثلاثة آلاف حدیث ثم یکررها ثلاثة أضعاف لیصبح المجموع اثنی عشر ألف حدیث.

ثم لو سلمنا جدلا بکلام الذهبی وقلنا بان صحیح مسلم مع المکرر یبلغ اثنی عشر ألف حدیث، فان هذا أیضا لا ینفی وقوع التلاعب والحذف والتزویر فیه، لأننا نسأل: لماذا لم یصل إلینا بجمیع تلک المکررات؟، ولماذا لم یبقوا علی الإثنی عشر ألف حدیث؟، ولماذا لم یصلنا منها سوی ثلاثة آلاف حدیث، ومن الذی حذف البقیة؟، وغیر ذلک من الأسئلة کثیر جدا، فاعتذار الذهبی لا یحل العقدة بل یحکمها أکثر وأکثر، وهو کما قال المثل: عذر أقبح من فعل.

هل أکمل مسلم النیسابوری تألیف کتابه وترتیبه قبل أن یموت؟ ومن الذی وضع عناوین أبواب کتابه؟

ذکرت مصادر عدة أنّ مسلم بن الحجاج النیسابوری مات قبل إتمام کتابه واستیعاب تراجمه وأبوابه، وقد نص علی هذه الحقیقة کل من ابن عساکر والحاکم النیسابوری، وقد نقل الذهبی فی أکثر من کتاب من کتبه کلام کل من ابن عساکر والحاکم، فقال فی (سیر أعلام النبلاء): (قال الحافظ أبو القاسم بن عساکر فی أول «الأطراف» له بعد أن ذکر «صحیح البخاری»: ثم سلک سبیله مسلم بن الحجاج، فأخذ فی تخریج کتابه وتألیفه، وترتیبه علی قسمین، وتصنیفه. وقصد أن یذکر فی


1- صحیح مسلم ج 1 ص 3.

ص: 211

القسم الأول أحادیث أهل الإتقان، وفی القسم الثانی أحادیث أهل الستر والصدق الذین لم یبلغوا درجة المتثبتین، فحالت المنیة بینه وبین هذه الأمنیة، فمات قبل استتمام کتابه غیر أن کتابه مع إعوازه اشتهر وانتشر)(1)، وکذا قال حاجی خلیفة فی کشف الظنون نقلا عن ابن عساکر إلا انه زاد علی کلام الذهبی قوله: (فمات قبل إتمام کتابه واستیعاب تراجمه وأبوابه غیر أن کتابه مع إعوازه اشتهر وسار صیته فی الآفاق وانتشر)(2).

ونقل الذهبی کلام الحاکم فی کتابه السابق بقوله: (وقال الحاکم: أراد مسلم أن یخرج " الصحیح " علی ثلاثة أقسام، وعلی ثلاث طبقات من الرواة، وقد ذکر هذا فی صدر خطبته، فلم یقدر له إلا الفراغ من الطبقة الأولی، ومات)(3).

أقول: فکتاب صحیح مسلم وبالاعتماد علی تصریح کل من ابن عساکر والحاکم ناقص غیر تام وهو غیر منقح منه فلا یمکن الاعتماد علی مضمونه لاحتمال أنّ مسلما النیسابوری کان بهدف الجمع فقط لأحادیث کان ینوی ان یصححها ویرتبها ویهذبها فیما بعد فلم تمهله المنیة للقیام بذلک، ویؤید هذا الاحتمال ان مسلما النیسابوری شرط علی نفسه أن لا یذکر فی کتابه إلا الحدیث الصحیح الذی اشتهر، کما سیأتی لاحقا لکنه ومع تقیید نفسه بهذا الشرط أخرج کثیراً من الأحادیث المعلولة ولرجال معلولین لم یتفق الجمیع علی توثیقها وتوثیقهم، مما یؤکد لنا ان مسلما النیسابوری کان بصدد جمع الأحادیث فی المرتبة الأولی ومن ثم تهذیبها علی شرطه لکن المنیة عاجلته وحالت بینه وبین تهذیبه.


1- سیر أعلام النبلاء للذهبی ج 12 ص 573 __ 574.
2- کشف الظنون لحاجی خلیفة  ج 1 ص 556.
3- سیر أعلام النبلاء للذهبی ج 12 ص 574.

ص: 212

وأما تبویب کتابه فقد اعترف عدة من محدثی أهل السنة وعلمائهم بان مسلما النیسابوری مات ولم یسمِّ الأبواب التی یشتمل علیها کتابه، وقد تدخل بعض الذین جاؤوا من بعده فی کتابه فوضعوا عناوین لتلک الأبواب التی ترکها مسلم بن الحجاج فارغة، قال النووی فی شرحه لصحیح مسلم:

(ثم إن مسلما رحمه الله رتب کتابه علی أبواب فهو مبوب فی الحقیقة ولکنه لم یذکر تراجم الأبواب فیه لئلا یزداد بها حجم الکتاب أو لغیر ذلک قلت وقد ترجم جماعة أبوابه بتراجم بعضها جید وبعضها لیس بجید إما لقصور فی عبارة الترجمة وإما لرکاکة لفظها وإما لغیر ذلک)(1).

وقال حاجی خلیفة فی کشف الظنون:

(ثم إن مسلما رتب کتابه علی الأبواب ولکنه لم یذکر تراجم الأبواب وقد ترجم جماعة أبوابه)(2).

أقول: هذا تصریح واضح ودلیل بیّن علی حصول التلاعب من الآخرین بصحیح مسلم، وهذا ما یجعلنا لا نطمئن إلی باقی الکتاب بسبب احتمال حصول تلاعب فی أصل أحادیثه وأسانیده، وهو احتمال له قیمة ویمکن أن یعول علیه بل ویمکن القطع بحصوله فیما لو ضممنا هذا التلاعب بأسماء الأبواب إلی ما سبق وما سیأتی من فعل «النساخ» الذین أضافوا إلی الکتاب کثیراً من آرائهم وأقوالهم وتعلیقاتهم وأحادیثهم وأسانیدهم مع متن صحیح مسلم وأسانیده وأقواله.


1- شرح مسلم للنووی  ج 1 ص21.
2- کشف الظنون لحاجی خلیفة  ج 1 ص 556.

ص: 213

هل کانت العلاقة ما بین مسلم والبخاری علاقة طیبة؟ وهل أثرت حدة أخلاق مسلم علی تدوین السنة؟

قال الذهبی: (ثم إن مسلما، لحدة فی خلقه، انحرف أیضا عن البخاری، ولم یذکر له حدیثا، ولا سماه فی «صحیحه»، بل افتتح الکتاب بالحط علی من اشترط اللقیا لمن روی عنه بصیغة «عن»، وادعی الإجماع فی أن المعاصرة کافیة، ولا یتوقف فی ذلک علی العلم بالتقائهما، ووبخ من اشترط ذلک. وإنما یقول ذلک أبو عبد الله البخاری، وشیخه علی بن المدینی، وهو الأصوب الأقوی. ولیس هذا موضع بسط هذه المسألة)(1).

أقول: وقد أثرت هذه الحدة فی خلق مسلم النیسابوری علی سائر أفراد الأمة الإسلامیة والی یوم القیامة، فقد تخاصم مسلم بن الحجاج مع محمد بن یحیی، ولسبب اقل ما یمکن أن یقال عنه انه تافه، امتنع مسلم بن الحجاج عن نقل کثیر من الأحادیث والسنة النبویة التی کانت عند محمد بن یحیی التی کتبها مسلم النیسابوری عنه، وبسبب هذا الخلاف البسیط قام مسلم بجمع تلک الأحادیث فی زنبیل وحملها إلی دار محمد بن یحیی وقال له لا اروی عنک أبدا، فعن ابن عساکر عن: (طاهر بن أحمد یقول سألت مکی بن عبدان لم ترک مسلم حدیث محمد بن یحیی فقال وافی داود الأصبهانی نیسابور أیام إسحاق بن إبراهیم الحنظلی فعقدوا له مجلس النظر وحضر مجلسه یحیی بن محمد بن یحیی ومسلم بن الحجاج فجرت لهم مسألة تکلم فیها یحیی بن محمد بن یحیی فزبره داود وقال اسکت یا صبی ولم ینصره مسلم فرجع إلی أبیه وشکا إلیه داود فقال محمد بن یحیی ومن کان فی المجلس قال مسلم بن الحجاج ولم ینصرنی قال قد رجعت عن کل ما حدثته به قال فبلغ مسلم


1- سیر أعلام النبلاء للذهبی ج 12 ص 573.

ص: 214

قول محمد بن یحیی هذا فجمع ما کتب عنه وجعله فی زنبیل وحمله إلی داره وقال لا أروی عنک أبدا)(1).

أقول: وکم من مرة ومرة أثرت هذه النزاعات الشخصیة والخلافات __ التی غالبا ما تنشأ عن أسباب تافهة __ علی تدوین السنة النبویة، وکم من کتاب احرق أو دفن أو اخفی لهذا السبب، وکم من راوٍ ترک حدیثه ومات مع موته ولم یدونوه لأسباب التنافس والحسد والغیرة وغیر ذلک من الأسباب التی لا تلیق بعوام الناس وجهلتهم فضلا عن أهل الحدیث وحملة الآثار، فضاعت بذلک آلاف الأحادیث والسنن النبویة، وخسرت الأمة الإسلامیة بسبب ذلک تراثها ورصیدها الفکری والثقافی.

موقف أساتذة مسلم من تألیفه لکتاب الصحیح

عن سعید بن عمرو البرذعی قال: (شهدت أبا زرعة __ یعنی الرازی __ ذکر کتاب الصحیح الذی ألفه مسلم بن الحجاج ثم الفضل الصائغ علی مثاله فقال لی أبو زرعة هؤلاء قوم أرادوا التقدم قبل أوانه فعملوا شیئا یتشوفون به ألفوا کتابا لم یسبقوا إلیه لیقیموا لأنفسهم ریاسة قبل وقتها)(2).

وفی النص المنقول عن کل من المزی فی (تهذیب الکمال) والذهبی فی (سیر أعلام النبلاء): (فقال لی أبو زرعة: هؤلاء قوم أرادوا التقدم قبل أوانه، فعملوا شیئا یتسوقون به(3)، ألفوا کتابا لم یسبقوا إلیه، لیقیموا لأنفسهم ریاسة قبل وقتها)(4).

أقول: واعتراف کهذا من شخص کأبی زرعة الرازی له قیمة علمیة کبیرة،


1- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر  ج 58 ص 93.
2- راجع تاریخ بغداد للخطیب البغدادی ج 5 ص 29.
3- إلی هنا تنتهی عبارة الذهبی والبقیة للمزی.
4- تهذیب الکمال للمزی ج 1 ص 419 __420، وسیر أعلام النبلاء للذهبی ج 12 ص 571

ص: 215

لان أبا زرعة کان معاصرا لمسلم النیسابوری فهو مطلع علی کثیر من الملابسات والإشکالات المحیطة بشخص مسلم أکثر من الذین جاؤوا من بعده.

ثم ان شخصا مثل أبی زرعة کان ولا بد مطلعاً علی کثیر من الأدلة القاطعة التی حکم من خلالها علی نوایا مسلم وأهدافه من تألیفه لکتابه الصحیح، وان الهدف منه کان التقدم قبل تحصیل مقومات التقدم، والتسوق والتشوف وکسب الشهرة أو المال، ولیکون هذا الکتاب سلما یصعد من خلاله إلی الرئاسة.

وتعظم القیمة العلمیة لکلام أبی زرعة إذا ما عرفنا مقام أبی زرعة العلمی؛ إذ کان یعد عند أهل السنة إماما من أئمة الحدیث والعلم، فعن الخطیب البغدادی: (أبو زرعة وأبو حاتم إماما خراسان، ودعا لهما، وقال: بقاؤهما صلاح للمسلمین)(1)، وعده البخاری فی الأدب المفرد من حفاظ الدنیا الأربعة(2).

وربما حاول بعض المتحذلقین التخفیف من وطأة کلام أبی زرعة فی حق مسلم النیسابوری وکتابه، فقال بان أبا زرعة حکم علی صحیح مسلم من دون النظر إلی مضمونه فیصبح حکمه بالقدح غیر مبرر وغیر مفسر فیسقط عن الاعتبار.

وهی محاولة فاشلة لا ریب، لان أبا زرعة لم یحکم بما حکم به علی صحیح مسلم إلا بعد تتبعه ومراجعته لکتابه، وفی هذه المراجعة والاطلاع رأی أنّ مسلماً النیسابوری قد روی عن رواة مقدوح فی عدالتهم، وترک بعض الرواة المعروفین بالعدالة والثقة عند أهل الحدیث، فحکم بعد ذلک بعدم مطابقة اسم الصحیح علی کتابه، وقال کلمته التی تکشف عن نوایا مسلم وغیره من کتابة هذه الکتب التی یسمونها صحاحاً وهی بعیدة کل البعد عن الصحیح.


1- تاریخ بغداد للخطیب البغدادی  ج 2 ص73.
2- الأدب المفرد للبخاری  ص 9.

ص: 216

ویشهد علی اطلاع أبی زرعة علی صحیح مسلم ما أخرجه الخطیب البغدادی وغیره عن سعید بن عمرو البرذعی الذی قال: (وأتاه ذات یوم __ وأنا شاهد __ رجل بکتاب الصحیح من روایة مسلم فجعل ینظر فیه فإذا حدیث عن أسباط بن نصر فقال أبو زرعة ما أبعد هذا من الصحیح یدخل فی کتابه أسباط بن نصر ثم رأی فی کتابه قطن بن نسیر فقال لی: وهذا أطم من الأول قطن بن نسیر وصل أحادیث عن ثابت جعلها عن أنس ثم نظر فقال: یروی عن أحمد بن عیسی المصری فی کتابه الصحیح. قال لی أبو زرعة: ما رأیت أهل مصر یشکون فی أن أحمد بن عیسی __ وأشار أبو زرعة إلی لسانه __ کأنه یقول الکذب ثم قال لی: تحدث عن أمثال هؤلاء وتترک محمد بن عجلان ونظراءه وتطرق لأهل البدع علینا فیجدوا السبیل بأن یقولوا للحدیث إذا احتج به علیهم لیس هذا فی کتاب الصحیح ورأیته یذم من وضع هذا الکتاب ویؤنبه)(1).

ولیس أبو زرعة وحده الذی کان ناقما علی مسلم النیسابوری، فسعید بن عمرو البرذعی ینقل تشنیع محمد بن مسلم بن واره وقدحه علی کتاب مسلم النیسابوری، قال سعید: (وقدم مسلم بعد ذلک الری فبلغنی انه خرج إلی أبی عبد الله محمد بن مسلم بن واره فجفاه وعاتبه علی هذا الکتاب وقال له نحوا مما قاله لی أبو زرعة: إن هذا تطرق لأهل البدع علینا. فاعتذر إلیه مسلم وقال: إنما أخرجت هذا الکتاب وقلت: هو صحاح ولم أقل إن ما لم أخرجه من الحدیث فی هذا الکتاب ضعیف ولکنی إنما أخرجت هذا من الحدیث الصحیح لیکون مجموعا عندی وعند من یکتبه عنی فلا یرتاب فی صحتها ولم أقل إن ما سواه ضعیف)(2).


1- تاریخ بغداد للخطیب البغدادی  ج 5  ص 29.
2- المصدر نفسه.

ص: 217

موقف علماء السنة من بعض أحادیث صحیح مسلم

کثیرة هی الأحادیث التی ردها کثیر من علماء أهل السنة والتی هی مدونة فی کتاب مسلم الموصوف بالصحیح، وذکرها بأجمعها یحتاج إلی تصنیف مستقل بذاته لکثرتها، غیر اننا وإتماما للفائدة نذکر للقارئ الکریم أنموذجا واحدا من تلک الأحادیث مع تعلیق علماء أهل السنة علیه لیتبین لنا ولکل منصف أن وصف الصحیح الذی أطلق علی کتاب مسلم إنما أُطلق جزافا ومکابرة، وان قول بعض المکابرین أن صحیح مسلم قد تلقته الأمة بالقبول والتسلیم کذب محض لا دلیل علیه، لان الأمة لاسیما علماؤها قد ناقشوا کثیرا من أحادیث ذلک الکتاب بل کذبوها ورموها بالوضع وعابوا علی مسلم ولاموه إخراج مثل هذه الأحادیث فی صحیحه کما سنری فیما یأتی.

أخرج مسلم فی کتابه: (حَدَّثَنَا عِکْرِمَةُ حَدَّثَنَا أَبُو زُمَیْلٍ حَدَّثَنِی ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ کَانَ الْمُسْلِمُونَ لَا یَنْظُرُونَ إِلَی أَبِی سُفْیَانَ وَلَا یُقَاعِدُونَهُ فَقَالَ لِلنَّبِیِّ صلی الله علیه __ وآله __ وسلم یَا نَبِیَّ اللَّهِ ثَلَاثٌ أَعْطِنِیهِنَّ قَالَ نَعَمْ قَالَ عِنْدِی أَحْسَنُ الْعَرَبِ وَأَجْمَلُهُ أُمُّ حَبِیبَةَ بِنْتُ أَبِی سُفْیَانَ أُزَوِّجُکَهَا قَالَ نَعَمْ قَالَ وَمُعَاوِیَةُ تَجْعَلُهُ کَاتِبًا بَیْنَ یَدَیْکَ قَالَ نَعَمْ قَالَ وَتُؤَمِّرُنِی حَتَّی أُقَاتِلَ الْکُفَّارَ کَمَا کُنْتُ أُقَاتِلُ الْمُسْلِمِینَ قَالَ نَعَمْ قَالَ أَبُو زُمَیْلٍ وَلَوْلَا أَنَّهُ طَلَبَ ذَلِکَ مِنْ النَّبِیِّ صلی الله علیه __ وآله __ وسلم مَا أَعْطَاهُ ذَلِکَ لِأَنَّهُ لَمْ یَکُنْ یُسْأَلُ شَیْئًا إِلاّ قَالَ نَعَمْ)(1).

وقال البیهقی فی (السنن الکبری): (رواه مسلم فی الصحیح عن عباس بن عبد العظیم وأحمد بن جعفر، فهذا أحد ما اختلف البخاری ومسلم فیه، فأخرجه مسلم بن الحجاج وترکه البخاری، وکان لا یحتج فی کتابه الصحیح بعکرمة بن


1- صحیح مسلم ج 7 ص 171.

ص: 218

عمار، وقال لم یکن عنده کتاب فاضطرب حدیثه، «قال الشیخ» رحمه الله وهذا الحدیث فی قصة أم حبیبة رضی الله عنها قد أجمع أهل المغازی علی خلافه، فإنهم لم یختلفوا فی أن تزویج أم حبیبة رضی الله عنها کان قبل رجوع جعفر بن أبی طالب وأصحابه من أرض الحبشة، وإنما رجعوا زمن خیبر فتزویج أم حبیبة کان قبله، وإسلام أبی سفیان بن حرب کان زمن الفتح أی فتح مکة، بعد نکاحها بسنتین أو ثلاث، فکیف یصح أن یکون تزویجها بمسألته)(1).

وقال النووی فی شرحه لصحیح مسلم: (واعلم أن هذا الحدیث من الأحادیث المشهورة بالإشکال، ووجه الإشکال أن أبا سفیان إنما أسلم یوم فتح مکة سنة ثمان من الهجرة، وهذا مشهور لا خلاف فیه، وکان النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم قد تزوج أم حبیبة قبل ذلک بزمان طویل، قال أبو عبیدة وخلیفة بن خیاط وابن البرقی والجمهور تزوجها سنة ست وقیل سنة سبع... قال القاضی والذی فی مسلم هنا أنه زوجها أبو سفیان غریب جدا، وخبرها مع أبی سفیان حین ورد المدینة فی حال کفره مشهور، ولم یزد القاضی علی هذا، وقال ابن حزم هذا الحدیث وهم من بعض الرواة، لأنه لا خلاف بین الناس أن النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم تزوج أم حبیبة قبل الفتح بدهر، وهی بأرض الحبشة وأبوها کافر، وفی روایة عن ابن حزم أیضا أنه قال موضوع قال والآفة فیه من عکرمة بن عمار الراوی عن أبی زمیل)(2).

وقال الزیلعی فی (تخریج الأحادیث والآثار): (قال عبد الحق فی الجمع فی الصحیحین لم یخرجه البخاری، والصحیح أنه علیه السلام تزوجها قبل إسلام أبی


1- السنن الکبری للبیهقی  ج 7  ص 140.
2- شرح مسلم للنووی  ج 16 ص 63 __ 64.

ص: 219

سفیان انتهی، وقول أبی سفیان یوم الفتح للنبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم أسألک ثلاثا فذکر منهن أن یتزوج رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم أم حبیبة یعنی ابنته فأجابه علیه السلام لما سأل قال وهذا مخالف لما اتفق علیه أرباب السیر والعلم بالخبر قال وأجاب عنه الحافظ المنذری جوابا یتساول هزلا فقال یحتمل أن أبا سفیان ظن أنه تجددت له علیها ولایة بما حصل له من الإسلام فأراد تجدید العقد یوم ذاک لا غیر)(1).

وقال ابن کثیر فی (البدایة والنهایة): (قال ابن الأثیر وهذا الحدیث مما أنکر علی مسلم، لان أبا سفیان لما جاء یجدد العقد قبل الفتح دخل علی ابنته أم حبیبة فثنت عنه فراش النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فقال والله ما أدری أرغبت بی عنه أو به عنی؟ قالت بل هذا فراش رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم وأنت رجل مشرک. فقال والله لقد أصابک بعدی یا بنیة شر وقال ابن حزم هذا الحدیث وضعه عکرمة بن عمار وهذا القول منه لا یتابع علیه...)(2).

وقال المقریزی فی (إمتاع الأسماع): (قال أبو عبید الله محمد بن أبی نصر الحمیدی رحمه الله: قال لنا بعض الحفاظ: هذا الحدیث وهم فیه بعض الرواة، لأنه لا خلاف بین اثنین من أهل المعرفة بالأخبار، أن النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم تزوج أم حبیبة رضی الله عنها قبل الفتح بدهر وهی بأرض الحبشة، وأبوها کافر یومئذ قال کاتبه: وقد استغرب من مسلم رحمه الله کیف لم ینتبه لهذا الحدیث؟ فإنه لا یخفی علیه أن أبا سفیان إنما أسلم لیلة فتح مکة، وقد کان بعد تزویج رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم أم حبیبة بأکثر من سنة بلا خلاف، وقد


1- تخریج الأحادیث والآثار للزیلعی  ج 3 ص 458.
2- البدایة والنهایة لابن کثیر  ج 4  ص 165.

ص: 220

أشکل هذا الحدیث علی الناس واختلفوا فیه، ووجه إشکاله أن أم حبیبة تزوجها رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم قبل إسلام أبی سفیان کما تقدم، زوجها إیاه النجاشی، ثم قدمت علی رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم قبل أن یسلم أبوها، فکیف یقول بعد الفتح: أزوجک أم حبیبة؟ فقالت طائفة من أهل الحدیث: هذا الحدیث کذب لا أصل له. قال أبو محمد علی بن سعید بن حزم: کذبه عکرمة بن عمار وحمل علیه... ولم یرد القاضی «عیاض» علی استشکال الحدیث فقال: والذی وقع فی مسلم من هذا غریب جدا عند أهل الخبر، وخبرها مع أبی سفیان عند وروده المدینة بسبب تجدید الصلح ودخوله علیها مشهور)(1).

وقد رد الذهبی علی هذا الحدیث فی کتابه سیر أعلام النبلاء عند حدیثه عن عکرمة فقال: (قلت: قد ساق له مسلم فی الأصول حدیثا منکرا، وهو الذی یرویه عن سماک الحنفی، عن ابن عباس، فی الأمور الثلاثة التی التمسها أبو سفیان، من النبی __ صلی الله علیه __ وآله __ وسلم __)(2).

وقال السقاف فی مقدمة کتاب (دفع شبه التشبیه بأکف التنزیه): (قلت: هذا حدیث موضوع وهو أحد الأحادیث الثلاثة الموضوعة التی فی صحیح الإمام مسلم. ومن دلائل وضعه: أن رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم کان قد تزوج أم حبیبة بنت أبی سفیان قبل فتح مکة بدهر، ولما زارها أبو سفیان فی المدینة وهو مشرک نحته عن فراش رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم لأنه مشرک نجس ساعتئذ وهذا مشهور ومعلوم... وقال الحافظ ابن الجوزی فی هذا الحدیث: " هو وهم من بعض الرواة لا شک فیه ولا تردد، وقد اتهموا به عکرمة بن عمار


1- إمتاع الأسماع للمقریزی ج 6  ص 67 __ 69.
2- سیر أعلام النبلاء للذهبی  ج 7 ص 137.

ص: 221

راوی الحدیث، وإنما قلنا: إن هذا وهم لأن أهل التاریخ أجمعوا علی أن أم حبیبة کانت تحت عبید الله بن جحش، وولدت له، وهاجر بها وهما مسلمان إلی أرض الحبشة، ثم تنصر وثبتت أم حبیبة علی دینها، فبعث رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم إلی النجاشی یخطبها علیه، فزوجه إیاها، وأصدقها عن رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم أربعة آلاف درهم، وذلک فی سنة سبع من الهجرة وجاء أبو سفیان فی زمن الهدنة وهی التی کانت بین النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم وبین قریش فی صلح الحدیبیة فدخل علیها، فثنت بساط رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم حتی لا یجلس علیه، ولا خلاف فی أن أبا سفیان ومعاویة أسلما فی فتح مکة سنة ثمان، ولا یعرف أن رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم أمر أبا سفیان)(1).

کیف وصل إلینا کتاب صحیح مسلم؟

من أهم المسائل التی یحکم علی أساسها بوثاقة کتاب معین واعتباره أو عدم اعتباره هی مسألة وثاقة الصدور، فأی کتاب ولکی یکون معتبرا لابد أن یوثق بالطریق أو الطرق التی وصل من خلالها ذلک الکتاب، ونقصد بالطرق کل الرجال الذین انتقل الکتاب من خلالهم، وکیفیة تحمل هؤلاء الرجال لهذا الکتاب، فهل تم تحملهم عن طریق السماع أو عن طریق الوجادة أو غیرها من طرق التحمل الأخری، لان فی کل طریقة من طرق التحمل درجة من الوثاقة والاعتبار تختلف عن الطریقة الأخری.

وکتاب صحیح مسلم وان کان قد کتبت له الشهرة والانتشار لأسباب لیس هنا محل بیانها، إلا انه لم ینقل عن مسلم إلینا إلا بطریقین فقط، کما نبه علی ذلک


1- دفع شبه التشبیه بأکف التنزیه لأبی الفرج عبد الرحمن بن الجوزی الحنبلی  ص 52 __ 53.

ص: 222

النووی فی شرحه لکتاب مسلم حیث قال: (صحیح مسلم رحمه الله فی نهایة من الشهرة وهو متواتر عنه من حیث الجملة فالعلم القطعی حاصل بأنه تصنیف أبی الحسین مسلم بن الحجاج وأما من حیث الروایة المتصلة بالإسناد المتصل بمسلم فقد انحصرت طریقه عنده فی هذه البلدان والأزمان فی روایة أبی إسحاق إبراهیم بن محمد بن سفیان عن مسلم ویروی فی بلاد المغرب مع ذلک عن أبی محمد أحمد بن علی القلانسی عن مسلم)(1).

ولکن کل واحد من هذین الطریقین مطعون فی صحته لأسباب کثیرة، منها أن کلاً من (إبراهیم بن محمد بن سفیان) و(أحمد بن علی القلانسی) لم نقف له علی ترجمة تصرح بوثاقته فی کتب أهل العلم المعتبرة، نعم ذکر بعض المدح لإبراهیم بن محمد بن سفیان من حیث العبادة والزهد لا من حیث الوثاقة والضعف، حتی ان النووی لما تصدی لترجمة حاله ووثاقته لم یذکر قولا واحدا یشیر إلی وثاقته فی الروایة والنقل، واقتصر علی الإشارة إلی عبادته وزهده واستجابة دعائه فقال: (أما شیخنا أبو إسحاق فکان من أهل الصلاح والمنسوبین إلی الخیر والفلاح معروفا بکثرة الصدقات وإنفاق المال فی وجوه المکرمات ذا عفاف وعبادة ووقار وسکینة وصیانة بلا استکبار توفی رحمه الله بالإسکندریة الیوم السابع من رجب سنة أربع وستین وستمائة)(2)وکذا فعل کل من ذکره علی حسب ما تتبعناه.

أقول: إن وصف (إبراهیم بن محمد بن سفیان) بالتقوی والدین والورع واستجابة الدعاء والعبادة والوقار کل هذه الأمور لا تدل علی وثاقته ونزاهته،


1- شرح مسلم للنووی  ج 1 ص 11.
2- المصدر السابق ص7.

ص: 223

فکم من عابد صالح تقی وقور کان یکذب علی رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، کما أخرج مسلم نفسه حدیثا أو أکثر یؤکد هذه الحقیقة، فعن محمد بن یحیی بن سعید القطان عن أبیه قال: (لم نر الصالحین فی شیء اکذب منهم فی الحدیث قال ابن أبی عتاب فلقیت انا محمد بن یحیی بن سعید القطان فسألته عنه فقال عن أبیه لم تر أهل الخیر فی شیء اکذب منهم فی الحدیث)(1)، وقال الشوکانی: (وروایة المنکرات کثیر ما تعتری الصالحین لقلة تفقدهم للرواة، لذلک قیل: لم نر الصالحین فی شیء أکذب منهم فی الحدیث)(2) فیصبح بذلک إبراهیم بن محمد بن سفیان مجهول الوثاقة ومن کان مجهول الوثاقة ضعف نقله ولم یوثق بقوله.

نعم قد ذکر الذهبی فی (سیر أعلام النبلاء) تعریفا له ذکر فیه أشیاء کثیرة منها ان إبراهیم بن محمد بن سفیان کان من أئمة الحدیث فقال: (ابن سفیان: الإمام القدوة الفقیه، العلامة المحدث الثقة، أبو إسحاق، إبراهیم بن محمد بن سفیان النیسابوری، من تلامذة أیوب بن الحسن الزاهد الحنفی. وکان من أئمة الحدیث. سمع «الصحیح» من مسلم بفوت، رواه وجادة وهو فی الحج، وفی الوصایا، وفی الإمارة، وذلک محرر مقید فی النسخ، یکون مجموعه سبعا وثلاثین قائمة)(3).

أقول: لقد اکتشف الذهبی أن عدم وجود توثیق لإبراهیم بن محمد بن سفیان معناه ضرب وإسقاط لثالث کتاب معتمد عند السنة بعد کتاب الله سبحانه وتعالی وکتاب صحیح البخاری، فعمد إلی توثیقه لتلافی هذه المصیبة، ولکننا نسأل الذهبی إذا کان إبراهیم بن محمد بن سفیان إماما وقدوة وفقیها وعلاّمة ومن أئمة الحدیث


1- صحیح مسلم ج 1 ص 13 __ 14.
2- نیل الأوطار للشوکانی  ج 2 ص 41.
3- سیر أعلام النبلاء للذهبی ج 14 ص 311 __ 312.

ص: 224

فلماذا لم تذکره کتب الرجال والجرح والتعدیل بالوثاقة علی اقل التقادیر؟ ولماذا لم یصفوه عند ترجمته إلا بالزهد والعبادة؟ وإذا کان من أئمة الحدیث فکیف اغفلوا ذکره بینما ترجموا لأناس بالکاد یذکرون ویعرفون؟ فهل خفی علی أئمة الجرح والتعدیل خبره ووثاقته؟ بالطبع لا یخفی علیهم ذلک لو کان موجودا، وبالخصوص لرجل یروی کتاب صحیح مسلم، فالذهبی لم یبین من أین حصل له العلم بان إبراهیم بن محمد بن سفیان من أئمة الحدیث مع أن أئمة الحدیث معروفة أسماؤهم وأحوالهم وتراجمهم ولم یذکر احد أن محمدا بن إبراهیم کان واحدا منهم، وعلیه یصبح توثیق الذهبی له مما لا شاهد له ولا دلیل یعضده فیبقی علی جهالته والمجهول لا یؤخذ عنه قول، وعلیه فلا نستطیع قبول کتاب صحیح مسلم لعدم الوثوق بطریق نقله وصحة صدوره.

ولا یقتصر الأمر والحکم بالجهالة والضعف علی کل من (إبراهیم بن محمد ابن سفیان) و(أحمد بن علی القلانسی) بل یشترک معهما أشخاص آخرون قد ذکروا فی الإسنادین اللذین وصل بهما کتاب صحیح مسلم، ترکناهم لعدم رغبتنا فی الإطالة أکثر من ذلک.

وتوجد علة أخری فیما یخص موضوع نقل صحیح مسلم وتحمّله تضاف إلی جهالة الناقلین، وهذه العلة هی عدم وصول کتاب صحیح مسلم إلینا الیوم عن طریق السماع، إلا ما قیل عن سماع إبراهیم بن محمد بن سفیان، والذی اعترف الذهبی بان سماعه ناقص، قد روی الکثیر من أجزاء کتاب صحیح مسلم بالوجادة، ولیس بالسماع.

والوجادة کما هو مقرر فی محله أدنی درجة من السماع من حیث الوثاقة والاطمئنان، هذا إن قلنا بقبولها، وذلک لان هنالک مجموعة من أئمة الحدیث لم

ص: 225

یکونوا یقبلون أن یؤخذ الکتاب أو الحدیث بالوجادة واشترطوا لصحة الأخذ والوثوق السماع، ومن هؤلاء عمر بن الخطاب حیث روی عنه قوله: (عن أبی عبد الرحمن السلمی قال: قال عمر بن الخطاب رضی الله عنه إذا وجد أحدکم کتابا فیه علم لم یسمعه من عالم فلیدع بإناء وماء فلینقعه فیه حتی یختلط سواده مع بیاضه)(1).

ومن الرافضین لاعتبار طریق الوجادة ابن سیرین فعن ابن عون قال: (قلت لابن سیرین ما تقول فی رجل یجد الکتاب یقرؤه أو ینظر فیه قال لا حتی یسمعه من ثقة)(2). ومنهم وکیع فعن الحسین بن حریث قال: (سمعت وکیعا یقول لا ینظر فی کتاب لم یسمعه)(3).

وقد علق الذهبی علی ما قاله أبو عبد الله الحاکم من ان إسحاق، وابن المبارک، ومحمد بن یحیی هؤلاء دفنوا کتبهم، قائلا: (قلت: هذا فعله عدة من الأئمة، وهو دال أنهم لا یرون نقل العلم وجادة، فإن الخط قد یتصحف علی الناقل، وقد یمکن أن یزاد فی الخط حرف فیغیر المعنی، ونحو ذلک. وأما الیوم فقد اتسع الخرق، وقل تحصیل العلم من أفواه الرجال، بل ومن الکتب غیر المغلوطة، وبعض النقلة للمسائل قد لا یحسن أن یتهجی)(4).

فکتاب صحیح مسلم علی وفق ما سبق غیر مقبول کله أو أکثره عند عمر ابن الخطاب وعند ابن سیرین وعند وکیع وعند کثیر من الأئمة الذین قال عنهم أبو عبد الله الحاکم إنهم لا یرون نقل العلم بالوجادة.


1- الکفایة فی علم الروایة للخطیب البغدادی ص 390.
2- المصدر نفسه.
3- المصدر السابق ص391.
4- سیر أعلام النبلاء للذهبی ج 11 ص 377.

ص: 226

هذا ما یتعلق بالراوی المباشر عن مسلم النیسابوری وهو إبراهیم بن محمد بن سفیان، أما الراوی الثانی الذی نقل کتاب صحیح مسلم عن إبراهیم بن محمد بن سفیان وهو الجلودی فأمره أعجب وأعظم لأنه قد سمع کتاب صحیح مسلم عن إبراهیم وکتبها ثم ضاع منه هذا الکتاب المسموع فتدبر نسخة ثانیة غیر مسموعة ثم أخذها وحدث بها وأوهم الناس بأنها النسخة المسموعة، قال الذهبی فی (سیر أعلام النبلاء): (الجلودی الإمام الزاهد القدوة الصادق، أبو أحمد النیسابوری الجلودی، راوی «صحیح مسلم» عن إبراهیم بن محمد بن سفیان الفقیه... ضاعت سماعاته من ابن سفیان، فنسخ البعض من نسخة لم یکن له فیها سماع)(1).

فیکون کتاب صحیح مسلم بذلک وغیره ساقط الحجیة لأسباب عدة أهمها ضعف الواسطة التی نقلت لنا هذا الکتاب وجهالتها، ولأنه منقول من إبراهیم بن محمد بن سفیان عن مؤلفه مسلم النیسابوری بالوجادة، ولان الجلودی الذی سمع الکتاب من إبراهیم بن محمد بن سفیان قد ضاع کتابه المسموع ودلس علی الناس فاخرج لهم نسخة ثانیة غیر مسموعة، فالتی وصلت الی الناس الیوم والمنتشرة بین الناس هی هذه النسخة غیر المسموعة.

ما هو شرط مسلم النیسابوری لقبول الحدیث أو رفضه؟

من یرجع إلی المقدمة التی کتبها مسلم فی بدایة کتابه __ إن ثبتت فعلا انها له __ یجد انه قد ألف کتابه بناء علی طلب شخص مجهول لم یذکر اسمه فی المقدمة، ولم أقف علیه فی غیر کتابه، والذی قد طلب منه أن یکتب له: (جملة الأخبار المأثورة عن رسول الله __ صلی الله علیه وآله وسلم __ فی سنن الدین وأحکامه وما کان منها فی الثواب


1- سیر أعلام النبلاء ج 16  ص 301 __ 302.

ص: 227

والعقاب والترغیب والترهیب وغیر ذلک من صنوف الأشیاء بالأسانید التی بها نقلت وتداولها أهل العلم فیما بینهم)(1).

فأجابه مسلم النیسابوری بقوله: (ثم إنا إن شاء الله مبتدئون فی تخریج ما سألت وتألیفه علی شریطة سوف اذکرها لک وهو إنا نعمد إلی جملة ما أسند من الأخبار عن رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فنقسمها علی ثلاثة أقسام وثلاث طبقات من الناس... فأما القسم الأول فانا نتوخی أن نقدم الأخبار التی هی أسلم من العیوب من غیرها وأنقی من أن یکون ناقلوها أهل استقامة فی الحدیث وإتقان لما نقلوا لم یوجد فی روایتهم اختلاف شدید ولا تخلیط فاحش... فإذا نحن تقصینا أخبار هذا الصنف من الناس أتبعناها أخبارا یقع فی أسانیدها بعض من لیس بالموصوف بالحفظ والإتقان کالصنف المقدم قبلهم علی أنهم وان کانوا فیما وصفنا دونهم فان اسم الستر والصدق وتعاطی العلم یشملهم... فأما ما کان منها عن قوم هم عند أهل الحدیث متهمون أو عند الأکثر منهم فلسنا نتشاغل بتخریج حدیثهم کعبد الله بن مسور أبی جعفر المدائنی وعمرو بن خالد وعبد القدوس الشامی ومحمد بن سعید المصلوب وغیاث بن إبراهیم وسلیمان بن عمرو أبی داود النخعی وأشباههم ممن اتهم بوضع الأحادیث وتولید الأخبار وکذلک من الغالب علی حدیثه المنکر أو الغلط أمسکنا أیضا عن حدیثهم)(2).

وقال مسلم أیضا: (واعلم وفقک الله تعالی أن الواجب علی کل أحد عرف التمییز بین صحیح الروایات وسقیمها وثقات الناقلین لها من المتهمین أن لا یروی منها إلا ما عرف صحة مخارجه والستارة فی ناقلیه وان یتقی منها ما کان منها عن


1- صحیح مسلم ج 1 ص 2.
2- صحیح مسلم ص 3 __ 5.

ص: 228

أهل التهم والمعاندین من أهل البدع)(1).

فنستطیع ومن خلال هذه السطور التی أوضح فیها مسلم النیسابوری خطته فی تدوین أحادیث کتابه أن نستکشف الموازین التی اعتمدها کمنهج وقاعدة یبنی علیها روایات کتابه، وهذا المنهج یتلخص بثلاث نقاط هی:

أولا: إن نقلة الأخبار عند مسلم ینقسمون علی ثلاث طبقات هم کل من:

أ: أهل استقامة فی الحدیث وإتقان لما نقلوا لم یوجد فی روایتهم اختلاف شدید ولا تخلیط فاحش.

ب: من هم اقل استقامة واتقانا من الطبقة السابقة، ومن المستورین أی من الذین لم یعرفوا ویشتهروا بکذب أو تدلیس أو غیر ذلک من العلل.

ج: من هو متهم عنده أو عند الأکثر بوضع الأحادیث وتولید الأخبار أو الغالب علی حدیثه المنکر أو الغلط.

فأخرج مسلم النیسابوری عن الطبقة الأولی، وربما اضطر إلی النقل عن الطبقة الثانیة، أما الطبقة الثالثة فقد امسک عنها ولم یخرج لها شیئا بزعمه.

ثانیا: انه لا یخرج الأحادیث التی فیها علة کالإرسال والشذوذ والتدلیس والکذب وغیرها من أنواع العلة ومصادیقها عند أهل الحدیث، قال مسلم: (المرسل فی أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار لیس بحجة)(2).

وقال النووی فی شرحه لکتاب صحیح مسلم: (قال الشیخ الإمام أبو عمرو ابن الصلاح رحمه الله شرط مسلم رحمه الله تعالی فی صحیحه أن یکون الحدیث متصل الإسناد بنقل الثقة عن الثقة من أوله إلی منتهاه سالما من الشذوذ والعلة قال


1- المصدر السابق ص6.
2- صحیح مسلم ج1 ص24 باب صحة الاحتجاج بالحدیث المعنعن.

ص: 229

وهذا حد الصحیح فکل حدیث اجتمعت فیه هذه الشروط فهو صحیح بلا خلاف بین أهل الحدیث)(1).

وقال العینی فی کتابه (عمدة القاری): (والظاهر أن شرطهما __ أی البخاری ومسلم __ اتصال الإسناد بنقل الثقة عن الثقة من مبتداه إلی منتهاه من غیر شذوذ ولا علة)(2).

ثالثا: ولم یرَ صحة الاحتجاج بأحادیث أهل البدع، وأهل البدع علی وفق التصور السنی هم کل من یخالف قول أهل السنة ورأیهم کالخوارج والشیعة وغیرهم، وقد مر ما یدل علی هذا فی قوله السابق: (واعلم وفقک الله تعالی أن الواجب علی کل أحد عرف التمییز بین صحیح الروایات وسقیمها وثقات الناقلین لها من المتهمین أن لا یروی منها إلا ما عرف صحة مخارجه والستارة فی ناقلیه وان یتقی منها ما کان منها عن أهل التهم والمعاندین من أهل البدع)(3).

التناقض والتضارب فی منهج کتاب صحیح مسلم
اشارة

 من المؤسف أن نقول بأننا قد وجدنا ووجد الآخرون ان جمیع تلک القواعد والموازین التی ذکرها مسلم فی المقدمة أو أغلبها قد خالفها فی أثناء تدوینه لأحادیث کتابه، وقد اخترنا للقارئ الکریم ثلاثة نماذج من هذه التناقضات ما بین المنهج والتطبیق، وترکنا الخوض فی الباقی، لان الخوض فی ذکر جمیعها واستقصاء مصادیقها یحتاج إلی وقت طویل وصفحات کثیرة تخرجنا من حد الاعتدال، وهذه التناقضات هی:


1- شرح مسلم للنووی ج 1 ص 15.
2- عمدة القاری للعینی  ج 1 ص 6.
3- المصدر السابق ص6.

ص: 230

1: الروایات المرسلة فی صحیح مسلم
اشارة

ووقوع الإرسال فی بعض أحادیث کتاب صحیح مسلم أمر مفروغ منه وقد اعترف السیوطی فی کتاب تدریب الراوی بهذه الحقیقة حیث قال: (وقع فی صحیح مسلم أحادیث مرسلة فانتقدت علیه)(1) وقد اقر بکونها عشرة أحادیث لا غیر فقال: (وفیه من هذا النمط نحو عشرة أحادیث)(2).

وقد ألف الحافظ رشید الدین أبو الحسین یحیی بن علی بن عبد الله القرشی المصری العطار المالکی کتابا أسماه (غرر الفوائد المجموعة فی بیان ما وقع فی صحیح مسلم من الأحادیث المقطوعة) وقد جمع فیه عشرات الأحادیث التی أخرجها مسلم بن الحجاج مرسلة أو مقطوعة الإسناد، أو موصوفة بالوجادة التی هی قسم من أقسام المقطوع، فمن أراد التفصیل فلیرجع إلی هذا الکتاب.

أنموذج من مراسیل مسلم فی کتابه

وقد نشرت مجلة جامعة الشارقة للعلوم الشرعیة والإنسانیة بحثا للدکتور عواد الخلف بعنوان (مراسیل صحیح مسلم، جمع __ دراسة __ تحلیل) ذکر فیه تسع عشرة روایة مرسلة موجودة فی کتاب صحیح مسلم، وقد حاول الباحث بحده وحدیده أن یثبت براءة مسلم النیسابوری وکتابه من تهمة الإرسال بکل حیلة وطریقة، إلا انه علی رغم محاولاته الیائسة اعترف بفشله فی حل عقدة الإرسال عن بعض تلک الأحادیث، وفیما یأتی أنموذج من اعترافه بعدم استطاعته إیجاد حل یخرج مسلماً وکتابه من ورطتهما.


1- تدریب الراوی للسیوطی ج1 ص206.
2- المصدر نفسه.

ص: 231

ففیما یخص الحدیث الذی أخرجه مسلم بقوله: (حدثنا عبید الله بن معاذ العنبری حدثنا المعتمر حدثنا أبی حدثنا أبو العلاء بن الشخیر قال کان رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم ینسخ حدیثه بعضه بعضا کما ینسخ القرآن بعضه بعضا)(1).

قال الدکتور عواد الخلف فی کتابه المزبور: (الکلام علی الحدیث):

«1: مرسله هو التابعی الکبیر یزید بن عبد الله بن الشخیر العامری البصری،ثقة، وقد وهم من زعم أن له رؤیة.

2: الحدیث لم یرو مسنداً من هذا الطریق، لذا ضعفه عدد من أهل العلم، وقد جاء من طریقین آخرین مسندین إلا أن فیهما ضعفاً... __ ثم ذکر الإسنادین الضعیفین ثم عقب بقوله __ وقال الرشید العطار عن هذا الروایة المرسلة: لا أعلم أحدًا رواه عن أحد من الصحابة رضی الله عنهم من وجه یصح»(2).

فعجز الدکتور عواد الخلف کما عجز من قبله رشید العطار صاحب کتاب (غرر الفوائد المجموعة فی بیان ما وقع فی صحیح مسلم من الأحادیث المقطوعة) فی إیجاد دواء لداء هذا الحدیث المرسل، وهو غیض من فیض، فکم من محاولة لرقع هذا الخرق باءت بالفشل وکم من جهد لحل هذا المعضل ضاع سدی، ولو تتبعنا بقیة المراسیل لوجدناها علی هذه الشاکلة.

أقول: والعجیب ان کلاً من رشید العطار والدکتور عواد الخلف لم یذکرا فی


1- صحیح مسلم  ج 1 ص 185.
2- مجلة جامعة الشارقة للعلوم الشرعیة والإنسانیة المجلد الثالث العدد الثانی لجمادی الأولی لسنة 1427 للهجرة الموافق لشهر یونیو لسنة 2006 للمیلاد، اسم البحث (مراسیل صحیح مسلم، جمع __ دراسة __ تحلیل) للدکتور عواد الخلف.

ص: 232

بحثیهما عن الأحادیث المرسلة فی صحیح البخاری، أی شیء عن (الحسن بن أبی الحسن البصری) المشهور باسم (الحسن البصری) أی صغیرة أو کبیرة، مع أن مسلما النیسابوری أخرج له فی صحیحه، وهو من المعروفین والمشهورین بالإرسال والتدلیس، أی إنه غیر مستور، وهو مخالف لشرط من شروط مسلم التی قررها فی مقدمة کتابه، وقد وصفه بکثرة الإرسال عدة من علماء أهل السنة منهم الحافظ احمد بن علی بن محمد بن محمد الشهیر بابن حجر العسقلانی فی کتابه (تعریف أهل التقدیس بمراتب الموصوفین بالتدلیس المعروف بطبقات المدلسین) فقال: (الحسن بن أبی الحسن البصری الإمام المشهور من سادات التابعین رأی عثمان وسمع خطبته ورأی علیا ولم یثبت سماعه منه کان مکثرا من الحدیث ویرسل کثیرا عن کل أحد، وصفه بتدلیس الإسناد النسائی وغیره)(1).

ومن الذین وصفوه بکثرة التدلیس والإرسال الحافظ صلاح الدین العلائی، إذ قال: (الحسن بن أبی الحسن البصری واسم أبیه یسار أحد الأئمة الأعلام تقدم أنه کثیر التدلیس وهو مکثر من الإرسال... فروایته عن أبی بکر وعمر وعثمان رضی الله عنهم مرسلة بلا شک وکذلک عن علی رضی الله عنه أیضا لأن علیا خرج إلی العراق عقب بیعته وأقام الحسن بالمدینة فلم یلقه بعد ذلک قال أبو زرعة وغیره وفی سنن أبی داود والنسائی روایته عن سعد بن عبادة وهی مرسلة بلا شک...)(2).

وقال الحافظ صلاح الدین العلائی أیضا فی کتابه (جامع التحصیل فی أحکام المراسیل): (الحسن بن أبی الحسن البصری من المشهورین بذلک _ أی بالتدلیس __)(3).


1- تعریف أهل التقدیس بمراتب الموصوفین بالتدلیس المعروف بطبقات المدلسین للحافظ احمد بن علی بن محمد بن محمد الشهیر بابن حجر العسقلانی ج1 ص29.
2- جامع التحصیل فی أحکام المراسیل للحافظ صلاح الدین العلائی  ج1 ص162.
3- جامع التحصیل فی أحکام المراسیل للحافظ صلاح الدین العلائی ج1 ص105.

ص: 233

2: روایات المدلسین فی صحیح مسلم
اشارة

ذکرنا سابقا ان التدلیس من العیوب التی ابتلی بها کثیر من رواة الحدیث، وصفة التدلیس من الصفات المذمومة عند کثیر من أئمة الحدیث وشیوخه، فقد عدّها شعبة أشد من الزنی فقد کان یقول: (التدلیس فی الحدیث أشد من الزنا ولان أسقط من السماء أحب إلی من أن أدلس)(1).

والتدلیس کان یعد عند کثیر من أعلام السنة مرادفا للکذب، کما نقله الحسن بن علی حیث کان: (یقول سمعت أبا أسامة یقول خرب الله بیوت المدلسین ما هم عندی إلا کذابون)(2).

وعن خالد بن خداش قال: (قال سمعت حماد بن زید یقول التدلیس کذب ثم ذکر حدیث النبی صلی الله علیه وآله وسلم المتشبع بما لم یعط کلابس ثوبی زور قال حماد ولا أعلم المدلس إلا متشبعا بما لم یعط)(3).

والتدلیس یعد علة یرد لأجلها الحدیث، وقد قبله البعض لکن بشروط لا یمکن شرحها فی هذه الأوراق المختصرة، فکان ینبغی علی مسلم بن الحجاج أن لا یخرجها فی کتابه لأنه اشترط علی نفسه إیراد الأحادیث التی لیس فیها علة.

وفی کتاب مسلم ستة وثمانون راویا اتهموا بالتدلیس، ولولا خوف الإطالة لأتینا علی آخرهم بالذکر والتعداد، لکننا نختار جملة منهم فیما یأتی من کلام:

1: الحسن بن أبی الحسن المعروف بالحسن البصری

وقد مر الکلام عنه.


1- الکفایة فی علم الروایة للخطیب البغدادی ص 393.
2- المصدر نفسه.
3- الکفایة فی علم الروایة للخطیب البغدادی ص 394.

ص: 234

2: سعید بن أبی عروبة

وصفه العلائی بقوله: (سعید بن أبی عروبة مشهور بالتدلیس ذکره به غیر واحد)(1).

وقال ابن حجر العسقلانی: (سعید بن أبی عروبة البصری رأی أنسا رضی الله تعالی عنه وأکثر عن قتادة وهو ممن اختلط ووصفه النسائی وغیره بالتدلیس)(2).

3: الولید بن مسلم الدمشقی

قال عنه ابن حجر: (الولید بن مسلم الدمشقی معروف موصوف بالتدلیس الشدید مع الصدق)(3).

وقال ابن عساکر: (وذکر أبو بکر أحمد بن محمد بن حجاج المروذی قال قلت لأحمد بن حنبل فی الولید قال هو کثیر الخطأ)(4).

وعن عثمان بن أحمد قال: (حدثنا حنبل بن إسحاق قال سمعت یحیی بن معین یقول قال أبو مسهر کان الولید یأخذ من ابن أبی السفر حدیث الأوزاعی وکان ابن أبی السفر کذاباً وهو یقول فیها قال الأوزاعی)(5).

عن أبی مسهر قال: (کان الولید بن مسلم یحدث بأحادیث الأوزاعی عن الکذابین ثم یدلسها عنهم)(6).


1- جامع التحصیل فی أحکام المراسیل للحافظ صلاح الدین العلائی ج1 ص106.
2- تعریف أهل التقدیس بمراتب الموصوفین بالتدلیس المعروف بطبقات المدلسین للعلامة الحافظ احمد ابن علی بن محمد بن محمد الشهیر بابن حجر العسقلانی ج1 ص31.
3- المصدر السابق ص51.
4- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج 63 ص 291.
5- المصدر نفسه.
6- المصدر نفسه.

ص: 235

صالح بن محمد الحافظ قال: (سمعت الهیثم بن خارجة یقول قلت للولید بن مسلم قد أفسدت حدیث الأوزاعی، قال: کیف؟ قلت: یروی عن الأوزاعی، عن نافع وعن الأوزاعی عن الزهری، وعن الأوزاعی عن یحیی بن سعید وغیرک یدخل بین الأوزاعی وبین نافع عبد الله بن عامر الأسلمی وبینه وبین الزهری إبراهیم بن مرة وقرة وغیرهما فما یحملک علی هذا قال أنبل الأوزاعی أن یروی عن مثل هؤلاء قلت فإذا روی الأوزاعی عن هؤلاء وهؤلاء ضعفاء أحادیث مناکیر فأسقطتهم أنت وصیرتها من روایة الأوزاعی عن الثقات ضعف الأوزاعی فلم یلتفت إلی قولی)(1).

عن أبی الحسن الدارقطنی قال: (الولید بن مسلم مرسل یروی عن الأوزاعی أحادیث عند الأوزاعی عن شیوخ ضعفاء عن شیوخ قد أدرکهم الأوزاعی مثل نافع وعطاء والزهری ویسقط أسماء الضعفاء ویجعلها عن الأوزاعی عن نافع وعن الأوزاعی عن عطاء یعنی مثل عبد الله بن عامر الأسلمی وإسماعیل بن مسلم)(2).

4: عمر بن علی المقدمی

قال عنه العینی: (عمر بن علی بن عطاء بن مقدم، بفتح الدال المشددة، أبو حفص المقدمی البصری، والد عاصم ومحمد، وهو أخو أبی بکر، سمع جمعا من التابعین منهم هشام بن عروة، وعنه خلق من الأعلام منهم ابنه عاصم وعمرو بن علی، وکان مدلسا، قال ابن سعد: کان ثقة وکان یدلس تدلیسا شدیدا، یقول: سمعت وحدثنا، ثم یسکت، ثم یقول: هشام بن عروة الأعمش)(3).


1- المصدر السابق ص291 __ 292.
2- المصدر نفسه ص292.
3- عمدة القاری للعینی  ج 1 ص 236.

ص: 236

وقال الذهبی فی تذکرة الحفاظ: (وقال ابن سعد: ثقة ویدلس تدلیسا شدیدا یقول: سمعت وحدثنا. ثم یسکت، ویقول: هشام بن عروة قلت قد احتج به الجماعة واحتملوا له تدلیسه)(1).

5: سوید بن سعید الحدثانی

قال عنه النسائی: (سوید بن سعید الحدثانی لیس بثقة)(2).

وقال عنه ابن حبان: (سوید بن سعید الحدثانی من أهل الأنبار مولده بالحدیثة، یروی عن علی بن مسهر وحفص بن میسرة، حدثنا عنه شیوخنا مات سنة تسع وثلاثین ومائتین یأتی عن الثقات بالمعضلات)(3).

وقال عنه ابن حبان أیضا: (روی عن علی بن مسهر عن أبی یحیی القتات عن مجاهد عن ابن عباس عن النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم قال: «من عشق فعف فکتم فمات مات شهیدا». ومن روی مثل هذا الخبر الواحد عن علی بن مسهر یجب مجانبة روایاته هذا «إلی ما» یخطئ فی الآثار ویقلب الأخبار»)(4).

وعن سعید بن عمرو البرذعی قال: (سمعت أبا زرعة یقول: قلنا لیحیی بن معین: إن سوید بن سعید یحدث عن ابن أبی الرجال عن ابن أبی رواد عن نافع عن ابن عمر أن النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم قال: «من قال فی دیننا برأیه فاقتلوه» فقال یحیی: سوید ینبغی أن یبدأ به فیقتل)(5).


1- تذکرة الحفاظ للذهبی  ج 1 ص 292.
2- کتاب الضعفاء والمتروکین للنسائی ص 187.
3- کتاب المجروحین لابن حبان  ج 1 ص 352.
4- المصدر نفسه.
5- تاریخ بغداد للخطیب البغدادی  ج 9 ص 228.

ص: 237

وعن أحمد بن کامل القاضی قال: (سمعت محمد بن موسی بن حماد یذکر عن یحیی بن معین قال: لو کان لی خیل ورجال لخرجت إلی سوید بن سعید حتی أحاربه...حدثنا أبو علی حسین بن فهم قال: سمعت یحیی بن معین وذکر عنده سوید بن سعید الحدثانی فقال: لا صلی الله علیه، قال: ولم یکن عنده بشیء...حدثنا أبو عبید محمد بن علی الآجری قال: سألت أبا داود عن سوید فقال: سمعت یحیی بن معین یقول: سوید مات منذ حین. وسمعت یحیی قال: هو حلال الدم)(1).

3: روایات أهل البدع فی صحیح مسلم
اشارة

ذکرنا فیما سبق أن مسلما النیسابوری شرط علی نفسه فی مقدمة کتابه ان لا یخرج شیئا من أحادیث أهل البدع، فقال: (واعلم وفقک الله تعالی أن الواجب علی کل أحد عرف التمییز بین صحیح الروایات وسقیمها وثقات الناقلین لها من المتهمین أن لا یروی منها إلا ما عرف صحة مخارجه والستارة فی ناقلیه وان یتقی منها ما کان منها عن أهل التهم والمعاندین من أهل البدع)(2).

وأهل البدع عند محدثی أهل السنة هم کل من خالف قول أهل السنة ورأیهم فیدخل فی ذلک الخوارج والجهمیة والشیعة وطوائف أخری یطول ذکرهم، غیر انه تناقض مع شرطه هذا فی الجانب العملی، فأثبت فی کتابه روایات عدة رویت عن رجال وصفوا بأنهم مبتدعون أو مخالفون لقول أهل السنة ورأیهم کالمرجئة والشیعة وغیرهم، وفیما یأتی أنموذجان ممن أخرج لهم مسلم النیسابوری فی کتابه مع تصریح أهل الجرح والتعدیل بأنهم من المرجئة أو الشیعة، وهم کل من:


1- تاریخ بغداد للخطیب البغدادی  ج 9 ص 228 __ 229.
2- المصدر السابق ص6.

ص: 238

1: محمد بن خازم أبو معاویة الضریر

قال عنه العجلی فی معرفة الثقات: (محمد بن خازم بالخاء المعجمة أبو معاویة الضریر الحمانی کوفی ثقة وکان یری الإرجاء وکان لین القول وسمع من الأعمش ألفی حدیث فمرض مرضة فنسی منها ستمائة حدیث)(1).

وقال ابن حبان: (أبو معاویة الضریر اسمه محمد بن خازم السعدی التمیمی مولی لهم من أهل الکوفة یروی عن الشیبانی وابن أبی خالد روی عنه أحمد ویحیی وأهل العراق وکان مولده سنة ثلاث عشرة ومائة ومات فی آخر صفر سنة خمس وتسعین ومائة وکان حافظا متقنا ولکنه کان مرجئا)(2).

وعن سهل بن شاذویه قال: (سمعت علی بن خشرم یقول: وما شیت وکیعا إلی الجمعة فقال لی: یا علی إلی من تختلف؟ فقلت: إلی فلان وفلان وإلی أبی معاویة الضریر. قال: فقال وکیع: اختلف إلیه فإنک إن ترکته ذهب علم الأخفش علی أنه مرجئ، فقلت: یا أبا سفیان، دعانی إلی الإرجاء فأبیت علیه. فقال لی وکیع: هلا قلت له کما قال له الأعمش: لا تفلح أنت ولا أصحابک المرجئة)(3). وقال ابن البادش: (أبو معاویة مرجئ کبیر)(4).

أقول: ولعل اعتناء مسلم النیسابوری والبخاری وغیرهما من الذین تغاضوا عن بدعة محمد بن خازم هو ان ابن خازم هذا روی حدیثا مفتری عن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم فیه أمر النبی صلی الله علیه وآله وسلم بقتل الرافضة وهم شیعة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، قال ذلک بحضور هارون العباسی وابنیه الأمین والمأمون، وهو


1- معرفة الثقات للعجلی  ج 2 ص 236.
2- الثقات لابن حبان ج 7 ص 441 __ 442.
3- تاریخ بغداد للخطیب البغدادی ج 2  ص 304.
4- المصدر نفسه.

ص: 239

تصریح خطر للغایة یهدف منه کما هو واضح إلی تحریض الدولة علی إبادة أتباع أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وتغطیة هذه الإبادة تغطیة شرعیة ومبررة، وهذا التصریح رواه الخطیب البغدادی عن إبراهیم الصینی قال: (سمعت أبا معاویة یقول: حججت مع جدی أبی أمی وأنا غلام، فرآنی أعرابی فقال لجدی: ما یکون هذا الغلام منک؟ قال: ابنی. قال: لیس بابنک قال: ابن ابنتی. قال: ابن ابنتک ولیکونن له شأن، ولیطأن برجلیه هاتین بسط الملوک. قال: فلما قدم الرشید بعث إلی، فلما دخلت علیه ذکرت حدیث الأعرابی، فأقبلت التمس برجلی البساط. قال: یا أبا معاویة لم تلتمس؟ قلت: یا أمیر المؤمنین حججت مع جدی، وحدثته بالحدیث فأعجب به. قال أبو معاویة: وحرکنی شیء فقلت: یا أمیر المؤمنین، أحتاج إلی موضع الخلاء، فقال للأمین والمأمون خذا بید عمکما فأریاه الموضع، فأخذا بیدی فأدخلانی إلی الموضع، فشممت منه رائحة طیبة. فقالا: یا أبا معاویة، هذا الموضع فشأنک. فقضیت حاجتی فحدثته أن النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم قال: «یکون فی آخر الزمان قوم لهم نبز یقال لهم الرافضة، من لقیهم فلیقتلهم فإنهم مشرکون»)(1)، فلا جزاه الله خیرا ((کَلَّا سَنَکْتُبُ مَا یَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا * وَنَرِثُهُ مَا یَقُولُ وَیَأْتِینَا فَرْدًا))(2).

أو لعل مسلماً والبخاری وغیرهما أخرجوا أحادیثه وتناسوا کونه من أهل البدعة بسبب روایته لبعض مناقب أئمتهم وبالخصوص فضائل الشیخین فعن عرفة قال: (حدثنا أبو معاویة الضریر، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم: «ما مررت بسماء إلا رأیت فیها


1- تاریخ بغداد للخطیب البغدادی  ج 2 ص 300.
2- سورة مریم الآیة رقم 79 __ 80.

ص: 240

مکتوبا محمد رسول الله، أبو بکر الصدیق»)(1).

2: عبید الله بن موسی العبسی

قال العجلی فی (معرفة الثقات): (عبید الله بن موسی العبسی یکنی أبا محمد کوفی ثقة کان عالما بالقرآن صدوقاً وکان یتشیع وکان صاحب قرآن رأسا فیه شجیّ القراءة)(2).

وعن العقیلی فی کتابه الضعفاء عن: (محمد بن إسماعیل یقول سمعت أبی یقول أردت الخروج إلی کوفة فأتیت أحمد بن حنبل أودعه فقال لی یا أبا محمد لی إلیک حاجة لا تأت عبید الله بن موسی فإنه بلغنی عنه غلوا قال أبی فلم آته)(3).

وقال عنه الذهبی: (وحدث عنه: أحمد بن حنبل قلیلا، کان یکرهه لبدعة ما فیه)(4)، وقال عنه أیضا: (وروی أبو عبید الآجری عن أبی داود قال: کان شیعیا محترقا)(5)

وقال أیضا: (قال ابن مندة: کان أحمد بن حنبل یدل الناس علی عبید الله، وکان معروفا بالرفض، لم یدع أحدا اسمه معاویة یدخل داره. فقیل: دخل علیه معاویة بن صالح الأشعری، فقال: ما اسمک؟ قال: معاویة. قال: والله لا حدثتک، ولا حدثت قوما أنت فیهم)(6).


1- تاریخ بغداد للخطیب البغدادی  ج 3 ص 63 وغیره.
2- معرفة الثقات للعجلی  ج 2  ص 114.
3- ضعفاء العقیلی للعقیلی  ج 3 ص 127.
4- سیر أعلام النبلاء للذهبی  ج 9 ص 554.
5- المصدر السابق ص555.
6- المصدر نفسه  ص 556 __ 557.

ص: 241

التلاعب بکتاب صحیح مسلم النیسابوری
اشارة

ذکرنا فیما سبق أن کتاب مسلم قد وصل بالدرجة الأساس عن رجل مجهول اسمه (إبراهیم بن محمد بن سفیان) وإبراهیم هذا لم یترک کتاب مسلم بن الحجاج النیسابوری بسلام، فأضاف إلیه بعض الأحادیث وزاد علیه طرقا أخری لم ترد عن مسلم، ولم یکتف بإضافة الأحادیث حتی أضاف إلیه تعلیقات من إنشائه لیس لمسلم علم بها ولا وضعها هو فی کتابه، وهی کثیرة اخترنا للقارئ منها ما یلی:

زیادات إبراهیم بن محمد بن سفیان علی کتاب مسلم

1: قال مسلم: (عن هشام عن أبیه عن عائشة قالت کان رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم یحب الحلواء والعسل فکان إذا صلی العصر دار علی نسائه فیدنو منهن فدخل علی حفصة فاحتبس عندها أکثر مما کان یحتبس فسألت عن ذلک فقیل لی أهدت لها امرأة من قومها عکة من عسل فسقت رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم منه شربة فقلت أما والله لنحتالن له...)(1).

فزاد إبراهیم بعد هذا الحدیث قوله: (قال أبو إسحاق إبراهیم حدثنا الحسن ابن بشر بن القاسم حدثنا أبو أسامة بهذا سواء وحدثنیه سوید بن سعید حدثنا علی ابن مسهر عن هشام بن عروة بهذا الإسناد نحوه)(2).

2: قال مسلم فی کتابه: (حدثنا سفیان بن عیینة عن حمید الأعرج عن سلیمان ابن عتیق عن جابر أنّ النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم أمر بوضع الجوائح)(3).


1- صحیح مسلم ج 4 ص 185.
2- المصدر نفسه.
3- المصدر السابق ج 5  ص 29.

ص: 242

فزاد إبراهیم علی کتاب مسلم ما یأتی: (قال أبو إسحاق «وهو صاحب مسلم» حدثنا عبد الرحمن بن بشر عن سفیان بهذا)(1).

أقول: وعبارة «وهو صاحب مسلم» هذه لیست من کتابة مسلم وتدوینه ولا من کتابة إبراهیم بن محمد بن سفیان، بل هی مزادة من أصحاب الطبعات الجدیدة لتوضیح من هو ابو إسحاق المذکور فی العبارة، وهی وان أوضحت لنا من القائل لهذه العبارة إلا أنها أکدت لنا مرة أخری علی أن التلاعب والإضافة علی کتاب مسلم لم تتوقف إلی الآن وما زالت الأقلام تزید وتنقص من هذا الکتاب.

3: قال مسلم النیسابوری فی کتابه: (عن سعید بن جبیر قال قال ابن عباس یوم الخمیس وما یوم الخمیس ثم بکی حتی بل دمعه الحصی فقلت یا ابن عباس وما یوم الخمیس قال اشتد برسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم وجعه فقال ائتونی اکتب لکم کتابا لا تضلوا بعدی فتنازعوا وما ینبغی عند نبی تنازع وقالوا ما شأنه أهجر استفهموه قال دعونی فالذی انا فیه خیر أوصیکم بثلاث اخرجوا المشرکین من جزیرة العرب وأجیزوا الوفد بنحو ما کنت أجیزهم قال وسکت عن الثالثة أو قالها فأنسیتها)(2)

فزاد إبراهیم فی کتاب مسلم قوله: (قال أبو إسحاق إبراهیم حدثنا الحسن بن بشر قال حدثنا سفیان بهذا الحدیث حدثنا إسحاق بن إبراهیم أخبرنا وکیع عن مالک بن مغول عن طلحة بن مصرف عن سعید بن جبیر عن ابن عباس أنه قال یوم الخمیس وما یوم الخمیس ثم جعل تسیل دموعه حتی رأیت علی خدیه کأنها نظام اللؤلؤ قال قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم ائتونی بالکتف والدواة «أو


1- صحیح مسلم ج 5  ص 29.
2- صحیح مسلم ج 5 ص 75.

ص: 243

اللوح والدواة» اکتب لکم کتابا لن تضلوا بعده أبدا فقالوا ان رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم یهجر)(1).

4: قال مسلم النیسابوری: (حدثنی علقمة بن مرثد ان سلیمان بن بریدة حدثه عن أبیه قال کان رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم إذا بعث أمیرا أو سریة دعاه فأوصاه)(2).

فأضاف الجلودی وهو راوی کتاب مسلم عن إبراهیم بن محمد بن سفیان: (حدثنا إبراهیم حدثنا محمد بن عبد الوهاب الفراء عن الحسین بن الولید عن شعبة بهذا)(3).

هذه جملة من الزیادات التی أدخلها إبراهیم بن محمد بن سفیان علی کتاب مسلم وترکنا جملة أخری للاختصار.

تعلیقات إبراهیم بن محمد التی کتبها ضمن کتاب مسلم

1: قال مسلم النیسابوری: (وفی حدیث جریر عن سلیمان عن قتادة من الزیادة وإذا قرأ فأنصتوا ولیس فی حدیث أحد منهم فان الله قال علی لسان نبیه صلی الله علیه __ وآله __ وسلم سمع الله لمن حمده إلا فی روایة أبی کامل وحده عن أبی عوانة)(4).

فعلق إبراهیم علی ذلک بقوله: (قال أبو إسحاق قال أبو بکر بن أخت أبی النضر فی هذا الحدیث فقال مسلم ترید أحفظ من سلیمان فقال له أبو بکر فحدیث


1- صحیح مسلم ج 5 ص75 __ 76.
2- المصدر السابق ج 5 ص 140.
3- المصدر السابق ص 140 __ 141.
4- المصدر السابق ج 2 ص 15

ص: 244

أبی هریرة فقال هو صحیح یعنی وإذا قرأ فأنصتوا فقال هو عندی صحیح فقال لِمَ لم تضعه ههنا؟ قال لیس کل شیء عندی صحیح وضعته ههنا إنما وضعت ههنا ما أجمعوا علیه حدثنا إسحاق بن إبراهیم وابن أبی عمر عن عبد الرزاق عن معمر عن قتادة بهذا الإسناد وقال فی الحدیث فان الله عز وجل قضی علی لسان نبیه صلی الله علیه __ وآله __ وسلم سمع الله لمن حمده)(1).

2: عن ابن مسعود قال بینما رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم یصلی عند البیت وأبو جهل وأصحاب له جلوس وقد نحرت جزور بالأمس فقال أبو جهل أیکم یقوم إلی سلا جزور بنی فلان فیأخذ فیضعه فی کتفی محمد إذا سجد فانبعث أشقی القوم فأخذه فلما سجد النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم وضعه بین کتفیه قال فاستضحکوا وجعل بعضهم یمیل علی بعض وانا قائم انظر لو کانت لی منعة طرحته عن ظهر رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم والنبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم ساجد ما یرفع رأسه حتی انطلق إنسان فأخبر فاطمة فجاءت وهی جویریة فطرحته عنه...)(2).

فعلق إبراهیم علی هذا الحدیث بقوله: (قال أبو إسحاق الولید بن عقبة غلط فی هذا الحدیث)(3)

3: قال مسلم النیسابوری: (وقال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم والذی نفس محمد فی یده لیأتین علی أحدکم یوم ولا یرانی ثم لأن یرانی أحب إلیه من أهله وماله معهم)(4).


1- صحیح مسلم ج 2 ص 15 __ 16.
2- المصدر السابق ج 5 ص 179 __ 180.
3- المصدر السابق ج5 ص180.
4- المصدر السابق ج 7  ص 96.

ص: 245

فعلق إبراهیم علی هذا الحدیث بقوله: (قال أبو إسحاق المعنی فیه عندی لان یرانی معهم أحب إلیه من أهله وماله وهو عندی مقدم ومؤخر)(1).

4: قال مسلم النیسابوری: (عن أبی هریرة ان رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم قال إذا قال الرجل هلک الناس فهو أهلکهم)(2).

فعلق إبراهیم علی ذلک بقوله: (قال أبو إسحاق لا أدری أهلکهم بالنصب أو أهلکهم بالرفع)(3).

5: قال مسلم النیسابوری: (عن ابن عمر قال کنا عند رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فقال أخبرونی بشجرة شبه أو کالرجل المسلم لا یتحات ورقها)(4).

فعلق إبراهیم بقوله: (قال إبراهیم لعل مسلما قال وتؤتی أکلها وکذا وجدت عند غیری أیضا ولا تؤتی أکلها کل حین قال ابن عمر فوقع فی نفسی أنها النخلة ورأیت أبا بکر وعمر لا یتکلمان فکرهت أن أتکلم أو أقول شیئا فقال عمر لأن تکون قلتها أحب إلی من کذا وکذا)(5).

6: قال مسلم النیسابوری: (أخبرنی عبید الله بن عبد الله بن عتبة أن أبا سعید الخدری قال حدثنا رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم یوما حدیثا طویلا عن الدجال فکان فیما حدثنا قال یأتی وهو محرم علیه أن یدخل نقاب المدینة


1- صحیح مسلم ج7 ص96.
2- المصدر نفسه ج 8 ص 36.
3- المصدر نفسه ج 8 ص 36.
4- المصدر نفسه ج 8 ص 138.
5- المصدر السابق.

ص: 246

فینتهی إلی بعض السباخ التی تلی المدینة فیخرج إلیه یومئذ رجل هو خیر الناس أو من خیر الناس فیقول له أشهد أنک الدجال الذی حدثنا رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم حدیثه فیقول الدجال أرأیتم ان قتلت هذا ثم أحییته أتشکون فی الأمر فیقولون لا قال فیقتله ثم یحییه فیقول حین یحییه والله ما کنت فیک قط أشد بصیرة منی الآن قال فیرید الدجال ان یقتله فلا یسلط علیه)(1).

فعلق إبراهیم قائلا: (قال أبو إسحاق یقال إن هذا الرجل هو الخضر علیه السلام، «وحدثنی» عبد الله بن عبد الرحمن الدارمی أخبرنا أبو الیمان أخبرنا شعیب عن الزهری فی هذا الإسناد بمثله)(2).

هذه بعض تعلیقات إبراهیم بن محمد بن سفیان التی أودعها فی أصل صحیح مسلم وقد ترکنا البقیة روما للاختصار.

زیادات الجلودی وتعلیقاته فی أصل کتاب مسلم

ولم یترک الجلودی الذی روی کتاب مسلم عن إبراهیم بن محمد بن سفیان کتاب مسلم دون أن یدمج فی أصل کتابه کثیرا من التعلیقات والزیادت نختار منها علی سبیل الاختصار الآتی:

1: قال مسلم فی کتابه: (حدثنا قتیبة بن سعید حدثنا یعقوب بن عبد الرحمن القاری عن موسی بن عقبة عن سالم بن عبد الله عن أبیه انه کان یقول ما کنا ندعو زید بن حارثة الا زید بن محمد حتی نزل فی القرآن ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله)(3).


1- صحیح مسلم ج 8 ص 199.
2- المصدر السابق.
3- صحیح مسلم  ج 7  ص 130 __ 131.

ص: 247

فاضاف أبو أحمد الجلودی علی کتاب مسلم قوله: (قال الشیخ أبو أحمد محمد بن عیسی أخبرنا أبو العباس السراج ومحمد بن عبد الله بن یوسف الدویری قالا حدثنا قتیبة بن سعید بهذا الحدیث)(1)

2: قال مسلم النیسابوری: (عن أبی هریرة عن النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم ان رجلا زار أخاً له فی قریة أخری فارصد الله له علی مدرجته ملکا فلما أتی علیه قال: أین ترید؟ قال: أرید أخاً لی فی هذه القریة قال: هل لک علیه من نعمة تربها؟ قال لا غیر انی أحببته فی الله عز وجل قال: فانی رسول الله إلیک بأن الله قد أحبک کما أحببته فیه)(2).

فأضاف الجلودی فی کتاب مسلم قوله: (قال الشیخ أبو أحمد أخبرنی أبو بکر محمد بن زنجویه القشیری حدثنا عبد الأعلی بن حماد حدثنا حماد بن سلمة بهذا الإسناد نحوه)(3).

أقول: وقد اعترف النووی فی شرحه لصحیح مسلم أن قول الجلودی هذا کان فی بعض نسخ البخاری فی الحاشیة لکن أکثر النسخ الأخری تحولت فیها هذه الزیادة من الحاشیة إلی أصل الکتاب بحیث مزجت مع کلمات مسلم النیسابوری، قال النووی: (أبو أحمد هذا هو الجلودی راوی الکتاب عن ابن سفیان عن مسلم...وهذه الفائدة وهی قوله قال الشیخ أبو أحمد إلی آخره تقع فی بعض الأصول فی الحاشیة وفی أکثرها فی نفس الکتاب)(4).


1- صحیح مسلم ج 7  ص131.
2- صحیح مسلم ج 8  ص 12.
3- المصدر السابق.
4- شرح مسلم للنووی  ج 2  ص 215.

ص: 248

3: قال مسلم النیسابوری: (حدثنا الحسن حدثنا عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لی رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم یا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنک إن أعطیتها عن مسألة وکلت إلیها وان أعطیتها عن غیر مسألة أعنت علیها وإذا حلفت علی یمین فرأیت غیرها خیراً منها فکفر عن یمینک وائت الذی هو خیر)(1).

فأضاف الجلودی فی أصل کتاب مسلم الآتی: (قال أبو أحمد الجلودی حدثنا أبو العباس الماسرجسی حدثنا شیبان بن فروخ بهذا الحدیث حدثنی علی بن حجر السعدی حدثنا هشیم عن یونس ومنصور وحمید ح وحدثنا أبو کامل الجحدری حدثنا حماد بن زید عن سماک بن عطیة ویونس بن عبید وهشام بن حسان فی آخرین ح وحدثنا عبید الله بن معاذ حدثنا المعتمر عن أبیه ح وحدثنا عقبة ابن مکرم العمی حدثنا سعید بن عامر عن سعید عن قتادة کلهم عن الحسن عن عبد الرحمن بن سمرة عن النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم بهذا الحدیث ولیس فی حدیث المعتمر عن أبیه ذکر الإمارة)(2).

هذه بعض ما أدخله أبو أحمد الجلودی فی أصل صحیح مسلم، ترکنا استقصاءها للاختصار.

هل تضر هذه الزیادات مع وضوح قائلها؟

ولعل قائلا یقول: إن هذه الزیادات من النساخ علی أصل کتاب مسلم أو البخاری أو غیرهما لا تضر ما دام أنها ممیزة ومشخصة فیستطیع القارئ أو الباحث أو الفقیه والعالم تمییزها وتشخیصها ومعرفتها، فلا ضیر حینئذ من إدراجها فی الأصل.


1- صحیح مسلم ج 5 ص 86.
2- صحیح مسلم ج 5 ص 86  __ 87.

ص: 249

أقول: أصل کلامنا هو: أوقع فی هذه الکتب التغییر والتبدیل والتلاعب من حیث الزیادة أو النقصان أم لا؟ وقد ثبت بالدلیل والشواهد وقوع کل هذه الأمور فیها، هذا أولا.

وثانیا من قال بان هذه الزیادات کانت واضحة ومتمیزة ومشخصة علی الدوام، حتی نتغاضی عن إدراجها من النساخ فی أصل الکتاب، فکم من مرة ومرة نسب العلماء حدیثا إلی مسلم أو البخاری أو غیرهما وعند الفحص والتتبع تبین أن هذا الحدیث لیس من حدیثهما بل هو مما زاده علیهما النساخ ولکن النساخ لم یشیروا إلی هذه الزیادة فیظن الظان أن هذا الحدیث واقع فی الأصل، وتوجد علی هذا الأمر شواهد کثیرة جدا نشیر إلی بعضها فی الآتی:

1: من المعلوم أن (الحسن بن بشر السلمی) لیس من رجال مسلم ولا روی عنه فی کتابه المعروف بصحیح مسلم، ولکنه من رجال إبراهیم بن محمد بن سفیان، راوی الکتاب عن مسلم وصاحب الزیادات والتعلیقات التی تقدم الکلام حوله وحولها، کما أوضحه ابن حجر فی (تقریب التهذیب) بقوله: (الحسن بن بشر السلمی قاضی نیسابور صدوق لم یصح أن مسلما روی عنه وإنما روی عنه أبو إسحاق بن سفیان الراوی عن مسلم)(1).

وبسبب خفاء کثیر من زیادات إبراهیم بن محمد بن سفیان، وعدم وضوح کون هذه الزیادة هل هی من أصل کتاب مسلم أو مما زاد علیه الآخرون، نری الإمام أبا مسعود الدمشقی(2) فی کتابه (أطراف الصحیحین) قد حکم علی حدیث


1- تقریب التهذیب لابن حجر  ج 1 ص 200.
2- هو أبو مسعود إبراهیم بن محمد بن عبید الدمشقی الحافظ المتوفی سنة إحدی وأربعمائة صاحب کتاب أطراف الصحیحین.

ص: 250

انه لمسلم النیسابوری، بینما هو من زیادات إبراهیم بن محمد بن سفیان، فعن الحدیث القائل (کان رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم یحب الحلواء والعسل) قال أبو مسعود الدمشقی: (إنَّ مسلماً رواه عن أبی کریب وهارون بن عبد الله والحسن بن بشر، ثلاثتهم عن أبی أسامة) والصحیح ان مسلما لم یروه عن الحسن بن بشر لان الحسن بن بشر لیس من رجال مسلم ولا روی عنه، کما تقدم من کلام ابن حجر السابق، وإنما الذی روی عن الحسن بن بشر هو إبراهیم صاحب الزیادات علی مسلم، وبسبب وضع هذه الزیادات مع أصل الکتاب اشتبه الأمر علی أبی مسعود الدمشقی فعد هذه الزیادة من کلام مسلم النیسابوری.

وقد نبه ابن حجر علی هذا الخلط ما بین الزیادة والأصل الذی وقع فیه أبو مسعود الدمشقی بقوله: (وقد وقع فی الأطراف لأبی مسعود فی حدیث أبی أسامة عن هشام بن عروة عن أبیه عن عائشة کان رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم یعجبه الحلواء والعسل. أن مسلما رواه عن أبی کریب وهارون بن عبد الله والحسن بن بشر ثلاثتهم عن أبی أسامة کذا قال والذی فی الأصول من الصحیح حدثنا أبو کریب وهارون بن عبد الله قالا ثنا أبو أسامة لیس فیه الحسن بن بشر لکن قال فیه إبراهیم بن محمد بن سفیان الراوی عن مسلم عقب هذا الحدیث حدثنا الحسن بن بشر ثنا أبو أسامة مثله سواء فهذا من زیادات إبراهیم)(1).

أقول: فإذا کان أمر هذه الزیادات قد خفی علی مثل الحافظ أبی مسعود الدمشقی مع ما هو علیه من سعة اطلاع ودقة تمییز فکیف الحال ببقیة الناس وعوامهم.

2: وقد وقع مؤلفو کتاب (المسند الجامع المعلل) فی هذا الإشکال نفسه،


1- تهذیب التهذیب لابن حجر ج 2 ص 224.

ص: 251

فأخرجوا زیادة من زیادات إبراهیم بن محمد بن سفیان علی انها حدیث قاله مسلم فی کتابه، ففی الحدیث الذی: (عَنْ سُلَیْمَانَ بْنِ بُرَیْدَةَ، عَنْ أَبِیهِ، قَالَ: کَانَ رَسُولُ اللهِ «إِذَا أَمَّرَ أَمِیرًا عَلَی جَیْشٍ، أَوْ سَرِیَّةٍ، أَوْصَاهُ فِی خَاصَّتِهِ بِتَقْوَی اللهِ، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِینَ خَیْرًا، ثُمَّ قَالَ: اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ، فِی سَبِیلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ کَفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا، وَلاَ تَغُلُّوا، وَلاَ تَغْدِرُوا، وَلاَ تَمْثُلُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِیدًا...»)(1).

علق علیه جامعو هذا الکتاب بقولهم: (أخرجه أحمد 5/352 «23366» قال: حدَّثنا وَکِیع، حدَّثنا سُفْیان. وفی 5/358 «23418» قال: حدَّثنا عَبْد الرَّحْمان، حدَّثنا سُفْیان. و«الدَّارِمِی» 2439 و2442 و2443 مُفَرَّقًا قال: أخبرنا مُحَمد بن یُوسُف، عن سُفْیان. و«مُسْلم» 5/139 «4542 و4543» قال: حدَّثنا أبو بَکْر بن أَبی شَیْبَة، حدَّثنا وَکِیع بن الجَرَّاح، عن سُفْیان «ح» وحدَّثنا إِسْحَاق بن إبراهیم، أخبرنا یَحیی بن آدم، حدَّثنا سُفْیان، قال: أملاه علینا إِملاءً «ح» وحدَّثنی عَبْد اللهِ بن هاشم، واللفظ له، حدَّثنی عَبْد الرَّحْمان، یَعْنِی ابن مَهْدِی، حدَّثنا سُفْیان. وفی 5/140 «4544» قال: وحدَّثنی حَجَّاج بن الشَّاعر، حدَّثنی عَبْد الصَّمَد بن عَبْد الوارث، حدَّثنا شُعْبة. وفی «4545» قال: حدَّثنا إبراهیم، حدَّثنا مُحَمد بن عَبْد الوَهَّاب الفَرَّاء، عن الحُسَیْن بن الوَلِید، عن شُعْبة)(2).

والشاهد هو فی قولهم: (و«مُسْلم» ...قال: حدَّثنا إبراهیم، حدَّثنا مُحَمد ابن عَبْد الوَهَّاب الفَرَّاء، عن الحُسَیْن بن الوَلِید، عن شُعْبة) فهذا الحدیث لیس


1- المسند الجامع المعلل تألیف أبی الفضل السید أبو المعاطی النوری المتوفی 1401 هجریة، د. بشار عواد معروف أحمد عبد الرزاق عید، أیمن إبراهیم الزاملی، محمود محمد خلیل، الطبعة الثانیة مزیدة ومنقحة، ج3 ص119 __ 120.
2- المصدر نفسه ص120.

ص: 252

لمسلم النیسابوری ولا هو واضعه، بل هو من زیادات إبراهیم بن محمد بن سفیان، فخلطوا بنسبتهم هذه الزیادة إلی مسلم وکتابه.

3: ولم یتوقف الخلط بین الأصل وبین الزیادات علی کتاب صحیح مسلم، بل سری هذا الخلط علی جمیع کتب الحدیث السنیة، وهذا الخلط أعظم واکبر فی کتب المتأخرین، فعلی سبیل المثال نجد الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقی فی تحقیقه لکتاب (سنن ابن ماجة) قد وقع فی مئات الأخطاء منها ما یتعلق بضبط الأسماء واختلاط الأسانید وعدم التمییز ما بین الأصل والزیادة، وفی هذا الصدد یقول الدکتور بشار عواد معروف: (وقد تبین لنا بما لا یقبل الشک أن السید محمد فؤاد عبد الباقی لم یعتمد سوی الطبعة المصریة، ولکنه کان قلیل البضاعة فی هذه الصناعة، فقد وقع فی مئات الأخطاء التی جاءت فی تلک الطبعة، فی ضبط الأسماء، واختلاط الأسانید، وفیما نقله من حاشیة السندی وعزاه للبوصیری، فضلاً عن عدم قدرته علی تمییز الزیادات التی زادها أبو الحسن بن القطان راوی سنن ابن ماجة علی أصل السنن، وهی التی طبعناها بالحرف الصغیر، لاسیما عند عدم التصریح بالزیادة والنسبة إلیه، فاختلط الأصل بالزیادات، ولم یتمکن من تمییزها، وقد زاد الطین بلة أنه لم یعتمد أی طریقة فی التثبت من صحة النص أو نسبته، فلا جمع المخطوطات واستخلص منها روایة صحیحة، ولا تتبع نقول العلماء الثقات الأثبات الذین نصوا علیها، کما فعل مثلاً الحافظ جمال الدین المزی فی تحفة الأشراف، وتهذیب الکمال)(1).

وقال الدکتور مسفر الدمینی فی مقدمة بحثه (زیادات أبی الحسن القطان علی


1- سنن ابن ماجة حققه وعلق علیه واخرج أحادیثه الدکتور بشار عواد معروف ص6 ___ 11، ط. دار الجیل بیروت.

ص: 253

سنن ابن ماجة): (والناظر فی صنیع الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقی والدکتور محمد مصطفی الأعظمی عند طبع کلٍّ منهما للکتاب «یعنی سنن ابن ماجه» یجد لبساً فی إخراج الکتاب حیث لم تُمیَّز الزیادات عن الأصل... ثم قال: وعملهما هذا _ غفر الله لهما _ یوهم بعض طلاَّب العلم أنَّ الجمیع من سنن ابن ماجه، وأنَّ تلک الزیادات من معلقات ابن ماجه عن أبی الحسن، بینما الأمر خلاف ذلک، فأبو الحسن القطان تلمیذ ابن ماجه وراویة سننه ولیس شیخه، وتلک الأحادیث الواردة فی صورة التعلیق من زیادات أبی الحسن القطان علی کتاب شیخه ابن ماجه، ثم إنَّها لیست معلَّقة، بل مسندة له، فربَّما التقی مع شیخه أثناء الإسناد، وربَّما استقلَّ بحدیث تام بإسناده ومتنه)(1).

فیثبت من ذلک کله أن إقحام هذه الزیادات فی أصل کتاب مسلم وغیره قد خلقت مشکلة کبیرة وتحولت مع الزمن من زیادة إلی أصل، وهی معضلة علمیة لها أبعادها ومخاطرها الکبیرة.


1- زیادات أبی الحسن القطان علی سنن ابن ماجة للدکتور مسفر الدمینی ص6 __7.

ص: 254

ص: 255

الفصل الثالث: تناقضات مناهج المحدثین واضطراب قواعد الجرح والتعدیل عندهم

اشارة

ص: 256

ص: 257

مقدمة الفصل

إن الحدیث عن مسألة تحیز محدثی أهل السنة وازدواجیتهم فی تعاملهم مع أحادیث الفضائل الخاصة بأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین لا یمکن أن یستغنی عن الحدیث والبحث فی القواعد التی خطها القوم وجعلوها منهجا وقانونا فی تصحیح الأحادیث النبویة أو إعلالها عموما وأحادیث الفضائل خصوصا.

وقد اتضح لی ومن خلال النظر والتدقیق فی کلمات أئمة الحدیث من أهل السنة، ومن خلال المقارنة بین أقوال بعضهم مع بعضهم الآخر، أن القوم لیس عندهم کلمة جامعة، ولا قانون محدد یتعاملون به مع الأحادیث النبویة، فقد اختلفوا فی کل شیء، ولا تجد قاعدة واحدة من قواعد الجرح والتعدیل قد تم التوافق والإجماع علیها من الجمیع.

ولیت ان اختلافهم قد توقف علی قواعد علم الحدیث ولم یسر علی کل مسألة من مسائل هذا العلم حتی توثیق الرجال وتضعیفهم، لانک لا تجد شخصا قد تم الإجماع من اهل الجرح والتعدیل علی وثاقته أو علی ضعفه إلا نادرا، لان الراوی الواحد ربما صیره البعض أوثق الثقات وإماماً من الائمة، بینما یصیره البعض الآخر کذابا یسرق الحدیث ویدلس ولا یحل إخراج روایاته.

ص: 258

فضلاً علی ذلک ازدواجیة الشخص الواحد نفسه من اهل الجرح والتعدیل وائمة الحدیث فی تعامله مع الروایة الواحدة او الراوی الواحد، فتجد احدهم یتضارب ویتناقض قوله فی الروایة فیضعفها ویسقطها عن الاعتبار فی کتاب من کتبه، لکنه یوثقها ویقویها فی کتاب آخر له ایضا، وربما حکم علی رجل معین بالضعف والکذب والتدلیس، لکنه فی موضع آخر من نفس کتابه او فی کتاب آخر من کتبه یوثقه ویقویه ویعظم شأنه ومنزلته، کما فعل ابن حبان وغیره.

وهذا التضارب والتناقض فی مسألة تقعید القواعد وتأصیل الأصول فی توثیق الرجال وقدحهم هو محور حدیثنا فی هذا الفصل إن شاء الله تعالی.

لماذا أوجدوا قواعد الجرح والتعدیل؟

لما انتشرت روایة الأحادیث الضعیفة الواهیة، التی بثتها أفواه المغرضین وأصحاب المصالح الدنیویة، أو التی نشرتها السلطة ورجالها، وبعد أن أصبح الحدیث الصحیح کالنقطة فی بحر لجی، أو کالشعرة البیضاء فی جلد ثور أسود، مما سبب أزمة وحرجاً لعلماء أهل السنة ومحدثیهم، ولمعرفة مقدار حجم الکذب والدس فی أحادیث النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم ونسبة الأحادیث الصحیحة إلی المعلولة المکذوبة فلیتأمل المتأمل فی قول کل من شعبة والدارقطنی وهما من أئمة الحدیث عند أهل السنة، وقد نقل کلامهما ابن أبی الحدید المعتزلی بقوله: (قال شعبة إمام المحدثین: تسعة أعشار الحدیث کذب.

وقال الدارقطنی: ما الحدیث الصحیح فی الحدیث إلا کالشعرة البیضاء فی الثور الأسود)(1).


1- شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید  ج 9 ص 105.

ص: 259

أو کما قال محمود أبو ریة فی کتابه (أضواء علی السنة المحمدیة): (قال إمام أهل السنة أحمد بن حنبل: ثلاثة أمور لیس لها إسناد، التفسیر والملاحم، والمغازی.

وقال ابن تیمیة خلیفة أحمد بن حنبل فی إمامة الحنابلة: والمؤدی لیست لها أصول، أی إسناد، لان الغالب علیها المراسیل)(1).

فصار تمییز الحدیث الصحیح من المعلول __ مع مرور الوقت وتطاول الأیام __ صعباً للغایة ، فاضطر کل إمام من أئمة اهل السنة، إلی وضع شروط وقواعد لتمییز الحدیث الصحیح من غیره، ولکن هذه الشروط والقواعد وللأسف الشدید لم تکن متفقاً علیها من الجمیع، فشروط مالک بن انس وقواعده ومنهجه فی تصحیح الحدیث وإعلاله تختلف عن شروط احمد بن حنبل، وشروط کل من مالک واحمد تختلف عن شروط البخاری، وکلهم لا یتفقون مع مسلم فی اغلب شروطه وهکذا.

وقد انعکس هذا الاختلاف فی القواعد والشروط علی تدوین السنة النبویة أولا، وعلی الحکم بالصحة أو الضعف علیها ثانیا، لذلک نجد مالک بن انس یخرج بعض الأحادیث التی لا یرتضیها احمد بن حنبل، ونجد البخاری یحتج برواة وأحادیث لم یحتج بهم مسلم، وکذا فعل مسلم فی صحیحه وسائر أصحاب الصحاح والمسانید والسنن.

فالحدیث __ کما سنری لاحقا __ عن وجود قواعد وشروط مجمع علیها، هو حدیث واهم ومکذوب یردده المتأخرون لأجل التعمیة علی العوام ممن لیس له اطلاع علی حال المحدثین وأهل الجرح والتعدیل.


1- أضواء علی السنة المحمدیة لمحمود أبو ریة  ص 408 __ 409.

ص: 260

من هم المتقدّمون من أهل الجرح والتعدیل ومن هم المتأخّرون؟

قد صنف أهل الجرح والتعدیل عند أهل السنة إلی قسمین أو طائفتین أطلقوا علی الأولی اسم المتقدمین وعلی الثانیة اسم المتأخرین، ووقع بین هاتین الطائفتین اختلاف فی التقییم وفی المنهج الذی علی أساسه یتم جرح الرواة وتعدیلهم، وقد بیّن السخاوی فی (فتح المغیث شرح ألفیة الحدیث) أسماء المتقدمین من أهل الجرح والتعدیل بقوله: (ولذا کان الحکم من المتأخرین عسرا جدا وللنظر فیه مجال بخلاف الأئمة المتقدمین الذین منحهم الله التبحر فی علم الحدیث والتوسع فی حفظه کشعبة والقطان وابن مهدی ونحوهم وأصحابهم مثل أحمد وابن المدنی وابن معین وابن راهویه وطائفة ثم أصحابهم مثل البخاری ومسلم وأبی داود والترمذی والنسائی وهکذا إلی زمن الدارقطنی والبیهقی ولم یجئ بعدهم مساو لهم ولا مقارب أفاده العلائی)(1).

وقال بدر الدین الزرکشی: (قد استشکل الشیخ صلاح الدین العلائی حکایته عن المحدثین وقال «الذی یظهر من کلامهم خصوصا المتقدمین کیحیی بن سعید القطان وعبد الرحمن بن مهدی ومن بعدهما کأحمد بن حنبل وعلی بن المدینی ویحیی بن معین وهذه الطبقة ومن بعدهم کالبخاری وأبی زرعة وأبی حاتم الرازیین ومسلم والترمذی والنسائی وأمثالهم والدارقطنی والخلیلی...»)(2).

فالقدماء من نقاد الحدیث وأهل الجرح والتعدیل وبحسب هذین النصین هم کل من:


1- فتح المغیث شرح ألفیة الحدیث للشیخ شمس الدین محمد بن عبد الرحمن السخاوی ج1 ص255 __256.
2- النکت علی مقدمة ابن الصلاح لبدر الدین الزرکشی  ج2 ص175 ___176.

ص: 261

1: شعبة.

2: یحیی بن سعید القطان.

3: عبد الرحمن بن مهدی.

4: احمد بن حنبل.

5: علی بن المدینی.

6: یحیی بن معین.

7: ابن راهویه.

8: محمد بن إسماعیل البخاری.

9: أبو زرعة الرازی.

10: أبو حاتم الرازی.

11: مسلم النیسابوری.

12: أبو داود,

13: الترمذی.

14: النسائی.

15: الدارقطنی.

16: البیهقی.

17: الخلیلی.

وبمعرفة هؤلاء یمکن القول: إن کل من جاء بعد هؤلاء من نقاد الحدیث یعدّ مشمولا بوصف المتأخرین.

ص: 262

اختلاف المتقدمین بعضهم مع بعضهم الآخر فی قواعد الجرح والتعدیل

لا کلام علی ان المتقدمین من أهل الجرح والتعدیل، قد وقع الاختلاف الکبیر بینهم، حول کثیر من قواعد الجرح والتعدیل، وشروط قبول الحدیث أو رده، وکمثال علی هذه الحقیقة هو وقوع الاختلاف الشدید بین مسلم والبخاری حول مسألة صحة الاحتجاج بالحدیث المعنعن، فالبخاری اشترط الملاقاة ما بین الراویین، والسماع المباشر کی تقبل تلک العنعنة فی الحدیث، أما مسلم فلم یشترط الملاقاة فی کتابه المعروف بصحیح مسلم، ولم یکتف مسلم بعدم قبول شرط البخاری وحسب، بل وبالغ فی التشنیع علیه فی مقدمة کتابه.

 وقد أشار إلی هذه الحقیقة محمد بن إسماعیل الصنعائی فی (توضیح الأفکار لمعانی تنقیح الأنظار) بقوله:

(واعلم أنا راجعنا مقدمة مسلم فوجدناه تکلم فی الروایة بالعنعنة وأنه شرط فیها البخاری ملاقاة الراوی لمن عنعن عنه وأطال مسلم فی رد کلامه والتهجین علیه ولم یصرح أنه البخاری وإنما اتفق الناظرون أنه أراده ورد مقالته)(1).

وقیل ان مسلما کان یقصد برده علی بن المدینی وهو لا یضر فیما نحن فیه لان ابن المدینی هو من المتقدمین أیضا، ولو أردنا استقصاء جمیع الاختلافات بین المتقدمین أنفسهم لما توقف بنا الحال عند حد معین.


1- توضیح الأفکار لمعانی تنقیح الأنظار لمحمد بن إسماعیل الأمیر الحسنی الصنعائی ج1 ص44.

ص: 263

اختلاف المتأخرین مع المتقدمین فی قواعد الجرح والتعدیل

ولم یتوقف الاختلاف والتضارب فی القواعد والمناهج والآراء علی المتقدمین فحسب، بل سرت نار الاختلاف لتشمل الاختلاف ما بین المتأخرین والمتقدمین من أهل الحدیث، وما بین المتأخرین أنفسهم، وما بین الفقهاء والمحدثین وهلم جرا، ویشهد علی وقوع هذا الاختلاف قول الصنعائی فی (توضیح الأفکار) حیث نقل عن ابن دقیق العید فی (شرح الإلمام) قوله: (إن لکل من أئمة الفقه والحدیث طریقا غیر طریق الآخر، فإن الذی تقضیه قواعد الأصول والفقه أن العمدة فی تصحیح الحدیث عدالة الراوی وجزمه بالروایة، ونظرهم یمیل إلی اعتبار التجویز الذی یمکن معه صدق الراوی وعدم غلطه، فمتی حصل ذلک، وجاز أن لا یکون غلطا، وأمکن الجمع بین روایته وروایة من خالفه بوجه من الوجوه الجائزة، لم یترک حدیثه، فأما أهل الحدیث، فإنهم قد یروون الحدیث من روایة الثقات العدول، ثم تقوم لهم علل تمنعهم عن الحکم بصحته، انتهی کلامه بنصه، وهو صریح فی اختلاف الاصطلاحین فی مسمی الصحیح من الحدیث کما قررناه والحمد لله)(1).

وقال بدر الدین الزرکشی: (وقال أبو الحسن بن الحصار الأندلسی فی «تقریب المدارک علی موطأ مالک»، إن للمحدثین أغراضا فی طریقهم احتاطوا فیها وبالغوا فی الاحتیاط، ولا یلزم الفقهاء اتباعهم علی ذلک، کتعلیلهم الحدیث المرفوع بأنه قد روی موقوفا أو مرسلا، وکطعنهم فی الراوی إذا انفرد بالحدیث، أو بزیادة فیه، أو لمخالفة من هو أعدل منه وأحفظ، قال وقد یعلم الفقیه صحة الحدیث بموافقة الأصول، أو آیة من کتاب الله تعالی، فیحمله ذلک علی قبول الحدیث، والعمل به، واعتقاد صحته، وإذا لم یکن فی سنده کذاب فلا بأس


1- توضیح الأفکار لمعانی تنقیح الأنظار لمحمد بن إسماعیل الصنعائی ج1 ص17 __ 18.

ص: 264

بإطلاق القول بصحته إذا وافق کتاب الله تعالی وسائر أصول الشریعة)(1).

وقال ابن دقیق العید فی تعریفه للحدیث الصحیح: (ومداره بمقتضی أصول الفقهاء والأصولیین علی صفة عدالة الراوی فی الأفعال مع التَّیقّظ، العدالة المشترطة فی قبول الشهادة، علی ما قُرِّر فی الفقه، فمن لم یقبل المرسل منهم زاد فی ذلک أن یکون مسنداً. وزاد أصحاب الحدیث أن لا یکون شاذاً ولا معلَّلاً. وفی هذین الشرطین نَظَرٌ علی مقتضی مذهب الفقهاء، فإن کثیراً من العلل التی یعلِّل بها المحدثون الحدیث لا تجری علی أصول الفقهاء)(2).

ومن ثم ونتیجة لهذا الاختلاف بین منهجی المتقدمین والمتأخرین، اشتد النزاع بین المتأخرین فی تفضیل أی منهج من المنهجین ونُصْرته، فمنهم من ناصر مذهب المتأخرین، وطعن وشنع فی المتقدمین، وطالبهم بالدلیل علی إعراضهم عن کثیر من الأحادیث الصحیحة، وقبولهم وتسلیمهم بکثیر من الأحادیث الضعیفة والشاذة.

ومنهم من نصر مذهب المتقدمین، وحکم بصحة کل ما جاء عنهم، ورفض طریقة المتأخرین فی إخضاع النصوص إلی العقل، ووسائل العلم الحدیث، والاکتفاء بصحة السند دون النظر إلی الأمور الخفیة والعلل غیر الظاهرة.

ومنهم من جعل منهجه تلفیقا ما بین منهج القدماء ومنهج المتأخرین، فأخذ من هؤلاء ضغثاً، ومن هؤلاء ضغثاً، ولو أسهبنا فی ذکر الأمثلة علی کل فرقة من هذه الفرق لما توقف بنا المقال فالإجمال هنا أولی وأحلی، فالمهم أن یعرف القارئ الکریم أن لیس للقوم منهج معین ومحدد، ولا قواعد ثابتة فی تقییم الأحادیث وتصحیحها، وقد افترقوا فی ذلک إلی فرق لا تعد.


1- النکت علی مقدمة ابن الصلاح لبدر الدین الزرکشی ج1 ص106 __ 107.
2- الاقتراح فی فن الاصطلاح للحافظ ابن دقیق العید ج1 ص1.

ص: 265

لیست لدی القدماء قواعد واضحة ومنهجیة معلومة فی الجرح والتعدیل

قد وقع کل المتأخرین الذین انتصروا لمنهج المتقدمین فی الجرح والتعدیل فی ورطة کبیرة، ومعضلة عظیمة، إذ وجدوا أنفسهم أمام إشکال کبیر جدا، وهو ان المتقدمین من المحدثین وأهل الجرح والتعدیل، لم یکن لدیهم منهج محدد وواضح فی التعامل مع الأحادیث النبویة.

ووجد المتأخرون أیضا أنفسهم أمام عدة مناهج متناقضة ومتضاربة للمتقدمین، فأحمد بن حنبل یقوی حدیثا، ومسلم النیسابوری یضعفه، ومالک یصححه، والبخاری یرفضه، والترمذی یحسنه، وغیره یکذبه، ومن دون أن یبینوا فی کثیر من الأحیان سبب ردهم وتضعیفهم أو علة تأییدهم وتقویتهم.

فضلاً عن الاختلاف والتناقض فی منهج المحدث الواحد، فنراه یرفض التدلیس لکنه یخرج لمئات من المدلسین، ویضعف مجهول العدالة ویخرج لعشرات منهم، وهکذا، وقد مر فی الفصل السابق کثیر من الشواهد الدالة علی هذا التناقض فی المناهج.

 ولهذه الأسباب وغیرها وقع المتأخرون فی حیص وبیص کما یقول المثل الشائع، وحاولوا تفسیر هذا التناقض والتضارب فی المناهج بکلمات لا تصمد أمام النقاش العلمی، ولما عجزوا عن تفسیر الأمر حاولوا سد باب النقد والاعتراض بوجه کل من یرید معرفة العلل والأسباب التی کان القدماء یبنون علیها أحکامهم فی التصحیح والتضعیف وفی الجرح والتعدیل، وفسروا المسألة بأنها حالة قلبیة وأمر نفسی یمر علی المحدثین فیستشعرون معها بصحة الحدیث أو

ص: 266

عدم صحته.

قال السخاوی فی (فتح المغیث): (وقال ابن مهدی هی إلهام لو قلت للقیم بالعلل من أین لک هذا لم تکن له حجة)(1).

ونقل السخاوی عن آخر: (ونحن نعلم صحة الحدیث بعدالة ناقلیه وأن یکون کلاما یصلح أن یکون کلام النبوة ونعرف سقمه ونکارته بتفرد من لم تصح عدالته وهو کما قال غیره أمر یهجم علی قلبهم لا یمکنهم رده وهیئة نفسانیة لا معدل لهم عنها)(2).

وهو أمر مضحک خطیر فی الوقت نفسه، لأنه یجعل السنة النبویة خاضعة لمیول المحدثین ورغباتهم واعتقاداتهم ونوازعهم، ویصیرها متأثرة بالعقد النفسیة والمتبنیات المذهبیة لذلک المحدث، فما وافق تلک الرغبات والمتبنیات والاعتقادات یکون صحیحا وما خالفها یکون مکذوبا ویحکم علیه بالضعف وعدم الاعتبار.

وقد زادوا الطین بلة حینما لم یکتفوا بالاعتراف بعدم وجود قواعد وأسس منطقیة لعملیة التقییم، فأوجب کثیر منهم اتباع المتأخرین لحکم المتقدمین وتقلیدهم فی جرحهم وتوثیقهم وتصحیحهم وتضعیفهم من دون السؤال عن أسباب قدحهم ودواعی جرحهم، وفی هذا الصدد یقول إسماعیل بن کثیر الشافعی: (أما کلام هؤلاء الأئمة المنتصبین لهذا الشأن، فینبغی أن یؤخذ مسلماً من غیر ذکر أسباب، وذلک للعلم بمعرفته، واطلاعهم واضطلاعهم فی هذا الشأن، واتصافهم بالإنصاف


1- فتح المغیث شرح ألفیة الحدیث للشیخ شمس الدین محمد بن عبد الرحمن السخاوی ج1 ص235.
2- المصدر السابق ص236.

ص: 267

والدیانة والخبرة والنصح)(1).

فیتضح من ذلک ان القدماء فی حکمهم علی الأحادیث لیس لهم قواعد محددة ومتفق علیها، فهم کما صرح بعضهم یتبعون حالة نفسیة تهجم علیهم فیحکمون علی الأحادیث بما یتلاءم وتلک الحالة، ولو سلمنا جدلا بوجود قواعد لهم فانهم لا یلتزمون بها من الناحیة العملیة التطبیقیة، وقد أشار إلی هذه الحقیقة الزرکشی فی (النکت علی مقدمة ابن الصلاح) إذ قال وهو یتحدث عن مسألة زیادة الثقة ومدی قبولها: (الذی یظهر من کلامهم خصوصا المتقدمین کیحیی بن سعید القطان وعبد الرحمن بن مهدی ومن بعدهما کأحمد بن حنبل وعلی بن المدینی ویحیی بن معین وهذه الطبقة ومن بعدهم کالبخاری وأبی زرعة وأبی حاتم الرازیین ومسلم والترمذی والنسائی وأمثالهم والدارقطنی والخلیلی کل هؤلاء مقتضی تصرفهم فی الزیادة قبولا وردا الترجیح بالنسبة إلی ما یقوی عند الواحد منهم فی کل حدیث ولا یحکمون فی المسألة بحکم کلی یعم جمیع الأحادیث وهذا هو الحق)(2).

دخول العصبیة والحسد والبغضاء فی منهج التوثیق والقدح

اشارة

من یتأمل فی أحوال القدماء من أهل الجرح والتعدیل یجد أن کثیرا من أحکام جرحهم وتعدیلهم لم تکن نابعة من دیانة أو علم أو نصح، فکثیراً ما تدخّل الهوی والحسد والعصبیة المذهبیة والعداوات الشخصیة والتنافس وحب النفس والدنیا فی أحکام المدح والقدح التی کانت تطلق علی الرواة وروایاتهم، وفیما یأتی جملة من الشواهد الدالة علی هذه الحقیقة:


1- الباحث الحثیث فی اختصار علوم الحدیث لإسماعیل بن کثیر الشافعی ص11.
2- النکت علی مقدمة ابن الصلاح لبدر الدین الزرکشی ج2 ص175 __ 176.

ص: 268

1: تشنیع ابن مندة فی أبی نعیم وکلام أبی نعیم فی ابن مندة بهوی وعصبیة

قال الذهبی فی ترجمة أبی نعیم الأصبهانی ما نصه: (أحمد بن عبد الله الحافظ أبو نعیم الأصبهانی. أحد الأعلام. صدوق، تکلم فیه بلا حجة، ولکن هذه عقوبة من الله لکلامه فی ابن مندة بهوی. قال الخطیب: رأیت لأبی نعیم أشیاء یتساهل فیها، منها أنه یطلق فی الإجازة أخبرنا ولا یبین. قلت: هذا مذهب رآه أبو نعیم وغیره، وهو ضرب من التدلیس. وکلام ابن مندة فی أبی نعیم فظیع، لا أحب حکایته، ولا أقبل قول کل منهما فی الآخر، بل هما عندی مقبولان، لا أعلم لهما ذنبا أکثر من روایتهما الموضوعات ساکتین عنها. قرأت بخط یوسف بن أحمد الشیرازی الحافظ، رأیت بخط ابن طاهر المقدسی یقول: أسخن الله عین أبی نعیم، یتکلم فی أبی عبد الله بن مندة، وقد أجمع الناس علی إمامته وسکت عن لاحق وقد أجمع الناس علی أنه کذاب. قلت: کلام الأقران بعضهم فی بعض لا یعبأ به، لاسیما إذا لاح لک أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد، ما ینجو منه إلا من عصم الله، وما علمت أن عصرا من الاعصار سلم أهله من ذلک، سوی الأنبیاء والصدیقین، ولو شئت لسردت من ذلک کراریس، اللهم فلا تجعل فی قلوبنا غلا للذین آمنوا ربنا إنک رؤوف رحیم)(1).

أقول: ویستفاد من کلام الذهبی فوائد کثیرة تکشف لنا النقاب عن حقیقة جرح أکثر القدماء والمعاصرین وتعدیلهم منها:

ألف: نستفید من قوله: (تکلم فیه بلا حجة) أن لیس کل جرح یوجهه نقاد الحدیث یکون بحجة فیوجد منه وهو کثیر جدا جرح لا یستوجب الجرح أو قل جرح بلا سبب موجب للجرح، کما کان یطعن یحیی بن معین فی عامر بن صالح لان


1- میزان الاعتدال للذهبی  ج 1  ص 111.

ص: 269

عامرا کان یسمع الحدیث عن رجل یصغره سنا ورجل آخر یکبره سنا وهو عیب فی نظر ابن معین، قال الخطیب البغدادی عن: (...عبد الله بن أحمد بن حنبل قال قلت لأبی إن یحیی بن معین یطعن علی عامر بن صالح قال یقول ماذا قلت رآه یسمع من حجاج قال قد رأیت أنا حجاجا یسمع من هشیم وهذا عیب یسمع الرجل ممن هو أصغر منه وأکبر)(1).

وکما فعل شعبة مع احد الرواة الذین ترک حدیثه فلما سُئل لماذا ترکت حدیثه أجابهم لأنی رأیته یرکض علی فرس له، قال المدائنی: (قیل لشعبة لم ترکت حدیث فلان قال رأیته یرکض علی برذون(2) فترکت حدیثه)(3).

أو کترک الحکم بن عتیبة حدیث زاذان لأنه یتکلم کثیرا، فعن أمیة بن خالد عن شعبة قال: (قلت للحکم بن عتیبة لِمَ لَمْ ترو عن زاذان قال کان کثیر الکلام)(4).

باء: ونستفید من قول الذهبی السابق (ولکن هذه عقوبة من الله لکلامه فی ابن مندة بهوی) أن أهل الجرح والتعدیل والحدیث والروایة مهما علت مرتبتهم وعظمت منزلتهم عند أهل السنة، فیمکن أن یصدر عنهم کثیر من التوثیقات والتضعیفات الناشئة عن الهوی والعصبیة والبغضاء والشحناء، فأبو نعیم الأصبهانی مع کونه وکما وصفه الذهبی أحد الأعلام وصدوقاً إلا انه جرح ابن مندة وکان منشأ جرحه الهوی والتحامل، وکذلک فعل ابن مندة مع أبی نعیم


1- الکفایة فی علم الروایة للخطیب البغدادی ص 138.
2- البرذون من الخیل ما لیس بعربی أصیل.
3- الکفایة فی علم الروایة للخطیب البغدادی ص 138 __ 139.
4- المصدر السابق ص140.

ص: 270

الأصبهانی حیث جرحه وطعن فی عدالته لوجود العداوة بینهما، کما هو المفهوم من کلام الذهبی (وکلام ابن مندة فی أبی نعیم فظیع، لا أحب حکایته) فإذا کان حالهم مع أهل نحلتهم ومن یشارکونهم فی الاعتقاد بکثیر من مبادئ العقیدة والأصول هکذا، فکیف یا تری سیکون حالهم مع من یخالفهم فی المذهب والرؤیا والعقیدة من الشیعة الإمامیة وغیرهم من مخالفیهم؟!.

جیم: وفی قوله: (رأیت بخط ابن طاهر المقدسی یقول: أسخن الله عین أبی نعیم، یتکلم فی أبی عبد الله بن مندة، وقد أجمع الناس علی إمامته وسکت عن لاحق وقد أجمع الناس علی أنه کذاب. قلت: کلام الأقران بعضهم فی بعض لا یعبأ به، لا سیما إذا لاح لک أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد، ما ینجو منه إلا من عصم الله) مبالغة واضحة فی استعمال قاعدة (کلام الأقران بعضهم فی بعض لا یعبأ به)، لان ابن طاهر المقدسی کان ینتقد منهج أبی نعیم الأصبهانی فی الروایة، لان ابا نعیم کان یطعن فی وثاقة ابن مندة الذی أجمع الناس علی إمامته، ولکنه فی المقابل یروی ویسکت عن شخص اسمه لاحق قد أجمع الناس علی کذبه، فهو قدح مفسر لا یدخل تحت قاعدة کلام الأقران بعضهم فی بعض، فدفاع الذهبی عن أخطاء أعلامه ومفارقاتهم وتناقضاتهم غیر علمی ولا مبرر، ولیته کان یدافع عن أعلام الشیعة الإمامیة ومحدثیهم بعشر ما یدافع به عن أعلام مذهبه، فکم من راوٍ قد وثقه أهل السنة وقدحه الذهبی وشنع علیه ولم یبق له عذرا بسبب کونه شیعیا.

دال: ومن قوله (وما علمت أن عصرا من الأعصار سلم أهله من ذلک، سوی الأنبیاء والصدیقین، ولو شئت لسردت من ذلک کراریس) نعرف عظیم الخرق وکبیر المصیبة فالموثقون والجارحون علی الهوی والعصبیة والحسد والبغض

ص: 271

والتحزب الطائفی والمذهبی لم یخل منهم عصر من الأعصار، وان قصص مثل هذا التصرف المشین الخارج عن حدود الشرع والأخلاق وأمثلته وشواهده لو ذکرت ونشرت لملأ الذهبی منها عدة کراریس.

2: القدح بسبب العصبیة والعداوة

وأمثلته کثیرة منها قدح ربیعة الرأی بأبی الزناد عبد الله بن ذکوان، وقدح أبی الزناد بربیعة، حیث کانت بینهما عداوة ظاهرة معلومة، فکان احدهما یشنع علی الآخر ویسقط عدالته نتیجة لتلک العداوة، حتی کان أبو الزناد سببا لان یجلد ربیعةَ الرأی أحدُ الحکام الأمویین، ثم لما تولی حاکم آخر نصر ربیعة وحبس أبی الزناد فی سجن وبنی علیه باب السجن قاصدا إهلاکه حتی الموت، فتنازل ربیعة الرأی عن حقه وتوسط له عند ذلک السلطان فأخرج من سجنه وقد شارف علی الموت، قال إبراهیم بن المنذر الحزامی: (هو __ أی أبو الزناد __ کان سبب جلد ربیعة الرأی، ثم ولی بعد ذلک المدینة فلان التیمی، فأرسل إلی أبی الزناد، فطین علیه بیتا، فشفع فیه ربیعة...فأخرجوا أبا الزناد، وقد عاین الموت وذبل، ومالت عنقه. نسأل الله السلامة)(1).

ومن أمثلة ذلک أیضا ما وقع بین ابن جریر الطبری وبین ابن أبی داود والذی حکاه الذهبی بقوله: (وقد وقع بین ابن جریر وبین ابن أبی داود، وکان کل منهما لا ینصف الآخر، وکانت الحنابلة حزب أبی بکر بن أبی داود، فکثروا وشغبوا علی ابن جریر، وناله أذی، ولزم بیته، نعوذ بالله من الهوی)(2).


1- سیر أعلام النبلاء للذهبی ج5 ص448.
2- المصدر السابق ج14 ص277.

ص: 272

3: القدح بسبب الاختلاف فی الرأی الفقهی

ومن أمثلة ذلک ما ذکره ابن عبد البر فی کتابه (جامع بیان العلم وفضله) من طعن یحیی بن معین فی الشافعی، ومن طعن ابن أبی ذئب وقدحه فی مالک بن أنس، فقال: (ومما نقم علی ابن معین وعیب به أیضا قوله فی الشافعی: إنه لیس بثقة وقیل لأحمد بن حنبل: إن یحیی بن معین یتکلم فی الشافعی فقال أحمد: ومن أین یعرف یحیی الشافعی هو لا یعرف الشافعی ولا یعرف ما یقول الشافعی؟ أو نحو هذا ومن جهل شیئا عاداه، قال أبو عمر رحمه الله: «صدق أحمد بن حنبل رحمه الله، إن ابن معین کان لا یعرف ما یقول الشافعی رحمه الله... وقد صح عن ابن معین من طرق أنه کان یتکلم فی الشافعی علی ما قدمت لک حتی نهاه أحمد بن حنبل رحمه الله ونبهه علی موضعه فی العلم وقال له: لم تر عیناک قط مثل قول الشافعی)(1).

وقال ابن عبد البر: (وقد تکلم ابن أبی ذئب فی مالک بن أنس بکلام فیه جفاء وخشونة کرهت ذکره وهو مشهور عنه قاله إنکارا منه لقول مالک فی حدیث «البیعین بالخیار» وکان إبراهیم بن سعد یتکلم وکان إبراهیم بن أبی یحیی یدعو علیه وتکلم فی مالک أیضا فیما ذکره الساجی فی کتاب العلل عبد العزیز بن أبی سلمة، وعبد الرحمن بن زید بن أسلم، وابن إسحاق، وابن أبی یحیی، وابن أبی الزناد، وعابوا أشیاء من مذهبه وتکلم فیه غیرهم ؛ لترکه الروایة عن سعد بن إبراهیم وروایته عن داود بن الحصین، وثور بن زید وتحامل علیه الشافعی وبعض أصحاب أبی حنیفة فی شیء من رأیه حسدا لموضع إمامته)(2).


1- جامع بیان العلم وفضله لابن عبد البر ج3 ص415.
2- المصدر نفسه.

ص: 273

أقول: فإذا کان القوم یقدحون فیمن خالفهم بحدیث أو مسألة فقهیة فماذا عساهم یفعلون فیمن خالفهم بأصل الإمامة أو مسائل التوحید والعصمة؟ هذا مع ملاحظة أن القادح هو ابن معین احد من شهد له بإمامة الحدیث ومن أهل الجرح والتعدیل الذین یرکن إلی قولهم ویؤخذ بحجزتهم فی هذا الفن، فإذا کان مثل هذا یحکم ویقدح بغیر معرفة ولا دلیل فماذا ترک لمن هو اقل منه شأنا ومنزلة علمیة؟.

والقادح الآخر هو الشافعی إمام المذهب الشافعی، وکان سبب قدحه هو الحسد لموضع إمامته، وهو یوضح لنا أن الشافعی وغیره لم یکونوا بالصورة التی یروجها أتباعهم الیوم، وان حب الرئاسة والمنصب قد اخذ من أنفسهم مأخذا عظیما بحیث دفعهم إلی الانتقاص والقدح فی شخص بسبب الحسد لموضع إمامته.

4: القدح بسبب الاختلاف فی العقیدة

قال ابن حجر فی (فتح الباری): (واعلم أنه قد وقع من جماعة الطعن فی جماعة بسبب اختلافهم فی العقائد فینبغی التنبه لذلک وعدم الاعتداد به إلا بحق)(1).

وقال السبکی: (ومما ینبغی أن یتفقد عند الجرح حال العقائد واختلافها بالنسبة إلی الجارح والمجروح فربما خالف الجارح المجروح فی العقیدة فجرحه لذلک وإلیه أشار الرافعی بقوله وینبغی أن یکون المزکون براء من الشحناء والعصبیة فی المذهب خوفا من أن یحملهم ذلک علی جرح عدل أو تزکیة فاسق وقد وقع هذا لکثیر من الأئمة جرحوا بناء علی معتقدهم وهم المخطئون والمجروح مصیب)(2).


1- فتح الباری لابن حجر ج1 ص385.
2- طبقات الشافعیة الکبری لتاج الدین عبد الوهاب بن علی السبکی ج2 ص6.

ص: 274

وقال الحافظ ابن حجر فی (نُزْهَةِ النَّظَر): (ولْیَحْذَرِ المتکلِّمُ فی هذا الفنِّ مِن التَّساهُلِ فی الجَرْحِ والتَّعدیلِ، فإِنَّهُ إِنْ عدَّلَ أَحداً بغیرِ تثبُّتِ ؛ کانَ کالمُثْبِتِ حُکْماً لیسَ بثابتٍ، فیُخْشی علیهِ أَنْ یدْخُلَ فی زُمرةِ «مَن روی حَدیثاً وهُو یظنُّ أَنَّهُ کَذِبٌ». وإِنْ جَرَّحَ بغیرِ تَحرُّزٍ، فإِنَّه أَقْدَمَ علی الطَّعنِ فی مُسلمٍ بَریءٍ مِن ذلک، ووسَمَهُ بِمیْسَمِ سُوءٍ یَبْقی علیهِ عارُهُ أَبداً. والآفةُ تدخُلُ فی هذا: تارةً مِنَ الهَوی والغَرَضِ الفاسِدِ __ وکلامُ المتقدِّمینَ سالِمٌ مِن هذا غالباً وتارةً مِن المُخالفةِ فی العَقائدِ __ وهُو موجودٌ کثیراً ؛ قدیماً وحَدیثاً، ولا ینْبَغی إِطلاقُ الجَرْحِ بذلک)(1).

وجاء فی (لسان المیزان) لابن حجر: («وممن ینبغی» أن یتوقف فی قبوله قوله فی الجرح من کان بینه وبین من جرحه عداوة سببها الاختلاف فی الاعتقاد فان الحاذق إذا تأمل ثلب أبی إسحاق الجوزجانی لأهل الکوفة رأی العجب وذلک لشدة انحرافه فی النصب وشهرة أهلها بالتشیع فتراه لا یتوقف فی جرح من ذکره منهم بلسان ذلقة وعبارة طلقة حتی أنه اخذ یلین مثل الأعمش وأبی نعیم وعبید الله بن موسی وأساطین الحدیث وأرکان الروایة...)(2).

وقد ضرب السبکی لهذه الآفة عدة أمثلة اخترنا منها قوله: (وأمثلة هذا تکثر وهذا شیخنا الذهبی رحمه الله من هذا القبیل له علم ودیانة وعنده علی أهل السنة تحمل مفرط فلا یجوز أن یعتمد علیه ونقلت من خط الحافظ صلاح الدین خلیل بن کیکلدی العلائی رحمه الله ما نصه الشیخ الحافظ شمس الدین الذهبی لا أشک فی دینه وورعه وتحریه فیما یقوله الناس ولکنه غلب علیه مذهب الإثبات ومنافرة


1- نُزْهَةِ النَّظَر فی تَوْضِیحِ نُخْبَةِ الفِکَر فی مُصْطَلحِ أَهلِ الأثَر للحافظ ابن حجر العسقلانی ج2 ص45.
2- لسان المیزان لابن حجر  ج 1 ص 16.

ص: 275

التأویل والغفلة عن التنزیه حتی أثر ذلک فی طبعه انحرافا شدیدا عن أهل التنزیه ومیلا قویا إلی أهل الإثبات فإذا ترجم واحدا منهم یطنب فی وصفه بجمیع ما قیل فیه من المحاسن ویبالغ فی وصفه ویتغافل عن غلطاته ویتأول له ما أمکن وإذا ذکر أحدا من الطرف الآخر کإمام الحرمین والغزالی ونحوهما لا یبالغ فی وصفه ویکثر من قول من طعن فیه ویعید ذلک ویبدیه ویعتقده دینا وهو لا یشعر ویعرض عن محاسنهم الطافحة فلا یستوعبها وإذا ظفر لأحد منهم بغلطة ذکرها وکذلک فعله فی أهل عصرنا إذا لم یقدر علی أحد منهم بتصریح یقول فی ترجمته والله یصلحه ونحو ذلک وسببه المخالفة فی العقائد __ انتهی __ والحال فی حق شیخنا الذهبی أزید مما وصف وهو شیخنا ومعلمنا غیر أن الحق أحق أن یتبع وقد وصل من التعصب المفرط إلی حد یسخر منه وأنا أخشی علیه یوم القیامة من غالب علماء المسلمین وأئمتهم الذین حملوا لنا الشریعة النبویة فإن غالبهم أشاعرة وهو إذا وقع بأشعری لا یبقی ولا یذر والذی أعتقده أنهم خصماؤه یوم القیامة عند من لعل أدناهم عنده أوجه منه...)(1).

وقال الصنعائی بعد نقل جزء من الکلام السابق للسبکی حول شیخه الذهبی ما نصه: (قلت لا یخفی أن الصلاح العلائی وابن السبکی شافعیان حادان أشعریان وأن الذهبی إمام کبیر الشأن حنبلی الاعتقاد شافعی الفروع وبین هاتین الطائفتین الحنابلة والأشعریة فی العقائد فی الصفات وغیرها تنافر کلی فلا یقبلان علیه بعین ما قالاه فیه... وأقول إذا کان الأمر کما سمعت فکیف حال الناظر فی کتب الجرح والتعدیل وقد غلب التمذهب والمخالفة فی العقائد علی کل طائفة حتی إن طائفة تصف رجلا بأنه حجة وطائفة أخری تصفه بأنه دجال باعتبار اختلاف الاعتقادات


1- طبقات الشافعیة الکبری لتاج الدین عبد الوهاب بن علی السبکی ج3 ص7.

ص: 276

والأهواء فمن هنا کان أصعب شیء فی علوم الحدیث الجرح والتعدیل...)(1).

أقول: إن من یطلع علی قدح بعضهم بعضا بسبب مسائل عقائدیة جزئیة یری العجب العجاب فقد یصل الحال بتکفیر بعضهم بعضا، ومحاولة الاعتداء علیه وضربه وقتله، کما فی القصة التی رواها الذهبی بقوله: (قال أبو طاهر السلفی: سمعت أبا العلاء محمد بن عبد الجبار الفرسانی یقول: حضرت مجلس أبی بکر بن أبی علی الذکوانی المعدل فی صغری مع أبی، فلما فرغ من إملائه، قال إنسان: من أراد أن یحضر مجلس أبی نعیم، فلیقم. وکان أبو نعیم فی ذلک الوقت مهجورا بسبب المذهب، وکان بین الأشعریة والحنابلة تعصب زائد یؤدی إلی فتنة، وقیل وقال، وصداع طویل، فقام إلیه أصحاب الحدیث بسکاکین الأقلام، وکاد الرجل یقتل)(2).

أقول: فیا للعجب! کادوا یقتلونه لأنه قال من أراد أن یحضر مجلس أبی نعیم فلیقم، مع أن أبا نعیم کما یعرفه أهل السنة من أئمة الحدیث، فکیف سیکون حالهم معه لو قال لهم تعالوا نحضر درس شیعی رافضی؟! وإذا کان الذهبی یطعن فی الأشاعرة ویمدح فی الحنابلة لان الحنابلة یشارکونه فی الاعتقاد بعکس الأشاعرة، وکل منهما محسوب علی الصف السنی فماذا ستکون ردة فعل الذهبی إذا وصل إلی محدث شیعی؟ وکیف سیطمئن المؤمن إلی أحکام هؤلاء النقاد بعد قول الصنعائی: وقد غلب التمذهب والمخالفة فی العقائد علی کل طائفة حتی إن طائفة تصف رجلا بأنه حجة وطائفة أخری تصفه بأنه دجال باعتبار اختلاف الاعتقادات والأهواء؟.


1- توضیح الأفکار لمعانی تنقیح الأنظار لمحمد بن إسماعیل الصنعائی ج2 ص278 __ 279.
2- سیر أعلام النبلاء للذهبی  ج 17 ص 459 __ 460.

ص: 277

بعض نماذج التناقضات فی مناهج المحدثین

اشارة

لا یوجد أدنی شک فی وقوع التناقض من أئمة الحدیث فی توثیق شخص واحد أو قدحه، وفی هذا الصدد یقول الترمذی فی (العلل الصغیر): (وقد اختلف الأئمة من أهل العلم فی تضعیف الرجال کما اختلفوا فی سوی ذلک من العلم)(1)، وهذا لیس بعجیب فالاختلاف بینهم هو الغالب علی کل مسائل علم الحدیث عندهم، لکن العجیب هو اجتماع جرح وتوثیق علی راوٍ واحد ومن محدث واحد، وفیما یأتی بعض النماذج الکاشفة لهذا التناقض الغریب.

1: البخاری یورد أسماء کثیر من الرواة فی کتاب الضعفاء ویخرج لهم فی صحیحه

اشارة

ذکر البخاری کثیراً من الرواة الذین طعن فیهم أو فی عقیدتهم فی کتابه الضعفاء، ولکنه اخرج لهم فی کتابه المعروف بین الناس بصحیح البخاری، والذی اشترط الصحة فی کل حدیث یورده فی هذا الکتاب، کما نقل عمر بن محمد البجیری قال: (سمعت محمد بن إسماعیل یقول صنفت کتابی الجامع فی المسجد الحرام وما أدخلت فیه حدیثا حتی استخرت الله تعالی وصلیت رکعتین وتیقنت صحته)(2).

وعن أبی إسحاق الریحانی قال: (سمعت عبد الرحمن بن رساین البخاری یقول سمعت محمد بن إسماعیل البخاری یقول صنفت کتابی الصحاح فی ستة عشر سنة خرجته من ستمائة ألف حدیث وجعلته حجة فیما بینی وبین الله تعالی)(3).

والحدیث الذی فیه رجل مطعون فی عدالته ووثاقته لیس حدیثا صحیحا


1- العلل الصغیر للترمذی ج1 ص756.
2- مقدمة فتح الباری لابن حجر ص 490.
3- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج 52 ص 72.

ص: 278

باتفاق أهل السنة، وإذا لم یکن صحیحا کیف جوز البخاری لنفسه نقله وإدخاله فی کتابه الصحیح بزعمه وزعم غیره، وهذا من التناقض الواضح، وفیما یأتی جملة من الشواهد علی هذه الحقیقة.

ألف: أیوب بن صالح بن عائذ الکوفی

قد صرح الذهبی فی میزان الاعتدال ان البخاری قد أورد أیوب بن صالح فی کتابه الضعفاء وانه قد رماه بالإرجاء وهو من المذاهب الفاسدة التی توجب ضعف الراوی عند علماء أهل السنة، وتعجب الذهبی من إخراج البخاری له حدیثا فی کتابه الصحیح مع حکمه علیه بالضعف، قال الذهبی: (أیوب بن صالح بن عائذ... وثقه أبو حاتم وغیره. وأما أبو زرعة فسرد اسمه فی کتاب الضعفاء. وکان من المرجئة قاله البخاری، وأورده فی الضعفاء لإرجائه. والعجب من البخاری یغمزه وقد احتج به، لکن له عنده حدیث، وعند مسلم له حدیث آخر)(1).

أقول: ویستفاد من کلام الذهبی إضافة إلی تناقض البخاری فی إیراد أیوب ابن صالح فی الضعفاء ثم الاحتجاج به فی الصحیح، تناقض نفس أهل الجرح والتعدیل من أهل السنة حیث لا تجتمع کلمتهم علی توثیق الرجل الواحد فنری أن أبا حاتم قد وثقه، بینما ضعفه أبو زرعة.

باء: ثابت بن محمد الزاهد

قال ابن حجر: (ثابت بن محمد العابد...روی عنه البخاری فی الصحیح حدیثین فی الهبة والتوحید لم ینفرد بهما)(2).


1- میزان الاعتدال للذهبی  ج 1 ص 289.
2- مقدمة فتح الباری لابن حجر  ص 392.

ص: 279

وقال الذهبی فی سیر أعلام النبلاء: (والعجب من البخاری حدث عن ثابت ابن محمد الزاهد فی صحیحه وذکره فی کتاب الضعفاء)(1).

وقال الذهبی أیضا فی میزان الاعتدال: (ثابت بن محمد الکوفی العابد، أبو إسماعیل الشیبانی. قال أبو حاتم: صدوق. وقال الحاکم: لیس بضابط. ووثقه مطین، واحتج به البخاری... ومع کون البخاری حدث عنه فی صحیحه ذکره فی الضعفاء)(2).

وقال أبو زرعة: (والعجب من البخاری فی ذکره فی «الضعفاء» مع احتجاجه به فی الصحیح)(3).

وقال الألبانی فی (إرواء الغلیل): (ثابت هذا مختلف فیه قال أبو حاتم: صدوق، ووثقه مطین، وقال ابن عدی: کان خیرا فاضلا وهو عندی ممن لا یتعمد الکذب، ولعله یخطئ. وقال الدارقطنی: لیس بالقوی، لا یضبط وهو یخطئ فی أحادیث کثیرة. قلت: ومن الغرائب أن البخاری أورده فی الضعفاء، ومع ذلک روی عنه فی الصحیح)(4).

وقال الألبانی فی (تمام المنة): (أن ثابت بن محمد الزاهد وإن روی له البخاری فقد ذکره هو نفسه فی الضعفاء)(5).


1- سیر أعلام النبلاء للذهبی  ج 17 ص 299
2- میزان الاعتدال للذهبی  ج 1 ص 366.
3- البیان والتوضیح لمن أخرج له فی الصحیح وقد مس بضرب من التجریح لابی زرعة العراقی ص 76 رقم84.
4- إرواء الغلیل لمحمد ناصر الألبانی ج 2 ص 115 __ 116.
5- تمام المنة لمحمد ناصر الألبانی ص 358.

ص: 280

جیم: مقسم بن بجرة أو ابن نجدة

قد روی البخاری له فی صحیحه مع انه أورد اسمه فی الضعفاء کما نبه علیه الذهبی بقوله:

(مقسم... والعجب أن البخاری أخرج له فی صحیحه، وذکره فی کتاب الضعفاء، فساق له حدیث شعبة عن الحکم، عن مقسم، عن ابن عباس: إحتجم النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم وهو صائم، ثم روی عن شعبة أن الحکم لم یسمع من مقسم حدیث الحجامة)(1).

دال: حمران بن أبان مولی عثمان بن عفان

قال الذهبی: (حمران بن أبان مولی عثمان. ثقة من سبی عین التمر. روی عنه عروة، وعطاء بن یزید اللیثی، وزید بن أسلم، وعدة. وقد ذکره ابن سعد فی الطبقات، فقال: لم أرهم یحتجون به. وقد أورده البخاری فی الضعفاء، لکن ما قال ما بلیته قط)(2).

أقول: هذه بعض النماذج وقد ترکنا أکثرها للاختصار.

2: تناقض ابن حبان فی توثیق الرواة وجرحهم

اشارة

کثیرون هم الذین اضطربت حولهم أقوال ابن حبان جرحا وتعدیلا، وفیما یأتی جملة من الذین وثقهم ابن حبان فی کتابه (الثقات) ثم أعاد ذکرهم فطعنهم وضعفهم فی کتابه (المجروحین) أو بالعکس، وهم علی نحو الاختصار کل من:


1- میزان الاعتدال للذهبی  ج 4 ص 176.
2- المصدر السابق ج 1 ص 604.

ص: 281

ألف: إسحاق بن یحیی بن طلحة عن عبید الله القرشی

قال ابن حبان فی کتابه المجروحین: (إسحاق بن یحیی بن طلحة عن عبید الله القرشی، عداده من أهل المدینة یروی عن المسیب بن رافع روی عنه ابن المبارک ووکیع، کنیته أبو محمد، کان ردیء الحفظ، سیئ الفهم، یخطئ ولا یعلم، ویروی ولا یفهم، سمعت محمد بن المنذر یقول سمعت عباس بن محمد یقول سمعت یحیی بن معین یقول إسحاق بن یحیی بن طلحة ضعیف)(1).

وأعاد ابن حبان ذکره فی کتاب (الثقات) قائلا: (إسحاق بن یحیی بن طلحة ابن عبید الله کنیته أبو محمد أمه خنساء بنت زیاد بن الأبرد بن معاذ بن عدی یروی عن عیسی بن طلحة والمسیب بن رافع روی عنه ابن المبارک وأهل العراق مات فی ولایة المهدی یخطئ ویهم قد أدخلنا إسحاق بن یحیی هذا فی الضعفاء لما کان فیه من الإیهام ثم سبرت أخباره فإذا الاجتهاد أدی إلی أن یترک ما لم یتابع علیه ویحتج بما وافق الثقات بعد أن استخرنا الله تعالی فیه)(2).

أقول: فیتضح من کلام ابن حبان هذا ان حکمه علی إسحاق بن یحیی بالضعف لم یکن عن دراسة تامة وشاملة لجمیع أبعاد شخصیته وروایاته، فصدر عنه الحکم بضعفه، وهو حکم قاصر وغیر علمی والله یعلم کم من الذین رماهم بالضعف من دون دراسة تفصیلیة، وکم الذین وثقهم وهم ممن یستحق الترک والإعراض.

باء: الحسن بن محمد البلخی

قال ابن حبان فی (المجروحین): (الحسن بن محمد البلخی شیخ، یروی عن حمید الطویل وعوف الأعرابی الأشیاء الموضوعة و«عن» غیرهما من الثقات


1- کتاب المجروحین لابن حبان ج 1 ص133.
2- الثقات لابن حبان  ج 6 ص 45.

ص: 282

الأحادیث المقلوبة، لا یجوز الاحتجاج به ولا الروایة عنه بحال، وهذا شیخ لیس یعرفه إلا الباحث عن هذا الشأن)(1).

وأعاد ابن حبان ذکره فی الثقات فقال: (الحسن بن محمد اللیثی أبو محمد البلخی کان علی قضاء مرو یروی عن مقاتل بن حیان والناس روی عنه أهل مرو الحکایات وکان ابن المبارک یمیل إلیه وکان فی أیامه علی القضاء بها)(2).

وقد أشار ابن حجر فی (لسان المیزان) إلی هذا التناقض بقوله: («الحسن» بن محمد البلخی...قال ابن عدی کل أحادیثه مناکیر، وقال ابن حبان یروی الموضوعات لا تحل الروایة عنه...وقد غفل ابن حبان فذکره فی الثقات)(3).

جیم: الحسین بن عطاء بن یسار

ذکره ابن حبان فی (الثقات) بقوله: (حسین بن عطاء بن یسار من أهل المدینة یروی عن زید بن أسلم روی عنه عبد الحمید بن جعفر یخطئ ویدلس)(4).

وأعاد ابن حبان ذکره فی المجروحین قائلا: (حسین بن عطاء من أهل المدینة، یروی عن زید بن أسلم المناکیر التی لیست تشبه حدیث الأثبات، لا یجوز الاحتجاج به إذا انفرد لمخالفته الأثبات فی الروایات)(5).

وقد أشار ابن حجر فی (لسان المیزان) إلی تناقض ابن حبان هذا بقوله: («الحسین» بن عطاء بن یسار المدنی...وقال ابن حبان لا یجوز أن یحتج به إذا


1- کتاب المجروحین لابن حبان ج 1 ص 238.
2- الثقات لابن حبان ج8 ص168.
3- لسان المیزان لابن حجر ج 2 ص 248 __ 249.
4- الثقات لابن حبان ج6 ص 209.
5- کتاب المجروحین لابن حبان  ج 1 ص 243.

ص: 283

انفرد...وذکره ابن حبان أیضا فی الثقات فقال یخطئ ویدلس)(1).

دال: فضالة بن الحصین العطار البصری

قال عنه فی کتابه (الثقات): (فضالة بن حصین العطار بصری یروی عن البصریین وکان راویا لمحمد بن عمرو روی عنه عبد الله بن المثنی)(2).

ولکنه أعاد ذکره فی کتابه المجروحین بقوله: (فضالة بن حصین: شیخ یروی عن محمد بن عمرو الذی لم یتابع علیه وعن غیره من الثقات ما لیس من أحادیثهم)(3).

وقد أشار إلی هذا الخلط ابن حجر فی (لسان المیزان) قائلا: («فضالة» بن حصین الضبی عن محمد بن عمرو وعطاء بن السائب ویونس بن عبید ویزید بن نعامة..وقال ابن حبان قیل ذلک فی الضعفاء یروی عن محمد بن عمرو ما لا یتابع علیه وعن غیره ما لیس من حدیثهم...وقال ابن حبان فی الثقات کان راویا لمحمد ابن عمرو)(4).

هاء: ثعلبة بن یزید الکوفی

ذکره ابن حبان فی کتابه (الثقات بقوله): (ثعلبة بن یزید الکوفی یروی عن علی روی عنه حبیب بن أبی ثابت)(5).


1- لسان المیزان لابن حجر ج 2 ص 298.
2- الثقات لابن حبان  ج 7  ص 319 __ 320.
3- کتاب المجروحین لابن حبان  ج 2 ص 205 __ 206.
4- لسان المیزان لابن حجر  ج 4 ص 434 __ 435.
5- الثقات لابن حبان  ج 4  ص 98.

ص: 284

ثم أعاد ذکره فی کتابه (المجروحین) قائلا: (ثعلبة بن یزید الحمانی من أهل الکوفة. یروی عن علی روی عنه حبیب بن أبی ثابت، کان غالیا فی التشیع لا یحتج بأخباره التی یتفرد بها عن علی)(1).

وقد أشار ابن حجر فی (تهذیب التهذیب) إلی هذا التضارب فی قول ابن حبان فقال: (ثعلبة بن یزید الحمانی الکوفی. روی عن علی...وقال ابن حبان وکان علی شرطة علی وکان غالیا فی التشیع لا یحتج بأخباره إذا انفرد به عن علی کذا حکاه عنه ابن الجوزی، وقد ذکره فی الثقات بروایته عن علی وبروایة حبیب ابن أبی ثابت عنه فینظر)(2).

واو: جنید بن العلاء

ذکره ابن حبان فی (الثقات) بقوله: (جنید بن العلاء أبو العلاء یروی عن مجاهد روی عنه أهل العراق)(3).

وأعاد ابن حبان ذکره فی (المجروحین) قائلا: (جنید بن العلاء بن أبی وهرة وقد قیل بن أبی نمرة کنیته أبو حازم یروی عن ابن عمر وأبی الدرداء ولم یرهما ویروی عن جماعة من التابعین روی عنه عبد الرحیم بن سلیمان وأبو أسامة کان یدلس عن محمد بن أبی قیس المسلوب ویروی ما سمع منه عن شیوخه فاستحق مجانبة حدیثه علی الأحوال کلها)(4).

وقد أشار ابن حجر فی (لسان المیزان) إلی تهافت ابن حبان بقوله: (جنید بن


1- کتاب المجروحین لابن حبان  ج 1 ص 207.
2- تهذیب التهذیب لابن حجر ج 2 ص 23.
3- کتاب الثقات لابن حبان ج6 ص150.
4- کتاب المجروحین لابن حبان ج1 ص211.

ص: 285

العلاء تابعی... وقال ابن حبان روی عن أبی الدرداء وابن عمر ولم یرهما وعنه عبد الرحیم بن سلیمان وأبو أسامة ینبغی مجانبة حدیثه...وبقیة کلام ابن حبان کان یدلس وأبو وهرة کنیة العلاء وذکره ابن حبان فی الثقات أیضا)(1).

هذه بعض الشواهد وقد ترکنا العشرات منها خوف الإطالة.

3: تناقض ابن معین فی توثیق الرواة وتضعیفهم

اشارة

کثیرة هی اختلافات ابن معین فی توثیق الرجال وجرحهم نختار منها علی سبیل المثال لا الحصر ما یأتی:

ألف: محمد بن إسحاق صاحب المغازی المعروف

أخرج العقیلی فی کتابه (الضعفاء) عن محمد بن عیسی قوله: (حدثنا عباس قال سمعت یحیی بن معین قال محمد بن إسحاق ثقة ولکن لیس بحجة)(2).

وکذلک أخرج العقیلی عن محمد بن عبد الرحمن قال: (حدثنا عبد الملک قال سمعت یحیی بن معین قال محمد بن إسحاق ضعیف)(3).

وعن الرازی فی (الجرح والتعدیل) قال: (قرئ علی العباس بن محمد الدوری قال سئل یحیی بن معین عن محمد بن إسحاق أحب إلیک أو موسی بن عبیدة؟ فقال محمد بن إسحاق، محمد بن إسحاق صدوق ولکنه لیس بحجة)(4)

وعن الرازی أیضا نقلا عن أبی بکر بن أبی خیثمة انه قال: (وسمعت یحیی


1- لسان المیزان لابن حجر ج2 ص141.
2- ضعفاء العقیلی ج 4 ص 28.
3- المصدر نفسه.
4- الجرح والتعدیل للرازی ج 7 ص 192.

ص: 286

یقول لم یزل الناس یتقون حدیث محمد بن إسحاق، وسمعته مرة أخری یقول لیس بذاک هو ضعیف)(1).

وعن الخطیب البغدادی عن جعفر بن محمد بن الأزهر قال: (حدثنا ابن الغلابی قال: سألت یحیی بن معین عن محمد بن إسحاق فقال: کان ثقة، وکان حسن الحدیث)(2).

وعن الخطیب البغدادی أیضا عن احمد بن زهیر قال: (سألت یحیی بن معین عن محمد بن إسحاق؟ فقال: قال عاصم بن عمر بن قتادة: لا یزال فی الناس علم ما عاش محمد بن إسحاق)(3).

وعن المزی فی (تهذیب الکمال): (عن الدوری عن یحیی بن معین: محمد بن إسحاق ثقة، ولیس بحجة)(4).

وجمیع هذه الأقوال کما تری هی أقوال متضاربة لا یجمع بینها جامع، ولا یستطیع الباحث العثور علی الرأی الحقیقی لابن معین فی محمد بن إسحاق، أهو ضعیف أم ثقة أم لیس بذاک؟ وهل هو لیس بحجة أو هو حسن الحدیث؟ وإذا کانت منزلته (صدوق) فلماذا لا تؤخذ بروایته؟ ولماذا فی المقابل یؤخذ بروایات الکذابین والمدلسین وتثبت فی الصحاح والمسانید؟ کل هذه أسئلة لا نجد علیها إجابة واضحة، سوی ان ابن معین کان یعیش حالة من التخبط والاضطراب الشدید فی


1- الجرح والتعدیل للرازی ج 7 ص194.
2- تاریخ بغداد للخطیب البغدادی  ج 1 ص233، وراجع أیضا تهذیب الکمال للمزی  ج 24  ص411.
3- تاریخ بغداد للخطیب البغدادی  ج 1 ص 235.
4- تهذیب الکمال للمزی  ج 24  ص 423.

ص: 287

شأن محمد بن إسحاق، وان أحکامه لم تکن مبنیة علی بحث وتمحیص ومنهج علمی ثابت، وهو خطر عظیم یضع مصداقیة علم الجرح والتعدیل واستقلاله فوق طاولة الاتهام .

باء: کثیر بن شنظیر المازنی البصری

وقد وثقه ابن معین فی بعض کلماته کما قال الزیلعی فی (نصب الرایة): (وقال عثمان بن سعید الدارمی فیما رواه ابن عدی سألت یحیی عن کثیر بن شنظیر فقال ثقة)(1).

ولکنه ضعفه عدّه لیس بشیء کما قال العقیلی فی کتابه (الضعفاء): (کثیر بن شنظیر حدثنا محمد بن عیسی حدثنا عمرو بن علی قال کان یحیی __ ابن معین __ لا یحدث عن کثیر بن شنظیر وحدثنا یوما عن بشر بن المفضل عن کثیر بن شنظیر فقال کثیر بن شنظیر کثیر بن شنظیر وکان عبد الرحمن یحدث عنه حدثنا محمد حدثنا عباس قال سمعت یحیی قال کثیر بن شنظیر لیس بشیء)(2).

4: بعض تناقضات العالم الوهابی الشیخ الألبانی فی تصحیح الأحادیث وتضعیفها

ألف: حدیث عبد الله بن عمرو بن العاص

روی ابن ماجة فی سننه: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ یَحْیَی حَدَّثَنَا قُتَیْبَةُ حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِیعَةَ عَنْ حُیَیِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَعَافِرِیِّ عَنْ أَبِی عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِیِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ __ صلی الله علیه __ وآله __ وسلم __ مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ یَتَوَضَّأُ فَقَالَ:


1- نصب الرایة للزیلعی  ج 1  ص 255.
2- ضعفاء العقیلی ج 4  ص 6.

ص: 288

مَا هَذَا السَّرَفُ. فَقَالَ أَفِی الْوُضُوءِ إِسْرَافٌ قَالَ: نَعَمْ وَإِنْ کُنْتَ عَلَی نَهَرٍ جَارٍ)(1).

حکم الألبانی علی هذا الحدیث بأنه ضعیف فی کتابه (ضعیف سنن ابن ماجه)(2)، وحکم بضعفه أیضا فی تخریجه لأحادیث مشکاة المصابیح(3)، وحکم بضعف إسناده أیضا فی کتابه (إرواء الغلیل فی تخریج أحادیث منار السبیل)(4).

ولکن الألبانی أعرض عن تضعیف هذا الحدیث فی کتابه (سلسلة الأحادیث الصحیحة وشیء من فقهها) فحکم بحسن إسناده(5).

باء: حدیث عبید الله بن أبی رافع

وروی أحمد بن حنبل وآخرون عن عبید الله بن أبی رافع عن أبیه قال: (رأیت رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم أذن فی أذنی الحسن حین ولدته فاطمة بالصلاة)(6).

حکم الألبانی علی هذا الحدیث بأنه (حسن الإسناد) فی کتابه إرواء


1- سنن ابن ماجة لمحمد بن یزید القزوینی المعروف بابن ماجة ج1 ص147 تحقیق محمد فؤاد عبد الباقی.
2- ضعیف سنن ابن ماجه لمحمد ناصر الدین الألبانی/89، الناشر: المکتب الإسلامی بیروت الطبعة: الأولی، سنة الطبع 1408ه_.
3- هدایة الرواة إلی تخریج أحادیث المصابیح والمشکاة ومعه تخریج الألبانی للمشکاة لأحمد بن علی ابن حجر العسقلانی ص407 تحقیق: علی بن حسن بن عبد الحمید الحلبی الناشر: دار ابن القیم __ الدمام __ الطبعة: الأولی - سنة الطبع1422ه_.
4- إرواء الغلیل فی تخریج أحادیث منار السبیل لمحمد ناصر الدین الألبانی الناشر: المکتب الإسلامی __ بیروت __ الطبعة الأولی سنة الطبع 1399ه_.
5- سلسلة الأحادیث الصحیحة وشیء من فقهها لمحمد ناصر الدین الألبانی ج7 ص860 الناشر مکتبة المعارف الطبعة الأولی.
6- مسند احمد بن حنبل  ج 6 ص 9.

ص: 289

الغلیل(1)، لکنه عاد وحکم بضعفه فی تحقیقه لکتاب (الکلم الطیب)(2).

جیم: بعض الکتب التی ألفت فی تناقضات الألبانی

وبالجملة فمتابعة جمیع تناقضات الألبانی أمر لا یسعه هذا الکتاب وقد کتبت فی تناقضاته عدة مؤلفات منها کتاب (تناقضات الألبانی الواضحات) لمؤلفه حسن بن علی السقاف، ومنها کتاب (تراجع الألبانی فیما نص علیه تصحیحا وتضعیفا) لمؤلفه أبی الحسن محمد حسن عبد الحمید الشیخ، والذی صدر منه جزءان، ومنها کتاب (500 حدیث مما تراجع عنها المحدث الألبانی فی کتبه) جمعه عودة بن حسن بن عودة، وغیر هذا.

أقول: قد مر فی الفصل السابق الکلام عن صحیحی البخاری ومسلم وأوضحنا عدة من التناقضات المنهجیة فی هذین الکتابین، وکذلک بینا وجود التناقض ما بین الشروط التی یشترطها کل محدث منهما علی نفسه ثم یخالفها فی التطبیق العملی، فیمکن إضافتها إلی هذه الموارد التی ذکرناها هنا فی هذا الفصل.

5: حکم المحدثین علی بعضهم بعضا بالتعجب

اشارة

لم یکن هذا التناقض القدیم الحدیث بخاف عن علماء أهل السنة أنفسهم فضلا عن الآخرین، لذلک تعجب بعضهم من توثیق بعض الرواة فی موضع ومن ثم تکذیبه وتضعیفه فی موضع آخر أو العکس، وسنورد فیما یأتی جملة من هذه التعجبات التی تعکس تضارب قواعد الجرح والتعدیل وتناقضها عند محدثی أهل السنة.


1- إرواء الغلیل فی تخریج أحادیث منار السبیل لمحمد ناصر الدین الألبانی تحت الرقم 1173، الناشر: المکتب الإسلامی __ بیروت __ الطبعة الأولی سنة الطبع 1399ه_.
2- الکلم الطیب تحقیق محمد ناصر الألبانی ج1 ص161 رقم الحدیث 211.

ص: 290

ألف: تعجب وکیع من ابن المبارک

أخرج عبد الله بن عدی فی الکامل: (یحیی الحمانی قال: قال وکیع العجب من ابن المبارک هذا یحدث عن شرط أهل الشام ویتکلم فی قیس بن الربیع)(1).

باء: تعجب مالک بن انس من شعبة

عن ابن عساکر فی (تاریخ مدینة دمشق): (عن مالک بن أنس قال العجب من شعبة هذا الذی ینتقی الرجال وهو یحدث عن عاصم بن عبید الله)(2).

وفی نص آخر ان مالک بن انس قال: (شعبتکم هذا یشدد فی الرجال ویروی عن عاصم بن عبید الله)(3).

جیم: تعجب ابن الجوزی من ابن ماجة واتهامه بالهوی والعصبیة لبلده

أورد ابن الجوزی فی کتابه (الموضوعات) حدیثا فی فضل مدینة قزوین رماه بالوضع وهو المروی عن انس بن مالک عن: (رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم: ستفتح علیکم الآفاق وستفتح علیکم مدینة یقال لها قزوین، من رابط فیها أربعین یوما أو أربعین لیلة کان له فی الجنة عمود من ذهب، علی زبرجدة خضراء، علیها قبة من یاقوتة حمراء، لها سبعون ألف مصراع من ذهب، علی کل مصراع زوجة من الحور العین)(4).

ثم علق ابن الجوزی علی هذا الحدیث منتقدا لابن ماجة ومتعجبا من إیراده


1- الکامل لعبد الله بن عدی  ج 6 ص40.
2- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج 25 ص 264.
3- المصدر السابق ص265.
4- الموضوعات لابن الجوزی  ج 2 ص 55.

ص: 291

کهذا حدیثاً فی سننه قائلا: (قلت: ولا أتهم بوضع هذا الحدیث غیره. والعجب من ابن ماجة مع علمه کیف استحل أن یذکر هذا من کتاب السنن ولا یتکلم علیه، أتراه ما سمع فی الصحیحین عن رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم أنه قال: «من روی عنی حدیثا یری أنه کذبا فهو أحد الکذابین»، أما علم أن العوام یقولون لولا أن هذا صحیح ما ذکره مثل ذلک العالم فیعملون بمقتضاه، ولکن غلب الهواء بالعصبیة للبلد والوطن)(1).

دال: بعض تعجبات الذهبی

قد مر فیما سبق بعض تعجبات الذهبی علی البخاری وإنکاره علیه تضعیف بعض الرواة ومن ثم إیراد أحادیثهم فی کتابه المعروف بصحیح البخاری، ونضیف فیما یأتی جملة أخری من تعجباته علی غیر البخاری نختار منها ما الآتی:

* ففی معرض کلامه عن سیف بن محمد الثوری قال: (سیف بن محمد الثوری...کذاب والعجب من الترمذی یحسن له)(2).

* وفی معرض کلامه عن (حصین بن عبد الرحمن) یقول: (حصین بن عبد الرحمن...والعجب من أبی عبد الله البخاری، ومن العقیلی، وابن عدی، کیف تسرعوا إلی ذکر حصین فی کتب الجرح)(3).

* وقد تعجب من بیع هشام بن عمار للحدیث وهو من أئمة الحدیث عند أهل السنة فقال: (وقال محمد بن أحمد بن راشد بن معدان الأصبهانی: سمعت


1- المصدر السابق ص56.
2- الکاشف فی معرفة من له روایة فی کتب الستة للذهبی  ج 1 ص 476.
3- سیر أعلام النبلاء للذهبی  ج 5 ص 422 __ 423.

ص: 292

ابن وارة، یقول: عزمت زمانا أن أمسک عن حدیث هشام بن عمار، لأنه کان یبیع الحدیث. قلت: العجب من هذا الإمام مع جلالته، کیف فعل هذا، ولم یکن محتاجا، وله اجتهاده)(1).

* وقد تعجب من ذکر ابن حبان لأیوب بن سوید فی کتابه الثقات وهو من الضعفاء فقال: (أیوب بن سوید الرملی، أبو مسعود... ضعفه أحمد وغیره. وقال النسائی: لیس بثقة. وقال ابن معین: لیس بشیء وقال ابن المبارک: ارم به. وقال البخاری: یتکلمون فیه. والعجب من ابن حبان ذکره فی الثقات فلم یصنع جیدا)(2).

* وفی معرض کلامه عن حماد بن عمرو النصیبی قال: (حماد بن عمرو النصیبی... قال الجوزجانی: کان یکذب. وقال البخاری: یکنی أبا إسماعیل، منکر الحدیث. وقال النسائی: متروک الحدیث... والعجب من ابن المبارک، والمعافی حیث رویا عنه، لم یکن یدری إیش الحدیث)(3).

* وقد تعجب أیضا من ذکر ابن حبان لعبد الواحد بن سلیم فی کتاب الثقات وهو من الهالکین الضعفاء فقال: (عبد الواحد بن سلیم. بصری. عن عطاء هالک. قال أحمد: أحادیثه موضوعة. وضعفه یحیی. وقال النسائی: لیس بثقة...والعجب أن ابن حبان ذکره فی الثقات)(4)

* وقد تعجب من الخطیب البغدادی لإیراده عدة أحادیث لم یبین سقوطها


1- سیر أعلام النبلاء للذهبی ج 11 ص 426.
2- میزان الاعتدال للذهبی ج 1 ص 287.
3- المصدر نفسه ج1 ص 598.
4- المصدر نفسه ج 2 ص 673 __ 674.

ص: 293

مع علمه بها فقال: (عمر بن عامر، أبو حفص السعدی التمار. بصری. روی عنه أبو قلابة، ومحمد بن مرزوق حدیثا باطلا، قال: سمعت جعفر بن سلیمان أمیر البصرة یحدث عن أبیه، عن جده، عن ابن عباس، قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم: من أخذ برکاب رجل لا یرجوه ولا یخافه غفر له. قلت: العجب من الخطیب کیف روی هذا وعنده عدة أحادیث من نمطه ولا یبین سقوطها فی تصانیفه)(1).

هاء: بعض تعجبات الحافظ ابن حجر العسقلانی

* قد تعجب ابن حجر من فعل أبی زرعة لإدخاله أحادیث إسماعیل بن قیس فی فوائده، فقال: (إسماعیل بن قیس بن سعد بن زید بن ثابت الأنصاری أبو مصعب... وقال أبو حاتم إسماعیل ضعیف الحدیث منکر الحدیث یحدث بالمناکیر لا اعلم له حدیثا قائما والعجب من أبی زرعة حیث ادخل حدیثه فی فوائده ولا یعجبنی حدیثه)(2).

* تعجبه من إنکار العقیلی لحدیث (إذا بویع لخلیفتین فاقتلوا الآخر منهما) مع انه موجود فی صحیح مسلم، فقال فی معرض حدیثه عن فضالة بن دینار: (فضالة بن دینار...قال العقیلی منکر الحدیث روی عن ثابت عن انس رضی الله عنه حدیث إذا بویع لخلیفتین ولم یصح فی هذا حدیث انتهی. وهذا هو العجب العجاب کیف یقول المؤلف هذا ویقرأ علیه والحدیث فی صحیح مسلم وان کان من غیر هذا الوجه)(3).


1- میزان الإعتدال للذهبی ج 3 ص 209.
2- لسان المیزان لابن حجر  ج 1 ص 429 __ 430.
3- المصدر نفسه ج 4 ص 435.

ص: 294

نتائج الفصول الثلاثة السابقة

کان الغرض من الخوض فی الفصول الثلاثة السابقة، هو إعطاء صورة تفصیلیة عن المراحل التی مر بها الحدیث النبوی الشریف، منذ رحیل النبی صلی الله علیه وآله وسلم، وإلی حین تثبیته وتقییده فی الکتب والدواوین، ومن ثم وصوله إلینا، وقد تبین لنا من تلک الرحلة التاریخیة عدة حقائق مهمة، نلخصها فیما یأتی علی شکل فقرات، لتصبح الفکرة لدی القارئ الکریم متسلسلة ومتکاملة:

1: تبین لنا بما لا یقبل الشک قیام الدولة ورموزها بتعمد إتلاف کل اثر مکتوب یحوی أقوال الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم وأحادیثه.

2: ان الدولة علی اختلاف من ترأسها ضیعت ولأسباب ذکرناها فی الفصل الأول علی الأمة الإسلامیة جمعاء فرصة تدوین السنة النبویة وتقییدها وجمعها، مع علم الجمیع وشهادة المخالف قبل الموالف ان السنة عدل القرآن وان من دونها لا یمکن فهم القرآن الکریم علی وجه دقیق، وان احتیاج القرآن للسنة أکثر وأعظم من احتیاج السنة للقرآن، هذا مع توفر وسائل التقیید والجمع والتمحیص وإمکاناتها بالنسبة للدولة، ولکنها ولشدید الأسف لم تفعل ذلک لا لقصور منها بل للحفاظ علی منافع دنیویة ضیقة علی حساب مصالح سائر أفراد الأمة الإسلامیة ومنافعهم.

3: ان الدولة ومنذ بدایة نشوئها کانت توجس فی نفسها خیفة من تثبیت فضائل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وجعلها فی متناول أیدی الصحابة والذین یأتون من بعدهم، ویمکن ان تعد هذا الأمر من أهم الأسباب التی أدت إلی إلغاء تدوین السنة المطهرة وکتابتها، فللحفاظ علی ماء الوجه، ولکی لا تستغل هذه المثالب وتلک الفضائل ورقة إدانة توجهها الأجیال الإسلامیة ضد الدولة ورموزها

ص: 295

وأنصارها، ارتأوا تغییب السنة النبویة المطهرة المتعلقة بالفضائل والمثالب، وطمسها وإقفال تلک الصفحات، والبدء بتأسیس منظومة جدیدة من الفضائل تتناسب والوضع الجدید للدولة ورموزها.

4: ان عدم تقیید السنة النبویة المطهرة وکتابتها فتح الباب أمام ظهور سنة جدیدة اسمها (سنة الشیخین أبی بکر وعمر)، وربما أفردوهما فقالوا (سنة أبی بکر) و(سنة عمر)، وهذه السنن المبتدعة لم تکن تمتّ إلی السنة النبویة الأصیلة بصلة، بدلیل ان سنتهما __ أبو بکر وعمر __ لو کانت هی نفسها سنة رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم لما کان یفرق بینها وبین سنة النبی صلی الله علیه وآله وسلم فی التسمیة، إضافة إلی أدلة أخری مرت مفصلا فی الفصل الأول.

5: ان هذه السنة الجدیدة للشیخین حملت ملامح عامة، أهمها، التأکید المفرط والمستمر علی بشریة النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم بشکل مبالغ فیه، وسبب هذا التأکید هو سلب قدسیة النبی صلی الله علیه وآله وسلم من نفوس المسلمین، وتحطیم مصداقیة أقواله وأفعاله، وبمعنی آخر تحطیم السنة النبویة، حتی یمکن للسلطة وأتباعها مناقشتها ومعارضتها وعدم الاعتقاد بإلزامیتها.

ومن ممیزات هذه السنة أیضا: تضخیم شخصیة السلطة وإعطاؤها مقام الأنبیاء، لجعله وإیاهم مرجعا یرجع إلیه فی کل صغیرة وکبیرة، ولم یکتفوا بان جعلوا من الخلیفة __ وبالخصوص الشیخین __ أفضل الصحابة حتی صیروهما أفضل أهل السماوات والأرض، ومنحوهما مقام الإفتاء فی زمن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، وجعلوا الخلیفة یلقی فی روعه ولا یتکلم إلا بإلهام من الملائکة، وان النبی صلی الله علیه وآله وسلم کان یخاف ان ینتقل جبرائیل علیه السلام بالوحی إلی عمر ابن الخطاب، والهدف من هذا التضخیم هو استبدال القدسیة لیتسنی للخلیفة ان

ص: 296

یتمتع بمقام التشریع وحتی إذا ما سن سنة یطاع ویتبع ما دام هو خیر أهل السماوات والأرض وما دام ملهما محدثا من الملائکة، ولکی إذا ما خالفت سنته سنة النبی صلی الله علیه وآله وسلم تقدم سنة الخلیفة وتشریعاته لأنه ملهم بینما النبی صلی الله علیه وآله وسلم کما صوره إعلام الدولة یسهو وینسی ویخطئ ویعتذر بأنه بشر مثل غیره من البشر.

ومن ممیزاتها أیضا: إیجاد نظام الطبقات الاجتماعیة علی حسب القرب من الدولة ومناصرتها ومساندتها لا علی حسب التقوی والإیمان کما کان علی عهد النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، ومن ابرز تلک الطبقات هی طبقة أهل الحل والعقد، الذین قد منحتهم الدولة جمیع المقومات التی یمکن من خلالها أن ترتفع منزلتهم، ویعلو نجمهم ویصیروا أولی حل وعقد فی عشائرهم وأقوامهم، فأعطتهم المال ومنحتهم التأیید المطلق، طبعا باستثناء أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه، الذی أقصی هو وأهل بیته وخلص أصحابه من إشغال أی منصب سیادی فی الدولة إلا ما ندر وشذ.

6: لما مات عمر بن الخطاب وجاء عثمان بن عفان لم یتغیر سوء حال السنة النبویة ولم تعد إلیها الروح، بل ازداد وضعها سوءاً لتظهر إلی الوجود سنة ثالثة باسم سنة عثمان بن عفان، هذه السنة التی تردی معها وضع الأمة السلامیة إلی أقصی حد یمکن أن تصل إلیه، وواحدة من أعظم مساوئها أنها صارت بابا یدخل من خلاله کل وضیع ومنافق ویصل إلی منصب الحکم والسیطرة علی سیادة ومقدرات الأمة الإسلامیة، وأوضح مثال علی ذلک وصول یزید بن معاویة ومن قبله أبوه وباقی السلسلة الملعونة علی لسان النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم إلی إمارة المؤمنین.

7: ان سنة الشیخین هی التی قتلت عثمان بن عفان قبل غیرها من

ص: 297

الأسباب، لان سنة الشیخین کما نبهنا سابقا أوجدت طبقة اجتماعیة خاصة اسمها طبقة أهل الحل والعقد، والتی تمتعت طول ولایة أبی بکر وعمر بأرفع مستوی معیشی مرفه وحصانة دبلوماسیة إن صح التعبیر، وقد حطم عثمان بن عفان هذا المستوی المعیشی المرفه، وساوی فیما بین تلک الطبقة وبین سائر المسلمین، ورفع مکانهم طبقة جدیدة من الأمویین، قلدهم المناصب السیادیة المهمة للدولة الإسلامیة، کما وفتح باب مال المسلمین علی مصراعیه أمام هذه الفئة الجدیدة، مما أشعل ضده فتیل الثورة والتحریض، لینتهی أمره ونتیجة لتحریک عائشة بنت أبی بکر وطلحة والزبیر الساحة الإسلامیة ضده إلی أن حصر فی بیته ومنع عنه الماء وقتل بالطریقة المعروفة والمشهورة.

8: إن تولی أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه بعد عثمان بن عفان لم یحل مشکلة تدوین السنة النبویة أیضا، علی رغم سعیه الحثیث والقوی لإعادة الروح إلی السنة النبویة وإماتة ما ابتدع من السنن، وعدم تمکنه من ذلک لا یعود بأی حال من الأحوال إلی قصور فی شخصیته أو إمکانات أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه حاشاه، بل یعود بالدرجة الأولی والأخیرة إلی سببین رئیسین:

أحدهما: هو وجود تلک الطبقة من أهل الحل والعقد التی أشعلت نار الفتن والإحن والحروب بوجهه ولم تترک له مجالا للتفرغ وتکریس الجهود لنشر ما أمیت من سنة النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم.

والآخر: عدم رغبة الأمة وتقاعسها وإهمالها لعملیة التغییر والتبدیل والعودة الصادقة إلی عهد الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، أما تکاسلا وأما حبا لبعض المنافع الدنیویة الزائلة، وقد رأینا کیف کان الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه یصرخ بالناس من علی منبر الکوفة منادیا بأعلی صوته (من یشتری

ص: 298

علما بدرهم) ثم لا یستجیب لذلک إلا الحارث الهمدانی، وهو یعکس حالة التراخی والترهل الثقافی الذی کانت تعانیه الأمة.

 9: لما وصل معاویة بن أبی سفیان إلی الحکم أعاد العمل بسنة الشیخین فیما یتعلق بالتفضیل ومداراة طبقة أهل الحل والعقد التی لم یکن قد بقی منها غیر عائشة بنت أبی بکر وسعد بن أبی وقاص، وأضاف إلی سیاسة دولته أشیاء أخری منها اعتماد سنة عثمان بن عفان وإحیاؤها، والتوسعة علی آل أبی سفیان والأمویین عامة، والتضییق والمحاصرة الاقتصادیة والثقافیة علی آل أبی طالب وخصوصا الإمام الحسن والإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیها وسائر شیعتهم، وفتح باب الروایة أمام کل من له القدرة علی وضع روایات ونصوص مکذوبة تحکی فضائل من سبقه، وفضائل آل أمیة عامة وآل أبی سفیان علی وجه الخصوص، وإماتة ما یمکن إماتته من أحادیث النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم عامة وأحادیثه فی فضائل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین علی وجه الخصوص، وصنع روایات تنتقص أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وفی المقابل رصد کل فضیلة لهم وصنع مثلها ونسبتها إلی کل من أبی بکر وعمر وعثمان، وطمس ما یمکن طمسه من مثالب آل أمیة وما لا یمکن طمسه فیجب تبریره ومحاولة إبدائه کفضیلة ولیس مثلبة کما فعلوا بحدیث النبی صلی الله علیه وآله وسلم فی حق معاویة (لا اشبع الله بطنه) أو کما فعلوا فی أحادیث لعن النبی صلی الله علیه وآله وسلم لبعض الناس حیث اوجدوا لها تخریجا یصیرها مکرمة ولیس مثلبة عن طریق إیجاد أحادیث علی لسان النبی صلی الله علیه وآله وسلم یقول فیها (اللهم إنما أنا بشر فأی المسلمین لعنته أو سببته فاجعله له زکاة وأجرا)(1) فتحولت مثالبهم إلی فضائل وفی المقابل حولوا فضائل أهل البیت


1- صحیح مسلم ج8 ص24.

ص: 299

إلی مثالب بعد أن سلبوها منهم ونسبوها لغیرهم وأعطوهم مثالب غیرهم ومطاعنهم، فصار الإمام علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه بزعمهم فیه دعابة ولیس أهلا للسیاسة حاشاه، وصار الإمام الحسن بزعمهم مزواجا مطلاقا لیس له همّ فی الدنیا إلا النساء حاشاه، وصار الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه بزعمهم من ضمن الخارجین علی أئمة المسلمین حتی قتل بسیف جده حاشاه ولعن الله من تعرض لحرماتهم بسوء، آمین.

10: ثم بقیت هذه الأحادیث وغیرها تزداد یوما بعد یوم وترسخ فی قلوب العامة وعقولهم حتی ألفتها النفوس واستعذبتها الأسماع وصارت بمرور الزمن وبجهود الوضاعین وتغطیة السلطة أمراً لا یشک فی صحته لا سیما بعد رحیل جیل الصحابة ومجیء جیل التابعین وأتباع التابعین، الذین لم یعیشوا فصول المؤامرة وولدوا فی زمن ترددت هذه الأحادیث علی أسماعهم آلاف المرات والکرات فکبروا معها واشتد عودهم بصحبتها واعتادوا سماعها حتی ارتکزت فی عقلهم الباطنی وأصبحت أمورا مسلمة لا مریة فیها.

11: مثلما ارتکزت تلک الأحادیث المکذوبة والفضائل الموضوعة التی نشرها معاویة ومن أتی قبله بین الناس، وتلقاها التابعون وأتباعهم بالقبول والرضا مع مرور الوقت والزمان، وترسخت فی عقلهم الباطنی والظاهری، واعتادوا علی تداولها ومدارستها، کذلک اعتاد جیل التابعین وأتباع التابعین علی رؤیة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین مدفوعین عن کل خیر، مشردین مقتولین، قد تم إقصاؤهم واستئصالهم، وقطع کل سبب یعلی شأنهم ویرفع من قدرهم، فظن هؤلاء التابعون وأتباعهم ان حالهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین کان هکذا حتی فی زمن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، وان حال مناوئیهم قد کان فی ارتفاع حتی فی زمن النبی

ص: 300

الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، وان أفضلیة غیرهم علیهم أمر مفروغ منه ومسلم به، لذا صاروا یستغربون من کل خبر یشم منه تفضیل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیه علی غیرهم من الصحابة لا سیما الشیخین وعثمان وعائشة.

12: ثم أتت مرحلة جدیدة من مراحل السنة النبویة، والتی عرفت بمرحلة التدوین، فعمر بن عبد العزیز وبسبب رغبته فی الخروج عن الخط الأموی الملتزم وبصرامة تامة بسنة عثمان ومعاویة بن أبی سفیان، حاول إرجاع العمل بسنة الشیخین أبی بکر وعمر، فأمر عماله أن یکتبوا جمیع ما یقع بأیدیهم من سنة عمر ابن الخطاب وأحادیثه، وأحادیث عائشة بنت أبی بکر، فجمع هذه الأحادیث ونشرها فی الأقطار علی شکل کراسات، وتعدّ هذه أول محاولة رسمیة تقوم بها الدولة لتدوین السنة النبویة المطهرة.

ولکن هذه المحاولة کان نصیب أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین منها صفرا، إذ لم تنقل لنا المصادر التاریخیة أن عمر بن عبد العزیز قید أو أمر بجمع أحادیث الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه أو الأحکام التی حکم بها طوال مدّة بقائه فی الخلافة، وهو یعنی ان تدوین السنة من عمر بن عبد العزیز لم یکن فی صالح أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین عموما وفضائلهم علی وجه الخصوص.

 13: ثم جاء هشام بن عبد الملک لیبدأ خطوة مضادة لخطوة عمر بن عبد العزیز، عن طریق تدوین السنة، ولکن لا السنة النبویة، وإنما سنة عثمان ومعاویة ابن أبی سفیان، التی حاول عمر بن عبد العزیز الخروج عنها، فدونت السنة بالاستعانة بابن شهاب الزهری الذی دون السنة بالإکراه کما یزعمون، ولکن هذا التدوین __ ولشدید الأسف __ لم یکن نزیها، ولم یکن یحمل صفة الصدق والأمانة العلمیة، إذ دست الدولة الأمویة فی کتب ابن شهاب الزهری وأحادیثه ما لا یعلمه

ص: 301

إلا الله سبحانه، هذا من جهة، ومن جهة ثانیة، إنّ الزهری الذی اعتمدت علیه الدولة فی تدوین السنة لم یکن علی مستوی کاف من العلم والأمانة والصدق، فکان یروی الأحادیث النبویة بالمعنی دون النص، ولم یکن یمانع فی التقدیم والتأخیر لفقرات الحدیث الواحد، إلی غیر ذلک من الأسباب، والتی تجعل من عملیة التدوین هذه عملیة غیر دقیقة ومتحیزة وغیر علمیة بالکامل.

والتاریخ لم یحدثنا عن تدوین لأحکام أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وفضائلهم فی هذه المرحلة من مراحل تطور السنة والحدیث النبوی، بل إن احد أهم أسباب استعجال الدولة الأمویة فی تدوین السنة هو فتح الإمامین الباقر والصادق صلوات الله وسلامه علیهما باب الروایة والعلم علی مصراعیه، فکانا صلوات الله وسلامه علیهما لا یمنعان من تدوین الآخرین لأقوالهم وأحادیثهم بعکس باقی محدثی العامة، فنشروا من السنة النبویة الأصیلة والموروثة عندهم فی الصحیفة الجامعة وغیرها، فدونها طلابهم ومن ثم انتقلت لعامة الخلق، فرأی عمر بن عبد العزیز وهشام بن عبد الملک، أن إبقاء باب التدوین للسنة النبویة ولسنة الشیخین مغلقا سیؤدی إلی هیمنة سنة الإمامین الباقر والصادق صلوات الله وسلامه علیهما ونسیان سنن الشیخین وعثمان وعائشة وآل أمیة واضمحلالها، لان البقاء یکون للعلم المدون المکتوب، أما المحفوظ فیموت مع موت حافظیه.

ولهذا السبب سارع عمر بن عبد العزیز وهشام بن عبد الملک بجمع السنة النبویة التی ارتضتها الحکومات التی سبقت حکومته، ومنه نفهم سبب إصرار عمر ابن عبد العزیز بالتأکید علی عماله بجمع سنة عمر وعائشة وأحادیثهما، وهو دلیل علی انه إنما کان بصدد جمع سنة معینة مخصوصة فی مقابل سنة معینة مخصوصة وهی التی کان الإمامان الصادق والباقر صلوات الله وسلامه علیهما یبثانها بین الناس.

ص: 302

أما هشام بن عبد الملک فقد وجد نفسه وجمیع ما سنه الأمویون بین سنتین، بین سنة الإمامین الباقر والصادق التی لیس لآل أمیة فیها أی روایة أو تشریع، وبین سنة عمر بن عبد العزیز الذی سعی لإحیاء سنة الشیخین وعائشة کما تقدم، والتی لم یکن له ولا لآبائه فیها نصیب یذکر، فلحفظ مآثر آبائه وما ابتدعوه من الأحکام والسنن اجبر ابن شهاب علی التدوین والتأصیل لسنة عثمان بن عفان ومعاویة بن أبی سفیان وأضاف علیها ما الله اعلم به.

14: ثم جاء العهد العباسی المقیت فشدت الدولة منذ بدایة نشوئها العزم علی إعادة الترکیبة العقائدیة والفکریة للمسلمین بما یتناسب مع آراء الدولة العباسیة الجدیدة وطموحاتها وأهدافها والتی کانت واحدة من أهم أولویاتها إبقاء أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وکل ما یعنی بشؤونهم تحت التعتیم القدیم الذی مورس ضدهم منذ استشهاد النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، وبدأت حملة جدیدة لتدوین الحدیث والسنة النبویة وغیرها من السنن، وعلی نطاق أوسع مما کان علیه فی العهد الأموی، ولکن هذا التدوین تسبب فی مشاکل أکبر، ومن هذه المشاکل:

أن تلک الروایات المکذوبة قبل التدوین العباسی کانت تموت بموت ناقلیها ومخترعیها، أما بعد التدوین العباسی فقد کانت تثبت فی الکتب فتبقی وتصیر بعد تطاول الزمن والاحتیاج إلیها صحیحة.

ومنها ان حرکة التدوین فی العصر العباسی قد خضعت لسیطرة الدولة من جهة ولسیطرة المذاهب الفقهیة والعقائدیة من جهة أخری، فکل رمز من رموز أهل السنة، له عقیدة خاصة ومذهب فقهی خاص، کالشافعی وأبی حنیفة واحمد بن حنبل والبخاری ومالک والأشعری، وغیرهم الکثیر الکثیر، وکل واحد منهم دوّن کتابا جمع فیه مئات أو آلاف الأحادیث المؤیدة والداعمة

ص: 303

لاعتقاداته وفقهه، وحکم علیها بالصحة، وفی المقابل تغاضوا عن مئات الآلاف من الأحادیث الأخری التی اعترفوا بصحتها وتجاهلهم لها، وهو یعنی أن جمعهم للسنة النبویة المطهرة لم یکن جمعا شاملا کاملا یحفظ للأمة تراثها وأحادیث نبیها صلی الله علیه وآله وسلم وأقواله، بل کان جمعهم للسنة النبویة جمعا انتقائیا مزاجیا، وهو أمر خطیر جدا ومضرته اکبر من منفعته، لأن تدویناً کهذا سیحتوی علی تحیز واضح لجهة عقائدیة محددة أو مذهب فقهی معین، وهذه الانتقائیة الخطیرة فی انتخاب بعض الأحادیث وتدوینها دون بعضها الآخر، أثرت تأثیراً بالغاً فی أحادیث الفضائل لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، لان جمیع رموز أهل السنة ومدونیهم مهما اختلفوا فی ما بینهم فی العقائد الجزئیة أو الفروع الفقهیة، فإنهم مجمعون علی أن فضائل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ومنزلتهم اقل شأنا وأهمیة من فضائل الشیوخ الثلاثة ومنزلتهم، وعلیه یکون من المستحیل أن یسجلوا فی مدوناتهم حدیثا ینص أو یشیر إلی خلاف ذلک، وإذا ما اضطروا الی تدوین بعض الأحادیث المتواترة والمشهورة کحدیث الغدیر وغیره، فإنهم یشحذون الهمم ویتفننون فی صرف هذه الأحادیث عن معناها الواضح إلی معانٍ أخری لا تتعارض مع إعلاء منزلة الشیوخ الثلاثة علی منزلة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.

15: ان حرکة التدوین لم تکن منزهة عن وقوع التزویر والتلاعب والدس فی المدونات، وقلب الأسانید الصالحة، أو إصلاح الأسانید الفاسدة المعلولة، أو إضافة کثیر من الأحادیث الباطلة ودسها مع تبدیل باطلها، من شیوخ الحدیث أنفسهم أو تلامذتهم أو النساخ الذین کان یعتمد علیهم فی نسخ تلک المدونات، وقد مرت فی الفصل الثانی شواهد کثیرة توضح هذا المعنی بشکل لا یقبل الشک.

ص: 304

16: ان المدونات الموجودة الآن بین أیدی المسلمین من أهل السنة والمسماة بالصحاح أو المسانید أو الموطآت لم تکن بمعزل عن هذا التزویر والتبدیل والتناقض والتحیز، وقد استعرضنا لإثبات هذه الحقیقة أربعة نماذج هی عمدة ما یرتکز علیه أهل السنة، وقد ثبت بشکل جلی ان هذه المدونات قاصرة الحجیة من حیث النقل ومن حیث المحتوی، وان هنالک تناقضاً واضحاً ما بین القاعدة والتطبیق، فضلا عن حالة التحیز وعدم الشمولیة فی استیعاب السنة النبویة المطهرة ونقلها.

هذا إضافة إلی ان هذه المسانید والصحاح لم تصل إلینا الیوم إلا بطرق ضعیفة لا تصمد أمام النقاش الموضوعی، ولو سلمنا بصحة وصولها فانا لا نسلم قطعا بخلوها من النقص والتلاعب والتزویر والدس من ناقلیها.

 17: بعد ان انتشرت الروایات الضعیفة والطرق العلیلة والمکذوبة فی المدونات المهمة عند أهل السنة، عقد العزم جملة من المتقدمین علی وضع قواعد للجرح والتعدیل فی سبیل تمییز صحیح الأحادیث من علیها، ولکن وللأسف فقد وجدنا کما وجد الآخرون ان هذه القواعد التی وضعها المتقدمون لا یمکن عدّها قاعدة ثابتة مجمعاً علیها، فقد کان لکل واحد من المتقدمین قاعدة خاصة ورأی مناقض لرأی معاصریه وأقرانه، وقد ضربنا عدة أمثلة علی هذا التضارب المؤسف، إضافة إلی تأثیر العصبیة والحسد والبغضاء والتنافس الدنیوی فی مناهج التعدیل والتجریح، وقد رأینا کیف ان الشخص الواحد منهم یتناقض مع نفسه فی القاعدة الواحدة فیجزم بصحة حدیث معین فی احد مدوناته ثم یجزم بکذب الحدیث نفسه فی کتاب آخر له، ویوثق بعض الرجال فی کتاب ویضعفه ویفسقه فی کتاب آخر، کما انه یشترط علی نفسه شروطا معینة ثم یخالفها وینقضها حین التطبیق وهکذا وقد مرت فی الفصلین الثانی والثالث نماذج عدیدة لهذا التناقض المنهجی.

ص: 305

وأما بالنسبة للمتأخرین فالنزاع عندهم أکبر والتناقض لدیهم أعظم، وقد مرت عدة أمثلة تدل علی أن المتأخرین لم یکونوا راضین ولا منسجمین مع قواعد وآرائهم وشروطهم المتقدمین مما اوجد اختلافا فی تقییم الرجال والأسانید والمتون.

18: ان هذا الاختلاف فی قواعد الجرح والتعدیل بین المتقدمین أنفسهم أو بین المتقدمین والمتأخرین قد استغل بشکل کبیر فی الحرب ضد فضائل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فما من راوٍ من رواة أهل السنة المعتمدین وغیر المعتمدین إلا وتجد فیه قولین أو أکثر لأهل الجرح والتعدیل، الا ما ندر، وقد وظف هذا الاختلاف فی الأقوال توظیفا کبیراً فی رد فضائل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وإنکارها، وفی إثبات فضائل الشیوخ الثلاثة وبقیة رموز أهل السنة، وستأتی عدة شواهد علی ان أهل الجرح والتعدیل من أهل السنة یردون ویضعفون اغلب روایات فضائل العترة الطاهرة بحجة ضعف أسانیدها، ثم یأتون بأقوال من یقدح فی رجال السند، ویغضون الطرف عن کلمات المادحین الموثقین، وفی المقابل وحینما یتحدثون عن فضائل الشیوخ الثلاثة وعائشة وبقیة رموزهم ومناقبهم یوثقون أسانید روایات مدحهم ویسردون أقوال المادحین فی حق رجال ذلک السند، ویخفون عن الأسماع والأعین کلمات من ضعفهم وجرح عدالتهم ورماهم بالکذب تارة وبالتدلیس أخری وبالوضع ثالثة.

 وهذا ما سیتم إثباته فی الفصل الآتی إن شاء الله تعالی.

ص: 306

ص: 307

الفصل الرابع: جملة من فضائل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وموقف محدثی أهل السنة منها

اشارة

ص: 308

ص: 309

کلمة قبل البدء

اقتضت السیاسة الحکیمة للنبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم أن یربی الأمة الإسلامیة علی أمرین مهمین:

أحدهما: هو زرع حالة التکریم والتعظیم والتبجیل فی عقل الأمة وضمیرها لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وجعلهم یتیقنون بان لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین مرتبة وشأنیة أعلی وأسمی من کل مرتبة اجتماعیة یمکن أن یصلها بیت من بیوت المسلمین أو من بیوت العرب، کی یشعر الجمیع أمامهم بالخضوع والانقیاد، حتی لا یتبجح علیهم متبجح، ویتفاخر علیهم متفاخر، ویتقدم علیهم متقدم فی یوم من الأیام.

والآخر: تمییز فضل کل فرد من أفراد أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین علی حدة، وإعطاء کل شخص من أشخاصهم المبارکة دورا یضطلع به وتنتفع به الأمة من خلاله، فمیز صلی الله علیه وآله وسلم الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه بالولایة ومؤهلات القیادة وجمیع ما یحتاجه الخلیفة الذی یستطیع تحمل مسؤولیة قیادة الأمة الدینیة وتربیتها المعنویة، فبین صلی الله علیه وآله وسلم لامته ان علیا صلوات الله وسلامه علیه أشجعهم وأعلمهم بالکتاب والسنة، وان الرجس والظلم وکل ما یخالف الطهارة

ص: 310

منتف عن شخصه المبارک، وانه أحب الخلق إلی الله سبحانه وتعالی ورسوله صلی الله علیه وآله وسلم، وان ولیه ولی الله وان عدوه عدو الله، وان مفارقه والواقف بوجهه ومحاربه خارج عن الحق زائغ عن الصراط المستقیم، إلی غیر ذلک من صفات الکمال ومؤهلاته.

ومیز السیدة فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه علیها بان رضاها رضا الله سبحانه وتعالی، وان غضبها غضبه، کی تصیر مقیاسا لرضا الله وغضبه، ومیزانا تزن به الأمة مقدار قربها من الله سبحانه وتعالی وبعدها عنه، وتکون کأبیها المصطفی صلی الله علیه وآله وسلم مبشرة ونذیرة، فإذا ما رضیت فاطمة بنت النبیصلوات الله وسلامه علیها عن شخص أو فئة أو امة معینة، کان رضاها بشری بان الله سبحانه وتعالی راض عنهم، وبالعکس یکون غضبها وسخطها ونقمتها نذیرا علی نقمة الله سبحانه وتعالی وغضبه وسخطه.

وکذلک میز صلی الله علیه وآله وسلم الحسنین صلوات الله وسلامه علیهما بأنهما أحب الناس إلیه بعد أبیهما وأمهما وانهما سیدا شباب أهل الجنة، وانه صلی الله علیه وآله وسلم محب لمن أحبهما مبغض ومعادٍ لمن عاداهما، وانهما قطعة منه، لتفهم الأمة انهما امتداد له، وان حرمتهما حرمته، وان قدسیتهما من قدسیته، وان الاعتداء علی احدهما هو اعتداء علی جزء وبضعة من رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وان الاعتداء علی بضعة وجزء من رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم هو اعتداء علی کل رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وهو کفر صریح مجمع علیه فی الکتاب والسنة، فکانا للأمة علما وسبیلا یستدل بهما علی مرضاة الله سبحانه وتعالی وصراطه القویم.

فلم یترک رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم الأمة من بعده هملا بلا دلیل ولا حجة، کما یذهب إلی ذلک المخالفون، فکانوا صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین هم الدلیل علی الدین وأحکامه، وحبل الله المتین وصراطه المستقیم.

ص: 311

وسننتهج فی بحثنا هذا منهج النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم نفسه ونستن بسنته الشریفة، فنقسم بحث فضائلهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین علی قسمین؛ الأول سنستعرض فیه بعض فضائلهم التی اشترکوا فیها جمیعهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، ومن ثم نستعرض فضائل کل واحد منهم علی حدة ونفصل حولها الکلام بحسب الطاقة والمکنة ان شاء الله سبحانه.

الحدیث الأول: حدیث الثقلین کتاب الله سبحانه وتعالی وعترة نبیه صلی الله علیه وآله وسلم

بعض نصوص حدیث الثقلین مع تصحیح علماء أهل السنة ومحدثیهم لها

اشارة

لا نرید من ذکر نصوص حدیث الغدیر أو الثقلین استیعاب جمیع طرقه وکلمات العلماء فیه؛ لان هذا مما لا یستوعبه مثل هذا الکتاب أولا، ولخروجه عن خطة البحث ثانیا، ولوجود بعض من ألف فیه واستوعبه ثالثا، وإنما الغرض الأساس من ذکر بعض طرق حدیث الغدیر هو الهدف والغرض أنفسهما من تأسیس هذا الکتاب، وهو تبیان وإیضاح للمفارقة والازدواجیة فی تعامل علماء أهل السنة ومحدثیهم مع أحادیث فضائل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وهو ما سیتبین لنا جلیا فی السطور القادمة ان شاء الله سبحانه، والهدف الثانی من ذکرنا لبعض طرق حدیث الثقلین هو تبیان ما یمکن تبیانه من الفوائد الجلیلة والنکات المهمة المستخلصة من هذه النصوص الشریفة.

وفیما یأتی جملة من تلک النصوص التی اعترف بصحتها جهابذة علماء أهل السنة ومحدثیهم:

ص: 312

إخراج مسلم حدیثین من أحادیث الثقلین فی کتابه (صحیح مسلم)

أخرج مسلم النیسابوری فی کتابه المشهور باسم (صحیح مسلم) عن: (...یَزِید بْن حَیَّانَ قَالَ انْطَلَقْتُ أَنَا وَحُصَیْنُ بْنُ سَبْرَةَ وَعُمَرُ بْنُ مُسْلِمٍ إِلَی زَیْدِ بْنِ أَرْقَمَ فَلَمَّا جَلَسْنَا إِلَیْهِ قَالَ لَهُ حُصَیْنٌ لَقَدْ لَقِیتَ یَا زَیْدُ خَیْرًا کَثِیرًا رَأَیْتَ رَسُولَ اللَّهِ __ صلی الله علیه __ وآله __ وسلم __ وَسَمِعْتَ حَدِیثَهُ وَغَزَوْتَ مَعَهُ وَصَلَّیْتَ خَلْفَهُ لَقَدْ لَقِیتَ یَا زَیْدُ خَیْرًا کَثِیرًا حَدِّثْنَا یَا زَیْدُ مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ __ صلی الله علیه __ وآله __ وسلم __.

 __ قَالَ زید __: یَا ابْنَ أَخِی وَاللَّهِ لَقَدْ کَبِرَتْ سِنِّی وَقَدُمَ عَهْدِی وَنَسِیتُ بَعْضَ الَّذِی کُنْتُ أَعِی مِنْ رَسُولِ اللَّهِ __ صلی الله علیه __ وآله __ وسلم __ فَمَا حَدَّثْتُکُمْ فَاقْبَلُوا وَمَا لاَ فَلاَ تُکَلِّفُونِیهِ. ثُمَّ قَالَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ __ صلی الله علیه __ وآله __ وسلم __ یَوْمًا فِینَا خَطِیبًا بِمَاءٍ یُدْعَی خُمًّا بَیْنَ مَکَّةَ وَالْمَدِینَةِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَی عَلَیْهِ وَوَعَظَ وَذَکَّرَ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ أَلاَ أَیُّهَا النَّاسُ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ یُوشِکُ أَنْ یَأْتِیَ رَسُولُ رَبِّی فَأُجِیبَ وَأَنَا تَارِکٌ فِیکُمْ ثَقَلَیْنِ أَوَّلُهُمَا کِتَابُ اللَّهِ فِیهِ الْهُدَی وَالنُّورُ فَخُذُوا بِکِتَابِ اللَّهِ وَاسْتَمْسِکُوا بِهِ. فَحَثَّ عَلَی کِتَابِ اللَّهِ وَرَغَّبَ فِیهِ ثُمَّ قَالَ: وَأَهْلُ بَیْتِی أُذَکِّرُکُمُ اللَّهَ فِی أَهْلِ بَیْتِی أُذَکِّرُکُمُ اللَّهَ فِی أَهْلِ بَیْتِی أُذَکِّرُکُمُ اللَّهَ فِی أَهْلِ بَیْتِی.

فَقَالَ لَهُ حُصَیْنٌ وَمَنْ أَهْلُ بَیْتِهِ یَا زَیْدُ أَلَیْسَ نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَیْتِهِ قَالَ نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَیْتِهِ وَلَکِنْ أَهْلُ بَیْتِهِ مَنْ حُرِمَ الصَّدَقَةَ بَعْدَهُ. قَالَ وَمَنْ هُمْ قَالَ هُمْ آلُ عَلِیٍّ وَآلُ عَقِیلٍ وَآلُ جَعْفَرٍ وَآلُ عَبَّاسٍ. قَالَ کُلُّ هَؤُلاَءِ حُرِمَ الصَّدَقَةَ قَالَ نَعَمْ)(1).

وأخرج مسلم أیضا عن: (...یَزِیدَ بْنِ حَیَّانَ عَنْ زَیْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ دَخَلْنَا عَلَیْهِ فَقُلْنَا لَهُ لَقَدْ رَأَیْتَ خَیْرًا. لَقَدْ صَاحَبْتَ رَسُولَ اللَّهِ __ صلی الله علیه __ وآله __


1- صحیح مسلم ج 7 ص 122 __ 123 باب من فضائل علی صلوات الله وسلامه علیه.

ص: 313

وسلم __ وَصَلَّیْتَ خَلْفَهُ. وَسَاقَ الْحَدِیثَ بِنَحْوِ حَدِیثِ أَبِی حَیَّانَ غَیْرَ أَنَّهُ قَالَ: أَلاَ وَإِنِّی تَارِکٌ فِیکُمْ ثَقَلَیْنِ أَحَدُهُمَا کِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ حَبْلُ اللَّهِ مَنِ اتَّبَعَهُ کَانَ عَلَی الْهُدَی وَمَنْ تَرَکَهُ کَانَ عَلَی ضَلاَلَةٍ. وَفِیهِ: فَقُلْنَا: مَنْ أَهْلُ بَیْتِهِ؟ نِسَاؤُهُ؟ قَالَ: لاَ وَایْمُ اللَّهِ إِنَّ الْمَرْأَةَ تَکُونُ مَعَ الرَّجُلِ الْعَصْرَ مِنَ الدَّهْرِ ثُمَّ یُطَلِّقُهَا فَتَرْجِعُ إِلَی أَبِیهَا وَقَوْمِهَا أَهْلُ بَیْتِهِ أَصْلُهُ وَعَصَبَتُهُ الَّذِینَ حُرِمُوا الصَّدَقَةَ بَعْدَهُ)((1).

أقول: وسیأتی تفصیل أکثر لحدیثی مسلم النیسابوری مع مناقشة لمضمونیهما فی محله إن شاء الله تعالی.

حدیث الثقلین فی مسند أحمد بن حنبل

ورد فی مسند أحمد بن حنبل: (حدثنا عبد الله حدثنی أبی ثنا الأسود بن عامر ثنا شریک عن الرکین عن القاسم بن حسان عن زید بن ثابت قال: قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم إنی تارک فیکم خلیفتین کتاب الله حبل ممدود ما بین السماء والأرض أو ما بین السماء إلی الأرض وعترتی أهل بیتی وانهما لن یتفرقا حتی یردا علی الحوض)(2).

أقول: وهذا حدیث صحیح وسیأتی فی الفقرة الآتیة تصحیح الهیثمی لهذا الحدیث.

تصحیحات الهیثمی لحدیث الثقلین فی کتابه (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد)

روی الهیثمی فی (باب فی فضل أهل البیت رضی الله عنهم): (عن زید بن ثابت قال: قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم إنی تارک فیکم خلیفتین


1- ()صحیح مسلم ج7 ص123.
2- مسند احمد بن حنبل  ج 5 ص 181 __ 182.

ص: 314

کتاب الله عز وجل حبل ممدود ما بین السماء والأرض أو ما بین السماء إلی الأرض وعترتی أهل بیتی وأنهما لن یفترقا حتی یردا علی الحوض. رواه أحمد وإسناده جید)(1).

وروی أیضا عن: (حذیفة بن أسید الغفاری قال لما صدر رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم من حجة الوداع نهی أصحابه عن سمرات متفرقات بالبطحاء أن ینزلوا تحتهن ثم بعث إلیهن فقم ما تحتهن من الشوک وعمد إلیهن فصلی عندهن ثم قام فقال یا أیها الناس انه قد نبأنی اللطیف الخبیر انه لم یعمر نبی إلا نصف عمر الذی یلیه من قبله وأنی لأظن یوشک أن أدعی فأجیب وأنی مسؤول وأنتم مسؤولون فماذا أنتم قائلون قالوا نشهد انک قد بلغت وجهدت ونصحت فجزاک الله خیرا قال ألیس تشهدون ان لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وان جنته حق وناره حق وان الموت حق وان البعث حق بعد الموت وان الساعة آتیة لا ریب فیها وان الله یبعث من فی القبور قالوا بلی نشهد بذلک قال اللهم اشهد ثم قال یا أیها الناس ان الله مولای وأنا مولی المؤمنین وأنا أولی بهم من أنفسهم فمن کنت مولاه فهذا مولاه یعنی علیا رضی الله عنه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ثم قال یا أیها الناس إنی فرط وأنتم واردون علی الحوض حوض ما بین بصری إلی صنعاء فیه عدد النجوم قد حان من فضة وأنی سائلکم عن الثقلین فانظروا کیف تخلفونی فیهما الثقل الأکبر کتاب الله عز وجل سبب طرفه بید الله عز وجل وطرفه بأیدیکم فاستمسکوا به لا تضلوا ولا تبدلوا وعترتی أهل بیتی فإنه قد نبأنی اللطیف الخبیر انهما لن یتفرقا حتی یردا علی الحوض).

ثم علق الهیثمی علی الحدیث بقوله: (رواه الطبرانی وفیه زید بن الحسن


1- مجمع الزوائد للهیثمی  ج 9 ص 162 __ 163.

ص: 315

الأنماطی قال أبو حاتم منکر الحدیث، ووثقه ابن حبان، وبقیة رجال أحد الإسنادین ثقات)(1).

وقال فی موضع آخر: (رواه الطبرانی بإسنادین وفیهما زید بن الحسن الأنماطی وثقه ابن حبان وضعفه أبو حاتم وبقیة رجال أحدهما رجال الصحیح ورجال الآخر کذلک غیر نصر بن عبد الرحمن الوشاء وهو ثقة)(2).

أقول: فالحدیث بروایة الطبرانی صحیح بأحد إسنادیه ، إضافة إلی أن حدیث الثقلین من الأحادیث المتواترة کما سیأتی والحدیث المتواتر لا یضره ضعف بعض رجال سنده، کما هو معروف.

تصحیح الحاکم النیسابوری لحدیث الثقلین علی شرط البخاری ومسلم

قال الحاکم فی المستدرک علی الصحیحین: (عن زید بن أرقم رضی الله عنه قال لما رجع رسول الله صلی الله علیه وآله من حجة الوداع ونزل غدیر خم أمر بدوحات فقممن فقال کأنی قد دعیت فأجبت انی قد ترکت فیکم الثقلین أحدهما أکبر من الآخر کتاب الله تعالی وعترتی فانظروا کیف تخلفونی فیهما فإنهما لن یتفرقا حتی یردا علی الحوض ثم قال إن الله عز وجل مولای وأنا مولی کل مؤمن ثم اخذ بید علی رضی الله عنه فقال من کنت مولاه فهذا ولیه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وذکر الحدیث بطوله)(3).

ثم علق الحاکم علی هذا الحدیث بقوله: (هذا حدیث صحیح علی شرط


1- مجمع الزوائد ج9 ص 164 __  165.
2- المصدر السابق ج 10  ص 363.
3- المستدرک للحاکم النیسابوری ج 3 ص 109.

ص: 316

الشیخین ولم یخرجاه بطوله)(1).

ثم قال: (شاهده حدیث سلمة بن کهیل عن أبی الطفیل أیضا صحیح علی شرطهما حدثناه أبو بکر بن إسحاق...عن ابن واثلة انه سمع زید بن أرقم رضی الله عنه یقول نزل رسول الله صلی الله علیه وآله بین مکة والمدینة عند شجرات خمس دوحات عظام فکنس الناس ما تحت الشجرات ثم راح رسول الله صلی الله علیه وآله عشیة فصلی ثم قام خطیبا فحمد الله وأثنی علیه وذکر ووعظ فقال ما شاء الله أن یقول ثم قال أیها الناس إنی تارک فیکم أمرین لن تضلوا إن اتبعتموهما وهما کتاب الله وأهل بیتی عترتی ثم قال أتعلمون انی أولی بالمؤمنین من أنفسهم ثلاث مرات قالوا نعم فقال رسول الله صلی الله علیه وآله من کنت مولاه فعلی مولاه)(2).

قال الحاکم بعد إیراد حدیث سلمة السابق: (وحدیث بریدة الأسلمی صحیح علی شرط الشیخین)(3).

وقد أورد الحاکم حدیثا آخر علی شرط البخاری ومسلم عن: (...مسلم بن صبیح عن زید بن أرقم رضی الله عنه قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله إنی تارک فیکم الثقلین کتاب الله وأهل بیتی وانهما لن یتفرقا حتی یردا علی الحوض)(4).

ثم علق علی هذا الحدیث بقوله: (هذا حدیث صحیح الإسناد علی شرط


1- المستدرک للحاکم النیسابوری ج 3 ص 109.
2- المصدر السابق ج3 ص110.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق ج 3 ص 148.

ص: 317

الشیخین ولم یخرجاه)(1).

وقد وافقه الذهبی علی هذا القول فی (تلخیص المستدرک) فقال: (علی شرط البخاری ومسلم)(2).

تصحیح ابن حجر العسقلانی لحدیث الثقلین

قال ابن حجر العسقلانی فی (المطالب العالیة بزوائد المسانید الثمانیة): (وَقَالَ إِسْحَاقُ: أخبرنا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِیُّ، عَنْ کَثِیرِ بْنِ زَیْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ [عُمَرَ] بْنِ عَلِیٍّ عَنْ أَبِیهِ، عَنْ عَلِیٍّ رَضِیَ الله عَنْه قَالَ: إِنَّ النَّبِیَّ صلی الله علیه __ وآله __ وسلم حَضَرَ الشَّجَرَةَ بِخُمٍّ، ثُمَّ خَرَجَ آخِذًا بِیَدِ عَلِیٍّ رَضِیَ الله عَنْه قَالَ: أَلَسْتُمْ تَشْهَدُونَ أن الله تبارک وتعالی رَبُّکُمْ؟ قَالُوا: بَلَی. قَالَ صلی الله علیه __ وآله __ وسلم: أَلَسْتُمْ تَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَوْلَی بِکُمْ مِنْ أَنْفُسِکُمْ وأن الله تعالی وَرَسُولَهُ أَوْلِیَاؤُکُمْ؟. فَقَالُوا: بَلَی. قَالَ: فَمَنْ کَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مَوْلاهُ فَإِنَّ هَذَا مَوْلَاهُ، وَقَدْ تَرَکْتُ فِیکُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا کتاب الله تعالی، سَبَبُهُ بیدی، وَسَبَبُهُ بِأَیْدِیکُمْ، وَأَهْلُ بَیْتِی)(3).

ثم علق ابن حجر العسقلانی علی هذا الحدیث بقوله: (هَذَا إِسْنَادٌ صَحِیحٌ، وَحَدِیثُ غَدِیرِ خم قد أخرجه النسائی مِنْ رِوَایَةِ أَبِی الطُّفَیْلِ عَنْ زَیْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وَعَلِیٍّ، وَجَمَاعَةٍ من الصحابة رَضِیَ الله عَنْهم)(4).


1- المستدرک للحاکم النیسابوری ج 3 ص 148.
2- المستدرک بتعلیق الذهبی ج3 ص160.
3- المطالب العالیة بزوائد المسانید الثمانیة لأحمد بن علی بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلانی، ج16 ص142 والحدیث تحت رقم3943، تنسیق: الدکتور سعد بن ناصر بن عبد العزیز الشثری، الناشر: دار العاصمة، دار الغیث السعودیة، الطبعة: الأولی، 1419ه_.
4- المصدر نفسه.

ص: 318

تصحیح الحافظ أحمد بن أبی بکر بن إسماعیل البوصیری لحدیث الثقلین

قال البوصیری فی (إتحاف الخیرة المهرة بزوائد المسانید العشرة): (قال أبو بکر ابن أبی شیبة: وثنا أبو داود عمر بن سعد، عن شریک، عن الرکین بن الربیع، عن القاسم بن حسان، عن زید بن ثابت __ رضی اللّه عنه __ یرفعه قال: إنی قد ترکت فیکم الخلیفتین: کتاب اللّه __ عز وجل __ وعترتی، وإنهما لن یفترقا حتی یردا علی الحوض.

رواه عبد بن حمید: ثنا یحیی بن عبد الحمید، ثنا شریک، عن الرکین، عن القاسم بن حسان، عن زید بن ثابت قال: قال رسول اللّه __ صلی الله علیه __ وآله __ وسلم __: إنی تارک فیکم ما إن تمسکتم به لن تضلوا: کتاب اللّه __ عز وجل __ وعترتی، وإنهما لن یفترقا حتی یردا الحوض)(1).

وقد علق البوصیری علی هذا الحدیث بقوله: (هذا إسناد رواته ثقات)(2).

تصحیح ابن حجر الهیتمی لحدیث الثقلین

وقد صحح ابن حجر الهیتمی فی صواعقه المحرقة کثیرا من طرق حدیث الغدیر وأشار إلی تواتره لفظا أو معنی مع بقیة کلام له مهم نذکره فی الآتی: (وأخرج الترمذی وقال حسن غریب أنه قال إنی تارک فیکم ما إن تمسکتم به لن تضلوا بعدی أحدهما أعظم من الآخر کتاب الله عز وجل حبل ممدود من السماء إلی الأرض وعترتی أهل بیتی ولن یفترقا حتی یردا علی الحوض فانظروا کیف تخلفونی فیهما.


1- إتحاف الخیرة المهرة بزوائد المسانید العشرة للحافظ أحمد بن أبی بکر بن إسماعیل البوصیری، ج6 ص109، طبعة دار الوطن لسنة1420ه_ __ 1999م.
2- المصدر نفسه.

ص: 319

 وأخرجه أحمد فی مسنده بمعناه ولفظه إنی أوشک أن أدعی فأجیب وإنی تارک فیکم الثقلین کتاب الله حبل ممدود من السماء إلی الأرض وعترتی أهل بیتی وإن اللطیف الخبیر أخبرنی أنهما لن یفترقا حتی یردا علی الحوض فانظروا بم تخلفونی فیهما وسنده لا بأس به.

 وفی روایة أن ذلک کان فی حجة الوداع وفی أخری مثله یعنی کتاب الله کسفینة نوح من رکب فیها نجا ومثلهم أی أهل بیته کمثل باب حطة من دخله غفرت له الذنوب. وذکر ابن الجوزی لذلک فی العلل المتناهیة وهم أو غفلة عن استحضار بقیة طرقه بل فی مسلم عن زید بن أرقم أنه قال ذلک یوم غدیر خم وهو ماء بالجحفة کما مر وزاد أذکرکم الله فی أهل بیتی قلنا لزید من أهل بیته نساؤه قال لا وأیم الله إن المرأة تکون من الرجل العصر من الدهر ثم یطلقها فترجع إلی أبیها وقومها أهل بیته أهله وعصبته الذین حرموا الصدقة بعده.

 وفی روایة صحیحة إنی تارک فیکم أمرین لن تضلوا إن تبعتموهما وهما کتاب الله وأهل بیتی عترتی، زاد الطبرانی إنی سألت ذلک لهما فلا تقدموهما فتهلکوا ولا تقصروا عنهما فتهلکوا ولا تعلموهم فإنهم أعلم منکم...

ثم اعلم أن لحدیث التمسک بذلک طرقا کثیرة وردت عن نیف وعشرین صحابیا ومر له طرق مبسوطة فی حادی عشر الشبه وفی بعض تلک الطرق انه قال ذلک بحجة الوداع بعرفة وفی أخری أنه قاله بالمدینة فی مرضه وقد امتلأت الحجرة بأصحابه وفی أخری أنه قال ذلک بغدیر خم وفی أخری أنه قاله لما قام خطیبا بعد انصرافه من الطائف کما مر ولا تنافی إذ لا مانع من أنه کرر علیهم ذلک فی تلک المواطن وغیرها اهتماما بشأن الکتاب العزیز والعترة الطاهرة...)(1).


1- الصواعق المحرقة لابن حجر ج2 ص438.

ص: 320

وقال ابن حجر الهیتمی أیضا: (...أنه حدیث صحیح لا مریة فیه وقد أخرجه جماعة کالترمذی والنسائی وأحمد وطرقه کثیرة جدا ومن ثم رواه ستة عشر صحابیا وفی روایة لأحمد أنه سمعه من النبی ثلاثون صحابیا وشهدوا به لعلی لما نوزع أیام خلافته کما مر وسیأتی وکثیر من أسانیدها صحاح وحسان ولا التفات لمن قدح فی صحته ولا لمن رده بأن علیا کان بالیمن لثبوت رجوعه منها وإدراکه الحج مع النبی وقول بعضهم إن زیادة اللهم وال من والاه الخ موضوعة مردود فقد ورد ذلک من طرق صحح الذهبی کثیرا منها)((1).

هذا بعض أحکام محدثی أهل السنة وأئمتهم علی صحة حدیث الثقلین والمشهور بحدیث الغدیر، وقد ترکنا أضعاف ما مر؛ طلبا للاختصار أولا، ولان غرض الکتاب هو لیس استقصاء جمیع طرق الحدیث، لان استقصاء جمیع طرق حدیث الثقلین قد تکفل به غیر واحد من علماء الشیعة وعلماء أهل السنة، منهم الحافظ الذهبی الذی ألف رسالة بعنوان (رسالة طرق حدیث من کنت مولاه فهذا علی مولاه) حیث ذکر فیها کثیراً من طرق حدیث الغدیر وهو وان کان قد ضعف بعضا منها إلا انه حسن وصحح کثیراً منها أیضا، وللحافظ ابن عقدة کتاب جمع فیه طرقه جمیعها.

 ومن المتأخرین من جمع طرق الحدیث أیضا، منهم الشیخ أبو المنذر سامی ابن أنور خلیل جاهین المصری الشافعی الذی له رسالة بعنوان (الزهرة العطرة فی حدیث العترة) وقد جمع فیه مؤلفه مجموعة من طرقه حیث قام بدراستها وشرحها، وقد فاق العلامة الأمینی __ کما هو واضح لمن له أدنی إنصاف وتدبر __ جمیع من سبقه ومن تأخر عنه وبذل غایة المجهود فی جمع حدیث الغدیر وتحقیقه فی کتابه


1- ()الصواعق المحرقة لابن حجر ج1 ص107.

ص: 321

القیم (الغدیر فی الکتاب والسنة والأدب)، وقد ألفت علی غراره عشرات الکتب حول هذا الحدیث الشریف شرحا وتعلیقا واستخراجا واستدراکا وغیر ذلک، مما أغنانا عن الخوض فی مسائل قد أثیرت فیما سبق وتم بحثها.

محاولات محدثی أهل السنة وعلمائهم لتحطیم حدیث الثقلین

1: استغلال ابن تیمیة عدم ذکر البخاری حدیث الثقلین

لقد حاول ابن تیمیة وغیره من مقلدیه وأتباعه إثارة الشبهات أمام حدیث الثقلین وواحدة من تلک الشبهات التی حاول ابن تیمیة التأکید علیها هی عدم إخراج البخاری حدیث الثقلین فی کتابه المعروف باسم (صحیح البخاری) بضمیمة ان حدیث الثقلین لو کان صحیحا للزم علی البخاری ذکره فی صحیحه.

وقد أشار ابن تیمیة فی کتابه (منهاج السنة النبویة) بقوله: (والذی رواه مسلم انه بغدیر خم قال إنی تارک فیکم الثقلین کتاب الله فذکر کتاب الله وحض علیه ثم قال وعترتی أهل بیتی أذکرکم الله فی أهل بیتی ثلاثا وهذا مما انفرد به مسلم ولم یروه البخاری... وقد طعن غیر واحد من الحفاظ فی هذه الزیادة وقال إنها لیست من الحدیث...)(1).

أقول: تکاد تجتمع کلمة علماء أهل السنة ومحققیهم علی ان الحدیث الصحیح لا یشترط وجوده فی کتابی مسلم والبخاری، وان عدم ذکر البخاری ومسلم أو احدهما حدیثاً ما لا یدل یقینا علی ضعف ذلک الحدیث، وذلک للأسباب التالیة:

* لان البخاری کما تقدم فی محله صرح بأنه یحفظ مائة ألف حدیث صحیح


1- منهاج السنة النبویة لابن تیمیة ج7 ص318.

ص: 322

ولکنه لم یذکر منها إلا أربعة آلاف أو أکثر بقلیل مع المکرر أما من دون المکررات فعددها لا یتجاوز الثلاثة آلاف حدیث أو اقل، وهذا یعنی انه ترک ذکر ما یقارب ثلاثة وتسعین ألف حدیث اعترف نفسه بصحتها.

* وقد صرح الحاکم النیسابوری فی مستدرکه ان الحدیث الصحیح لا ینحصر وجوده فی صحیح البخاری بل ولا فی الصحیحین جمیعا فقال فی مقدمته: (... أبو عبد الله محمد بن إسماعیل الجعفی، وأبو الحسین مسلم بن الحجاج القشیری...صنفا فی صحیح الأخبار کتابین مهذبین انتشر ذکرهما فی الأقطار، ولم یحکما ولا واحد منهما أنه لم یصح من الحدیث غیر ما أخرجه)(1).

* وقال النووی فی (التقریب والتیسیر لمعرفة سنن البشیر النذیر فی أصول الحدیث): (أول مصنف فی الصحیح المجرد، صحیح البخاری، ثم مسلم، وهما أصح الکتب بعد القرآن، والبخاری أصحهما وأکثرهما فوائد، وقیل مسلم أصح، والصواب الأول، واختص مسلم بجمع طرق الحدیث فی مکان، ولم یستوعبا الصحیح ولا التزماه، قیل لم یفتهما منه إلا قلیل وأنکر هذا...)(2).

* بل صرح النووی نقلا عن الشیخ تقی الدین ان الحدیث الذی یرویه احدهما __ البخاری أو مسلم __ مقطوع بصحته عند المحققین وعند الأکثر إذا تواتر إذ قال: (وذکر الشیخ تقی الدین أن ما رویاه أو أحدهما فهو مقطوع بصحته والعلم القطعی حاصل فیه، وخالفه المحققون والأکثرون، فقالوا: یفید الظن ما لم یتواتر، والله أعلم)(3).


1- المستدرک علی الصحیحین للحاکم النیسابوری ج1 ص2.
2- التقریب والتیسیر لمعرفة سنن البشیر النذیر فی أصول الحدیث ج1 ص1.
3- المصدر السابق.

ص: 323

أقول: ومسلم قد روی حدیث الثقلین، إضافة إلی اعتراف عدة من أعلامهم بتواتره فیکون مقطوعاً بصحته ویکون العلم القطعی حاصلاً فیه.

فمحاولة تحطیم حدیث الغدیر من ابن تیمیة بحجة عدم إخراج البخاری له فی صحیحه هی محاولة فاشلة، فقد ثبت بحمد الله ان الحدیث الصحیح یبقی صحیحا حتی لو لم یخرجه البخاری بل حتی لو لم یخرجه مسلم أیضا فی صحیحه.

2: حذف الحدیث من مسند ابن راهویه مع ان جمعاً من العلماء اعترف بوجوده فیه
اشارة

لقد وجدت فی عصرنا الحاضر ظاهرة خطیرة للغایة، هی ظاهرة إعادة طباعة أمهات المصادر التاریخیة والروائیة السنیة، مع حذف الکثیر من أحادیثها ووقائعها وروایاتها التی تتخوف منها بعض المؤسسات الدینیة السنیة، وهذا الحذف غالبا ما یتم بصورة سریة مخفیة لا یتوجه إلیه العوام من الناس، وفی بعض الأحیان یلبس هذا الحذف ثوبا علمیا وهمیا، فتارة تحذف بعنوان (الاختصار) والتشذیب والتهذیب لهذه المصادر الروائیة والتاریخیة السنیة، وتارة أخری تحذف بعنوان (التحقیق) ومقابلة النصوص والنسخ الخطیة، فیتم حذف کثیر من الروایات والأخبار بحجة أن بعض النسخ خالیة من هذه الزیادة، أو أمثال هذه الحجج التی یراد منها سد أفواه العوام عن مثل هذا التلاعب الخطیر.

وکتاب مسند ابن راهویه واحد من تلک الکتب التی تعرضت لمثل هذا التزویر الخطیر، فقد تم حذف حدیث الثقلین والغدیر من نسخته المتداولة حالیا فی الأسواق والمکتبات العامة، فالباحث عن هذا الحدیث لا یجده الیوم فی کتاب مسند إسحاق بن راهویه، مع ان جملة من علماء أهل السنة ومحدثیهم ذکروا فی کتبهم ان ابن راهویه ذکر حدیث الثقلین فی کتابه المسند، وفیما یأتی جملة من تلک المصادر التی ذکرت وجود هذا الحدیث فی هذا الکتاب:

ص: 324

أ: ابن حجر العسقلانی یصرح بوجود حدیث الثقلین فی کتاب مسند ابن راهویه

قال ابن حجر فی کتابه (المطالب العالیة): (وقال إسحاق: أنا أبو عامر العقدی، عن کثیر بن زید، عن محمد بن عمر بن علی، عن أبیه، عن علی، قال: إن النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم حضر الشجرة بخم، ثم خرج آخذا بید علی قال: « ألستم تشهدون أن الله ربکم؟» قالوا: بلی، قال: «ألستم تشهدون أن الله ورسوله أولی بکم من أنفسکم، وأن الله ورسوله أولیاؤکم؟» فقالوا: بلی، قال: «فمن کان الله ورسوله مولاه، فإن هذا مولاه، وقد ترکت فیکم ما إن أخذتم به لن تضلوا: کتاب الله سببه بیده، وسببه بأیدیکم، وأهل بیتی» هذا إسناد صحیح)(1).

أقول: قوله (وقال إسحاق) یقصد به إسحاق بن راهویه صاحب المسند.

ب: الحافظ البوصیری یصرح بوجود الحدیث فی مسند ابن راهویه

قال الحافظ أحمد بن أبی بکر بن إسماعیل البوصیری فی کتابه (إتحاف الخیرة المهرة بزوائد المسانید العشرة): (باب فیمن کنت مولاه فعلی مولاه... «قال: فمن کان الله ورسوله مولاه فإن هذا مولاه وقد ترکت فیکم ما أن أخذتم به لن تضلوا کتاب الله سببه بیده وسببه بأیدیکم وأهل بیتی» رواه إسحاق بسند صحیح...)(2).

ج: المتقی الهندی یعترف بورود حدیث الثقلین فی مسند ابن راهویه

قال المتقی الهندی فی (کنز العمال): (...قال: ألستم تشهدون أن الله ورسوله أولی بکم من أنفسکم وأن الله ورسوله مولاکم؟ قالوا: بلی قال: فمن کان الله ورسوله مولاه فإن هذا مولاه وقد ترکت فیکم ما إن أخذتم به لن تضلوا


1- المطالب العالیة للحافظ ابن حجر العسقلانی ج11 ص230.
2- إتحاف الخیرة المهرة بزوائد المسانید العشرة للحافظ أحمد بن أبی بکر بن إسماعیل البوصیری ج7 ص81 طبعة دار الوطن.

ص: 325

بعده: کتاب الله سببه بیده وسببه بأیدیکم وأهل بیتی» ابن راهویه وابن جریر وابن أبی عاصم والمحاملی فی أمالیه)(1).

د: علماء آخرون یقرون بوجود حدیث الثقلین فی مسند إسحاق بن راهویه

منهم الشیخ أحمد بن الفضل الحضرمی فی (وسیلة المآل) حیث قال: (عن سیدنا علی بن أبی طالب رضی الله عنه وکرم الله وجهه أن النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم قال: قد ترکت فیکم ما إن أخذتم به لن تضلوا کتاب الله سببه بیده وسببه بأیدیکم وأهل بیتی. أخرجه أبو إسحق بن راهویه فی مسنده من طریق کثیر ابن عمر بن علی بن أبی طالب عن أبیه عن جده رضی الله عنهم)(2).

ومنهم عباس أحمد صقر وأحمد عبد الجواد فی القسم الثانی من (جامع الأحادیث) حیث قالا: (...وقد ترکت فیکم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعده: کتاب الله سببه بیده وسببه بأیدیکم، وأهل بیتی «ابن راهویه وابن أبی عاصم والمحاملی فی أمالیه»)(3). وقد ترکنا الکثیر ممن ذکر ذلک للاختصار.

3: محاولاتهم تطبیق حدیث الثقلین علی غیر أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین
اشارة

ان حدیث الثقلین أو ما یعرف بحدیث الغدیر لمن أقوی التهدیدات التی أسهرت أعین السلطة الغاصبة منذ اللحظة الأولی التی تقمصوا فیها منصب الزعامة والحکم والی یوم الناس هذا، فالنبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم لم یبق عذراً لمعتذر من أفراد أمته، فقد أخرس بوصیته لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین لسان کل من یتشدق ویهرج قائلا بان النبی صلی الله علیه وآله وسلم لم یوص لأحد من بعده، وانه صلی الله علیه وآله وسلم قد


1- کنز العمال للمتقی الهندی ج13 ص140 فضائل علی علیه السلام.
2- وسیلة المآل ص 57 نسخة المکتبة الظاهریة بدمشق.
3- جامع الأحادیث ج 4 ص 311 ط دمشق.

ص: 326

ترک الأمر لامته یقلدونها من شاؤوا منهم، بلی فالنبی صلی الله علیه وآله وسلم فی حجة وداعه الأخیرة، وفی غدیر خم، أوصی لعلی صلوات الله وسلامه علیه والأئمة من أهل بیته من بعده، لکن أعین المعاندین أصرت علی أن تبقی مسدودة، ترفض رؤیة ضیاء الحقیقة لمجرد أن هذه الحقیقة لا تنسجم ومصالحهم أو عقائدهم التی ورثها الأبناء عن الآباء.

وبسبب هذا التهدید الخطیر الذی شکله حدیث الثقلین وما زال، شنت ضده أقوی حملة تدمیریة منذ زمن الشیخین والی یوم الناس هذا، وقد تفننت الدولة وأتباعها الذین یتعارض حدیث الثقلین مع مصالحهم وتوجهاتهم الدنیویة والفکریة فی إضعاف هذا الأثر النبوی المهم، تارة بالطعن فی أسانیده وناقلیه، وأخری بحذفه من الکتب، وأخری بتحریف فقراته واستبدال ألفاظه بألفاظ أخری لا تشکل تهدیدا وخطرا علی منظومتهم الفکریة والحکومیة، وأخری وهی الأخطر التقلیل من أهمیته عن طریق عدم حصر الأفراد الذین یشیر إلیهم الحدیث بالخمسة من أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وإدخال غیرهم معهم وتوسعة دائرة المشمولین بلفظ (أهل البیت) الذین ورد ذکرهم فی هذا الأثر النبوی المبارک، فحاولوا تارة إدخال زوجات النبی صلی الله علیه وآله وسلم معهم(1)، وتارة بإدخال أقرباء النبی الأعظم


1- وقد لعبت عائشة بنت ابی بکر دورا مهمّاً فی محاولة التأکید علی کونها وبقیة الازواج من أهل البیت وآل النبی صلی الله علیه وآله وسلم، فقد اخرج مسلم فی صحیحه (ج 8 ص 218) هشام بن عروة عن أبیه عن عائشة قالت: (إن کنا آل محمد صلی الله علیه وسلم لنمکث شهرا ما نستوقد بنار ان هو الا التمر والماء)، وقد حاول عکرمة مولی ابن عباس الذی کان منحرفا عن اهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین والذی کان یری رأی الخوارج والذی اتهم بوضع الحدیث علی لسان ابن عباس مولاه تایید هذا القول والاتیان بحدیث کذب علی لسان ابن عباس یؤکد فیه أن قوله تعالی (إِنَّمَا یُرِیدُ اللَّهُ لِیُذْهِبَ عَنکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیرً) قد نزل فی زوجات النبی خاصة لا یشارکهن فیه احد غیرهن، وهو رأی شاذ لم یقل به الا هذا الکذاب الخارجی.

ص: 327

صلی الله علیه وآله وسلم کآل جعفر وآل عقیل وغیرهم(1)، ومرة ادخلوا سائر أمة محمد صلی الله علیه وآله وسلم(2)، ومنهم من ادخل فیهم کل تقی(3)، وقیل غیر ذلک، وأعجب


1- کما فعل مسلم النیسابوری فی صحیحه حیث اخرج حدیثا عن زید بن ارقم زعم فیه زید ان آل عقیل وآل جعفر وآل عباس من ضمن اهل البیت الذین یدخلون فی ضمن حدیث الثقلین، وهو تفسیر وتطبیق شخصیان من زید بن ارقم، لیس له شاهد روائی او قول نبوی الا ما زعمه من شمول هؤلاء بحدیث تحریم الصدقة علیهم، وهو قیاس باطل، لان لفظ اهل البیت استخدم فی القرآن والروایات علی أنحاء شتی، فقد استخدم فی آیة التطهیر واستخدم فی حدیث الثقلین واستخدم فی تحریم الصدقة واستخدم فی حدیث السفینة واستخدم فی عشرات الموارد الأخری، ولکن لا یلزم من ذلک ان یدخل آل عباس وآل جعفر وآل عقیل فی ذلک کله، فلکل مورد من تلک الموارد قرائن وشواهد تحدد المراد من أهل البیت علی نحو الدقة، فآیة التطهیر مثلا لا یوجد من قال بشمولها لآل جعفر وآل عقیل وآل عباس، ولو کان هؤلاء یدخلون فی کل مورد ذکر فیه لفظ أهل البیت لدخلوا فی الآیة من باب أولی، فیکون عدم دخولهم دلیلا علی ان للفظ أهل البیت مصادیق متعددة، فدخول آل جعفر وعقیل وعباس فی الحدیث وهم من زید بن أرقم وقیاس خاطئ منه.
2- کما اخرج البیهقی فی السنن الکبری (ج2 ص152) («أخبرنا» أبو سعید المالینی أنبأ أبو أحمد بن عدی ثنا محمد بن إبراهیم العقیلی ثنا أحمد بن الفرات ثنا أبو داود ثنا عبد الرحمن بن مهدی عن الحسن بن صالح عن عبد الله بن محمد بن عقیل عن جابر بن عبد الله قال آل محمد صلی الله علیه وسلم أمته)، أقول وعلی هذا الرأی السقیم یدخل سائر المنافقین والجهال وتارکی الصلاة والمتجاهرین بالفسق والعصیان وشاربی الخمر والزناة وغیرهم ممن لا یمکن احصاؤه من الفجار، لان جمیعهم من أمة محمد صلی الله علیه وآله وسلم، فیکون من یصلی علی محمد واهل بیت محمد فانه یصلی علی کل هؤلاء الفجار وهذه من المصائب العظیمة التی ما قیلت الا بسبب النصب والبغض لآل البیت علیهم السلام.
3- کما فی الکامل لعبد الله بن عدی ج 7 ص 41: (عن أنس قال سئل رسول الله صلی الله علیه وسلم عن آل محمد فقال آل محمد کل تقی).

ص: 328

الأقوال قول عمرو بن العاص __ ناصر کل فتنة وخاذل کل حق  __ حینما أخرج آل أبی طالب من أهل النبی وآله صلی الله علیه وآله وسلم بقوله: (سمعت رسول الله صلی الله علیه وسلم جهارا غیر سر یقول ألا إن آل أبی یعنی فلانا لیسوا لی بأولیاء إنما ولیی الله وصالح المؤمنین)(1)، وقد بین ابن حجر فی (مقدمة فتح الباری) المقصود من قول عمرو بن العاص  (ألا إن آل أبی یعنی فلانا) فقال: (حدیث عمرو بن العاص ألا إن آل أبی فلان لیسوا لی بأولیاء إنما ولیی الله وصالح المؤمنین قال أبو بکر بن العربی المراد آل أبی طالب)(2)، فبدأ القوم کما تری بإدخال غیر أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین معهم، وانتهوا بإخراج أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین أنفسهم وإبقاء الآخرین.

ولکن ربما ینقدح فی ذهن البعض إشکال سنبینه ونجیب عنه فی الفقرة القادمة ان شاء الله سبحانه.

إشکال: لماذا لم یبین النبی صلی الله علیه وآله وسلم المقصودین من أهل البیت لیقطع نزاع الأمة من بعده
اشارة

عرفنا فیما سبق کیف حاولت السلطة ورموزها وأتباعها ضرب حدیث الثقلین وتدمیره عن طریق توسیع المشمولین والداخلین تحت لفظ (أهل البیت) لیشتتوا بذلک انتباه الأمة ونظرها عن المقصودین بالأصل من کلام النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، والسؤال الذی یطرح نفسه هنا هو: ألم یکن من الضروری والواجب علی النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم حینما أوصی الأمة بالتمسک بکتاب الله وعترته أهل بیته، أن یبین لهم من هم هؤلاء الأهل والعترة؟ وألم یکن تبیانه وتوضیحه وتشخیصه لأفراد أهل البیت سیقطع الطریق أمام کل محاولات من یتصید بالماء العکر؟ لان النبی


1- صحیح مسلم ج 1 ص 136.
2- مقدمة فتح الباری لابن حجر ص 329.

ص: 329

الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم لو قال لامته (أوصیکم بکتاب الله وأهل بیتی الذین هم فلان وفلان) لقطع دابر فتنة کل باغٍ للفتنة، ولما استطاع احد إدخال زوجاته أو عشیرته أو أمته فی أهل البیت الذین تحدث عنهم حدیث الثقلین.

والجواب عن هذا الإشکال نستعرضه فی فقرات لیسهل علی القاریء الکریم فهمها واستیعابها، وهی کالتالی:

الجواب الأول: یجب الإیمان بان النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلملم یترک شیئا یهدی الأمة إلا وقد بینه

وردت آیات وأحادیث کثیرة دلت بما لا یقبل الشک أن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم لم یرحل عن الدنیا إلا بعد أن بین لامته کل ما من شأنه أن یقربهم من الجنة ویبعدهم عن النار، فمن الآیات التی صرحت أو لوحت بهذا المعنی قوله تعالی: ((وَأَنْزَلْنَا إِلَیْکَ الذِّکْرَ لِتُبَیِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَیْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ یَتَفَکَّرُونَ))(1).

وقوله سبحانه: ((وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَیْکَ الْکِتَابَ إِلَّا لِتُبَیِّنَ لَهُمُ الَّذِی اخْتَلَفُوا فِیهِ وَهُدًی وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ یُؤْمِنُونَ))(2).

وقوله سبحانه فی سورة المائدة: ((الْیَوْمَ أَکْمَلْتُ لَکُمْ دِینَکُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَیْکُمْ نِعْمَتِی وَرَضِیتُ لَکُمُ الْإِسْلَامَ دِینًا))(3).

ومن الأحادیث الدالة بصراحة علی هذا المعنی قوله صلی الله علیه وآله وسلم: (قد ترکتکم علی البیضاء لیلها کنهارها لا یزیغ عنها بعدی إلا هالک...)(4).


1- سورة النحل الآیة  44.
2- سورة النحل الآیة 64.
3- سورة المائدة الآیة رقم 3.
4- مسند احمد بن حنبل ج4 ص126.

ص: 330

وقوله صلی الله علیه وآله وسلم: (ما ترکت شیئا یقربکم من الجنة ویباعدکم عن النار إلا قد بینته لکم...)(1).

ویشهد لذلک قول عائشة لمسروق: (...أین أنت من ثلاث من حدثکهن فقد کذب...ومن حدثک انه کتم فقد کذب ثم قرأت یا أیها الرسول بلغ ما انزل إلیک من ربک الآیة)(2)

فیجب ووفقا لهذه الآیات الکریمة والأحادیث الشریفة أن یکون الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم قد بین لأمته من هم أهل البیت الذین قصدهم وعناهم فی حدیث الثقلین، لان فی تبیان أعیانهم وأشخاصهم مصلحة جمیع المسلمین إلی قیام یوم الدین، وفیه أیضا تقریب للأمة من الجنة وإبعادهم عن النار.

ثم کیف یأمر النبی صلی الله علیه وآله وسلم أن یتمسک بهم المتمسکون من دون معرفتهم علی نحو الدقة والتفصیل، وکیف یعقل أن یأمر النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم أمته بالتمسک بسائر أفراد أهل بیته وزوجاته وأصحابه وسائر أفراد أمته وفیهم العاصی والجاهل وغیر المتفقه وشارب الخمر والزانی ومرتکب الکبائر والآثام، وکیف یجعلهم عدل القرآن ومثله من حیث الهدایة ووجوب الاعتصام، فکل هذا لا یعقل أن یصدر من إنسان عادی، فکیف یعقل أن یغفل عنه النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم وهو احکم الحکماء وأعقل العقلاء.

إذن فجمیع هذه الأدلة والقرائن التی ذکرناها آنفا تؤکد حتمیة بیان النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم لأشخاص أهل البیت وأعیانهم وأفرادهم الذین عناهم وقصدهم حدیث الثقلین، واستحالة إهماله صلی الله علیه وآله وسلم هذا الأمر ، وهذا مما


1- المصنف لعبد الرزاق الصنعانی  ج 11 ص 125.
2- صحیح البخاری ج 6 ص50.

ص: 331

یجب علی المسلم الإیمان به والاعتقاد بمضمونه، سواء أوصل إلینا هذا البیان منه صلی الله علیه وآله وسلم أم لم یصل بسبب تلاعب السلطة ومنعها للحدیث الذی فیه إعلاء ذکر أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وحقوقهم.

الجواب الثانی: من قال ان النبی صلی الله علیه وآله وسلم لم یبین للأمة أسماء أهل البیت وأعیانهم؟
اشارة

النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم ونتیجة خبرته وتجربته وعلمه الربانی کان یعلم ان فی أمته صنفین من الناس لابد أن یحسب حسابهم بشکل جید:

 الصنف الأول: هو الصنف البسیط الفهم وهم یمثلون الأغلبیة من أفراد الأمة، فأغلب الناس فی کل زمان سواء أفی عصر النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم أم فی عصرنا الحالی بطیء الفهم، لا یستطیع استیعاب جمیع مقاصد الکلام فیما لو ألقیت إلیه الکلمات والجمل بشکل مجمل من دون إیضاح وتفصیل، ولیس له القدرة علی ربط الکلمات والمواقف بعضها ببعض والخروج منها بنتیجة صحیحة.

الصنف الثانی: هم المتصیدون والانتهازیون الذین یعلم النبی صلی الله علیه وآله وسلم بوجودهم فی صفوف أصحابه، وکذلک یعلم بمخططاتهم المستقبلیة، وکذلک یعلم بان فئة منهم ستستغل عنوان أهل البیت لمنافعها الشخصیة والسیاسیة.

فمن أجل هذین الصنفین کان علی النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم أن یحدد علی نحو الدقة من هم المقصودون ب_(أهل البیت)، وان لا یترک أمرهم ضبابیا من دون تحدید دقیق لأسمائهم وأوصافهم، بحیث لا تنطبق هذه الأوصاف علی غیرهم مطلقا، وهذا ما فعله النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم فی خطبته الأخیرة فی حجة الوداع، فقد فصل أمر أهل البیت وصرح بأسمائهم وأوصافهم، لیفهم بذلک عامة المسلمین، من الصنف الأول الذی تقدم ذکرهم، حتی تکون الحجة لله بالغة علیهم، ولیقطع الطریق أمام الصنف الثانی من المتصیدین فی الماء العکر ومن

ص: 332

الانتهازیین الذین سیحاولون استغلال عنوان أهل البیت لیدسوا فیه أنفسهم أو غیرهم عنوة.

وفیما یأتی جملة من النصوص والتفصیلات التی أوضح من خلالها النبی صلی الله علیه وآله وسلم تفاصیل الوصیة بأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وتعیینهم وتشخیصهم بما لا یقبل الشک:

أولا: وصیته صلی الله علیه وآله وسلم بالولایة لعلی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه فی غدیر خم نفسه

کثیرة هی المخططات التی حیکت ودبرت ضد حدیث الغدیر، وکان من امقتها مخطط تقطیع علماء الحدیث السنة لهذا الحدیث ولفقرات خطبة النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم فی غدیر خم، فقد مزقوا هذه الخطبة إلی أشلاء صغیرة وقطع متفرقة وزعوها فی ثنایا الکتب وطوایا المدونات، بحیث صار من الصعب علی غیر المتمرس الوصول إلیها ومعرفة الصورة والقصة بشکل کامل، بینما کان من المفترض علی علماء الأمة الإسلامیة جمعها فی مکان واحد، وان یتم تناولها ودراستها وشرحها والتعلیق علیها، لان لها من الأهمیة ما لیس لغیرها، بوصفها الخطبة التی ودع فیها النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم سائر أمته، من هم خارج المدینة ومن هم داخلها، وهی الخطبة التی أعلمهم صلی الله علیه وآله وسلم بان اجله قد حان واقترب، وان هذه آخر أیام سیعیشها بینهم، وان جمیع ما سیقوله بأمر الله سبحانه ووحیه، وانه سیترک لهم صمام أمان __ کتاب الله وعترته أهل بیته __ یحفظهم من الاختلاف والفرقة والتشتت والانحراف، وان الدین بهذا الشکل وبهذه الترکة والأمانة قد تم واکتمل، فکان حقیقا علی علماء أهل السنة وغیرهم من المحدثین ان یکتبوا هذه الخطبة ومفرداتها بماء الذهب، لا ان تطمس معالمها وتقطع أشلاؤها وتفرق کلماتها وتختصر وتشتت ألفاظها بین کتب الحدیث وفصوله، بحیث یصعب

ص: 333

أو یستحیل علی المسلم العادی أن یطلع علی فقرات الخطبة التی قالها نبیه صلی الله علیه وآله وسلم وکلماتها کافة، والتی لو عمل بها المسلمون واتبعوا القرآن وأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین لجمعت کلمتهم علی أمر واحد.

ولا اعتقد بان هنالک صعوبة فی فهم السبب الذی أدی بالقوم إلی إخفاء النص الکامل لخطبة النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم فی حجة الوداع یوم غدیر خم، لان النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم قد صرح بوصیته بالولایة من بعده لأمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه، واخبرهم بان علیا صلوات الله وسلامه علیه أولی بهم من أنفسهم، لأنه صلی الله علیه وآله وسلم مولی المؤمنین والمسلمین وأولی بهم من أنفسهم(1)، وقد جعل ولایة أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه کولایته بلا أدنی فرق.

وفیما یأتی جملة من النصوص التی صححها علماء أهل السنة ومحدثوهم والتی تنص علی ان النبی لم یکتفِ بالوصیة لأهل البیت فحسب بل أوضح أفرادهم وبیّن أشخاصهم المقدسة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین:

1: روی الهیثمی فی مجمع الزوائد عن: (أبی الطفیل قال جمع علی الناس فی الرحبة ثم قال لهم أنشد بالله کل امرئ مسلم سمع رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم یقول یوم غدیر خم ما قال لما قام، فقام إلیه ثلاثون من الناس، قال أبو نعیم فقام ناس کثیر فشهدوا حین أخذ بیده فقال أتعلمون أنی أولی بالمؤمنین من أنفسهم قالوا بلی یا رسول الله قال من کنت مولاه فهذا __ علی __ مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه قال فخرجت کأن فی نفسی شیئا فلقیت زید بن أرقم


1- إشارة إلی قوله تعالی فی سورة الأحزاب الآیة رقم 6 (النَّبِیُّ أَوْلَی بِالْمُؤْمِنِینَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَی بِبَعْضٍ فِی کِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ وَالْمُهَاجِرِینَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَی أَوْلِیَائِکُم مَّعْرُوفًا کَانَ ذَلِکَ فِی الْکِتَابِ مَسْطُورًا)

ص: 334

فقلت له إنی سمعت علیا یقول کذا وکذا قال فما تنکر قد سمعت رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم یقول ذلک. رواه أحمد ورجاله رجال الصحیح غیر فطر ابن خلیفة وهو ثقة)(1).

2: وروی الهیثمی أیضا: (وعن سعید بن وهب قال نشد علی علیه السلام الناس فقام خمسة أو ستة من أصحاب النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فشهدوا أن رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم قال من کنت مولاه فعلی مولاه. رواه أحمد ورجاله رجال الصحیح)(2)

3: وصحح الهیثمی أیضا حدیث: (عمرو بن ذی مر وسعید بن وهب وعن زید بن بثیع قالوا سمعنا علیا یقول نشدت الله رجلا سمع رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم یقول یوم غدیر خم لما قام فقام ثلاثة عشر رجلا فشهدوا أن رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم قال ألست أولی بالمؤمنین من أنفسهم قالوا بلی یا رسول الله قال فأخذ بید علی فقال من کنت مولاه فهذا مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وأحب من أحبه وأبغض من یبغضه وانصر من نصره واخذل من خذله. رواه البزار ورجاله رجال الصحیح غیر فطر بن خلیفة وهو ثقة)(3).

4: وصحح الهیثمی أیضا روایة: (سعد بن أبی وقاص ان رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم أخذ بید علی فقال ألست أولی بالمؤمنین من أنفسهم من کنت ولیه فعلی ولیه. رواه البزار ورجاله ثقات)(4).


1- مجمع الزوائد للهیثمی  ج 9 ص 104.
2- المصدر نفسه.
3- المصدر نفسه ج9 ص104 __ 105.
4- المصدر السابق ج9 ص107.

ص: 335

5: وقد أوضح ابن حجر فی (فتح الباری) کثرة طرق حدیث (من کنت مولاه فهذا علی مولاه) بقوله: (وأما حدیث من کنت مولاه فعلی مولاه فقد أخرجه الترمذی والنسائی وهو کثیر الطرق جدا وقد استوعبها ابن عقدة فی کتاب مفرد وکثیر من أسانیدها صحاح وحسان وقد روینا عن الإمام أحمد قال ما بلغنا عن أحد من الصحابة ما بلغنا عن علی بن أبی طالب)(1).

6: وقد اعترف الذهبی بکثرة طرق أسانیده بل بتواتر متنه فقال: (وأما حدیث الطیر فله طرق کثیرة جدا قد أفردتها بمصنف ومجموعها یوجب أن یکون الحدیث له أصل. وأما حدیث: من کنت مولاه. فله طرق جیدة وقد أفردت ذلک أیضا)(2).

7: وقال فی (سیر أعلام النبلاء): (...فدخل رجل من أهل العراق، فقال: أنشدک بالله إلا حدثتنی ما رأیت وما سمعت من رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فقال: کنا بالجحفة بغدیر خم، وثم ناس کثیر من جهینة ومزینة وغفار، فخرج علینا رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم من خباء أو فسطاط، فأشار بیده ثلاثا، فأخذ بید علی رضی الله عنه فقال: «من کنت مولاه فعلی مولاه». هذا حدیث حسن عال جدا، ومتنه فمتواتر)(3).

8: ووافقه العجلونی فی (کشف الخفاء) وصرح أیضا بتواتره أو شهرته علی اقل التقادیر فقال: (من کنت مولاه فعلی مولاه. رواه الطبرانی وأحمد والضیاء فی المختارة عن زید بن أرقم وعلی وثلاثین من الصحابة بلفظ اللهم وال من والاه


1- فتح الباری لابن حجر  ج 7  ص 61.
2- تذکرة الحفاظ للذهبی ج 3 ص 1042 __ 1043.
3- سیر أعلام النبلاء للذهبی  ج 8  ص 334 __ 335.

ص: 336

وعاد من عاداه، فالحدیث متواتر أو مشهور)(1).

وقد ظلم ابن حزم نفسه واتبع هواه وأعمته العصبیة بتکذیبه لحدیث (من کنت مولاه فهذا علی مولاه) حیث قال فی کتابه (الفصل فی الملل والأهواء والنحل): (وأما من کنت مولاه فعلی مولاه فلا یصح من طریق الثقات أصلا وأما سائر الأحادیث التی تتعلق بها الرافضة فموضوعة یعرف ذلک من له أدنی علم بالأخبار ونقلتها)(2).

وقد اتبع ابن تیمیة هوی ابن حزم وسار فی غیاهب غیه منکرا لحدیث (من کنت مولاه فهذا علی مولاه) بقوله: (وأما قوله من کنت مولاه فعلی مولاه فلیس هو فی الصحاح لکن هو مما رواه العلماء وتنازع الناس فی صحته فنقل عن البخاری وإبراهیم الحربی وطائفة من أهل العلم بالحدیث انهم طعنوا فیه...)(3).

أقول: والنصوص السابقة واعتراف اکبر علماء أهل السنة ومحققیهم بتواتر أو شهرة حدیث (من کنت مولاه فهذا علی مولاه) تکفی لرد ابن حزم وابن تیمیة وتکذیبهما، وهما اللذان انکشف نصبهما وعدم إنصافهما العلمی بتعمد تکذیبهما لفضائل أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه المتواترة لا غفر الله لهما ذلک، وعدم الإنصاف فی فضائل الإمام أمیر المؤمنین هو دیدن القوم ودینهم، ألا تری انهم لم یقبلوا من الحاکم النیسابوری حینما اخرج فی کتابه المستدرک بعض الأحادیث التی نطقت بفضائل الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه وصححها وبین انها علی شرط البخاری ومسلم ومع ذلک لم یخرجاها تعصبا منهما وکتما للحق، کحدیث


1- کشف الخفاء للعجلونی  ج 2  ص 274.
2- الفصل فی الملل والأهواء والنحل لعلی بن أحمد بن حزم الظاهری ج4 ص116.
3- منهاج السنة النبویة لابن تیمیة ج7 ص319.

ص: 337

(الطیر) وحدیث (من کنت مولاه فهذا علی مولاه) فأنکروا علیه ذلک ولم یقبلوا منه هذا الفعل، قال الذهبی: (جمع أبو عبد الله الحاکم أحادیث، وزعم أنها صحاح علی شرط البخاری ومسلم، منها حدیث الطیر، وحدیث: «من کنت مولاه فعلی مولاه» فأنکر علیه أصحاب الحدیث ذلک، ولم یلتفتوا إلی قوله)(1)، وعلیه فلا عجب من تعصب ابن حزم وابن تیمیة ونصبهما وتکذیبهما لحدیث من کنت مولاه، ولهما وقفة یوم القیامة أمام الله ونبیه صلی الله علیه وآله وسلم وولیهما الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه، لا غفر الله لهما ولا تجاوز عنهما هذا التکذیب.

فیثبت ونتیجة لتلک الأحادیث المتواترة ان النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم قد صرح باسم الإمام أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه بالولایة، فکیف یزعم البعض ان النبی صلی الله علیه وآله وسلم مات ولم یوص لأحد من بعده؟!.

ثانیا: وصیته صلی الله علیه وآله وسلم فی غدیر خم باثنی عشرة إماماً یأتون من بعده

ومن الحقائق التی حرص المحدثون من أهل السنة علی عدم کشفها وإدراجها فی ضمن حدیث الثقلین وخطبة غدیر خم، ان النبی الأعظم وبعد وصیته بالکتاب والعترة من أهل البیت وبعد أن رفع ید أمیر المؤمنین بالولایة، أوصی باثنی عشر خلیفة یأتون من بعده، وفیما یأتی جملة من النصوص الدالة علی وقوع ذلک منه صلی الله علیه وآله وسلم:

أخرج أحمد بن حنبل فی مسنده عن: (جابر بن سمرة السوائی قال سمعت رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم یقول فی حجة الوداع لا یزال هذا الدین ظاهرا علی من ناواه لا یضره مخالف ولا مفارق حتی یمضی من أمتی اثنا عشر أمیرا کلهم ثم خفی من قول رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم قال وکان أبی أقرب


1- سیر أعلام النبلاء للذهبی ج 17 ص 168.

ص: 338

إلی راحلة رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم منی فقلت یا أبتاه ما الذی خفی من قول رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم قال یقول کلهم من قریش)((1).

وروی مسلم فی صحیحه: (عن جابر بن سمرة قال: قال النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم لا یزال هذا الأمر عزیزا إلی اثنی عشر خلیفة قال ثم تکلم بشیء لم افهمه فقلت لأبی ما قال فقال کلهم من قریش)((2).

وروی الهیثمی: (عن أبی جحیفة قال کنت مع عمی عند النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم وهو یخطب فقال لا یزال أمر أمتی صالحا حتی یمضی إثنا عشر خلیفة وخفض بها صوته فقلت لعمی وکان أمامی ما قال یا عم قال کلهم من قریش. رواه الطبرانی فی الأوسط والکبیر والبزار ورجال الطبرانی رجال الصحیح)(3).

وفی سنن أبی داود: (عن جابر بن سمرة، قال: سمعت رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم یقول: لا یزال هذا الدین قائما حتی یکون علیکم اثنا عشر خلیفة کلهم تجتمع علیه الأمة فسمعت کلاما من النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم لم أفهمه، قلت لأبی: ما یقول؟ قال: کلهم من قریش)(4).

وفی روایة أخری عنه: (لا یزال هذا الدین عزیزا إلی إثنی عشر خلیفة...)(5).


1- ()مسند احمد ج 5 ص 87.
2- ()صحیح مسلم ج 6  ص 3.
3- مجمع الزوائد للهیثمی  ج 5 ص 190.
4- سنن أبی داود لابن الأشعث السجستانی  ج 2 ص 309.
5- المصدر نفسه.

ص: 339

فالنبی صلی الله علیه وآله وسلم ووفقاً لهذه الأحادیث وغیرها من الأحادیث السابقة أوصی لاثنی عشر خلیفة من بعده، ورفع ید أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه علی أساس انه أحد هؤلاء الاثنی عشر، وأعطاهم من الأوصاف والامتیازات ما لا ینطبق علی غیر أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب والأئمة من ولده صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، ولنا علی هذه الحقیقة أدلة عدة مستقاة من الأحادیث السابقة نفسها:

1: لا خلاف بین أحد من المسلمین وعلی اختلاف طوائفهم ومذاهبهم ان هؤلاء الإثنی عشر صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین هم من عترة النبی صلی الله علیه وآله وسلم ومن أهل بیته، فیکون دخولهم فی حدیث الوصیة بالثقلین یقینیا وقطعیا لا شک فیه، ویکون خروج غیرهم من عنوان العترة والأهل قطعیا ولا شک فیه أیضا، فأبو بکر وعمر ابن الخطاب وعثمان وغیرهم من أئمة بنی أمیة وبنی العباس لیسوا من أهل البیت ولا هم من العترة قطعا، فیکون خروجهم عن الوصیة مما لا شک فیه.

 ویتفرع من هذه المسألة عدة مسائل أخری منها، ان کلاً من أبی بکر وعمر وعثمان وغیرهم لا یشملهم عنوان الاثنی عشر خلیفة؛ لأنهم کما قلنا لیسوا من العترة ولا من أهل بیته صلی الله علیه وآله وسلم، وعلیه فالتمسک بهم لا یعد مشروعا ولا مبرئا للذمة، لان النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم لم یوص بالتمسک بهم، وأوصی بغیرهم.

ویتفرع علیه أیضا انهم لیسوا عدل القرآن، لوجود هوة عظیمة ومفارقات واضحة بین من تقدم ذکرهم وبین القرآن الکریم، والدلیل التاریخی یؤکد ویصحح هذه الحقیقة، فکم من حادثة وحکم عقائدی وشرعی قد خالفوا فیه آیات القرآن وسوره، وأمثلة ذلک کثیرة لا تخفی علی متتبع، فیکون خروجهم عن حدیث

ص: 340

الوصیة بالتمسک بالقرآن والعترة قطعیاً لا مریة فیه، ویکون دخول أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فیه قطعیاً لا یشک فیه إلا متعنت.

2: لا خلاف فی ان أئمة أهل البیت الاثنی عشر صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین قد تحقق فیهم قول النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم: (کلهم تجتمع علیه الأمة) فانک لا تجد الیوم ولا فی السابق من اجتمعت الأمة علی فضله وعلمه وتقواه وعبادته وفقهه وعلو مرتبته وارتفاع منزلته غیر هؤلاء الاثنی عشر خلیفة الذین تقول الشیعة بإمامتهم، وبعکسهم باقی الأمراء والحکام الذین اعتلوا کرسی الحکم بعد النبی صلی الله علیه وآله وسلم والی الیوم، فان الأمة لم تجتمع علی واحد منهم قطعا، وأقوال الأمة فیهم مختلفة ما بین مؤید ومعارض وما بین من یقول بإیمانهم وبین من ینکره، وعلیه فلا ینطبق قول النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم: (کلهم تجتمع علیه الأمة) إلا علی أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه وأولاده من بعده، أما غیرهم فبعیدون کل البعد عن حدیث الثقلین قلبا وقالبا.

وأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وان لم تنقَدْ لهم الأمة بالخلافة والحکم الظاهری إلا أنهم انقادوا لهم بالفضل وعلو الشأن والرفعة، وهو أمر یستغنی عن البرهان، وکلمات أعلامهم شاهدة علی هذه الحقیقة المشرقة.

ففی مورد الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه والحسنین صلوات الله وسلامه علیهما فالأمر واضح واعتراف القوم بفضلهم مشهور، وقد تقدم فی الفصل الأول مدح القوم للإمامین الباقر والصادق صلوات الله وسلامه علیهما، ومدحهم لباقی الأئمة أشهر من أن یستشهد له، فمن باب المثال لا الحصر فقد مدح الذهبی وغیره الإمام الکاظم بقوله: (موسی الکاظم الإمام، القدوة، السید أبو الحسن العلوی، والد الإمام علی بن موسی الرضا مدنی نزل بغداد...ذکره أبو حاتم فقال: ثقة صدوق، إمام

ص: 341

من أئمة المسلمین)(1).

وعن الإمام الرضا صلوات الله وسلامه علیه یقول ابن حبان: (علی بن موسی الرضا وهو علی بن موسی بن جعفر بن محمد بن علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب أبو الحسن من سادات أهل البیت وعقلائهم وجلة الهاشمیین ونبلائهم)(2).

وکذلک وردت مدائح فی بقیة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ولولا خوف الإطالة لأتینا علی آخرهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.

3: ورد فی حدیث الثقلین ان الدین الإسلامی سیبقی عزیزا منیعا علی أیدی هؤلاء الخلفاء الاثنی عشر، وهذا الوصف لم یتحقق فی إمارة الشیوخ الثلاثة ومن بعدهم من الأمویین والعباسیین، لأننا قد ذکرنا فی فقرة سابقة من فقرات هذا البحث ان الدین الإسلامی قد غیر، وان أحکامه قد بدلت، ولم یبق منه إلا القشر، وان أحکاما وسننا جدیدة قد حلت مکان أحکامه وسننه الحقیقیة(3)، مما یعنی ان الإسلام وأحکامه وسننه لم تکن عزیزة ظاهرة فی زمن هؤلاء الأمراء، وان غیرهم هو المقصودون من قول النبی الاعظم صلی الله علیه وآله وسلم (لا یزال هذا الدین عزیزا إلی إثنی عشر خلیفة...)(4).

ولیس هذا الغیر إلا أئمة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، لأننا قد بینا سابقا ان النبی صلی الله علیه وآله وسلم قد أودع عندهم أحکام الدین وسننه حتی ارش الخدش، وکل ما یحتاجه الناس والی یوم القیامة، مما یعنی ان الدین الحق عندهم، وان


1- سیر أعلام النبلاء للذهبی  ج 6 ص 270
2- الثقات لابن حبان  ج 8 ص 456.
3- راجع الفصل الأول من هذا الکتاب.
4- المصدر نفسه.

ص: 342

أحکامه التی انزلها الله سبحانه وتعالی علی نبیه صلی الله علیه وآله وسلم محفوظة لدیهم، فهم أمناء الله والرسول علی حلال الله وحرامه، وعلی شرائع الله وأحکامه، وان عزة الدین وشوکة الإسلام مرهونة بوجودهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، فینطبق علیهم قوله صلی الله علیه وآله وسلم فی حدیث الثقلین: (لا یزال هذا الدین ظاهرا علی من ناواه لا یضره مخالف ولا مفارق حتی یمضی من أمتی اثنا عشر أمیرا...).

4: ورد فی بعض النصوص ان هؤلاء الخلفاء الإثنی عشر (لا تضرهم عداوة من عاداهم) ولا ینطبق هذا القید علی غیر أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین لان غیرهم من الأمراء الذین ارتقوا منصة الحکم بعد النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم کلهم قد تمت معارضتهم، وتمت معاداتهم، وکان لهذه العداوة والمعارضة وجه مقبول ومعتد به، فالشیخان قد تم معارضتهما من عدة من الصحابة مشهود لهم بالفضل والسابقة والإیمان من أمثال سعد بن عبادة الأنصاری الذی لم یبایع کلاً من ابی بکر وعمر بن الخطاب، وعارضه من هو أعظم من سعد بن عبادة الأنصاری فضلا وإیمانا فقد عارضهما الإمام أمیر المؤمنین صلی الله علیه وآله وسلم ومن یدور الحق معه أینما دار، وعارضتهما السیدة فاطمة بنت محمد صلوات الله وسلامه علیها التی یرضی الله لرضاها ویغضب لغضبها، وعارضهما أتباع الإمام أمیر المؤمنین ومؤیدوه من أمثال عمار بن یاسر وأبی ذر الغفاری وغیرهما کثیر، ومعارضة مثل هؤلاء الصحابة یعتد بها وینظر فیها وتضر کل من وقعت علیه.

والأمر فی عثمان بن عفان أوضح وأجلی فقد اجتمع الصحابة صغیرهم وکبیرهم علی معارضته وعداوته حتی انتهی الامر بالصحابة ان قتلوه فی داره بعد احداث یطول الوقوف عندها، ومثل هذه المعارضة والعداوة ضارة حتما فلا یکون مشمولا بحدیث الاثنی عشر خلیفة قطعا.

ص: 343

والأمر فی خلفاء بنی أمیة وبنی العباس أوضح وأوضح، فمعاویة ویزید قد خالفهما إمام زمانهما الإمام أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلی الله علیه وآله وسلم وآلاف الصحابة والتابعین، حتی حوربوا علی رد أمرهم وکف شرهم، وعاداهما سیدا شباب أهل الجنة وریحانتا النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، وعاداهما أهل المدینة وأهل العراق وأهل مکة وغیرها من البلاد الإسلامیة، حتی ما انتهی توطیدهم للملک إلا بوقعة الطف الألیمة التی قتل فیها آل الرسول وریاحینه، ووقعة الحرة التی قتل فیها کثیر من الصحابة وذراریهم، واستبیحت فیها مدینة الرسول أیاما عدیدة، وبعدها بزمن لیس بالطویل رمیت الکعبة بالمنجنیق وأحرقت، فمعارضة مثل هذه لا یخفی خطرها وتکون ضارة بهؤلاء الحکام قطعا فلا یشملون بالقید السابق یقینا.

أما أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فینطبق علیهم القید بلا أدنی شک أو شبهة، فهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وان عادتهم جماعات وطوائف ومذاهب کثیرة إلا أنهم وکما قال النبی (لا تضرهم عداوة من عاداهم) وذلک لقیام الدلیل الشرعی علی انهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین لا یعادیهم معادٍ إلا ویکون مطعونا فی دینه ومتهماً فی إیمانه، فقد عهد النبی الأمی إلیهم أن لا یحبهم إلا مؤمن ولا یبغضهم إلا منافق أو مطعون فی نسبه.

وقد اثبت الاستقراء التاریخی صحة هذا العهد النبوی، فخذ أی فئة أعلنت بالعداوة أو الحرب لهم فانک ستجدها خارجة عن صراط الإسلام ونهجه وبلا أدنی إشکال، فالخوارج مثلا وان عادوهم إلا أن عداوتهم غیر ضارة بهم البتة، لان النبی صلی الله علیه وآله وسلم قد حکم علیهم بالمروق من الدین والخروج من صف المؤمنین.

وکذلک أصحاب الجمل وصفین وغیرهم من الذین سبقوهم والذین لحقوا

ص: 344

بهم والی یوم الناس هذا فانهم وان نصبوا العداء والحرب ضد أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین الا ان عداوتهم لم تضر اهل البیت شیئا، لوجود النص النبوی الذی حکم علی اهل الجمل بالناکثین وعلی اهل صفین بالقاسطین وعلی غیرهم ممن جاء بعدهم بالنواصب، والناکث والقاسط والناصبی لا تضر عداوته لاهل الایمان والتقی ما دام الحق معهم وفیهم ومنهم.

ومن هذا الاستقراء التاریخی نستکشف ان عداوة من یعادی الأئمة من أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ومهما بلغت مرتبته الدینیة او الاجتماعیة أو العلمیة لا تضرهم قید أنملة، وان من یتضرر هو معادیهم ومخالفهم ومحاربهم بالقول والفعل، فیکونون هم المقصودین بقول النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم: (لا تضرهم عداوة من عاداهم).

وقد ظلم من حاول جر حدیث الثقلین وحدیث الاثنی عشر خلیفة علی غیر أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین من محدثی أهل السنة ورواتهم عن طریق التمسک ببعض الروایات المکذوبة التی تفوح منها رائحة الوضع والافتراء.

ولیت ظلمهم قد توقف عند هذا الحد ولم یتعد الی تصحیحهم لتلک الاحادیث مع وضوح بطلانها وفساد إسنادها ومتنها، إذ ازدادوا ظلما حین ادخلوا فیها الطغاة مثل معاویة بن ابی سفیان وابنه یزید لعنهما الله وبعض طغاة بنی العباس وأرجاسهم، ثم لم یکتفوا بکل هذا الظلم حتی تمادوا فی غیهم فلم یدرجوا اسم أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه فی هذه الأخبار ولم یعدّوه من هؤلاء الخلفاء الاثنی عشر، وهذا هو الأفضل باعتقادی، فلیس من حق أمیر المؤمنین ومنزلته العالیة الرفیعة أن یوضع فی أحادیث مکذوبة کهذه.

ص: 345

وهذا الحدیث المکذوب قد اخرجوه تارة تاما واخری ناقصا مبتورا کی لا یکشف کذبهم ونصبهم، فقد أخرجه المتقی الهندی فی (کنز العمال) عن (عبد الله ابن عمرو قال: یکون علی هذه الأمة اثنا عشر خلیفة: أبو بکر الصدیق، أصبتم اسمه، عمر الفاروق، قرن من حدید، أصبتم اسمه، عثمان بن عفان ذو النورین، قتل مظلوما، أوتی کفلین من الرحمة، ملک الأرض المقدسة معاویة وابنه، ثم یکون السفاح ومنصور وجابر والأمین وسلام وأمیر العصب لا یری مثله ولا یدری مثله...)(1).

وروی ابن عساکر: (عن عبد الله بن عمرو قال إنی لأجدهم مکتوبین فی کتاب الله اثنی عشر أمیرا یملکون الناس منهم أبو بکر الصدیق أصبتم اسمه وعمر الفاروق قرن من حدید أصبتم اسمه ومنهم عثمان بن عفان ذو النورین أوتی کفلین من الرحمة قتل مظلوما ومنهم ملکا الشام قلنا ومن هم قال معاویة وابنه ولم یذکر منهما خیرا ولا شرا ومنصور وجابر والمهدی وأمیر العصب والسفاح وسیاح وسلام وفلان القحطانی سبعة کلهم صالح لا یری مثله قلت لهشام هل أدرکت منهم أحدا قال لا إلا عمر بن عبد العزیز)(2).

وقد بتره الهیثمی فی (مجمع الزوائد) ولم یکمل جمیع فقراته لکنه صححه مع ذلک بقوله: (رواه الطبرانی بإسنادین ورجال أحدهما رجال الصحیح غیر عقبة ابن أوس وهو ثقة)(3).

وکذل فعل الألبانی فی (ظلال الجنة فی تخریج "السنة" لابن أبی عاصم) حیث


1- کنز العمال للمتقی الهندی ج 11 ص 252.
2- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج85 ص408.
3- مجمع الزوائد للهیثمی  ج 9 ص 89.

ص: 346

وصف الحدیث بعبارة (صحیح)(1).

أقول: ولیست هذه بأول مطرقة من مطارق علماء أهل السنة ومحدثیها تضرب بها فضائل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین محاولة منهم لتحطیمها وتشویهها وتحریفها عن مواضعها وقواعدها التی أرسیت لأجلها.

الجواب الثالث: إن عدم ذکر الأسماء علی التفصیل یعود إلی وضوح مصادیق أهل البیت عند الأمة

ولو أصر بعض المعاندین والمجادلین علی عدم وجود دلیل یذکر أسماء أهل البیت المقصودین من حدیث الثقلین، لامکن الجواب بان عدم الذکر والتعیین لأسماء أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وأشخاصهم لو صح فان سببه یعود إلی علم الأمة وأفرادها من الصحابة ودرایتهم بأسماء أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وأشخاصهم علی نحو الدقة والتفصیل، فیکون کلام النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم عن أهل البیت هو کلاماً واضحاً ومفهوماً لا یحتاج إلی بیان زائد، وان الصحابة بأجمعهم قد فهموا من هم وما أعیانهم وما هی أوصافهم علی نحو الدقة، لذلک لم یحتج النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم إلی الإطالة بذکر أسمائهم مثلما لم یحتج إلی الإطالة بتبیان مقصوده من الکتاب الذی أمر الأمة بالتمسک به، لان جمیع المسلمین فهموا منه القرآن الکریم.

ویدل علی وضوح أسماء أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وأشخاصهم الذین تکلم عنهم حدیث الثقلین عند الصحابة المعاصرین للنبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، أن الصحابة لم یسألوا النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم عنهم حینما اخبرهم وأمرهم بالتمسک بالقرآن وبأهل بیته، ولو لم یکونوا علی علم بهم وإحاطة بأسمائهم للزم


1- ظلال الجنة فی تخریج "السنة" لابن أبی عاصم تألیف محمد ناصر الدین الألبانی، الناشر: المکتب الإسلامی – الطبعة: الأولی لسنة 1400للهجرة.

ص: 347

علیهم سؤاله صلی الله علیه وآله وسلم عنهم، لان ذلک هو المفترض علیهم فعله.

ولو لم یعرفهم الصحابة، وکذلک لم یسألوا النبی صلی الله علیه وآله وسلم عنهم لیعرفهم بهم، لوقعوا فی تقصیر عظیم، وإهمال واضح، وتضییع لأمر ألزمهم النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم بالتمسک به، فلکی لا یتسبب أهل السنة بنسبة التقصیر والتهاون إلی الصحابة یتوجب علیهم القول بان النبی صلی الله علیه وآله وسلم حینما لم یصرح بأسماء أهل البیت وأوصافهم الذین ورد ذکرهم فی حدیث الغدیر فانه اعتمد علی ذلک الارتکاز البدیهی الذی کان فی عقل الأمة، والتی کانت تعلم یقینا من الذین یعنیهم ویشملهم قوله صلی الله علیه وآله وسلم ووصفه بأنهم أهل بیته(1).


1- اقول لقد نص النبی الاعظم صلی الله علیه وآله وسلم فی أکثر من موضع وحادثة، علی ان اهل بیته هم کل من (علی وفاطمة والحسن والحسین) صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، ونحن نختار للقارئ الکریم جملة من تلک المواضع التی اعترف القوم بصحة صدورها عن النبی الاعظم صلی الله علیه وآله وسلم: فمنها ما اخرجه مسلم فی صحیحه (ج 7 ص 120 __ 121) (عن عامر بن سعد بن أبی وقاص عن أبیه قال أمر معاویة بن أبی سفیان سعدا فقال ما منعک أن تسب أبا التراب فقال أما ما ذکرت ثلاثا قالهن له رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فلن أسبه لان تکون لی واحدة منهن أحب إلی من حمر النعم سمعت رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم یقول له خلفه فی بعض مغازیه فقال له علی یا رسول الله خلفتنی مع النساء والصبیان فقال له رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم أما ترضی أن تکون منی بمنزلة هارون من موسی إلا انه لا نبوة بعدی وسمعته یقول یوم خیبر لأعطین الرایة رجلا یحب الله ورسوله ویحبه الله ورسوله قال فتطاولنا لها فقال ادعوا لی علیا فأتی به أرمد فبصق فی عینه ودفع الرایة إلیه ففتح الله علیه ولما نزلت هذه الآیة فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءکم دعا رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم علیا وفاطمة وحسنا وحسینا فقال اللهم هؤلاء أهلی) وقد روی احمد بن حنبل هذا الحدیث فی مسنده (ج1 ص185)، وکذلک رواه الترمذی فی سننه (ج5 ص302) وعلق علیه بقوله: (هذا حدیث حسن غریب صحیح من هذا الوجه)، صححه الشیخ الألبانی فی کتابه (صحیح وضعیف سنن الترمذی ج8 ص224 رقم 3724). ومنها ما رواه الترمذی وابن حجر وصححاه، قال الترمذی فی سننه (ج5 ص360 __ 361) (عن شهر بن حوشب عن أم سلمة " أن النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم جلل علی الحسن والحسین وعلی وفاطمة کساء ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بیتی وحامتی; أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهیرا. فقالت أم سلمة: وأنا معهم یا رسول الله؟ قال، إنک علی خیر) ثم علق علیه الترمذی بقوله: (هذا حدیث حسن صحیح. وهو أحسن شیء روی فی هذا الباب. وفی الباب عن أنس وعمر بن أبی سلمة وأبی الحمراء). وقد صحح هذا الحدیث ابن حجر الهیتمی فی (الصواعق المحرقة ج2 ص422) بقوله: (وصح أنه جعل علی هؤلاء کساء وقال اللهم هؤلاء أهل بیتی وحامتی أی خاصتی أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهیرا فقالت أم سلمة وأنا معهم قال إنک علی خیر). ومنها: ما رواه الحاکم فی کتابه المستدرک وصححه، ففی (ج 2 ص 416) (...عن عطاء بن یسار عن أم سلمة رضی الله عنها انها قالت فی بیتی نزلت هذه الآیة إنما یرید الله لیذهب عنکم الرجس أهل البیت قالت فأرسل رسول الله صلی الله علیه وآله إلی علی وفاطمة والحسن والحسین رضوان الله علیهم أجمعین فقال اللهم هؤلاء أهل بیتی قالت أم سلمة یا رسول الله ما انا من أهل البیت قال إنک أهلی خیر وهؤلاء أهل بیتی اللهم أهلی أحق هذا حدیث صحیح علی شرط البخاری ولم یخرجاه). وفی نفس المصدر ایضا عن: (واثلة بن الأسقع رضی الله عنه قال جئت أرید علیا رضی الله عنه فلم أجده فقالت فاطمة رضی الله عنها انطلق إلی رسول الله صلی الله علیه وآله یدعوه فاجلس فجاء مع رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فدخل ودخلت معهما قال فدعا رسول الله صلی الله علیه وآله حسنا وحسینا فاجلس کل واحد منهما علی فخذه وأدنی فاطمة من حجره وزوجها ثم لف علیهم ثوبه وأنا شاهد فقال إنما یرید الله لیذهب عنکم الرجس أهل البیت ویطهرکم تطهیرا اللهم هؤلاء أهل بیتی هذا حدیث صحیح علی شرط مسلم ولم یخرجاه). وفی (ج 3  ص 146 __ 147) من مستدرک الحاکم عن: (عطاء بن یسار عن أم سلمة قالت فی بیتی نزلت إنما یرید الله لیذهب عنکم الرجس أهل البیت قالت فأرسل رسول الله صلی الله علیه وآله إلی علی وفاطمة والحسن والحسین فقال هؤلاء أهل بیتی * هذا حدیث صحیح علی شرط البخاری ولم یخرجاه). وفی (ج 3 ص150) من المستدرک ایضا: (عن بکیر بن مسمار عن عامر بن سعد عن أبیه قال لما نزلت هذه الآیة ندع أبناءنا وأبناءکم ونساءنا ونساءکم وأنفسنا وأنفسکم دعا رسول الله صلی الله علیه وآله علیا وفاطمة وحسنا وحسینا رضی الله عنهم فقال اللهم هؤلاء أهلی * هذا حدیث صحیح علی شرط الشیخین ولم یخرجاه). ومنها ما جاء فی کتاب (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهیثمی ج 9 ص 166 __ 167) حیث قال: (وعن أم سلمة قالت جاءت فاطمة بنت النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم إلی رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم متورکة الحسن والحسین فی یدها برمة للحسن فیها سخین حتی أتت بها النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فلما وضعتها قدامه قال أین أبو حسن قالت فی البیت فدعاه فجلس النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم وعلی وفاطمة والحسن والحسین یأکلون قالت أم سلمة وما سامنی النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم وما أکل طعاما وأنا عنده إلا سامنیه قبل ذلک الیوم تعنی سامنی دعانی إلیه فلما فرغ التف علیهم بثوبه ثم قال اللهم عاد من عاداهم ووال من والاهم. رواه أبو یعلی وإسناده جید). وقال الهیثمی ایضا (المصدر السابق ص167) (وعن أبی سعید قال: قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم نزلت هذه الآیة فی خمسة (إنَما یُریِدُ اللهَ لِیُذهِبَ عَنکُمُ الرِّجسَ اَهلَ البَیتِ وَ یُطَهِّرَکُم تَطهیِراً) فی وفی علی وفاطمة وحسن وحسین. رواه البزار وفیه بکیر بن یحیی بن زبان وهو ضعیف). أقول: وقول الهیثمی ان (بکیر بن یحیی بن زبان وهو ضعیف) فیه کثیر من التجنی وفیه إخفاء لأقوال کثیر ممن وثقه، وهو مذهب معروف ومتداول بین أصحاب الحدیث، فحینما لا یعجب احدهم حدیثا ما، أو یأتی علی غیر هواه یرمی رجاله بالضعف فیذکر کلام الجارحین ویتغافل عن کلام الموثقین، و(بکیر بن یحیی بن زبان) وثقه کل من أبی حاتم حیث وصفه بالشیخ، وکذلک وثقه ابن حبان حیث أورد اسمه فی کتاب الثقات، قال المزی فی: (تهذیب الکمال ج 4 ص 231 __ 232) (بکر بن یحیی بن زیان العبدی. ویقال: العنزی، ویقال: العمری، أبو علی البصری... قال أبو حاتم: شیخ. وذکره أبو حاتم بن حبان فی کتاب الثقات). وقال ابن حجر فی (تقریب التهذیب ج 1 ص 136) (بکر بن یحیی بن زبان بزای مفتوحة وموحدة ثقیلة عبدی ویقال عنزی بنون وزای ویقال عمری بصری یکنی أبا علی مقبول من التاسعة) فتضعیف الهیثمی له فیه حیف وظلم واضح، ومع توثیق من سبق من أهل الجرح والتعدیل یثبت حدیث بکر بن یحیی بن زبان ویتحدد نزول آیة التطهیر بخمسة أشخاص ذکرتهم الروایة. وروی الهیثمی أیضا (مجمع الزوائد ج 9  ص 169) (وعن علی أنه دخل علی النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم وقد بسط شملة فجلس علیها هو وعلی وفاطمة والحسن والحسین ثم أخذ النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم بمجامعه فعقد علیهم ثم قال اللهم ارض عنهم کما أنا عنهم راض. رواه الطبرانی فی الأوسط ورجاله رجال الصحیح غیر عبید بن طفیل وهو ثقة کنیته أبو سیدان). ومنها قول المبارکفوری فی (تحفة الأحوذی ج 8  ص 278) عند تفسیره لآیة المباهلة: (فمن حاجک فیه أی فمن جادلک فی عیسی وقیل فی الحق من بعد ما جاءک من العلم یعنی بأن عیسی عبد الله ورسوله فقل تعالوا أی هلموا ندع أبناءنا وأبناءکم أی یدع کل منا ومنکم أبناءه ونساءنا ونساءکم وأنفسنا وأنفسکم ثم نبتهل أی نتضرع فی الدعاء فنجعل لعنة الله علی الکاذبین بأن تقول اللهم العن الکاذب فی شأن عیسی «دعا رسول الله علیا» فنزله منزلة نفسه لما بینهما من القرابة والأخوة «وفاطمة» أی لأنها أخص النساء من أقاربه «وحسنا وحسینا» فنزلهما بمنزلة ابنیه «فقال اللهم هؤلاء أهلی»). ومنها قول الماردینی فی (الجوهر النقی ج 1  ص 66) ردا علی من ضعف بعض طرق حدیث الثقلین: (وأخرج الترمذی حدیثه عن ابن سلمة ان النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم جلل الحسن والحسین وعلیا وفاطمة رضی الله عنهم کساء ثم قال اللهم هؤلاء أهل بیتی الحدیث ثم قال الترمذی حسن صحیح وقال ابن القطان لم اسمع لمضعفیه حجة وما ذکره أما لا یصح وأما خارج علی مخرج لا یضره...). فیتبین من کل النصوص السابقة ان النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم قد بین لأمته وفی مواقف عدیدة ومناسبات مختلفة کثیرة مصادیق أهل البیت وأشخاصهم الذین جاء ذکرهم فی حدیث الثقلین، وان المسلمین کانوا علی درایة تامة بالذین یشملهم عنوان أهل البیت ولفظه، لذلک لم یسالوا النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم فی وقتها عن مقصوده من أهل بیته صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.

ص: 348

ص: 349

ص: 350

وعلیه یصبح عدم ذکره صلی الله علیه وآله وسلم لأسماء أهل البیت وأوصافهم لیس جائزا وحسب بل هو واجب أیضا، لأنه صلی الله علیه وآله وسلم إن بین أسماءهم وأعیانهم فانه یکون قد بین أمرا واضحا بدیهیا والعقلاء والبلغاء لا یبینون فی أحادیثهم وخطبهم ما یکون بدیهیا عند السامع والمتلقی، لأنهم یعدّون ذلک من أقسام اللغو ومصادیقه.

ص: 351

وبهذا ینتهی الکلام عن المحاولة الثالثة من محاولات محدثی اهل السنة للقضاء علی حدیث الثقلین وتحطیمه.

4: محاولاتهم استبدال حدیث کتاب الله وعترتی بکتاب الله وسنتی
اشارة

لقد کان وما یزال حدیث الوصیة بکتاب الله سبحانه وبأهل بیت النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم غصة فی حلق طائفة من أهل الحدیث، لم یستسیغوها فحاولوا الخلاص منها بشتی الطرق، فلما أعیاهم الطلب، وأتعبهم حدیث الثقلین وما انطوی علیه من الولایة الصریحة لعلی ولأهل بیته صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، عمدوا إلی حدیث قد ثبت بالدلیل ضعفه وکذبه، فاعتمدوه وصححوه تجنیا وزورا لیقابلوا به حدیث الثقلین المتواتر، وهذا الحدیث هو ما یعرف بحدیث (کتاب الله وسنتی) والذی أخرجه مالک بن انس فی کتابه (الموطأ) حیث قال: (وحدثنی عن مالک انه بلغه ان رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم قال: ترکت فیکم أمرین لن تضلوا ما تمسکتم بهما کتاب الله وسنة نبیه)(1).

أقول: وهذا الحدیث لا ینفع لمعارضة حدیث الثقلین المتواتر، لضعف جمیع طرقه، فطریق مالک بن انس السابق مقطوع من حیث السند، لانه من بلاغات مالک بن انس فی الموطأ حیث لم یبین مالک بن انس کیف وعن أی طریق قد بلغه قول النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، وما لم یعرف الطریق والسند لا یمکن القول بصحته لاحتمال ان مالک بن انس قد بلغه ذلک عن ضعیف أو کذاب أو مدلس، وبالجملة لا یمکن اعتماد حدیث مالک وبلاغه لانه مقطوع، والمقطوع داخل فی قسم الضعیف الذی لا یحتج به.


1- الموطأ لمالک بن انس روایة یحیی بن یحیی اللیثی الأندلسی ج2 ص480، حدیث رقم: 2618، حققه وخرج أحادیثه وعلق علیه الدکتور بشار عواد معروف، طبعة دار العرب الإسلامی.

ص: 352

محاولة ابن عبد البر الاعتذار عن اخراج مالک بن انس للحدیث مقطوعا

وقد حاول ابن عبد البر جاهدا الاعتذار عن إیراد مالک بن انس لهذا الحدیث مقطوعا بقوله:: (وهذا أیضا محفوظ معروف مشهور عن النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم عند أهل العلم شهرة یکاد یستغنی بها عن الإسناد)(1).

أقول: فلینظر القارئ الکریم کیف یکیل القوم بمکیالین، فقد رأینا سابقا کیف وقف علماء أهل السنة ومحدثوهم بوجه حدیث الثقلین؛ لأنه لا ینسجم مع منظومتهم الفکریة ومتبنیاتهم العقائدیة، وکیف هم الآن یدافعون عن حدیث مرسل ضعیف لمجرد أن لهم فیه هوی، أو أن لهم فیه مآرب أخری، فکیف أصبح یا تری الحدیث الضعیف المرسل محفوظا معروفا مشهورا شهرة یستغنی بها عن الإسناد، لله درک یا ابن عبد البر! ما أعظم إنصافک! فأین هذه الشهرة وأین مصادیقها، وإذا کان هذا الحدیث محفوظا معروفا عن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم فکیف لم یقف علیه مالک بن انس ولماذا اضطر مالک إلی إرساله بعد أن لم یستطع وصله؟ أو انه تعمد إرساله لیخفی ضعف رجاله کما سنقف عنده فی النقطة اللاحقة ان شاء الله تعالی.

محاولة ابن عبد البر اسناد الحدیث وفشله فی ذلک

وقد حاول ابن عبد البر جاهدا أن یصل ما قطعه مالک فلم یفلح، فحاول إخراج الحدیث بطریقین وحکم علیهما بالصحة، فقال فی ذکر الطریق الأول: (وروی فی ذلک من أخبار الآحاد أحادیث من أحادیث أبی هریرة وعمرو بن عوف حدثنا عبد الرحمن بن مروان قال حدثنا أحمد بن سلیمان البغدادی قال حدثنا البغوی قال حدثنا داود بن عمرو الضبی قال حدثنا صالح بن موسی الطلحی قال


1- التمهید لابن عبد البر  ج 24 ص 331.

ص: 353

حدثنا عبد العزیز بن رفیع عن أبی صالح عن أبی هریرة قال: قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم إنی قد خلفت فیکم اثنتین لن تضلوا بعدهما أبدا کتاب الله وسنتی)(1).

ثم ذکر الطریق الثانی بقوله: (وحدثنا عبد الرحمن بن یحیی قال حدثنا أحمد بن سعید قال حدثنا محمد بن إبراهیم الدیبلی قال حدثنا علی بن زید الفرائضی قال حدثنا الحنینی عن کثیر بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبیه عن جده قال: قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم ترکت فیکم أمرین لن تضلوا ما تمسکتم بهما کتاب الله وسنة نبیه صلی الله علیه __ وآله __ وسلم)(2).

أقول: لا حجة فی کلا الطریقین اللذین استشهد بهما ابن عبد البر لضعفهما، فالطریق الأول فیه (صالح بن موسی الطلحی) وهو: (صالح بن موسی بن إسحاق ابن طلحة بن عبید الله الطلحی التیمی، الکوفی) من الطبقة الوسطی من أتباع التابعین روی عنه الترمذی وابن ماجة وهو متروک واه، قال عنه ابن معین: (لیس حدیثه بشیء)(3).

وقد ذکره النسائی فی (کتاب الضعفاء والمتروکین) بقوله: (صالح بن موسی الطلحی متروک الحدیث)(4).

وکذلک ذکره الرازی فی (الجرح والتعدیل) عن: (عبد الرحمن قال سألت أبی عن صالح بن موسی الطلحی فقال: ضعیف الحدیث، منکر الحدیث جدا کثیر


1- التمهید لابن عبد البر  ج 24 ص 331.
2- المصدر نفسه.
3- تاریخ ابن معین بروایة الدوری ج 1 ص 166.
4- کتاب الضعفاء والمتروکین للنسائی  ص 194.

ص: 354

المناکیر عن الثقات. قلت یکتب حدیثه؟ قال: لیس یعجبنی حدیثه)(1).

وقال السمعانی: (کان یروی عن الثقات ما لا یشبه حدیث الأثبات حتی یشهد المستمع لها أنها معمولة أو مقلوبة، لا یجوز الاحتجاج به)(2).

وقال الهیثمی فی مجمع الزوائد: (صالح بن موسی الطلحی وهو ضعیف ضعفه الأئمة)(3).

وأما الطریق الثانی ففیه (کثیر بن عبد الله بن عمرو بن عوف) روی عنه البخاری وابو داود والترمذی وابن ماجه، وهو ضعیف متروک کذاب، قال عنه یحیی بن معین: (کثیر بن عبد الله بن عمرو بن عوف لیس هو بشیء)(4).

وقال عبد الله بن احمد بن حنبل: (وضرب أبی علی حدیث کثیر بن عبد الله بن عمرو بن عوف ولم یحدثنا بها فی المسند)(5)، وفی مسند احمد المطبوع والمتوفر فی الأسواق وفی المکتبات العامة یوجد حدیث لکثیر بن عبد الله(6)، وهو تحریف واضح لکتاب المسند یضاف الی ما سبق الکلام عنه فی فصل سابق.

وقال النسائی: (کثیر بن عبد الله بن عمرو بن عوف متروک الحدیث)(7).

وقال ابن الجوزی: (کثیر بن عبد الله وهو کثیر بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزنی. قال أحمد بن حنبل: لا یحدث عنه، وقال مرة: لا یساوی شیئا،


1- الجرح والتعدیل للرازی  ج 4 ص 415.
2- الأنساب للسمعانی  ج 4  ص 70.
3- مجمع الزوائد للهیثمی  ج 2 ص 297.
4- تاریخ ابن معین بروایة الدوری ج 1  ص 171.
5- العلل لأحمد بن حنبل  ج 3 ص 213.
6- مسند احمد بن حنبل ج 1 ص 306.
7- کتاب الضعفاء والمتروکین للنسائی ص 228.

ص: 355

وقال یحیی بن معین: حدیثه لیس بشیء لا یکتب. وقال النسائی والدارقطنی: هو متروک الحدیث. وقال الشافعی: هو رکن من أرکان الکذب. وقال أبو حاتم بن حبان: روی عن أبیه عن جده نسخة موضوعة لا یحل ذکرها فی الکتب، ولا الروایة عنه إلا علی جهة التعجب)(1).

وقال ابن حجر: (قال الآجری سئل أبو داود عنه فقال کان أحد الکذابین سمعت محمد بن الوزیر المصری یقول سمعت الشافعی وذکر کثیر بن عبد الله بن عمرو بن عوف فقال ذاک أحد الکذابین أو أحد أرکان الکذب)(2).

فإسناد کلا الطریقین ضعیف، ولا یستطیعان إخراج مالک من ورطته، فیسقط الاحتجاج بهما ولا یصلحان لمعارضة حدیث الثقلین المتواتر سندا ومعنی.

محاولة الشیخ الالبانی الوهابی تصحیح طریق ابی هریرة وفضح کذبته

وقد حاول الشیخ الألبانی عبثا وتکبرا تصحیح هذا الحدیث فی کتابه (الحدیث حجة بنفسه) بقوله: (عن أبی هریرة...قال: قال رسول الله صلی الله علیه وسلم: «ترکت فیکم شیئین لن تضلوا بعدهم «ما تمسکتم بهما» کتاب الله وسنتی ولن یتفرقا حتی یردا علی الحوض». أخرجه مالک مرسلا والحاکم مسندا وصححه)(3) وقد صححه وحسنه فی مواضع أخری یطول ذکرها.

أقول: وقد کذب الألبانی علی الحاکم النیسابوری حین ادعی بان الحاکم النیسابوری قد صحح حدیث أبی هریرة، فحینما رجعنا إلی کتاب المستدرک لم نجد الحاکم قد علق شیئا علی الحدیث کعادته، لان الحاکم اعتاد بعد إیراده


1- الموضوعات لابن الجوزی ج 1 ص 197.
2- تهذیب التهذیب لابن حجر  ج 8 ص 377.
3- الحدیث حجة بنفسه ج1 ص32.

ص: 356

للأحادیث أن یقول مثلا، (علی شرط الشیخین ولم یخرجاه) أو (علی شرط مسلم أو البخاری وحده ولم یخرجاه) أو غیر ذلک من التعلیقات، ولکنه وبعد إیراده لهذا الحدیث سکت عن التعلیق علیه، لعلمه بضعف رجاله، فمن أین حصل الیقین للألبانی بان الحاکم قد صححه، وهو تجنٍّ واضح وتکلف مفضوح.

محاولة ثانیة للشیخ الالبانی لتصحیح طریق ابن عباس وفشله فی ذلک

وقد صحح الألبانی حدیثا آخر عن ابن عباس: («أن رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم خطب الناس فی حجة الوداع فقال إن الشیطان قد یئس أن یعبد بأرضکم ولکن رضی أن یطاع فیما سوی ذلک مما تحاقرون من أعمالکم فاحذروا إنی قد ترکت فیکم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا کتاب الله وسنة نبیه» رواه الحاکم وقال: صحیح الإسناد احتج البخاری بعکرمة واحتج مسلم بأبی أویس وله أصل فی الصحیح)(1).

أقول: سند روایة الحاکم هکذا: («حدثنا» أبو بکر أحمد بن إسحاق الفقیه أنبأ العباس بن الفضل الأسفاطی ثنا إسماعیل بن أبی أویس «وأخبرنی» إسماعیل بن محمد بن الفضل الشعرانی ثنا جدی ثنا ابن أبی أویس حدثنی أبی عن ثور بن زید الدیلی عن عکرمة عن ابن عباس ان رسول الله صلی الله علیه وآله...)(2).

 فکلا الإسنادین مداره علی (إسماعیل بن أبی أویس) وهو ابن أخت مالک بن انس صاحب کتاب الموطأ، وهو ممن تضاربت به أقوال أهل الجرح والتعدیل،


1- صحیح الترغیب والترهیب ج1 ص10 حدیث رقم37.
2- المستدرک للحاکم النیسابوری  ج 1  ص 93.

ص: 357

والذین ضعفوه وقدحوا فی حفظه وأمانته هم الأکثر، وقد لخص المزی فی (تهذیب الکمال) الاقوال فیه فقال: (وقال أبو بکر بن أبی خیثمة عن یحیی بن معین: صدوق ضعیف العقل، لیس بذاک، یعنی أنه لا یحسن الحدیث، ولا یعرف أن یؤدیه، أو یقرأ من غیر کتابه. وقال معاویة بن صالح عن یحیی: أبو أویس وابنه ضعیفان. وقال عبد الوهاب بن أبی عصمة، عن أحمد بن أبی یحیی، عن یحیی بن معین: ابن أبی أویس وأبوه یسرقان الحدیث. وقال إبراهیم بن عبد الله الجنید، عن یحیی: مخلط، یکذب، لیس بشیء. وقال أبو حاتم: محله الصدق، وکان مغفلا. وقال النسائی: ضعیف. وقال فی موضع آخر: لیس بثقة. وقال أبو القاسم اللالکائی: بالغ النسائی فی الکلام علیه، إلی أن یؤدی إلی ترکه، ولعله بان له ما لم یبن لغیره، لان کلام هؤلاء کلهم یؤول إلی أنه ضعیف. وقال أبو أحمد بن عدی: وابن أبو أویس هذا روی عن خاله مالک أحادیث غرائب، لا یتابعه أحد علیه...)(1)

والدارقطنی کان لا یجعل حدیثه من قسم الصحیح، قال الذهبی فی (تذکرة الحفاظ): (وقال الدارقطنی: لا اختاره فی الصحیح)(2).

وکان یضع الحدیث لأهل المدینة عند وقوعهم فی الاختلاف، قال الدارقطنی: (قال لی سلمة بن شبیب: سمعت إسماعیل بن أبی أویس یقول: ربما کنت أضع الحدیث لأهل المدینة إذا اختلفوا فی شیء فیما بینهم)(3)، فهو إذن من الکذابین علی رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، فکیف یقبل ویصحح لمن هو شأنه هذا؟!.


1- تهذیب الکمال للمزی  ج 3 ص 127 __ 129.
2- تذکرة الحفاظ للذهبی  ج 1  ص 409.
3- سؤالات البرقانی الدارقطنی ص 47.

ص: 358

ولکن القوم وقعوا فی حرج شدید؛ لان کلاً من البخاری ومسلم وباقی أصحاب الصحاح والمسانید باستثناء النسائی، قد اخرجوا له أحادیث کثیرة، فوقع القوم فی حیص وبیص إلی أن جاء ابن حجر لیتخذ له طریقاً وسطی، فأوصی بقبول أحادیثه التی فی داخل الصحیحین، وأما ما کان خارج الصحیحین فیحکم علیها بالضعف، قال ابن حجر: (إسماعیل بن أبی أویس عبد الله بن عبد الله بن أویس بن مالک بن أبی عامر الأصبحی ابن أخت مالک بن أنس احتج به الشیخان إلا أنهما لم یکثرا من تخریج حدیثه ولا أخرج له البخاری مما تفرد به سوی حدیثین وأما مسلم فأخرج له أقل مما أخرج له البخاری وروی له الباقون سوی النسائی... وعلی هذا لا یحتج بشیء من حدیثه غیر ما فی الصحیح من أجل ما قدح فیه النسائی وغیره إلا أن شارکه فیه غیره فیعتبر فیه)(1).

أقول:

وحتی لو أخذنا برأی ابن حجر فلا یمکن أن نصحح حدیث ابن عباس الذی صححه الشیخ الألبانی، لان روایة إسماعیل بن أبی أویس لم ترد فی الصحیحین، ولا روایة أخری صحیحة تشارکها فتبقی علی ضعفها وبها ینکشف عدم وثاقة الألبانی وغیره ومصداقیتهم فی تصحیح الأحادیث المعارضة لأحادیث فضائل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.

وبهذا ینتهی الکلام من حدیث الثقلین وقد ترکنا من محاولات القوم الشیء الکثیر طلبا للاختصار، ولان الغرض الأساس هو عرض بعض النماذج لا استقصاء جمیعها، والحمد لله أولا وآخرا ونسأله المزید.


1- مقدمة فتح الباری لابن حجر ص 388.

ص: 359

الحدیث الثانی: حدیث الطائر المشوی وان أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب أحب الخلق إلی الله سبحانه

نص الحدیث وتصحیح بعض أسانیده

اشارة

ملخص حدیث الطیر هو: ان النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم قد أهدی إلیه طائر مشوی، أو عدة طیور علی اختلاف الروایات، فقسم صلی الله علیه وآله وسلم تلک الطیور، وترک طائرا لنفسه، فلما جهزوه له، رفع یدیه ودعا الله سبحانه أن یأتیه بأحب الخلق إلیه لیأکل معه من هذا الطائر، فجاء الإمام أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه فأکل معه منه.

وقد ذکرت بعض الروایات الأخری تفاصیل أکثر لهذه الحادثة المهمة، فذکرت مثلا ان أنس بن مالک قد منع الإمام أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب من الدخول علی النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم ثلاث مرات متتالیة.

وقد ذکرت روایات أخری ان خبر الطائر المشوی وقول رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: (اللهم ائتنی بأحب خلقک یأکل معی من هذا الطائر) قد تسرب عن طریق بعض زوجات النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، فأرسلت عائشة إلی أبیها لیحضر ویکون هو المقصود من لفظ (أحب خلقک)، فجاء أبو بکر لیدخل علی النبی صلی الله علیه وآله وسلم فرده النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، وان حفصة بنت عمر قد أرسلت أیضا إلی أبیها عمر بن الخطاب، فلما جاء عمر بن الخطاب لیدخل رده النبی صلی الله علیه وآله وسلم.

وفی بعض الروایات ان عثمان بن عفان قد حاول هو الآخر الدخول علی النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم للاستفادة من هذه الفرصة، لکن النبی الأعظم

ص: 360

صلی الله علیه وآله وسلم أرجعه وحال دون دخوله.

وعلی أی الأحوال فان جوهر حدیث الطائر مهما تعددت ألفاظه فانه یتمحور فی قول النبی صلی الله علیه وآله وسلم: (اللهم ائتنی بأحب خلقک إلیک یأکل معی هذا الطیر، فجاء علی بن أبی طالب، فدخل یأکل معه من ذلک الطیر) وسیأتی فی الصفحات القادمة أهمیة هذه العبارة وخطورتها علی المنظومة الفکریة والعقائدیة لأهل السنة والتی لأجلها شحذت الهمم والأقلام لطمس معالم هذا الحدیث ورسومه.

وسنقتصر فیما یأتی علی عدة أسانید صحیحة أو حسنة تارکین الخوض فی جمیعها لان استقصاءها یفوق ما نحن فیه من الاختصار، ومن هذه الأسانید:

أولا: ما أخرجه ابن عساکر فی کتابه تاریخ مدینة دمشق
اشارة

قال ابن عساکر فی (تاریخ مدینة دمشق): (أخبرنا أبو غالب بن البنا أنا أبو الحسین بن الآبنوسی أنا أبو الحسن الدار قطنی نا(1) محمد بن مخلد بن حفص نا حاتم ابن اللیث نا عبید الله بن موسی عن عیسی بن عمر القارئ عن السدی نا أنس بن مالک قال أهدی إلی رسول الله (صلی الله علیه وسلم) أطیار فقسمها وترک طیرا فقال اللهم ائتنی بأحب خلقک إلیک یأکل معی من هذا الطیر فجاء علی بن أبی طالب فدخل یأکل معه من ذلک الطیر قال الدارقطنی تفرد به عیسی بن عمر عن السدی)(2).


1- لفظ (نا) ولفظ (أنا) إختصار لکلمة حدثنا وهو کثیر الاستعمال فی کتب الحدیث والروایة، وسیتکرر ذکره لاحقا بشکل مستمر لذا نبهنا علیه هنا.
2- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج42 ص254.

ص: 361

وثاقة رجال هذا الإسناد
ألف: أبو غالب بن البنا

وهو کما یقول الذهبی فی (تاریخ الإسلام): (أحمد ابن الشیخ الإمام أبی علی الحسن بن أحمد بن عبد الله. أبو غالب بن البنا البغدادی الحنبلی. شیخ صالح، کثیر الروایة، عالی السند...وثقه ابن الجوزی، وروی عنه)(1).

باء: أبو الحسین بن الآبنوسی

وهو کما یعرفه لنا الذهبی فی (سیر أعلام النبلاء): (ابن الآبنوسی، الشیخ الثقة، أبو الحسین، محمد بن أحمد بن محمد بن علی، ابن الآبنوسی البغدادی. سمع أبا القاسم بن حبابة، والدارقطنی)(2).

جیم: أبو الحسن الدار قطنی

هو علی بن عمر بن أحمد بن مهدی بن مسعود بن النعمان بن دینار بن عبد الله، أبو الحسن الدارقطنی وهو من أئمة الحدیث وله رتبة أمیر المؤمنین فی الحدیث، وقد جمع الذهبی أقوال موثقیه ومادحیه فقال: (الإمام شیخ الإسلام حافظ الزمان أبو الحسن علی بن عمر بن أحمد بن مهدی البغدادی الحافظ الشهیر صاحب السنن، مولده سنة ست وثلاث مائة... قال الحاکم: صار الدارقطنی أوحد عصره فی الحفظ والفهم والورع وأماما فی القراء والنحویین وأقمت فی سنة سبع وستین ببغداد أربعة أشهر وکثر اجتماعنا فصادفته فوق ما وصف لی وسألته عن العلل والشیوخ، وله مصنفات یطول ذکرها فأشهد أنه لم یخلف علی أدیم الأرض مثله. وقال الخطیب: کان فرید عصره وإمام وقته وانتهی إلیه علم الأثر والمعرفة بالعلل


1- تاریخ الإسلام للذهبی  ج 36  ص 151 __152.
2- سیر أعلام النبلاء للذهبی  ج 18 ص 85 __ 86.

ص: 362

وأسماء الرجال مع الصدق والثقة وصحة الاعتقاد والاضطلاع من علوم کالقراءات فان له فیها مصنفا سبق فیه إلی عقد الأبواب قبل فرش الحروف، وتأسی القراء به بعده... عن أبی الولید الباجی عن أبی ذر. وکان عبد الغنی إذا ذکر الدارقطنی قال: أستاذی. قال القاضی أبو الطیب الطبری: الدارقطنی أمیر المؤمنین فی الحدیث...)(1).

دال: محمد بن مخلد بن حفص

وهو محمد بن مخلد بن حفص، أبو عبد الله الدوری العطار، وقد وصفه الدارقطنی بالثقة والصلاح فی کتابه (سؤالات حمزة) قائلا: (الإمام المفید أبو عبید الله محمد بن مخلد بن حفص السدوری العطار الخضیب مسند العراق، سمع مسلم ابن الحجاج والحسن بن عرفة.. وصنف وخرج وکان معروفا بالثقة والصلاح...)(2).

وقال فی حقه الخطیب البغدادی فی (تاریخ بغداد): (وکان أحد أهل الفهم. موثوقا به فی العلم، متسع الروایة مشهورا بالدیانة، موصوفا بالأمانة، مذکورا بالعبادة)(3).

ووصفه الذهبی بالوثاقة فی (تذکرة الحفاظ) فقال: (محمد بن مخلد بن حفص الإمام المفید الثقة مسند بغداد أبو عبد الله الدوری العطار الخضیب... کتب ما لا یوصف کثرة وعنی بهذا الشأن وصنف وخرج... وکان معروفا بالثقة والصلاح والاجتهاد فی الطلب، عاش ثمانیا وتسعین سنة سئل عنه الدارقطنی فقال: ثقة


1- تذکرة الحفاظ للذهبی  ج 3 ص 991 __ 994.
2- سؤالات حمزة للدارقطنی  ص 29.
3- تاریخ بغداد للخطیب البغدادی ج 4 ص 80.

ص: 363

مأمون)(1).

هاء: حاتم بن اللیث

ذکره ابن حبان فی کتابه (الثقات) فقال: (أبو روح حاتم بن اللیث الجوهری أبو الفضل من أهل البصرة سکن بغداد)(2).

ووصفه الخطیب البغدادی بالثقة الثبت فی (تاریخ بغداد) فقال: (حاتم بن اللیث بن الحارث بن عبد الرحمن، أبو الفضل الجوهری... حدثنا حاتم بن أبی اللیث وکان ثقة ثبتا، متقنا حافظا)(3).

وقال عنه الذهبی فی (سیر أعلام النبلاء): (حاتم بن اللیث الحافظ المکثر الثقة)(4).

واو: عبید الله بن موسی

وثقه العجلی فی (معرفة الثقات) بقوله: (عبید الله بن موسی العبسی یکنی أبا محمد کوفی ثقة کان عالما بالقرآن صدوق وکان یتشیع وکان صاحب قرآن رأسا فیه)(5).

وقال الرازی فی (الجرح والتعدیل): (عبید الله بن موسی العبسی أبو محمد کوفی... سمعت یحیی بن معین یقول: عبید الله بن موسی ثقة... عبد الرحمن قال سألت أبی عن عبید الله بن موسی فقال: صدوق کوفی حسن الحدیث، وأبو نعیم


1- تذکرة الحفاظ للذهبی  ج 3  ص 828.
2- الثقات لابن حبان  ج 8  ص 211.
3- تاریخ بغداد للخطیب البغدادی  ج 8  ص 239 __ 240.
4- سیر أعلام النبلاء للذهبی  ج 12 ص 519.
5- معرفة الثقات للعجلی  ج 2 ص 114.

ص: 364

أتقن منه، وعبید الله أثبتهم فی إسرائیل کان إسرائیل یأتیه فیقرأ علیه القرآن وهو ثقة)(1).

وذکره ابن حبان فی الثقات بقوله: (عبید الله بن موسی العبسی مولی لهم کنیته أبو محمد من أهل الکوفة یروی عن إسماعیل بن أبی خالد والأعمش روی عنه أهل العراق والغرباء مات سنة ثنتی عشرة أو ثلاث عشرة ومائتین فی ذی القعدة وکان یتشیع)(2).

وقد اخرج له البخاری وغیره کما بینه الباجی فی (التعدیل والتجریح) بقوله: (عبید الله بن موسی العبسی مولاهم الکوفی أخرج البخاری فی بدء الوحی والإیمان والعلم ومواضع عنه وأخرج فی الصلاة وفی صفة النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم والتهجد وغزوة أحد وقتل أبی رافع وغیر موضع... قال أبو حاتم عبید الله بن موسی صدوق ثقة حسن الحدیث وأبو نعیم أتقن منه وعبید الله أثبتهم فی إسرائیل کان إسرائیل یأتیه فیقرأ علیه القرآن قال أبو بکر سمعت یحیی بن معین یقول عبید الله بن موسی ثقة وقال عثمان بن سعید قال یحیی بن معین یحیی بن یمان أرجو أن یکون صدوقا وحدیثه لیس بالقوی وعبید الله بن موسی ثقة)(3).

زای: عیسی بن عمر القارئ

قال الدوری: (سمعت یحیی یقول عیسی بن عمر کوفی ثقة)(4)، وقال الدوری فی موضع آخر: (سمعت یحیی یقول عیسی بن عمر ثقة عبد الصمد بن


1- الجرح والتعدیل للرازی  ج 5  ص 334 __ 335.
2- الثقات لابن حبان  ج 7  ص 152.
3- التعدیل والتجریح لسلیمان بن خلف الباجی  ج 2  ص 985 __ 986.
4- تاریخ ابن معین بروایة الدوری ج 1 ص 400.

ص: 365

عبد الوارث یروی عنه)(1).

وقال عنه العجلی فی (معرفة الثقات): (عیسی بن عمر الأسدی ثقة رجل صالح کان أحد قراء الکوفة رأسا فی القرآن)(2). وقد ذکره ابن حبان فی کتابه (الثقات)(3).

وقال عنه الذهبی: (عیسی بن عمر الإمام المقرئ، العابد، أبو عمر الهمدانی الکوفی، عرف بالهمدانی، وإنما هو من موالی بنی أسد... وثقه ابن معین وغیره. وکان مقرئ الکوفة فی زمانه بعد حمزة ومعه. قال الثوری: ما بها أقرأ منه)(4).

حاء. السدی إسماعیل بن عبد الرحمن الأعور

روی عنه مسلم فی صحیحه، وأبو داود فی سننه، والترمذی فی سننه، والنسائی فی سننه، وابن ماجة أیضا فی سننه، وأحمد بن حنبل فی مسنده، وغیرهم، وقد صرح البخاری عن یحیی ان السدی لم یترکه احد کما انه لم یذکر الا بخیر، فقال فی (التاریخ الصغیر): (أبو یحیی إسماعیل بن عبد الرحمن الأعور السدی الکوفی مولی زینب بنت قیس بن مخرمة من بنی عبد مناف سمع أنسا ومرة سمع منه شعبة والثوری وزائدة قال علی سمعت یحیی یقول ما رأیت أحدا یذکر السدی إلا بخیر وما ترکه أحد)(5).


1- تاریخ ابن معین بروایة الدوری ج 2  ص 114.
2- معرفة الثقات للعجلی  ج 2 ص 200.
3- الثقات لابن حبان  ج 7  ص 233 __ 234.
4- سیر أعلام النبلاء للذهبی  ج 7 ص 199 __ 200.
5- التاریخ الصغیر للبخاری  ج 1  ص 348.

ص: 366

وقال البخاری أیضا فی (التاریخ الکبیر): (قال لنا مسدد حدثنا یحیی قال سمعت ابن أبی خالد یقول السدی اعلم بالقرآن من الشعبی، قال علی وسمعت یحیی یقول ما رأیت أحدا یذکر السدی إلا بخیر وما ترکه أحد)(1).

وقال الرازی فی الجرح والتعدیل: (حدثنا عبد الرحمن نا صالح بن أحمد بن حنبل ثنا علی __ یعنی ابن المدینی __ قال قیل لیحیی بن سعید القطان: السدی؟ قال لا بأس به، ما سمعت أحدا یذکر السدی إلا بخیر وما ترکه أحد... حدثنا عبد الرحمن نا صالح بن أحمد بن حنبل قال: قال أبی: إسماعیل السدی مقارب الحدیث صالح. حدثنا عبد الرحمن انا عبد الله بن أحمد بن حنبل فیما کتب إلی قال: قال أبی قال لی یحیی بن معین یوما عند عبد الرحمن بن مهدی: السدی ضعیف، فغضب عبد الرحمن وکره ما قال. حدثنا عبد الرحمن ثنا محمد بن حمویه بن الحسن قال سمعت أبا طالب قال: قال أحمد بن حنبل: السدی ثقة...)(2).

وقد ذکره ابن حبان فی کتابه (الثقات)(3)، وقال عبد الله بن عدی فی (الکامل): (حدثنا ابن أبی عصمة حدثنا أبو طالب أحمد بن حمید قال سمعت أحمد بن حنبل یقول السدی ثقة قال الشیخ والسدی له أحادیث یرویها عن عدة شیوخ له وهو عندی مستقیم الحدیث صدوق لا بأس به)(4).

وقال عمر بن شاهین فی (تاریخ أسماء الثقات): (محمد بن مخلد نا صالح بن أحمد بن حنبل نا علی بن المدینی قیل لیحیی بن سعید فالسدی یعنی إسماعیل بن


1- التاریخ الکبیر للبخاری  ج 1  ص 361.
2- الجرح والتعدیل للرازی  ج 2 ص 184 __ 185.
3- الثقات لابن حبان  ج 4 ص 20 __ 21.
4- الکامل لعبد الله بن عدی ج 1  ص 278.

ص: 367

عبد الرحمن قال السدی عندنا لا بأس به)(1).

فالسدی کما تری ثقة مقبول عند الجمیع لم یذکروه إلا بخیر، بحسب ما صرح به کبار أهل الجرح والتعدیل من أهل السنة، نعم خالف هذا الإجماع یحیی ابن معین، وأبو حاتم الرازی، وأبو زرعة الرازی، وقد ذکر الذهبی آراءهم فی (سیر أعلام النبلاء) بقول: (إسماعیل بن عبد الرحمن بن أبی کریمة الإمام المفسر... وقال یحیی بن معین: ضعیف، وقال أبو زرعة: لین، وقال أبو حاتم: یکتب حدیثه)(2)، وفی الجرح والتعدیل للرازی: (یکتب حدیثه ولا یحتج به) (3).

أقول: ولا یعتد بمخالفة هؤلاء الثلاثة للمشهور، للأسباب التالیة:

1: أما یحیی بن معین فقد صرح الذهبی فی (سیر أعلام النبلاء) بعدم قبول جرحه أو تعدیله فیما لو خالف المشهور وانفرد بمدح أو جرح، فی معرض حدیثه عن توثیق یحیی بن معین لأبی الصلت الهروی ما یلی: (قُلْتُ __ والقائل هو الذهبی __: جُبِلَتِ القُلُوْبُ عَلَی حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَیْهَا، وَکَانَ هَذَا بَارّاً بِیَحْیَی، وَنَحْنُ نَسْمَعُ مِنْ یَحْیَی دَائِماً، وَنَحتَجُّ بِقَولِه فِی الرِّجَالِ، مَا لَمْ یَتَبَرهَنْ لَنَا وَهْنُ رَجُلٍ انفَرَدَ بِتَقْوِیَتِه، أَوْ قُوَّةِ مَنْ وَهَّاهُ)(4)، ویحیی انفرد عن المشهور بقدحه فی السدی فینطبق علیه کلام الذهبی انطباقا تاما.

2: وأما أبو حاتم فقد اشتهر عنه التشدد المفرط فی الجرح، قال الذهبی فی (سیر أعلام النبلاء): (إذا وثق أبو حاتم رجلا فتمسک بقوله، فإنه لا یوثق إلا


1- تاریخ أسماء الثقات لعمر بن شاهین  ص 27.
2- سیر أعلام النبلاء للذهبی  ج 5  ص 264 __ 265.
3- الجرح والتعدیل للرازی ج2 ص185.
4- سیر أعلام النبلاء للذهبی ج11 ص448.

ص: 368

رجلا صحیح الحدیث، وإذا لین رجلا، أو قال فیه: لا یحتج به. فتوقف حتی تری ما قال غیره فیه، فإن وثقه أحد، فلا تبن علی تجریح أبی حاتم، فإنه متعنت فی الرجال، قد قال فی طائفة من رجال الصحاح: لیس بحجة، لیس بقوی، أو نحو ذلک)(1).

وقال الزیلعی فی (نصب الرایة): (وقول أبی حاتم لا یحتج به غیر قادح أیضا فإنه لم یذکر السبب وقد تکررت هذه اللفظة منه فی رجال کثیرین من أصحاب الصحیح الثقات الأثبات من غیر بیان السبب کخالد الحذاء وغیره والله أعلم)(2).

وقال ابن تیمیة فی (مجموع الفتاوی): (وأما قول أبی حاتم یکتب حدیثه ولا یحتج به فأبو حاتم یقول مثل هذا فی کثیر من رجال الصحیحین وذلک أن شرطه فی التعدیل صعب والحجة فی اصطلاحه لیس هو الحجة فی جمهور أهل العلم)(3).

فجرح أبی حاتم للسدی هنا غیر مقبول لأنه مخالف للمشهور، إضافة الی انه لم یبین سبب جرحه له فلا یعتد به وفقا لکلمات الذهبی والزیلعی وابن تیمیة.

3: وأما تضعیف أبی زرعة للسدی فهو إضافة إلی کونه مخالفاً للمشهور، فهو فی اغلب الظن متأثر بحکم أبی حاتم الرازی؛ لان أبا زرعة کان من أصحاب أبی حاتم ومن ملازمیه وکانت تعقد فیما بین الاثنین جلسات حوار ونقاش فلابد انه قد تأثر به، وقد عرفنا فیما سبق عدم قبول جرح أبی حاتم.

ومن خلال ما سبق نصل إلی نتیجة قطعیة بوثاقة السدی، وبه کذلک یحصل الیقین بوثاقة جمیع رجال هذا السند.


1- سیر أعلام النبلاء ج 13  ص 260.
2- نصب الرایة للزیلعی ج 2 ص 534.
3- مجموع الفتاوی لابن تیمیة ج24 ص351.

ص: 369

وأما قول ابن عساکر فی تعقیبه علی هذا الحدیث (قال الدارقطنی تفرد به عیسی بن عمر عن السدی)، فلا یضر شیئا، ولا یؤدی الی ضعف الحدیث قطعا، لان لحدیث عیسی بن عمر شواهد کثیرة جدا، وسیأتی قول الحاکم النیسابوری واعترافه بان حدیث الطائر المشوی نقله ثلاثون رجلا فقط عن انس بن مالک فضلا عن غیره، فمثل هذا التفرد لا یضر.

ثانیا: ما رواه الحاکم النیسابوری وعلق علیه ابن کثیر
اشارة

قال الحاکم فی (المستدرک علی الصحیحین): (حدثنا به الثقة المأمون أبو القاسم الحسن بن محمد بن الحسین بن إسماعیل بن محمد بن الفضل بن علیة بن خالد السکونی، بالکوفة من أصل کتابه، ثنا(1) عبید بن کثیر العامری، ثنا عبد الرحمن بن دبیس، وحدثنا أبو القاسم، ثنا محمد بن عبد الله بن سلیمان الحضرمی، ثنا عبد الله ابن عمر بن أبان بن صالح، قالا: ثنا إبراهیم بن ثابت البصری القصار، ثنا ثابت البنانی، أن أنس بن مالک رضی الله عنه کان شاکیا، فأتاه محمد بن الحجاج یعوده فی أصحاب له، فجری الحدیث حتی ذکروا علیا رضی الله عنه فتنقصه محمد بن الحجاج، فقال أنس: من هذا؟ أقعدونی فأقعدوه، فقال: یا ابن الحجاج، ألا أراک تنقص علی بن أبی طالب والذی بعث محمدا صلی الله علیه __ وآله __ وسلم بالحق، لقد کنت خادم رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم بین یدیه، وکان کل یوم یخدم بین یدی رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم غلام من أبناء الأنصار، فکان ذلک الیوم یومی فجاءت أم أیمن مولاة رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم بطیر فوضعته بین یدی رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم، فقال رسول الله صلی الله


1- (ثنا) هی عبارة عن اختصار لکلمة (حدثنا) وهی کثیرة الاستعمال فی کتب الحدیث والروایة.

ص: 370

علیه __ وآله __ وسلم: «یا أم أیمن ما هذا الطائر؟» قالت: هذا الطائر أصبته فصنعته لک، فقال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم: «اللهم جئنی بأحب خلقک إلیک وإلی یأکل معی من هذا الطائر» وضرب الباب، فقال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم: «یا أنس انظر من علی الباب»، قلت: اللهم اجعله رجلا من الأنصار فذهبت، فإذا علی بالباب، قلت: إن رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم علی حاجة فجئت حتی قمت من مقامی فلم ألبث أن ضرب الباب، فقال: «یا أنس، انظر من علی الباب» فقلت: اللهم اجعله رجلا من الأنصار، فذهبت فإذا علی بالباب، قلت: إن رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم علی حاجة، فجئت حتی قمت مقامی، فلم ألبث أن ضرب الباب، فقال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم: «یا أنس اذهب فأدخله، فلست بأول رجل أحب قومه لیس هو من الأنصار»، فذهبت فأدخلته، فقال: «یا أنس قرب إلیه الطیر»، قال: فوضعته بین یدی رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فأکلا جمیعا، قال محمد بن الحجاج: یا أنس، کان هذا بمحضر منک؟ قال: نعم، قال: «أعطی بالله عهدا ألا أنتقص علیا بعد مقامی هذا، ولا أعلم أحدا ینتقصه إلا أشنب(1) له وجهه»)(2).

ثم تعقبه ابن کثیر فی (البدایة والنهایة) بقوله: (وهو منکر سندا ومتنا لم یورد الحاکم فی مستدرکه غیر هذین الحدیثین وقد رواه ابن أبی حاتم عن عمار بن خالد الواسطی عن إسحاق الأزرق عن عبد الملک بن أبی سلیمان عن انس وهذا أجود من إسناد الحاکم)(3).


1- وفی بعض النسخ (أشنت) بدل (أشنب).
2- مستدرک للحاکم النیسابوری: ج3، ص131 __ 132.
3- البدایة والنهایة لابن کثیر ج7 ص388 حدیث الطیر.

ص: 371

أقول: ولسوف لن نطیل الکلام عن إسناد الحاکم النیسابوری لجهالة (إبراهیم بن ثابت القصار) وسنقتصر علی السند الذی أورده ابن کثیر وحکم علیه بأنه أجود من إسناد الحاکم، لان بإثباته سیثبت الحدیث الذی نقله الحاکم فی مستدرکه، لان الحدیث إذا ورد بإسنادین وکان احدهما صحیحاً والآخر معلولاً بضعف أو جهالة أو إرسال أو غیر ذلک، فان الإسناد الصحیح یکون شاهدا علی صحة الإسناد الثانی __ الضعیف __ وهو أمر ثابت ومعروف فی کتب المصطلح وعلم الحدیث، وبهذا ستحل مشکلة النکارة فی سند الحدیث، أما النکارة فی المتن فسیأتی تفصیل الکلام عنها فی موضع آخر إن شاء الله سبحانه.

وثاقة رجال إسناد ابن کثیر
ألف: عمار بن خالد الواسطی

وهو کما یقول الرازی فی (الجرح والتعدیل): (عمار بن خالد الواسطی التمار أبو الفضل...وکان ثقة صدوقا حدثنا عبد الرحمن قال سئل أبی عنه فقال صدوق)(1).

روی له النسائی وابن ماجة، وقد ذکره الذهبی فی کتابه (الکاشف فی معرفة من له روایة فی کتب الستة)(2)، وذکره ابن حبان فی کتابه (الثقات)(3)، وقال عنه ابن حجر: (ثقة من صغار العاشرة مات سنة ستین ومائتین)(4).


1- الجرح والتعدیل للرازی  ج 6  ص 395.
2- الکاشف فی معرفة من له روایة فی کتب الستة للذهبی  ج 2 ص 50.
3- الثقات لابن حبان  ج 8  ص 518 __ 519.
4- تقریب التهذیب لابن حجر  ج 1  ص 706.

ص: 372

باء: إسحاق الأزرق

وهو کما قال الرازی: (إسحاق بن یوسف الأزرق أبو محمد الواسطی... هو صحیح الحدیث صدوق لا بأس به. قال أبو محمد روی عنه أحمد بن حنبل. حدثنا عبد الرحمن انا یعقوب بن إسحاق الهروی فیما کتب إلی ثنا عثمان بن سعید الدارمی قال سألت یحیی بن معین قلت: إسحاق الأزرق؟ قال: ثقة)(1).

وقال العجلی فی (معرفة الثقات): (إسحاق بن یوسف الأزرق واسطی ثقة)(2)، وذکره ابن حبان فی کتاب (الثقات)(3)، وقال الخطیب البغدادی فی (تاریخ بغداد): (إسحاق بن یوسف بن محمد، أبو محمد الأزرق الواسطی... وکان من الثقات المأمونین، وأحد عباد الله الصالحین...أخبرنا أحمد بن محمد الأشنانی قال: سمعت أحمد بن محمد بن عبدوس الطرائفی یقول: سمعت عثمان بن سعید الدارمی یقول: قلت لیحیی بن معین: فإسحاق الأزرق؟ فقال: ثقة...حدثنا أبو مسلم صالح بن أحمد بن عبد الله بن صالح العجلی قال: حدثنی أبی. قال: إسحاق بن یوسف الأزرق واسطی ثقة)(4).

وقد روی له البخاری فی صحیحه ومسلم وابو داود والترمذی والنسائی وابن ماجة، وقد ذکره الذهبی فی (الکاشف فی معرفة من له روایة فی کتب الستة) فقال: (إسحاق الأزرق...ثقة عابد رفیع القدر إمام)(5)، وقال فی (تذکرة الحفاظ:


1- الجرح والتعدیل للرازی  ج 2 ص 238.
2- معرفة الثقات للعجلی  ج 1 ص 221.
3- الثقات لابن حبان  ج 6  ص 52.
4- تاریخ بغداد للخطیب البغدادی  ج 6 ص 316.
5- الکاشف فی معرفة من له روایة فی کتب الستة للذهبی  ج 1 ص 240.

ص: 373

(وکان من الأئمة العباد...احتجوا کلهم به)(1)، وقال فی (سیر أعلام النبلاء): (إسحاق الأزرق هو الإمام الحافظ الحجة)(2).

جیم: عبد الملک بن أبی سلیمان

ذکره العجلی فی (معرفة الثقات) بقوله: (عبد الملک بن أبی سلیمان العرزمی کوفی ثقة ثبت فی الحدیث)(3)، وقال عبد الله بن عدی فی (الکامل): (حدثنا علی بن أحمد بن سلیمان ثنا أحمد بن سعد بن أبی مریم سمعت یحیی ابن معین یقول عبد الملک بن أبی سلیمان ثقة حدثنا محمد بن علی ثنا عثمان بن سعید قلت لیحیی بن معین عبد الملک بن أبی سلیمان أحب إلیک أم ابن جریج فقال کلاهما ثقتان)(4).

وقال الذهبی فی (تذکرة الحفاظ): (عبد الملک بن أبی سلیمان العرزمی الکوفی الحافظ الکبیر... وکان من الحفاظ الأثبات. قال عبد الرحمن بن مهدی کان شعبة یتعجب من حفظ عبد الملک. وقال أحمد بن حنبل: ثقة، وکذا وثقه النسائی)(5).

وقد روی له البخاری فی صحیحه ومسلم وأبو داود والترمذی والنسائی وابن ماجة، قال ابن حجر فی (تهذیب التهذیب): (اخرج له __ «البخاری فی التعالیق ومسلم والأربعة» عبد الملک بن أبی سلیمان واسمه میسرة أبو محمد ویقال


1- تذکرة الحفاظ للذهبی  ج 1 ص 320.
2- سیر أعلام النبلاء للذهبی ج9 ص171.
3- معرفة الثقات للعجلی  ج 2 ص 103.
4- الکامل لعبد الله بن عدی  ج 5  ص 302.
5- تذکرة الحفاظ للذهبی  ج 1 ص 155 __ 156.

ص: 374

أبو سلیمان وقیل أبو عبد الله العرزمی أحد الأئمة... قال ابن مهدی کان شعبة یعجب من حفظه... وقال ابن عمار الموصلی ثقة حجة وقال العجلی ثقة ثبت فی الحدیث وقال یعقوب بن سفیان ثنا أبو نعیم ثنا سفیان عن عبد الملک بن أبی سلیمان ثقة متقن فقیه وقال یعقوب بن سفیان أیضا عبد الملک فزاری من أنفسهم ثقة وقال النسائی ثقة وقال أبو زرعة لا بأس به... وقال الساجی صدوق روی عنه یحیی بن سعید القطان جزءا ضخما وقال الترمذی ثقة مأمون لا نعلم أحدا تکلم فیه غیر شعبة)(1).

أقول: وشعبة إنما تکلم فیه من حیث أن له أوهاماً یسیرة، وقد رد علی شعبة أکثر من واحد من علماء أهل السنة، احدهم ابن حبان فی کتابه (الثقات) حیث قال:

(عبد الملک بن أبی سلیمان العرزمی مولی فزارة... والغالب علی من یحفظ ویحدث من حفظه أن یهم ولیس من الإنصاف ترک حدیث شیخ ثبت صحت عدالته بأوهام یهم فی روایته ولو سلکنا هذا المسلک للزمنا ترک حدیث الزهری وابن جریج والثوری وشعبة لأنهم أهل حفظ وإتقان وکانوا یحدثون من حفظهم ولم یکونوا معصومین حتی لا یهموا فی الروایات بل الاحتیاط والأولی فی مثل هذا قبول ما یروی الثبت من الروایات وترک ما صح أنه وهم فیها ما لم یفحش ذلک منه حتی یغلب علی صوابه فان کان کذلک استحق الترک حینئذ)(2).

فالروایة عن انس بهذا السند ثابتة لا ریب فی صحتها.


1- تهذیب التهذیب لابن حجر  ج 6 ص 352 __ 353.
2- الثقات لابن حبان  ج 7  ص 97 __ 98.

ص: 375

ثالثا: ما رواه الطبرانی وصححه الهیثمی
اشارة

قال الطبرانی فی المعجم الکبیر: (حدثنا عبید العجلی ثنا إبراهیم بن سعد الجوهری ثنا حسین بن محمد ثنا سلیمان بن قرم عن فطر بن خلیفة عن عبد الرحمن بن أبی نعم عن سفینة مولی النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم أن النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم أتی بطیر فقال اللهم ائتنی بأحب خلقک إلیک یأکل معی من هذا الطیر فجاء علی رضی الله عنه فقال النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم: اللهم وال [من والاه] (1))(2).

وقد علق الهیثمی علی هذا الحدیث فی کتابه (مجمع الزوائد) بقوله: (رواه البزار والطبرانی باختصار ورجال الطبرانی رجال الصحیح غیر فطر بن خلیفة وهو ثقة)(3).

أقول: وسیأتی ان تعلیق الهیثمی فیه وهم، لان فطر بن خلیفة قد اخرج له البخاری فی صحیحه، فیعد من رجال الصحیح، ولکن عبید العجلی لم یخرج له احد من أصحاب الصحاح وقد وثق فقط، فیکون الأصح هو أن یقال: (رواه البزار والطبرانی باختصار ورجال الطبرانی رجال الصحیح غیر عبید العجلی وهو ثقة).

وثاقة رجال هذا الإسناد
ألف: عبید العجلی

قال ابن الصلاح فی مقدمته: (عبید العجل لقب أبی عبد الله الحسین بن محمد ابن حاتم البغدادی الحافظ)(4).


1- البدایة والنهایة لابن کثیر: ج7، ص387.
2- المعجم الکبیر للطبرانی ج7 ص82.
3- مجمع الزوائد للهیثمی  ج 9 ص 126.
4- مقدمة ابن الصلاح لعثمان بن عبد الرحمن  ص 199.

ص: 376

وقال الخطیب البغدادی فی (تاریخ بغداد): (وکان ثقة حافظا متقنا، یسکن قطیعة عیسی بن علی الهاشمی قریبا من دجلة)(1).

وقال الذهبی فی (تذکرة الحفاظ): (عبید العجل هو الحافظ المتقن أبو علی حسین بن محمد حاتم البغدادی تلمیذ یحیی بن معین... قال الخطیب: کان حافظا متقنا. وقال ابن المنادی: کان متقدما فی حفظ المسند خاصة...)(2).

وقال الذهبی فی (سیر أعلام النبلاء): (قال الخطیب: کان ثقة متقنا، حافظا. وقال أحمد بن المنادی: کان من المتقدمین فی حفظ المسند خاصة. قال أبو أحمد بن عدی: حدثنا ابن عقدة قال: کنا نحضر مع عبید، فینتخب لنا، فإذا أخذ الکتاب بیده طار ما فی رأسه، فنکلمه، فلا یرد، فإذا فرغ قلنا: کلمناک فلم تجبنا؟ ! قال: إذا أخذت الکتاب بیدی یطیر عنی ما فی رأسی، یمر بی حدیث الصحابی، وأنا أحتاج أن أفکر فی مسند ذلک الصحابی، من أوله إلی آخره، هل الحدیث فیه أم لا، أخاف أن أزل فی الانتخاب، وأنتم شیاطین قد قعدتم حولی. قیل: إن یحیی بن معین هو الذی لقبه عبیدا العجل. قال ابن قانع: مات فی صفر، سنة أربع وتسعین ومئتین. قلت: کان من أبناء الثمانین)(3).

باء: إبراهیم بن سعد الجوهری

قال المبارکفوری فی (تحفة الأحوذی): (إبراهیم بن سعید الجوهری: أبو إسحاق الطبری نزیل بغداد ثقة حافظ تکلم فیه بلا حجة من العاشرة)(4).


1- تاریخ بغداد للخطیب البغدادی  ج 8 ص 93.
2- تذکرة الحفاظ للذهبی  ج 2  ص 672 __ 673.
3- سیر أعلام النبلاء للذهبی  ج 14  ص 90 __ 91.
4- تحفة الأحوذی للمبارکفوری  ج 6 ص 156.

ص: 377

وعن الرازی فی (الجرح والتعدیل) قال: (إبراهیم بن سعید الجوهری روی عن ابن عیینة ووکیع، یعد فی البغدادیین سمعت أبی وأبا زرعة یقولان ذلک، قال وسمعت أبی یقول کتبت عنه، وکان یذکره بالصدق)(1).

وقال الخطیب البغدادی فی (تاریخ بغداد): (إبراهیم بن سعید، أبو إسحاق الجوهری...وکان مکثرا ثقة ثبتا. صنف «المسند» وانتقل عن بغداد، فسکن عین زربة مرابطا بها إلی أن مات... حدثنا هارون بن یعقوب الهاشمی قال: سمعت أبی سأل أبا عبد الله __ یعنی أحمد بن حنبل __ عن إبراهیم بن سعید قال: لم یزل یکتب الحدیث قدیما. قلت: فأکتب عنه؟ قال: نعم. أنبأنا محمد بن أحمد بن رزق، حدثنا أبو علی بن الصواف __ إملاء __ حدثنا أبو العباس البراثی قال: قال أحمد بن حنبل __ وسأله موسی بن هارون وهو معی عن إبراهیم بن سعید الجوهری __ فقال: کثیر الکتاب، کتب فأکثر، واستأذنه فی الکتابة عنه فأذن له... حدثنا الخصیب بن عبد الله القاضی قال: ناولنی عبد الکریم وکتب لی بخطه. قال: سمعت أبی یقول: إبراهیم بن سعید الجوهری بغدادی ثقة)(2).

وقد ذکره ابن حبان فی کتابه (الثقات)(3)، واخرج له مسلم النیسابوری فی صحیحه، وکذلک اخرج له کل من أبی داود، والترمذی، والنسائی، وابن ماجة، وذکره الذهبی فی کتابه (الکاشف فی معرفة من له روایة فی کتب الستة) بقوله: (إبراهیم بن سعید الجوهری، أبو إسحاق البغدادی الحافظ...)(4).


1- الجرح والتعدیل للرازی  ج 2 ص 104.
2- تاریخ بغداد للخطیب البغدادی  ج 6 ص 90 __ 93.
3- الثقات لابن حبان  ج 8 ص 83.
4- الکاشف فی معرفة من له روایة فی کتب الستة للذهبی  ج 1 ص 212.

ص: 378

وقال الذهبی فی (میزان الاعتدال): (إبراهیم بن سعید الجوهری الحافظ...أبو إسحاق البغدادی، أحد الأعلام، سمع ابن عیینة وأبا معاویة. و__ روی __ عنه الستة سوی البخاری...قال الخطیب: کان ثقة ثبتا مکثرا... وقال أبو العباس البراثی: قال أحمد بن حنبل: هو کثیر الکتاب اکتبوا عنه. وقال النسائی: ثقة...وکان حجاج یقع فیه. قلت: لا عبرة بهذا، وإبراهیم حجة بلا ریب)(1).

جیم: حسین بن محمد

وهو الحسین بن محمد بن بهرام التمیمی، قال الخطیب البغدادی فی (تاریخ بغداد): (الحسین بن محمد بن بهرام، أبو أحمد التمیمی المؤدب: وهو مروروذی الأصل، کان ببغداد... حدثنا معاویة بن صالح بن أبی عبید الله. قال: أبو أحمد حسین بن محمد قال لی أحمد __ یعنی ابن حنبل __ أکتبوا عنه، وجاء معی إلیه یسأله أن یحدثنی. حدثنا الصوری، أنبأنا الخصیب بن عبد الله القاضی، أنبأنا عبد الکریم ابن أحمد بن شعیب النسائی، أخبرنی أبی قال: أبو أحمد الحسین بن محمد المروروذی لیس به بأس، سکن بغداد. حدثنا الأزهری، حدثنا محمد بن العباس، حدثنا أحمد بن معروف الخشاب، حدثنا الحسین بن فهم، حدثنا محمد بن سعد. قال: مات حسین بن محمد بن بهرام المروروذی ببغداد فی آخر خلافة المأمون، وکان ثقة)(2).

وقال ابن حجر فی (تهذیب التهذیب): (الحسین بن محمد بن بهرام التمیمی أبو أحمد ویقال أبو علی المؤدب المروذی... قال ابن سعد ثقة مات فی آخر خلافة المأمون وقال النسائی لیس به بأس وقال معاویة بن صالح قال لی احمد اکتبوا عنه


1- میزان الاعتدال للذهبی  ج 1 ص 35 __ 36.
2- تاریخ بغداد للخطیب البغدادی  ج 8  ص 87 __ 89.

ص: 379

وذکره ابن حبان فی الثقات... وقال ابن قانع مات سنة (15) وهو ثقة وقال ابن وضاح سمعت محمد بن مسعود یقول حسین بن محمد ثقة وسمعت ابن نمیر یقول حسین بن محمد بن بهرام صدوق وقال العجلی بصری ثقة)(1).

أقول: وقد روی عنه البخاری ومسلم فی صحیحیهما، وروی عنه أبو داود، والترمذی، والنسائی، وابن ماجة وغیرهم، فهو من رجال الصحیحین وبقیة الکتب الستة وغیرها.

دال: سلیمان بن قرم

قال المزی فی (تهذیب الکمال): (قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: کان أبی یتبع حدیث قطبة بن عبد العزیز، وسلیمان بن قرم، ویزید بن عبد العزیز بن سیاه وقال: هؤلاء قوم ثقات، وهم أتم حدیثا من سفیان وشعبة، هم أصحاب کتب، وإن کان سفیان وشعبة أحفظ منهم. وقال محمد بن عوف الطائی، عن أحمد بن حنبل: لا أری به بأسا لکنه کان یفرط فی التشیع)(2).

وقد رمز له ابن حجر فی (تهذیب التهذیب) برمز: (خت م د ت س)(3) ومعنی ذلک هو ان البخاری قد اخرج له فی التعالیق، واخرج له مسلم، وأبو داود، والترمذی، والنسائی، فهو من رجال الصحاح ومن رجال بقیة الکتب الستة.

وقال ابن حجر أیضا:

(وقال ابن عدی له أحادیث حسان أفراد وهو خیر من سلیمان بن أرقم بکثیر وتدل صورة سلیمان هذا علی أنه مفرط فی التشیع وفرق بینه وبین سلیمان بن معاذ


1- تهذیب التهذیب لابن حجر ج 2 ص 315 __ 316.
2- تهذیب الکمال للمزی  ج 12  ص 52 __ 53.
3- تهذیب التهذیب لابن حجر  ج 4 ص 187.

ص: 380

الضبی فقال لم أر للمتقدمین فیه کلاما وفی بعض ما یروی مناکیر)(1).

ولکن البعض قدحوا فی سلیمان بن قرم تارة بسبب تشیعه وتارة بسبب سوء حفظه وأخری باتهامه بقلب الأخبار، وفیما یأتی جملة من أقوالهم:

قال ابن حجر فی (تهذیب التهذیب): (وقال محمد بن عوف عن أحمد لا أری به بأسا لکنه کان یفرط فی التشیع وقال ابن معین ضعیف وقال مرة لیس بشیء وقال أبو زرعة لیس بذاک وقال أبو حاتم لیس بالمتین وقال النسائی ضعیف... وقال ابن حبان کان رافضیا غالیا فی الفرض ویقلب الأخبار... عن أبی داود کان یتشیع... وذکره الحاکم فی باب من عیب علی مسلم إخراج حدیثهم وقال غمزوه بالغلو فی التشیع وسوء الحفظ جمیعا)(2).

أقول:وخلاصة ما عیب علی سلیمان بن قرم ثلاثة أشیاء هی (إفراطه فی التشیع) و(قلبه للأخبار) و(سوء حفظه) وهی أمور لا تقدح نهائیا فی صحة حدیث الطیر، وکذلک لا تقدح فی وثاقة سلیمان بن قرم فی خصوص هذا الحدیث بالذات، وذلک لعدة أسباب منها:

1: إن التشیع والإفراط فی الرفض، لا یقدح فی وثاقة الراوی، فکم من شیعی جلد أو مفرط فی تشیعه ورفضه علی حسب تعبیرهم قد اخرج له أصحاب الصحاح والمسانید والسنن واحتجوا بقوله، وأخذت روایته بالقبول، وقول محمد بن إسحاق بن خزیمة المشهور خیر شاهد علی هذه الحقیقة حیث کان یعبر عن (عباد بن یعقوب الراوجنی) بقوله: (حدثنا الثقة فی روایته، المتهم فی دینه عباد بن یعقوب)(3) ففرق


1- تهذیب التهذیب لابن حجر ج2 ص315 __ 316.
2- المصدر نفسه.
3- تهذیب الکمال لمزی  ج 14 ص 177.

ص: 381

کما تری ما بین وثاقته وصحة الأخذ عنه وما بین دینه ومذهبه الذی یرتئیه.

وقد وثقوا «عباد بن یعقوب» علی الرغم من کونه شیعیا، وعلی الرغم من اعترافهم بانه کان یشتم عثمان بن عفان وغیره من الصحابة ویعیب علیهم، إلا أن کل هذا لم یمنعهم من توثیقه وقبول روایته، وقد صرح الذهبی بهذا فی (سیر أعلام النبلاء) بقوله: (وقال الحاکم: کان ابن خزیمة یقول: حدثنا الثقة فی روایته، المتهم فی دینه، عباد بن یعقوب. وقال ابن عدی: فیه غلو فی التشیع. وروی عبدان عن ثقة، أن عبادا کان یشتم السلف. وقال ابن عدی: روی مناکیر فی الفضائل والمثالب...وروی علی بن محمد الحبیبی، عن صالح جزرة، قال: کان عباد یشتم عثمان...وسمعته، یقول: الله أعدل من أن یدخل طلحة والزبیر الجنة، قاتلا علیا بعد أن بایعاه... وقال ابن جریر: سمعته، یقول: من لم یبرأ فی صلاته کل یوم من أعداء آل محمد، حشر معهم)(1).

إلا أن هذه الأمور جمیعها لم تمنع الذهبی من الاعتراف بإمامة عباد بن یعقوب بقوله: (الرواجنی الشیخ العالم الصدوق، محدث الشیعة، أبو سعید عباد بن یعقوب الأسدی الرواجنی الکوفی المبتدع...روی عنه: البخاری حدیثا قرن فیه معه آخر، والترمذی، وابن ماجة، وأبو بکر البزار، وصالح جزرة، وابن خزیمة، ومحمد ابن علی الحکیم الترمذی، وابن صاعد، وابن أبی داود، وآخرون. قال أبو حاتم: شیخ ثقة)(2) فبدعته(3) کما تری لم تکن بمانعة عن توثیقه وقبول أحادیثه وإخراجها


1- سیر أعلام النبلاء للذهبی  ج 11 ص 537.
2- المصدر نفسه.
3- تعبیرنا هذا یحاکی وجهة نظر أهل السنة التی تجعل کل من یخالف رأی أهل السنة وعقیدتها مبتدعاً، وإلا فمن وجهة نظرنا ونظر الحق والإنصاف فان التشیع هو المذهب الحق وغیره هو البدعة.

ص: 382

فی الصحاح والمسانید والسنن.

وکذلک الحال بالنسبة لأبان بن تغلب الذی اخرج له مسلم النیسابوری فی صحیحه وبقیة أصحاب الکتب الستة باستثناء البخاری والذی قال عنه الذهبی: (أبان بن تغلب الکوفی شیعی جلد، لکنه صدوق، فلنا صدقه وعلیه بدعته. وقد وثقه أحمد بن حنبل، وابن معین، وأبو حاتم، وأورده ابن عدی، وقال: کان غالیا فی...ان البدعة علی ضربین: فبدعة صغری کغلو التشیع، أو کالتشیع بلا غلو ولا تحرف، فهذا کثیر فی التابعین وتابعیهم مع الدین والورع والصدق. فلو رد حدیث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبویة، وهذه مفسدة بینة)(1).

وفی معرض الکلام عن (محمد بن الفرج الأزرق البغدادی) والذی کان معروفا بانه من أصحاب البدع یقول الذهبی: (المحدث، العالم، المسند، أبو بکر، محمد بن الفرج بن محمود الأزرق البغدادی... قال الحاکم: سمعت الدارقطنی یقول: لا بأس به، وهو من أصحاب حسین الکرابیسی، یطعن علیه فی اعتقاده. قال الخطیب: أما أحادیثه فصحاح قلت: له أسوة بخلق کثیر من الثقات الذین حدیثهم فی «الصحیحین» أو أحدهما، ممن له بدعة خفیفة بل ثقیلة، فکیف الحیلة؟ نسأل الله العفو والسماح)(2) وهو تصریح من الذهبی مهم للغایة فمن کلامه یتبین ان فی الصحیحین خلقاً کثیراً من أهل البدع ممن بدعته خفیفة أو ثقیلة، قد وثقوا وأخرجت أحادیثهم.

وعلیه فرمی سلیمان بن قرم الذی ورد اسمه فی سند حدیث الطیر بالتشیع أو الغلو فی الرفض لا یعد قادحا فی عدالته ووثاقته، ولا مانعا من قبول روایته.


1- میزان الاعتدال للذهبی  ج 1 ص 5.
2- سیر أعلام النبلاء للذهبی: ج13، ص394 __ 395.

ص: 383

2: وأما سوء الحفظ وقلب الأخبار، لو سلمنا بصدق من رماه بها وإنصافه وعدالته، وان هذا الطعن لم یکن طعنا مذهبیا یرجع إلی تشیع سلیمان بن قرم فانه أیضا غیر قادح فی هذا السند مطلقا، لان سیّئ الحفظ ومن یقلب الأخبار لا ترد روایته مطلقا، وإنما ترد روایته فیما لو لم تکن هنالک روایة ثانیة صحیحة تعضد روایته، فان کانت هنالک روایة أخری تعضد روایته فان القبول بروایته هو اللازم، لان بوجود الشاهد أو المتابع له یتبین بأن سلیمان بن قرم کان فی خصوص هذه الروایة حافظا، وان هذه الروایة علی الخصوص لم تکن من ضمن الروایات المقلوبة، فیتعین الأخذ بها، وهذا أمر معروف یستغنی عن ذکر البرهان، فتکون الإطالة فیه إطالة فی أمر بدیهی.

وروایة الطیر قد ثبت فیما سبق أن لها سندین صحیحین صریحین فیصح عدّهما شاهداً علی حفظ سلیمان بن قرم وعدم قلبه لهذا الخبر بالذات، فتکون روایته صحیحة بلا أدنی ریب.

وبهذا یندفع إشکال من حاول أن یشکل علی هذا الإسناد بحجة ضعف سلیمان بن قرم، ویثبت ایضا بان سلیمان بن قرم علی الرغم من تلک الاشیاء التی رمی بها فانه ثقة وحدیثه یحتج به، وهو ان لم یکن حدیثه فی اعلی مراتب الصحیح فلا ینزل عن رتبة الحسن، وهذا ما صرح به الذهبی فی کتابه الموسوم ب_(ذکر أسماء من تکلم فیه وهو موثق) حیث ذکر فی مقدمة کتابه هذا بان الهدف من تألیفه هو: (معرفة ثقات الرواة الذین تکلم فیهم بعض الأئمة بما لا یرد أخبارهم وفیهم بعض اللین وغیرهم أتقن منهم وأحفظ فهؤلاء حدیثهم إن لم یکن فی أعلی مراتب الصحیح فلا ینزل عن رتبة الحسن)(1).


1- ذکر أسماء من تکلم فیه وهو موثق للذهبی ج1 المقدمة.

ص: 384

ثم ذکر أسماء هؤلاء الذین تکلم فیهم وهم موثقون فذکر الذهبی سلیمان ابن قرم تحت رقم (146) بقوله: (سلیمان بن قرم أبو داود الضبی وهو ابن معاذ نسب إلی جده «م د ت س»:وثقه أحمد وغیره وقال أبو زرعة لیس بذاک وقال أبو حاتم لیس هو بالمتین وقال ابن حبان رافضی غال یقلب الأخبار قال الحاکم أخرجه مسلم شاهدا وقد غمز بالغلو وسوء الحفظ جمیعا وقال ابن معین من وجوه عنه لیس بشیء)(1)، فجعله الذهبی کما تری ممن حدیثهم إن لم یکن فی أعلی مراتب الصحیح فلا ینزل عن رتبة الحسن.

هاء: فطر بن خلیفة

قال الدوری: (سألت یحیی عن فطر بن خلیفة فقال ثقة)(2)، وقال فی موضع آخر: (سمعت یحیی یقول فطر بن خلیفة ثقة وهو شیعی)(3).

وعن ابن حنبل قال: (سألت أبی عن فطر بن خلیفة فقال ثقة صالح الحدیث)(4)، وقال العجلی فی (معرفة الثقات): (فطر بن خلیفة الحناط کوفی ثقة حسن الحدیث وکان فیه تشیع قلیل)(5).

وقال العقیلی فی (الضعفاء): (فطر بن خلیفة الحناط کوفی...حدثنا عبد الله قال سمعت أبی یقول کان فطر عند یحیی ثقة ولکنه کان خشبیا مفرطا حدثنا عبد الله قال سألت أبی عن فطر بن خلیفة فقال ثقة صالح الحدیث حدیثه حدیث رجل


1- سیر أعلام النبلاء للذهبی: ج13، ص93.
2- تاریخ ابن معین، الدوری ج 1 ص 196.
3- المصدر السابق ص246.
4- العلل لأحمد بن حنبل  ج 1 ص 443.
5- معرفة الثقات للعجلی  ج 2 ص 208.

ص: 385

کیس إلا أنه کان یتشیع... حدثنا محمد حدثنا عباس قال سمعت یحیی بن معین یقول فطر بن خلیفة ثقة وهو شیعی)(1).

وقد اعترف بوثاقته أیضا الهیثمی فی (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد) وکرر القول بوثاقته وان کلام بعض الذین ضعفوه کما سیأتی لا یضر بوثاقته، فقال: (فطر بن خلیفة وهو ثقة وفیه کلام لا یضر)(2).

وقال ابن حجر فی (مقدمة فتح الباری): (فطر بن خلیفة المخزومی مولاهم کوفی من صغار التابعین وثقه أحمد والقطان والدارقطنی وابن معین والعجلی والنسائی وآخرون وقال ابن سعد کان ثقة إن شاء الله... روی له البخاری وأصحاب السنن لکن لیس له فی البخاری سوی حدیث واحد رواه عن مجاهد...)(3).

 وقد ذکره ابن حبان فی (الثقات)(4)، وذکره أیضا فی (مشاهیر علماء الأمصار) بقوله: (فطر بن خلیفة من متقنی أهل الکوفة مات سنة ثلاث وخمسین ومائة)(5).

وقال الذهبی فی (سیر أعلام النبلاء): (فطر بن خلیفة الشیخ العالم، المحدث الصدوق، أبو بکر الکوفی المخزومی... له سن ولقاء، وکان لا یدع أحدا یکتب عنده)(6).


1- ضعفاء العقیلی للعقیلی ج 3 ص 464 __ 466.
2- مجمع الزوائد للهیثمی ج 5 ص 70.
3- مقدمة فتح الباری لابن حجر ص 434 __ 435.
4- الثقات لابن حبان  ج 5  ص 300.
5- مشاهیر علماء الأمصار لابن حبان ص 266.
6- سیر أعلام النبلاء للذهبی  ج 7  ص 30 __ 33.

ص: 386

وقال ابن حجر فی (تهذیب التهذیب): (فطر بن خلیفة القرشی المخزومی... وقال أبو زرعة الدمشقی سمعت أبا نعیم یرفع من فطر ویوثقه ویذکر انه کان ثبتا فی الحدیث)(1).

أقول: وقد ضعفه بعض المحدثین بتضعیفات لا تضر ولا تقدح فی عدالته، تعود جمیعها إلی کونه شیعیا یقدم الإمام علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه علی عثمان، وقد نوه إلیها ابن حجر وغیره بقوله: (...ومن الناس من یستضعفه...وقال الساجی صدوق ثقة لیس بمتقن...قال الساجی وکان یقدم علیا علی عثمان...وقال أبو بکر بن عیاش ما ترکت الروایة عنه إلا لسوء مذهبه...وقال ابن أبی خیثمة سمعت قطبة بن العلاء یقول ترکت فطرا لأنه یروی أحادیث فیها إزراء علی عثمان)(2).

وقال الذهبی فی (سیر أعلام النبلاء): (وقال أحمد بن یونس: ترکته عمدا، وکان یتشیع وکنت أمر به بالکناسة... فأمر وأدعه مثل الکلب...حدثت عن جریر قال: کان الأعمش ومنصور ومغیرة یشربون، فإذا أخذوا فی رؤوسهم، سخروا بفطر بن خلیفة)(3).

وقد تقدم إن کون الراوی شیعیا أو مقدما لعلی علی عثمان أو غیر هذه الطعون لا تعد شیئا ولا تساوی فلسا، ولا تقدح بثقة الراوی وعدالته، أما دعوی البعض بان فطر بن خلیفة لیس بمتقن فمردود بقول ابن حبان وأبی نعیم اللذین تقدم تصریحهما بإتقان فطر بن خلیفة وانه ثبت من الإثبات فی الحدیث، وکذلک لا


1- تهذیب التهذیب لابن حجر  ج 8 ص 271.
2- المصدر نفسه.
3- سیر أعلام النبلاء للذهبی ج 7 ص 31.

ص: 387

تضره سخریة الأعمش ومنصور ومغیرة، لأنهم کانوا یشربون الخمر فإذا سکروا وقعوا فیه وهم أولی بالسخریة والاستهزاء، وأحق أن لا یخرج حدیثهم ولا یوثقوا، اذ کیف یروون حدیث رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وهم ممن یشرب الخمور ویقول الباطل، ولا عتب علیهم فان من تربی فی أحضان السلطة لا یکون حاله أحسن من هذا، وإنما العتب کل العتب علی من یخرج لهم الأحادیث ویوثقهم ویقبل قولهم وقدحهم بحق المؤمنین.

واو: عبد الرحمن بن أبی نعم

وهو کما فی (مقدمة فتح الباری) لابن حجر: (عبد الرحمن بن أبی نعم البجلی أبو الحکم الکوفی العابد وثقه ابن سعد والنسائی وقال ابن أبی خیثمة عن ابن معین ضعیف «قلت(1)» اعتمده الشیخان وله عند البخاری ثلاثة أحادیث عن أبی هریرة وأبی سعید وابن عمر عن کل واحد حدیث واحد وروی له الباقون)(2).

وقال الرازی فی (الجرح والتعدیل): (الحکم بن عبد الرحمن بن أبی نعم البجلی کوفی... عن یحیی بن معین أنه قال: الحکم بن عبد الرحمن بن أبی نعم ضعیف. حدثنا عبد الرحمن قال سألت أبی عن الحکم بن عبد الرحمن بن أبی نعم فقال: صالح الحدیث)(3).

وقد ذکره ابن حبان فی (الثقات) قائلا: (عبد الرحمن بن أبی نعم البجلی الکوفی کنیته أبو الحکم یروی عن أبی هریرة وابن عمر وأبی سعید الخدری روی


1- القائل هو ابن حجر.
2- مقدمة فتح الباری لابن حجر ص 417.
3- الجرح والتعدیل للرازی  ج 3 ص 123.

ص: 388

عنه زرارة بن أوفی وفضیل بن غزوان وکان من عباد أهل الکوفة ممن یصبر علی الجوع الدائم أخذه الحجاج بن یوسف لیقتله وأدخله بیتا مظلما وسد الباب خمسة عشر یوما ثم أمر الباب ففتح لیخرج به فیدفن فدخلوا علیه فإذا هو قائم یصلی فقال له الحجاج بن یوسف مر حیث شئت)(1).

وقال ابن حجر فی (تقریب التهذیب): (عبد الرحمن بن أبی نعم بضم النون وسکون المهملة البجلی أبو الحکم الکوفی العابد صدوق من الثالثة مات قبل المائة)(2)، وقال ابن حجر فی (تهذیب التهذیب): (عبد الرحمن بن أبی نعم البجلی أبو الحکم الکوفی العابد...وذکره ابن حبان فی الثقات...وقال ابن سعد کان یحرم من السنة إلی السنة وکان ثقة وله أحادیث وقال ابن أبی حاتم ذکر أبی عبد الرحمن ابن أبی نعم فذکر له فضلا وعبادة وقال النسائی فی التمییز ثقة وقال ابن أبی خیثمة عن ابن معین ضعیف)(3).

وقال الذهبی فی (میزان الاعتدال): (عبد الرحمن بن أبی نعم البجلی. کوفی، تابعی مشهور...وکان من الأولیاء الثقات. وقال أحمد بن أبی خیثمة، عن ابن معین، قال: ابن أبی نعم ضعیف)(4)، وقال الذهبی فی (تاریخ الإسلام): (وکان من الثقات العابدین)(5)، وقال فی (سیر أعلام النبلاء): (عبد الرحمن بن أبی نعم الإمام الحجة القدوة الربانی أبو الحکم البجلی الکوفی)(6).


1- الثقات لابن حبان ج 5 ص 112.
2- تقریب التهذیب لابن حجر  ج 1  ص 593.
3- تهذیب التهذیب لابن حجر  ج 6 ص 256 __ 257.
4- میزان الاعتدال للذهبی  ج 2 ص 595.
5- تاریخ الإسلام للذهبی  ج 7 ص 151.
6- سیر أعلام النبلاء للذهبی  ج 5 ص 62.

ص: 389

أقول: فعبد الرحمن بن أبی نعم ثقة إمام حجة، اخرج له البخاری ومسلم فی صحیحیهما واخرج له بقیة أصحاب الکتب الستة، واخرج له احمد بن حنبل فی مسنده، وغیره خلق کثیر، ولم یضعفه غیر یحیی بن معین کما تقدم، ویعدّ تضعیفه مخالفاً لما اتفق علیه جمیع المحدثین، فلا یعتد حینئذ بتضعیفه، لما تقدم سابقا من ان یحیی بن معین لا یؤخذ ولا یعتد بتضعیفه فیما لو خالف المشهور وانفرد عن المجمع علیه، وقد تقدم قول الذهبی فی (سیر أعلام النبلاء): (وَنَحْنُ نَسْمَعُ مِنْ یَحْیَی دَائِماً، وَنَحتَجُّ بِقَولِه فِی الرِّجَالِ، مَا لَمْ یَتَبَرهَنْ لَنَا وَهْنُ رَجُلٍ انفَرَدَ بِتَقْوِیَتِه، أَوْ قُوَّةِ مَنْ وَهَّاهُ)(1).

جملة ممن قال بصحة حدیث الطائر المشوی

1: تصحیح الحاکم لحدیث الطیر
اشارة

أخرج الحاکم النیسابوری فی (المستدرک علی الصحیحین) روایة عن أبی علی الحافظ، أنبأ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أیوب الصفار وحمید بن یونس بن یعقوب الزیات قالا: ثنا محمد بن أحمد بن عیاض بن أبی طیبة، ثنا أبی، ثنا یحیی ابن حسان، عن سلیمان بن بلال، عن یحیی بن سعید، عن أنس بن مالک قال: (کنت أخدم رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم، فقدم لرسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فرخ مشوی، فقال: اللهم ائتنی بأحب خلقک إلیک یأکل معی من هذا الطیر قال: فقلت: اللهم اجعله رجلا من الأنصار فجاء علی رضی الله عنه، فقلت: إن رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم علی حاجة، ثم جاء، فقلت: إن رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم علی حاجة ثم جاء، فقال


1- سیر أعلام النبلاء للذهبی ج11 ص448.

ص: 390

رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم: « افتح » فدخل، فقال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم: ما حبسک علی فقال: إن هذه آخر ثلاث کرات یردنی أنس یزعم أنک علی حاجة، فقال: ما حملک علی ما صنعت؟ فقلت: یا رسول الله، سمعت دعاءک، فأحببت أن یکون رجلا من قومی، فقال رسول الله: إن الرجل قد یحب قومه)(1).

فقال الحاکم بعد إیراده لهذه الروایة: (هذا حدیث صحیح علی شرط الشیخین، ولم یخرجاه __ أی البخاری ومسلم فی صحیحیهما __ وقد رواه عن أنس جماعة من أصحابه زیادة علی ثلاثین نفسا، ثم صحت الروایة عن علی وأبی سعید الخدری وسفینة)(2).

محاولة الذهبی تکذیب الحاکم النیسابوری

لکن الذهبی حاول جاهدا أن یقوض کلام الحاکم النیسابوری، وینفی من خلالها صحة هذا الحدیث، فاعترض علی هذا الحدیث وعلی تعلیق الحاکم النیسابوری بثلاثة اعتراضات هی:

ألف: حاول الذهبی أن یرمی اثنین من رجال هذا السند بالجهالة لیغلق الباب من أساسه، فقال فی تعلیقته علی مستدرک الحاکم: (ابن عیاض لا أعرفه)(3). وقال فی (میزان الاعتدال): (وأما أبوه فلا اعرفه)(4)، والروایة بهذا التعلیق تکون ضعیفة لجهالة اثنین من رواتها.


1- المستدرک علی الصحیحین للحاکم النیسابوری ج3 ص130 __ 131.
2- المصدر نفسه.
3- المستدرک بتعلیق الذهبی ج3 ص141.
4- میزان الاعتدال للذهبی: ج3، ص465.

ص: 391

أقول: لکن الذهبی تراجع عن جهالة محمد بن عیاض، وعرفه من بعد ذلک ووثقه فی کتابه (میزان الاعتدال) ولکنه أصر علی عدم معرفة أبیه وأبقاه مجهولا فقال: (محمد بن أحمد بن عیاض. روی عن أبیه أبی غسان أحمد بن عیاض عن أبی طیبة المصری، عن یحیی بن حسان، فذکر حدیث الطیر. وقال الحاکم: هذا علی شرط البخاری ومسلم. قلت: الکل ثقات إلا هذا، فإنها أتهمه به، ثم ظهر لی أنه صدوق. روی عنه الطبرانی، وعلی بن محمد الواعظ...وکان رأسا فی الفرائض...فأما أبوه فلا أعرفه)(1).

وقد کشف ابن حجر الهیثمی النقاب عن أحمد بن عیاض والد محمد بن عیاض الذی عجز الذهبی عن معرفته، فعرفه وأخرجه من طامورة الجهالة فی کتابه (لسان المیزان) عند تعلیقه علی قول الذهبی: (فأما أبوه فلا أعرفه انتهی. قلت __ والقائل هو ابن حجر __ ذکره ابن یونس فی تاریخ مصر قال أحمد بن عیاض بن عبد الملک بن نصر الفرضی مولی حبیب من ذا یکنی أبا غسان یروی عنه یحیی بن حسان. توفی سنة ثلاث وتسعین ومائتین هکذا ذکره ولم یذکر فیه جرحا. ثم أسند له حدیثا فقال حدثنی المعافی بن عمر بن حفص الرازی ثنا أبو غسان أحمد بن عیاض المحسبی ثنا یحیی بن حسان عن سلیمان بن بلال عن یحیی بن سعید عن انس رضی الله عنه عن النبی صلی الله علیه وآله وسلم قال لا یلام الرجل علی قومه)(2).

فیخرج بذلک کل من محمد بن احمد بن عیاض ووالده عن صفة الجهالة، ویثبت تصحیح الحاکم النیسابوری لهذا الحدیث بهذا الإسناد المتقدم.


1- میزان الاعتدال للذهبی  ج3  ص465.
2- لسان المیزان لابن حجر ج 5 ص 57 __ 58.

ص: 392

محاولة اخری من الذهبی لتکذیب کلام الحاکم النیسابوری

واعترض الذهبی علی قول الحاکم النیسابوری وقوله: (...وقد رواه عن أنس جماعة من أصحابه زیادة علی ثلاثین نفسا، ثم صحت الروایة عن علی وأبی سعید الخدری وسفینة)(1)،کما نقل ابن کثیر فی (البدایة والنهایة) حیث قال: (قال شیخنا الحافظ الکبیر أبو عبد الله الذهبی فصلهم بثقة یصح الإسناد إلیه)(2).

أی إن الذهبی ینکر وثاقة جمیع الطرق والأسانید التی جاءت عن طریق انس بن مالک، ویتحدی الحاکم النیسابوری أن ینقل حدیث الطیر من ثقة إلی ثقة إلی انس بن مالک، لان مثل هذا الطریق غیر موجود باعتقاد الذهبی.

أقول: إن تحدی الذهبی للحاکم النیسابوری جاء بعد موت الحاکم بسنین طوال، لان الحاکم النیسابوری توفی فی سنة (405 للهجرة)، بینما الذهبی مات فی سنة (748 للهجرة)، ولو کان معاصرا له لما تجرأ علی مثل هذا التحدی، لان الحاکم النیسابوری کان وباعتراف الذهبی فی کتابه (تذکرة الحفاظ) قد: (اتفق له من التصانیف ما لعله یبلغ قریبا من الف جزء... وسائر الأئمة یقدمونه علی أنفسهم ویراعون حق فضله ویعرفون له الحرمة الأکیدة... عاش حمیدا ولم یخلف فی وقته مثله...)(3)، فلو کان الذهبی قد تحداه فی حیاته لما عجز الحاکم النیسابوری عن الإتیان بعشرات الطرق الصحیحة عن انس بن مالک وغیره تصحح حدیث الطائر المشوی وتکذب الذهبی، وترغم انف کل حاسد وشانئ.

إضافة إلی أننا قد ذکرنا لحدیث الطائر المشوی فیما سبق طریقین ینتهی کل منهما إلی انس بن مالک وقد حققنا جمیع رجال هذین السندین وأثبتنا وثاقة کل رجل منهم، وبه یندفع اعتراض الذهبی وتبطل حجته وینکشف ضعف تحدیه.


1- لسان المیزان لابن حجر ج 5 ص 57 __ 58.
2- البدایة والنهایة لابن کثیر ج 7 ص 387.
3- تذکرة الحفاظ للذهبی ج 3 ص 1043 __  1045.

ص: 393

محاولة ثالثة من الذهبی لنقض کلام الحاکم النیسابوری

 واعترض الذهبی أیضا علی کلام الحاکم النیسابوری وقوله: (ثم صحت الروایة عن علی وأبی سعید الخدری وسفینة)(1)بما نقله عنه ابن کثیر فی (البدایة والنهایة) بقوله: (قال شیخنا أبو عبد الله __ الذهبی __ لا والله ما صح شیء من ذلک)(2).

فأنکر الذهبی بذلک أن تکون هنالک أی روایة صحیحة تثبت حدیث الطیر تنتهی بسندها إلی کل من الإمام علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه، وأبی سعید الخدری، وسفینة خادم النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم.

أقول: لا والله ما صح شیء من کلام الذهبی وتعصباته، فقد صحت أسانید طرق عدیدة انتهت بعضها إلی أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه وبعضها إلی أبی سعید الخدری، وبعضها إلی سفینة خادم النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، وکمثال علی عدم صحة کلام الذهبی یرجی مراجعة الحدیث الذی حققنا رجال سنده فیما سبق، وهو الحدیث الذی رواه الطبرانی وصححه الهیثمی، والذی ینتهی إلی سفینة خادم النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، فانه یبین لک عدم صحة کلام الذهبی ومصداقیته ونفیه لجمیع طرق حدیث الطائر المشوی المنقولة عن الذین سبق ذکرهم فی عبارته.

وبدفع هذه الاعتراضات الثلاثة یثبت تصحیح الحاکم النیسابوری لحدیث الطائر المشوی، ویتبین جلیا ان جمیع اعتراضات الذهبی نابعة من وجهة نظر مذهبیه غیر محایدة ولا علمیة، وعلیه فلا اعتبار لها ولا قیمة فی میزان العلم والإنصاف.


1- تذکرة الحفاظ للذهبی ج 3 ص 1043 __  1045.
2- البدایة والنهایة لابن کثیر ج 7 ص 387.

ص: 394

2: تألیف ابن جریر الطبری کتابا لإثبات حدیث الطیر وتصحیحه

 وقد سبق ابن جریر الطبری غیره فی تصحیح حدیث الطیر، وألف فیه کتابا مستقلا جمع فیه طرق الحدیث، وصحح کثیرا منها، وقد أشار إلی تألیفه لهذا الکتاب ابن کثیر فی (البدایة والنهایة) حیث قال ما هو نصه: (وقد جمع الناس فی هذا الحدیث مصنفات مفردة منهم أبو بکر بن مردویه والحافظ أبو طاهر محمد بن أحمد بن حمدان فیما رواه شیخنا أبو عبد الله الذهبی ورأیت فیه مجلدا فی جمع طرقه وألفاظه لأبی جعفر بن جریر الطبری المفسر صاحب التاریخ...)(1).

ولا یقال ان ابن جریر الطبری إنما جمع حدیث الطائر المشوی لمجرد التعجب وبیان خلله وعدم صحته کما یحلو للبعض أن یدعی، فقد صرح الدکتور سعد بن عبد الله الحمید فی کتابه (مناهج المحدثین) ان ابن جریر الطبری إنما جمع کتابه بهدف تصحیح الحدیث وتوثیقه حیث صرح بالقول: (فهذا الحدیث هو من الأحادیث التی یتقوی بها الشیعة وأهل الرفض، ولکن الذی حیر بعض الأئمة أن لهذا الحدیث طرقاً کثیرة جداً عن أنس، وقد صححه ابن جریر الطبری __ رحمه الله __ وله فیه مؤلف)(2).

وقال فی موضع آخر من کتابه هذا: (فإذا کان الأمر هکذا بالنسبة للذهبی فإننا نجد هناک طائفة من العلماء __ وهم کثر __؛ کان موقفهم من هذا الحدیث موقف الذی تلقاه بالقبول، ولم یجد فی متنه نکارة مما یجعله یعزف علی الحکم علی هذا الحدیث بالصحة أو بالحسن، ومن هؤلاء العلماء ابن جریر الطبری، وابن جریر له مجلد فی جمع طرق وألفاظ هذا الحدیث)(3).


1- البدایة والنهایة لابن کثیر  ج 7 ص 390.
2- مناهج المحدثین للدکتور سعد بن عبد الله الحمید، ص53،عُنی به أبو عبیدة ماهر صالح آل مبارک، طبعة دار علوم السنة.
3- المصدر نفسه ص54.

ص: 395

3: تحسین العلائی ومتابعة بدر الدین الزرکشی وابن السبکی وغیرهم له

لقد حاولت جاهدا أن احصل علی نص کلام العلائی فی شأن حدیث الطائر المشوی فلم استطع، لان کتابه (النقد الصحیح لما اعترض من أحادیث المصابیح) غیر متوفر تحت أیدینا، إلا أن هذا لا یضر فکلامه منقول عنه فی مصادر عدیدة وهو مشهور، وسننقل للقارئ الکریم نصین من کتابین مختلفین، الأول ما نقله الشیخ بدر الدین محمد ابن بهادر بن عبد الله الزرکشی الشافعی فی (النکت علی مقدمة ابن الصلاح) بعد إیراده کلام ابن طاهر فی (الیواقیت) حیث قال: (وإنما هو __ أی حدیث الطائر المشوی __ موضوع وإنما یجیء عن سقاط أهل الکوفة عن المشاهیر والمجاهل عن أنس)(1).

 فرد علیه ابن الصلاح بقوله: (وفیما قاله نظر فقد تکلم علیه الشیخ الحافظ أبو سعید العلائی فقال __ بعدما ذکر تخریج الترمذی له وکذلک النسائی فی خصائص علی __ رضی الله تعالی عنه __ إن الحدیث ربما ینتهی إلی درجة الحسن أو یکون ضعیفا یحتمل ضعفه أما أنه موضوع فلا وقد خرجه الحاکم برجال کلهم ثقات معروفون سوی أحمد بن عیاض فلم أر من ذکره بتوثیق ولا تجریح)(2).

وکذلک وافق تاج الدین عبد الوهاب بن علی السبکی کلام العلائی فی کتابه (طبقات الشافعیة الکبری) حیث قال: (وأما الحکم علی حدیث الطیر بالوضع فغیر جید ورأیت لصاحبنا الحافظ صلاح الدین خلیل بن کیکلدی العلائی علیه کلاما قال فیه بعد ما ذکر تخریج الترمذی له وکذلک النسائی فی خصائص علی رضی الله عنه إن الحق فی الحدیث أنه ربما ینتهی إلی درجة الحسن أو یکون


1- النکت علی مقدمة ابن الصلاح للشیخ بدر الدین محمد بن بهادر بن عبد الله الزرکشی الشافعی ج1 ص220.
2- المصدر نفسه.

ص: 396

ضعیفا یحتمل ضعفه قال فأما کونه ینتهی إلی أنه موضوع من جمیع طرقه فلا)(1).

أقول: إن العلائی والسبکی وان کانا اقل تعصبا من ابن طاهر، الا انهما لم ینصفا حدیث الطائر المشوی حق الانصاف، لانهما لم یحکما علی الحدیث بانه صحیح، واکتفیا بالحکم علیه بانه حسن أو ضعیف یحتمل ضعفه، بینما الحق والانصاف ان حدیث الطائر المشوی له طرق صحیحة لم یشیرا الیها، وله طرق اخری حسنة، وله طرق ضعیفة لکنها منجبرة بالطرق الصحیحة والحسنة

4: تردد الذهبی ثم اعترافه ان للحدیث أصلاً لکثرة طرقه

ان من یتابع کلام الذهبی بشأن حکمه علی حدیث الطائر المشوی یری ان الذهبی قد مر فی حکمه علی هذا الحدیث بعدة مراحل اجتهادیة، ففی تعلیقته علی المستدرک شن حربا شعواء ضد الحاکم النیسابوری بسبب إخراجه وتصحیحه حدیث الطائر المشوی فی کتابه المستدرک، وقد مرت أقواله سابقا.

بینما تغیر رأیه من بعد فاخذ موقف الحیاد من هذا الحدیث وتوقف عن تکذیبه وعن تصحیحه فی الوقت نفسه، ففی کتابه (سیر أعلام النبلاء) وفی أثناء رده علی کلام ابن أبی داود حینما سئل عن حدیث الطیر فقال: (إن صح حدیث الطیر فنبوة النبی __ صلی الله علیه __ وآله __ وسلم __ باطل، لأنه حکی عن حاجب النبی __ صلی الله علیه __ وآله __ وسلم __ خیانة __ یعنی أنسا __ وحاجب النبی لا یکون خائنا).

فقال الذهبی: (هذه عبارة ردیئة، وکلام نحس، بل نبوة محمد __ صلی الله علیه __ وآله __ وسلم __ حق قطعی، إن صح خبر الطیر، وإن لم یصح، وما وجه الارتباط؟... وحدیث الطیر __ علی ضعفه __ فله طرق جمة، وقد أفردتها فی جزء،


1- طبقات الشافعیة الکبری لتاج الدین عبد الوهاب بن علی السبکی ج1 ص91.

ص: 397

ولم یثبت، ولا أنا بالمعتقد بطلانه...)(1).

ثم تحول اجتهاده من بعد ان تعرف علی بعض الرجال والأسانید التی کان یعتقد بضعفها، ولکنه وللأسف لم تطاوعه نفسه للحکم علی الحدیث بالصحة، فقال کلمة موهمة تحتمل وجهین، فقال فی (سیر أعلام النبلاء): (وقد جمعت طرق حدیث الطیر فی جزء، وطرق حدیث: «من کنت مولاه» وهو أصح، وأصح منهما ما أخرجه مسلم عن علی قال: إنه لعهد النبی الأمی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم إلی: «إنه لا یحبک إلا مؤمن، ولا یبغضک إلا منافق»)(2).

فقوله (وطرق حدیث: «من کنت مولاه» وهو أصح) تحتمل أن یکون مقصوده هو أن حدیث الطیر ضعیف ولکن حدیث من کنت مولاه اصح، ویحتمل أن یکون مقصوده أن حدیث الطیر صحیح ولکن حدیث من کنت مولاه اصح، وان کان الافتراض الثانی هو الأرجح، لان صیغة التفضیل تستخدم عادة فی إثبات الصفة المعینة، ثم تفضیلها بإثبات درجة أعلی وأقوی وأفضل لتلک الصفة، کقول القائل (کریم وأکرم) و(بخیل وابخل) فلابد من إثبات صفة الکرم أولا ومن ثم نثبت درجة أعلی واقوی وأفضل فنقول (أکرم)، وعلی أی الأحوال فهو اعتراف من الذهبی علی صحته ولکنه اعتراف مبطن.

ثم تجرأ الذهبی أکثر واستجمع شجاعته فی کتابه (تذکرة الحفاظ) وصرح بأن لحدیث الطائر المشوی أصلاً صحیحاً باعتبار مجموع أسانیده وطرقه لا باعتبار انفرادها وتجزئها، قال: (وأما حدیث الطیر فله طرق کثیرة جدا قد أفردتها فی مصنف ومجموعها هو یوجب أن یکون الحدیث له أصل)(3).


1- سیر أعلام النبلاء للذهبی  ج13ص233.
2- المصدر السابق ج17 ص169.
3- تذکرة الحفاظ للذهبی ج 3 ص 1042 __1043.

ص: 398

إعلان الحرب والنفیر العام ضد حدیث الطائر المشوی من محدثی أهل السنة

أولا: محاولاتهم المستمیتة لرد هذا الحدیث من جهة الإسناد وتضعیفه وتکذیبه
اشارة

علی الرغم من وجود أسانید عدیدة تصحح حدیث الطائر المشوی، وعلی الرغم من وجود کثیر ممن صحح أو حسن هذا الحدیث الشریف، إلا أن من یقرأ تعلیقات علماء أهل السنة علی هذا الحدیث یری العجب العجاب، فما حورب حدیث بمثل ما حورب به هذا الحدیث، وما شنّع علی حدیث بأعظم مما شنّع علی هذا الحدیث، وما اجتهد محدثو أهل السنة علی تأویل حدیث وصرفه عن حقیقته ومعناه ولوازمه بمثل ما اجتهدوا فی إقصاء هذا الحدیث وصرفه عن معناه ولوازمه، وهو ما سیتضح جلیا فی الصفحات التالیة، ونحن هنا سنختار جملة من أقوالهم وتشنیعاتهم لیعرف المسلم کیف یرد القوم حدیث رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم الثابت والصحیح لمجرد انه لا یتناسب مع اعتقاداتهم، ولأنه یصطدم مع المنظومة الفکریة التی تربی علیها أهل السنة.

1: ما نقله ابن الجوزی فی العلل المتناهیة

قال: (وقد ذکره __ أی حدیث الطیر __ ابن مردویه من نحو عشرین طریقا کلها مظلم وفیها مطعن فلم أر الإطالة بذلک أنبأنا محمد بن ناصر قال أنبأنا محمد بن طاهر المقدسی قال کل طرقه باطلة معلولة...وقال ابن طاهر حدیث الطائر موضوع إنما یجیء من سقاط أهل الکوفة عن المشاهیر والمجاهیل عن انس وغیره قال ولا یخلو أمر الحاکم __ الذی صحح بعض طرق الحدیث __ من أمرین إما الجهل بالصحیح فلا یعتمد علی قوله وإما العلم به ویقول به فیکون معاندا کذابا دساسا)(1).


1- العلل المتناهیة لابن الجوزی: ج1، ص263.

ص: 399

أقول: ومنه یظهر التعصب المفرط والأعمی الذی حدا بهم إلی تکذیب طرقه جمیعها وأسانیده کلها، مع ان جملة من طرقه صحیحه وجملة اخری حسنة کما اثبتنا سابقا، واعجب من ذلک قدح ابن طاهر للحاکم النیسابوری ورمیه بالجهل تارة والعناد والکذب والدس تارة أخری، وهو الأولی بمثل هذه الأوصاف، لأنه وبإنکاره أسانید حدیث الطائر المشوی کلها لا یخلو من أمرین، فإما أن یکون جاهلا بان للحدیث طرقا صحیحة سلیمة فلا یعتمد علی قوله لجهله، وإما أن یکون عالما بوجود هذه الأسانید الصحیحة فیکون بتکذیبه طرق الحدیث وأسانیده کلها معاندا کذابا دساسا وهذا هو الظاهر من حاله.

2: تکذیب ابن أبی داود السجستانی لحدیث الطیر

روی عبد الله بن عدی فی (الکامل) قال: (سمعت علی بن عبد الله الداهری یقول سألت ابن أبی داود بالری عن حدیث الطیر فقال إن صح حدیث الطیر فنبوة النبی باطل لأنه حکی عن حاجب النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم خیانة وحاجب النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم لا یکون خائنا)(1).

أقول: وقد کفانا الذهبی مؤونة الرد علی هذا الناصبی بقوله فی (سیر اعلام النبلاء): (هذه عبارة ردیئة، وکلام نحس... بل نبوة محمد __ صلی الله علیه __ وآله __ وسلم __ حق قطعی، إن صح خبر الطیر، وإن لم یصح، وما وجه الارتباط؟هذا أنس قد خدم النبی __ صلی الله علیه __ وآله __ وسلم __ قبل أن یحتلم، وقبل جریان القلم، فیجوز أن تکون قصة الطائر فی تلک المدة. فرضنا أنه کان محتلما، ما هو بمعصوم من الخیانة... وأبو لبابة __ مع جلالته __ بدت منه خیانة...وحاطب بدت منه


1- الکامل لعبد الله بن عدی ج 4 ص 266.

ص: 400

خیانة...)(1)، فتکذیب حدیث الطیر بحجة ان حاجب النبی صلی الله علیه وآله وسلم لا یخون باطل وهو من مکائد النواصب لدفع الحق بأسلوب المراوغة والتضلیل.

أضف إلی ذلک ان طعن ابن أبی داود بالحدیث یدخل ضمن ما یسمی عندهم بالطعن المذهبی الذی لا یقبل من صاحبه، ولا یؤثر علی سلامة الحدیث وصحته، وذلک لان ابن أبی داود کان معروفا ومتهما بالنصب لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، قال الخطیب البغدادی فی (تاریخ بغداد): (کان ابن أبی داود یتهم بالانحراف عن علی والمیل علیه)(2)، وقال ابن عدی فی (الکامل): (ونسب فی الابتداء إلی شیء من النصب، ونفاه ابن فرات من بغداد إلی واسط)(3)، وکان  یروی الأکاذیب العظام عن الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه، منها زعمه الکاذب بان الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه کان یتسلق ویتجسس علی نساء النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، فعن (محمد بن الضحاک بن عمرو بن أبی عاصم النبیل یقول أشهد علی محمد بن یحیی بن مندة بین یدی الله أنه قال لی أشهد علی أبی بکر بن أبی داود بین یدی الله أنه قال لی روی الزهری عن عروة قال کانت قد حفیت أظافیر علی من کثرة ما کان یتسلق علی أزواج رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم)(4)، فکیف یقبل اعتراض وإشکال من هو بهذه الدرجة من النصب والکذب علی شخص اعترف أهل السنة والشیعة بأنه صحابی، بل من أعظم الصحابة بحسب النظریة السنیة القائلة بان أفضل الصحابة هم أربعة، بل هو


1- سیر أعلام النبلاء للذهبی ج 13 ص 232 __ 233.
2- تاریخ بغداد للخطیب البغدادی ج9 ص474.
3- الکامل لعبد الله بن عدی ج 4 ص 266.
4- المصدر نفسه.

ص: 401

أعظمهم علی وفق النظریة الإمامیة الإثنی عشریة.

أضف إلی ذلک ان عبد الله بن أبی داود مطعون فی عدالته وصدقه وعلمه، ومن أول الطاعنین علیه أبوه سلیمان بن الأشعث المشهور بابی داود وهو من أئمة أهل الحدیث وصاحب أشهر کتاب فی السنن المعروف بسنن أبی داود، فقد کان یقول: (ابنی عبد الله هذا کذاب وکان ابن صاعد یقول کفانا ما قال أبوه فیه...وابن أبی داود قد تکلم فیه أبوه وإبراهیم الأصبهانی ونسب فی الابتداء إلی شیء من النصب ونفاه ابن فرات من بغداد إلی واسط)(1).

3: تکذیب ابن تیمیة حدیث الطائر المشوی-
اشارة

کان ابن تیمیة مثل ما هم أتباعه الیوم من أشد المعارضین والمؤلبین والرادین لحدیث الطائر المشوی بجمیع طرقه وکل تفصیلاته، وکتاب (منهاج السنة النبویة) مشحون بالطعن بهذا الحدیث الشریف، وفیما یأتی جملة من کلماته وأقواله المتعصبة.

ألف: زعمه ان الحدیث لم یروه احد من أصحاب الصحیح ولا صححه أئمة الحدیث

قال ابن تیمیة: (فإن حدیث الطیر لم یروه أحد من أصحاب الصحیح ولا صححه أئمة الحدیث ولکن هو مما رواه بعض الناس کما رووا أمثاله فی فضل غیر علی بل قد روی فی فضائل معاویة أحادیث کثیرة وصنف فی ذلک مصنفات وأهل العلم بالحدیث لا یصححون لا هذا ولا هذا)(2).

أقول ویرد علی کلام هذا المتعصب العنید عدة أمور منها:


1- الکامل لعبد الله بن عدی ج 4 ص 265.
2- منهاج السنة النبویة لابن تیمیة ج7 ص371.

ص: 402

أولا: قوله (فإن حدیث الطیر لم یروه أحد من أصحاب الصحیح) لا یقدح فی حدیث الطائر المشوی مطلقا، فقد سبق وبینا بان أصحاب الصحیح __ البخاری ومسلم __ لم یخرجا جمیع الأحادیث النبویة الصحیحة فی کتابیهما، وما ترکاه من الصحیح أعظم وأکثر مما ذکراه، فمحاولته لاستغلال کتاب الصحیحین محاولة فاشلة.

ولو کان کلام ابن تیمیة صحیحا لوجب علیه أن یحکم علی جمیع الأحادیث التی لم تذکر فی الصحیحین بالوضع والکذب کی لا تبقی لأحادیث أهل السنة باقیة، ولینسف المذاهب الأربعة نسفا.

إضافة إلی أن ثلاثة أرباع فضائل کل من أبی بکر وعمر وعثمان وعائشة وطلحة والزبیر قد ذکرت فی غیر الصحیحین فیجب علیه تضعیفها أیضا والحکم علیها بالکذب والاختلاق.

ثانیا: وقوله: (ولا صححه أئمة الحدیث ولکن هو مما رواه بعض الناس) وهذا الاعتراض اکذب وأفحش من سابقه، فقد صححه کما عرفنا کل من الحاکم النیسابوری، والعلائی، وتابعهم بدر الدین الزرکشی وابن السبکی، والطبرانی، والذهبی، والهیثمی، وغیرهم، وهؤلاء مجمع علی إمامتهم فی الحدیث وعلو مرتبتهم فی فن الجرح والتعدیل، وهم لیسوا من بعض الناس کما وصفهم ابن تیمیة.

ثالثا: وقوله: (کما رووا أمثاله فی فضل غیر علی بل قد روی فی فضائل معاویة أحادیث کثیرة وصنف فی ذلک مصنفات) ومثل هذا الکلام إن نم عن شیء فإنما ینم عن عناد الرجل وقوة نصبه، وعدم إنصافه، إذ کیف یساوی ما بین فضائل الإمام علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه وفضائل معاویة بن أبی

ص: 403

سفیان؟! فأین معاویة من علی؟! وأین الثری من الثریة؟!، وأنی له أن یساوی بین حزب الله النجباء الذین ما أشرکوا بالله طرفة عین أبدا، ومن هو نفس النبی وصهره، ومن هو من أهل بیته الذین اذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهیرا، وبین حزب الشیطان وزمرة النفاق ووکر الخیانة، وابن هند آکلة الأکباد، وابن أبی سفیان المعروف عند السنة والشیعة بأنه کهف النفاق ومنبعه، وکیف یساوی أمیر المؤمنین بأمیر الفئة الباغیة وزعیم القاسطین، الذی قتل عمار بن یاسر وغیره من آلاف الأولیاء والصحابة، والذی ما دخل إلی هذا الدین إلا کرها بعد الفتح وشهر السیف علی رقبته ورقبة الطلقاء من أهل بیته وقومه، فانا لله وإنا إلیه راجعون إذ صار أمیر المؤمنین وسید الموحدین وأبو السبطین والریحانتین وسیدی شباب أهل الجنة وزوج سیدة نساء العالمین واخو النبی الأعظم ونفسه یقاس بالأدعیاء والطلقاء ورعاع الناس، فأین ذهب إیمانک یا ابن تیمیة، وأین غاب إنصافک، وکیف عمیت بصیرتک عن أن تفرق ما بین أمیر المؤمنین وبین أمیر الفاسقین والظالمین؟!.

رابعا: وقوله (وأهل العلم بالحدیث لا یصححون لا هذا ولا هذا) هو من الکذب القبیح ایضا، فأهل العلم صححوا من الأحادیث الدالة علی فضائل الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه بعدد شعر رأس ابن تیمیة وربما أکثر، لکن عین النصب والبغض لأمیر المؤمنین حجبت عن عینیه الرؤیة، وعن عقله التفکّر والتدبر، نعم أهل الحدیث ما صححوا فضیلة من فضائل معاویة بن أبی سفیان حتی قال ابن حجر فی (فتح الباری): (اخرج ابن الجوزی أیضا من طریق عبد الله ابن أحمد بن حنبل سألت أبی ما تقول فی علی ومعاویة فأطرق ثم قال اعلم أن علیا کان کثیر الأعداء ففتش أعداؤه له عیبا فلم یجدوا فعمدوا إلی رجل قد حاربه

ص: 404

فأطروه کیادا منهم لعلی فأشار بهذا إلی ما اختلقوه لمعاویة من الفضائل مما لا أصل له وقد ورد فی فضائل معاویة أحادیث کثیرة لکن لیس فیها ما یصح من طریق الإسناد وبذلک جزم إسحاق بن راهویه والنسائی وغیرهما والله أعلم)(1).

فان شئت أیها القارئ العزیز أن تری مصداقا واضحا لکلام احمد بن حنبل فانظر إلی ابن تیمیة، فانه فتش عن عیب لأمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه لیعیبه فلم یجد فجاء إلی رجل قد حاربه فساواه به وصیره له ندا وشبیها.

باء: زعمه ان الحدیث من المکذوبات الموضوعات وافتراؤه علی الحاکم النیسابوری

وقال ابن تیمیة فی (منهاج السنة النبویة): (إن حدیث الطائر من المکذوبات الموضوعات عند أهل العلم والمعرفة بحقائق النقل قال أبو موسی المدینی قد جمع غیر واحد من الحفاظ طرق أحادیث الطیر للاعتبار والمعرفة کالحاکم النیسابوری وأبی نعیم وابن مردویه وسئل الحاکم عن حدیث الطیر فقال لا یصح)(2).

أقول: ویرد علی کلام هذا المتعصب عدة أمور منها:

أولا: ان ابن تیمیة قد أنکر حدیث الطائر وجرح جمیع طرقة ولم یبین تفصیلا لجرحه، وقد اتفقت کلمة المحدثین علی ان الجرح غیر المفسر للراوی أو الروایة لا یقبل قطعا، قال النووی فی (شرح مسلم): (والجرح إذا لم یفسر لا یقبل)(3)، وقال الخطیب البغدادی: (سمعت القاضی أبا الطیب طاهر بن عبد الله ابن طاهر الطبری یقول لا یقبل الجرح إلا مفسرا ولیس قول أصحاب الحدیث فلان ضعیف وفلان لیس بشیء مما یوجب جرحه ورد خبره وإنما کان کذلک لان الناس


1- فتح الباری لابن حجر  ج 7  ص 81.
2- منهاج السنة النبویة لابن تیمیة ج7 ص371 __ 372.
3- شرح مسلم للنووی  ج 10 ص 181.

ص: 405

اختلفوا فیما یفسق به فلا بد من ذکر سببه لینظر هل هو فسق أم لا)(1)، وهو أمر مشهور تغنی شهرته عن الإطناب والإکثار من ذکر الشواهد والأقوال.

وابن تیمیة __ عامله الله بعدله __ فی قوله (إن حدیث الطائر من المکذوبات الموضوعات عند أهل العلم والمعرفة بحقائق النقل) أبهم من هم أهل العلم، ولماذا کذبوه ورموه بالوضع، فان کان یقصد جمیعهم فقد کذب، وان کان یقصد بعضهم، فلماذا أحجم عن ذکر من صحح الحدیث او حسنه، وإخفاء جزء من الحقیقة غیر مقبول ولا هو علمی، وبالإخفاء یثبت أن الرجل لیس هدفه الوصول إلی الحقیقة، بل لدیه حکم مسبق علی الحدیث لعدم التقائه مع هواه، لذلک صار یختار ما یؤید رأیه ویخفی من الأقوال والآراء ما لو تبینت وظهرت لظهر کذبه وعوار کلامه.

 ثانیا: وأما قول ابن تیمیة (قال أبو موسی المدینی قد جمع غیر واحد من الحفاظ طرق أحادیث الطیر للاعتبار والمعرفة کالحاکم النیسابوری وأبی نعیم وابن مردویه وسئل الحاکم عن حدیث الطیر فقال لا یصح) فهو کما تقدم انتقاء لبعض الأقوال دون بعض، وقول أبی موسی انه قد جمع غیر واحد من الحفاظ طرق أحادیث الطیر للاعتبار والمعرفة، غیر صائب قطعا، لان مجموعة أخری جمعته للتصحیح والتوثیق کالطبرانی وغیره، أما الحاکم فلم یجمعه للاعتبار قطعا، وإنما جمعه وذکره فی کتابه المستدرک لتصحیحه والإشارة إلی ثبوته، وهو أمر مشهور.

وقول أبی موسی المدینی ان الحاکم قد سئل عن حدیث الطیر فقال لا یصح، غیر دقیق أیضا، لان الحاکم النیسابوری قد تغیر اجتهاده بخصوص


1- الکفایة فی علم الروایة للخطیب البغدادی ص 135 __ 136.

ص: 406

حدیث الطیر، فهو وان کان لم یصحح حدیث الطیر فی أول أمره، إلا انه وبعد اطمئنانه بثبوته تغیر اجتهاده وصححه، وذکر فی کتابه المستدرک عدة طرق للحدیث وحکم علی جمیعها بالصحة، وقد أشار الذهبی فی غیر موضع من کتبه إلی تغیر اجتهاد الحاکم النیسابوری واستقرار رأیه علی تصحیح الحدیث وثبوته، قال الذهبی: (قال الحسن بن أحمد السمرقندی الحافظ سمعت أبا عبد الرحمن الشاذیاخی الحاکم یقول: کنا فی مجلس السید أبی الحسن فسئل أبو عبد الله الحاکم عن حدیث الطیر فقال: لا یصح، ولو صح لما کان أحد أفضل من علی رضی الله عنه بعد النبی صلی الله علیه وآله. قلت ثم تغیر رأی الحاکم وأخرج حدیث الطیر فی مستدرکه)(1).

وفی (سیر أعلام النبلاء) قال الذهبی تعلیقا علی قول ابن طاهر وادعائه بان الحاکم النیسابوری قد اخرج حدیث الطیر من مستدرکه بعد أن بلغه نقد الدارقطنی: (قلت: هذه حکایة منقطعة، بل لم تقع، فإن الحاکم إنما ألف "المستخرج" فی أواخر عمره، بعد موت الدارقطنی بمدة، وحدیث الطیر ففی الکتاب لم یحول منه، بل هو أیضا فی «جامع» الترمذی. قال ابن طاهر: ورأیت أنا حدیث الطیر جمع الحاکم بخطه فی جزء ضخم، فکتبته للتعجب)(2).

فیثبت بذلک أن الحاکم لم یکتبه بهدف التعجب، وإنما کتبه مصححا مثبتا له، وکذلک لم یخرجه من مستدرکه، وان الذی کتبه للتعجب هو ابن طاهر ولیس الحاکم، فاشتبه الأمر علی ابن تیمیة، وادعی زورا ان الحاکم هو الذی کتبه تعجبا.


1- تذکرة الحفاظ للذهبی  ج 3 ص 1042.
2- سیر أعلام النبلاء للذهبی ج 17 ص 176.

ص: 407

جیم: زعمه أن أکل الطیر لا یستوجب أن یکون الآکل أحب الخلق إلی الله

وقال ابن تیمیة: (إن أکل الطیر لیس فیه أمر عظیم یناسب إن یجیء أحب الخلق إلی الله لیأکل منه فان إطعام الطعام مشروع للبر والفاجر ولیس فی ذلک زیادة وقربة عند الله لهذا الآکل ولا معونة علی مصلحة دین ولا دنیا فأی أمر عظیم هنا یناسب جعل أحب الخلق إلی الله یفعله)(1).

أقول: ویرد علی المتعصب عدة أمور منها:

أولا: إن من نظر إلی مجادلات ابن تیمیة العقیمة یری منه وبوضوح الهروب المستمر وعدم الترکیز علی النقاط الأساسیة والمفصلیة، لذلک نراه هنا یهرب وبشجاعة عن مناقشة تصحیح کثیر من علماء السنة للحدیث ووروده فی کثیر من الأسانید الصحیحة والموثقة، وینتقل الی مناقشات فارغة وأسالیب رخیصة، فإننا وقبل أن نناقش عبارات ابن تیمیة الأخیرة نسأله هل الحدیث عندک ثابت أم لا؟ فان قال لا قلنا ان النصوص التی ذکرناها فیما سبق وصححناها حجة علیک، وان قال نعم، فیصبح اعتراضک بان لیس فی أکل الطیر أمر عظیم یتناسب أن یجیء أحب الخلق إلی الله لیأکل منه هو اعتراض علی فعل من أفعال النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، فالله ورسوله اعلم من ابن تیمیة ومن جمیع أتباعه ممن یقتنع بهذه الترهات التیمیة، وهو صلی الله علیه وآله وسلم اعرف بما یصنعه وما یدعو به الله سبحانه، فلولا ان رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم یعلم بان الأمر یستحق لما تمناه من الله سبحانه، ولولا ان الله سبحانه یعلم ان الأمر یستحق لما استجاب لرسوله صلی الله علیه وآله وسلم دعاءه وأعطاه أمنیته، وبعث له الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه فأکل معه وشارکه طعامه.


1- منهاج السنة النبویة لابن تیمیة ج7 ص374.

ص: 408

فالعبرة إذن بثبوت الحدیث فان ثبت فلا یجوز الاعتراض بمثل ما اعترض علیه هذا المعاند، لأنه ینجر حتما إلی الاعتراض علی فعل من أفعال النبی الأعظم فیدخل صاحبه فی باب من أبواب الکفر من حیث یعلم او لا یعلم، ولیس هذا بعجیب فقد رأینا ان کل من یبغض علیا وأهل بیته لابد ان یفضی به بغضه ونصبه وعناده إلی باب من أبواب الکفر والنفاق.

فمن حق ابن تیمیة أن یناقش فقط فی صدوره أو عدم صدوره عن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم فان ثبت صدوره __ کما فعلنا ذلک من قبل __ کان علیه أن یسلم بقول رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم تسلیما وإلا کان داخلا فی قوله سبحانه ((وَمَا کَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَی اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ یَکُونَ لَهُمُ الْخِیَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ یَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِینًا))(1).

ثانیا: من أین علم ابن تیمیة أنه لیس فی أکل ذلک الطائر مع النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم (زیادة وقربة عند الله ولا معونة علی مصلحة دین ولا دنیا) فهل اطلع یا تری علی اللوح المحفوظ وعلم انتفاء القربة عند الله والمعونة علی مصلحة الدین والدنیا، وهل بلغ ابن تیمیة منزلة بحیث استطاع الإحاطة بجمیع المصالح والمفاسد الدنیویة والأخرویة حتی یتفوه بهذه الفریة الفاضحة، وهل هو إلا کذلک الذی وبخه القرآن بقوله ((أَطَّلَعَ الْغَیْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا * کَلَّا سَنَکْتُبُ مَا یَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا * وَنَرِثُهُ مَا یَقُولُ وَیَأْتِینَا فَرْدًا))(2).

ثالثا: ان الهدف الأساس من کلام ابن تیمیة السابق هو تصویر ان الأکل من ذلک الطائر المشوی هو علة وسبب لصیرورة أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب أحب


1- سورة الأحزاب الآیة رقم 36.
2- سورة مریم الآیة رقم 78 __80.

ص: 409

الخلق إلی الله سبحانه والی رسوله صلی الله علیه وآله وسلم، بحیث لو لم یأکل لما صار أحب الخلق إلی الله ورسوله، وهو أمر باطل قطعا، لان الأفضلیة لیست تابعة للأکل من ذلک الطائر، فالإمام علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه سواء أکان قد أکل من ذلک الطائر أم لم یأکل، فانه بعلم الله وبعلم رسوله هو أحب الخلق إلی الله ورسوله، وغایة ما فعله الأکل من ذلک الطائر المشوی هو الکشف عن شخصیة ذلک الإنسان الموصوف بکونه أحب الخلق إلی الله ورسوله، فالأکل إذن کاشف ولیس علة کما أراد أن یوهمنا ابن تیمیة الحرانی __ عامله الله بعدله __.

رابعا: لیت ابن تیمیة قد شحذ همته وقلمه فی رد الفضائل التی وردت فی حق أبی بکر وعمر وعثمان وعائشة وغیرهم من الصحابة، والتی هی إلی الخیال اقرب منها إلی الحقیقة، وإلی الهزل هی اقرب من الجد مثل حدیث (ان فضل عائشة علی النساء کفضل الثرید علی سائر الطعام)(1) فلو ان هذا اللفظ جاء فی حق السیدة الزهراء صلوات الله وسلامه علیها أو فی حق غیرها من أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین لرأیت کیف ضحک علیه ابن تیمیة وکیف ألف کتبا ورسائل فی رده والاستهزاء به، ولکن حب الشیء یعمی ویصم، فانا لله وإنا إلیه راجعون.

خامسا: وللسید علی المیلانی فی (نفحات الأزهار) کلام مهم أحببنا ذکره هاهنا إتماما للفائدة، فقد علق علی کلام ابن تیمیة السابق بما هو نصه: (إن من الواضح جدا لدی جمیع العقلاء دلالة المؤاکلة مع العظماء، علی الشرف العظیم، فکیف بالمؤاکلة مع النبی الکریم صلی الله علیه وآله وسلم، الذی لا یشک مسلم فی کونها شرفا عظیما جدا، فدعوة النبی صلی الله علیه وآله وسلم أحب الخلق لنیل هذا الشرف العظیم فی کمال المناسبة، ومن هنا قالت عائشة __ لما سمعت هذه


1- مسند احمد بن حنبل ج3 ص157.

ص: 410

الدعوة __: «اللهم اجعله أبی». وقالت حفصة: «اللهم اجعله أبی». وقال أنس: «اللهم اجعله سعد بن عبادة»، وفی روایة: «اللهم اجعله رجلا منا حتی نشرف به»... لأن تخصیص رجل بالمؤاکلة __ التی هی شرف عظیم __ وطلب حضوره مرة بعد أخری، ورد غیره، دلیل واضح علی فضل ذلک الرجل، وفی هذا مصلحة عظیمة من مصالح الدین)(1).

وقال السید المیلانی أیضا: (فهل کان ابن تیمیة یقول هذا لو کان هذا الحدیث فی حق أحد الشیخین أو الشیوخ، وهل کان یقدح فیه بمثل هذه الوجوه؟ لا والله، بل کانوا یجعلون هذا من أعظم مفاخره وأکبر مآثره؟! ولقالوا: إن مجرد المؤاکلة مع النبی صلی الله علیه وآله وسلم فضل عظیم، فکیف بامتناعه صلی الله علیه وآله وسلم عن مؤاکلة الغیر معه، وإرادته هذا الشخص بالخصوص لذلک؟ وعلی الجملة، فإن التعصب والعناد هو الباعث لمثل ابن تیمیة علی الطعن والقدح فی هذا الحدیث الشریف، بمثل هذه الشبهات الرکیکة والوساوس السخیفة)(2).

دال: زعمه أنّ هذا الحدیث یناقض مذهب الرافضة ویکذّبه

وقال ابن تیمیة الحرانی: (إن هذا الحدیث یناقض مذهب الرافضة فانهم یقولون إن النبی صلی الله علیه وسلم کان یعلم أن علیا أحب الخلق إلی الله وانه جعله خلیفة من بعده وهذا الحدیث یدل علی انه ما کان یعرف أحب الخلق إلی الله).

وقال أیضا: (أن یقال إما أن یکون النبی صلی الله علیه وسلم کان یعرف أن


1- نفحات الأزهار للسید علی المیلانی ج14 ص171__172.
2- المصدر نفسه ص172.

ص: 411

علیا أحب الخلق إلی الله أو ما کان یعرف فان کان یعرف ذلک کان یمکنه أن یرسل یطلبه کما کان یطلب الواحد من الصحابة أو یقول اللهم ائتنی بعلی فإنه أحب الخلق إلیک فأی حاجة إلی الدعاء والإبهام فی ذلک ولو سمی علیا لاستراح انس من الرجاء الباطل ولم یغلق الباب فی وجه علی، وإن کان النبی صلی الله علیه وسلم لم یعرف ذلک بطل ما یدعونه من کونه کان یعرف ذلک ثم ان فی لفظه أحب الخلق إلیک وإلی فکیف لا یعرف أحب الخلق إلیه)(1).

أقول: ویرد علی هذا المجادل المعاند عدة أمور منها.

أولا: السؤال وطلب التوضیح للأمر المعلوم من الطرف الآخر أمر متعارف ومتداول فی اللغة العربیة، وقد تحدثت الآیات القرآنیة فی عدة آیات عن وقوع السؤال والاستفسار والاستفهام من الله سبحانه وتعالی عن أشیاء هو اعلم بها لکونه علام الغیوب، کقوله تعالی لنبی الله موسی صلوات الله وسلامه علیه: ((وَمَا تِلْکَ بِیَمِینِکَ یَا مُوسَی * قَالَ هِیَ عَصَایَ أَتَوَکَّأُ عَلَیْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَی غَنَمِی وَلِیَ فِیهَا مَآَرِبُ أُخْرَی))(2)، وکقوله سبحانه للمسیح عیسی بن مریم صلوات الله وسلامه علیهما: ((وَإِذْ قَالَ اللَّهُ یَا عِیسَی ابْنَ مَرْیَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِی وَأُمِّیَ إِلَهَیْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَکَ مَا یَکُونُ لِی أَنْ أَقُولَ مَا لَیْسَ لِی بِحَقٍّ إِنْ کُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِی نَفْسِی وَلَا أَعْلَمُ مَا فِی نَفْسِکَ إِنَّکَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُیُوبِ))(3).

فلم یکن السؤال هاهنا لطلب العلم من موسی وعیسی صلوات الله وسلامه علیهما، لان ذلک محال علی الله سبحانه، إذ أنّ الله علام الغیوب لا تخفی علیه خافیة فی


1- منهاج السنة النبویة لابن تیمیة ج7 ص374.
2- سورة طه الآیة رقم 17 __ 18.
3- سورة المائدة الآیة رقم 116.

ص: 412

السماوات ولا فی الأرض، کذلک طلب الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم من الله سبحانه أن یأتیه بأحب خلقه یأکل معه من هذا الطعام، فانه لیس سؤالا عن مبهم قطعا، وإنما سؤال وطلب ودعاء لتبیان أمر آخر سنتعرف علیه فی النقطة اللاحقة.

ثانیا: ان الحکمة من فعل رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وعدم ذکر اسم الإمام أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب فی دعائه، وجعل شخصیة أحب الخلق إلی الله مبهمة غامضة، ربما تکون لأجل کشف ضغائن صدور قوم کانوا محیطین برسول الله صلی الله علیه وآله وسلم ومن المقربین، فهل کان لأنس ابن مالک أن یکشف ما فی قلبه من شحناء علی أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه لولا قضیة إبهام الاسم وإخفاء الشخص، فلو کان النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم قد صرح فی دعائه وقال اللهم ائتنی بأحب خلقک إلیک علی بن أبی طالب یأکل معی من هذا الطعام، لصار لزاما علی انس بن مالک أن یدخله من المرة الأولی وإلا یفتضح أمره وینکشف مکنون سره، ولکن حینما أخفی النبی صلی الله علیه وآله وسلم اسم أحب الخلق إلی الله ومواصفاته، اظهر انس شحناءه وکشف عن خفایاه وابتعاده عن علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه وحبه لقومه بمقدار جعله یحول ولمرات بین تحقق دعوة النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم.

ولو کان النبی صلی الله علیه وآله وسلمقد صرح باسم أحب الخلق إلی الله سبحانه وتعالی وأوصافه لما ظهر تعصب کل من عائشة وحفصة إلی أبیهما، ولما ظهر کذلک ان کلاً من عائشة وحفصة کانتا تسربان الأخبار وما یقع فی بیت رسول الله إلی خارج بیته مباشرة ومن دون تأخر، وإلا ما علة مجیء کل من أبی بکر وعمر بن الخطاب مباشرة بعد تمنی رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم حضور أحب الخلق إلی الله لیأکل معه من ذلک الطائر المشوی، وبعد أن قالت عائشة اللهم اجعله أبی، وبعد أن قالت حفصة، اللهم اجعله أبی، فهل مثل هذا الحضور هو مجرد صدفة أو أن الأمر کان

ص: 413

مدبرا وأنّ القوم قد کانوا ینتهزون کل فرصة لتثبیت أی فضیلة ممکنة، ولکن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم وبتعلیم من الله سبحانه وتعالی کان یعلم أنّ الخبر قد تسرب من، فأفشل مخططهم برده لکل من أبی بکر وعمر وعثمان حینما طرقوا علیه الباب بعد دعوته المبارکة، مما یدلنا علی ان النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم کان ینتظر شخصا بعینه.

وقد ذکر حدیث رد النبی صلی الله علیه وآله وسلم لأبی بکر وعمر، النسائی فی (السنن الکبری) وأبو یعلی الموصلی فی (مسند أبی یعلی) حیث قال: (زکریا بن یحیی __ ثقة حافظ __ قال حدثنا الحسن بن حماد __ ثقة صدوق صاحب سنة __ قال حدثنا مسهر بن عبد الملک __ وثقه أبو یعلی الموصلی وأحسن الثناء علیه الحسن بن علی الخلال، وذکره ابن حبان فی الثقات، وقال البخاری فیه بعض النظر وهو جرح غیر مفسر فلا قیمة له __ عن عیسی بن عمر __ ثقة __ عن السدی __ ثقة تکلم فیه بلا حجة __ عن أنس ابن مالک __ صحابی وهی أعلی مرتبة من مراتب العدالة عندهم __ قال: (إن النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم کان عنده طائر فقال اللهم ائتنی بأحب خلقک إلیک یأکل معی من هذا الطیر فجاء أبو بکر فرده وجاء عمر فرده وجاء علی فأذن له)(1).

وکدلیل آخر علی ان النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم کان یعرف بان الإمام أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب أحب الخلق إلیه، وانه صلی الله علیه وآله وسلم کان ینتظر علیا دون غیره من البشر، فان بعض النصوص قد صرحت بان الإمام أمیر المؤمنین صلی الله علیه وآله وسلم لما تأخر عن النبی صلی الله علیه وآله وسلم بعد أن رده انس لعدة مرات، وبعد أن دخل علی النبی صلی الله علیه وآله وسلم فی المرة الثالثة، قال له صلی الله علیه وآله وسلم: (ما حبسک


1- السنن الکبری للنسائی  ج 5 ص 107، مسند أبی یعلی لأبی یعلی الموصلی ج 7 ص 105 __ 106.

ص: 414

علی فقال: إن هذه آخر ثلاث کرات یردنی أنس یزعم أنک علی حاجة...)(1)وهو قول صریح فی ان النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم ما کان ینتظر غیر أمیر المؤمنین علی ابن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه.

هاء: زعمه أنّ حدیث الطائر المشوی معارض بحدیث (...لاتخذت أبا بکر خلیلا)

وقال ابن تیمیة فی منهاج السنة فی محاولته لرد حدیث الطائر المشوی وتکذیبه: (إن الأحادیث الثابتة فی الصحاح التی أجمع أهل الحدیث علی صحتها وتلقیها بالقبول تناقض هذا فکیف تعارض بهذا الحدیث المکذوب الموضوع الذی لم یصححوه، یبین هذا لکل متأمل ما فی صحیح البخاری ومسلم وغیرهما من فضائل القوم کما فی الصحیحین انه قال «لو کنت متخذا من أهل الأرض خلیلا لاتخذت أبا بکر خلیلا» وهذا الحدیث مستفیض بل متواتر عند أهل العلم بالحدیث فإنه قد اخرج فی الصحاح من وجوه متعددة من حدیث ابن مسعود وأبی سعید وابن عباس وابن الزبیر وهو صریح فی انه لم یکن عنده من أهل الأرض أحد أحب إلیه من أبی بکر فإن الخلة هی کمال الحب وهذا لا یصلح إلا لله فإذا کانت ممکنة ولم یصلح لها إلا أبو بکر علم انه أحب الناس إلیه)(2).

أقول: ویرد علی هذا المتعنت المتعصب عدة أمور أهمها:

أولا: قوله عن حدیث: (لو کنت متخذا من أهل الأرض خلیلا) بانه (الحدیث مستفیض بل متواتر عند أهل العلم بالحدیث فإنه قد اخرج فی الصحاح من وجوه متعددة من حدیث ابن مسعود وأبی سعید وابن عباس وابن الزبیر) محض افتراء وتفلسف وهذر للکلام.


1- المستدرک علی الصحیحین للحاکم النیسابوری ج3 ص130 __ 131.
2- منهاج السنة لابن تیمیة: ج7، ص375.

ص: 415

لان مجرد إخراجه من وجوه متعددة لا یصیره متواترا ولا مستفیضا، ولو کانت قاعدته سلیمة وصحیحة للزم علیه ومن باب أولی تصحیح حدیث الطائر المشوی، والحکم علیه بالتواتر أو الاستفاضة ، لأنه ورد عن طرق کثیرة جدا تفوق طرق الحدیث الذی احتج به فی فضائل أبی بکر، فلو کان حدیث خلة أبی بکر متواترا أو مستفیضا لهذا السبب لکان حدیث الطیر أولی بالتواتر وأحق.

وقوله: إنّ أهل الحدیث لم یصححوا حدیث الطائر فهو کذب منه قد سبق الکلام عنه فی الفقرات السابقة.

ثانیا: إن حدیث (لو کنت متخذا من أهل الأرض خلیلا) قد صحح أهل السنة بعض طرقه، وان أکثر طرقه قد کذبت وضعفت، فکیف یکون حدیثا أکثر طرقه مکذوبة وضعیفة متواترا ومستفیضا، وفیما یأتی جملة من أقوالهم وتصریحاتهم بضعف کثیر من طرقه، استخرجناها من کتاب (مجمع الزوائد) للهیثمی وغیره.

قال الهیثمی: (عن أبی هریرة عن النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم قال لو کنت متخذا خلیلا لاتخذت أبا بکر خلیلا. رواه الطبرانی فی الأوسط وفیه داود بن یزید الأودی وهو ضعیف)(1).

وعن الهیثمی ایضا: (وعن عائشة قالت قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم لو کنت متخذا خلیلا لاتخذت أبا بکر خلیلا ولکن إخوة الإسلام أفضل. رواه الطبرانی فی الأوسط وفیه علی بن عبد الرحمن الواسطی ولم أعرفه)(2).

وقال الهیثمی: (وعن کعب بن مالک الأنصاری قال عهدی بنبیکم صلی


1- مجمع الزوائد للهیثمی  ج 9 ص 44.
2- المصدر نفسه.

ص: 416

الله علیه __ وآله __ وسلم قبل وفاته بخمس لیال فسمعته یقول لم یکن من نبی إلا وله خلیل فی أمته وان خلیلی أبو بکر بن أبی قحافة وان الله اتخذ صاحبکم خلیلا. رواه الطبرانی وفیه علی بن یزید الألهانی وهو ضعیف)((1).

وقال الهیثمی: (وعن أبی واقد قال: قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم لو کنت متخذا خلیلا لاتخذت ابن أبی قحافة ولکن صاحبکم خلیل الله عز وجل. رواه الطبرانی وفیه یحیی بن عبد الحمید الحمانی وهو ضعیف)(2).

وقال الهیثمی: (وعن أبی أمامة قال: قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم ان الله اتخذنی خلیلا کما اتخذ إبراهیم خلیلا وان خلیلی أبو بکر. رواه الطبرانی وفیه علی بن یزید الألهانی وهو ضعیف)(3).

وقال الهیثمی: (وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم ما من أحد أمن علیّ فی یده من أبی بکر زوجنی ابنته وأخرجنی إلی دار الهجرة ولو کنت متخذا خلیلا لاتخذت أبا بکر ولکن أخاه ومودة إلی یوم القیامة. رواه الطبرانی وفیه نهشل بن سعید وهو متروک)(4).

وقال الهیثمی: (وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم ما من أحد أعظم عندی یدا من أبی بکر واسانی بنفسه وماله. رواه الطبرانی فی الکبیر والأوسط وزاد وأنکحنی ابنته. وفیه أرطاة أبو حاتم وهو ضعیف)(5).


1- ()مجمع الزوائد للهیثمی  ج 9 ص45.
2- المصدر نفسه.
3- المصدر نفسه.
4- المصدر نفسه ص45 __ 46.
5- المصدر السابق ص46.

ص: 417

إضافة إلی أن هذه الروایة قد رواها عدة من المشهورین بالکذب وسرقة الحدیث منهم، عمار بن هارون أبو یاسر المستملی، الذی قال عنه عبد الله بن عدی فی (الکامل): (عمار بن هارون أبو یاسر المستملی بصری ضعیف یسرق الحدیث __ ومن أحادیثه المکذوبة قوله __ عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم: ما نفعنی مال قط ما نفعنی مال أبی بکر ولو کنت متخذا خلیلا لاتخذت أبا بکر خلیلا ولکن الله عز وجل اتخذ صاحبکم خلیلا وأبو بکر وعمر منی بمنزلة هارون من موسی)(1).

ومنهم یوسف بن خالد الذی أجمع أهل بلده علی کذبه، قال عبد الله بن عدی: (...ثنا یوسف بن خالد السمتی ثنا کثیر بن قاروندا عن عدی بن ثابت عن أبی الأحوص عن عبد الله سمعت رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم یقول «لو کنت متخذا خلیلا لاتخذت أبا بکر خلیلا ولکن أخی وصاحبکم خلیل الله» قال وهذا یرویه عن کثیر یوسف بن خالد وکثیر بن قاروندا عزیز الحدیث کوفی ولیوسف غیر ما ذکرت من الحدیث وروایاته فیها نظر وکان من أصحاب أبی حنیفة وقد أجمع علی کذبه أهل بلده)(2).

فان قیل إن لحدیث خلة أبی بکر طرقا أخری صحیحة قلنا ولحدیث الطائر المشوی طرق أخری صحیحة، فان صححتم هذه لزم علیهم تصحیح حدیث الطائر المشوی وان قالوا بکذب حدیث الطائر المشوی لوجود بعض الطرق الضعیفة لزمهم الحکم علی حدیث خلة أبی بکر بالضعف أیضا، وإلا فقدحهم بحدیث الطیر وتصحیحهم لحدیث الخلة ترجیح بلا مرجح.


1- الکامل لعبد الله بن عدی  ج 5 ص 75.
2- المصدر السابق ج 7  ص 162.

ص: 418

وان قیل ان حدیث الخلة متواتر لتعدد طرقه وکثرتها والمتواتر لا یلتفت إلی ضعف بعض طرقه لان حجیته تابعة لتواتره ولیس لصحة طرقه وضعفها، قلنا ان حدیث الطائر المشوی أولی بتطبیق هذه القاعدة علیه، لان طرقه کثیرة جدا تفوق حدیث الخلة فی الکثرة والجودة، فلو لم یلتفت إلی ضعف حدیث الخلة لتواتره، لوجب علیهم أیضا عدم الالتفات لضعف بعض طرق حدیث الطیر، ولکان تواتره جابرا لضعف بعض طرقه.

ثالثا: ان هذه الخلة المزعومة لم تقع أصلا، وحدیث الطیر قد وقع فکیف یصح من ابن تیمیة وغیره معارضة ما هو واقع ومتحقق بما لم یقع ولا تحقق، وبعبارة أخری ان النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم حینما طلب من رب العزة جل وعلا أن یأتی له بأحب الخلق إلیه لیأکل معه من ذلک الطائر، قد وقع ذلک فعلا، فجاء الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه فأکل من ذلک الطائر، فتحقق له وصف أحب الخلق إلی الله سبحانه.

أما حدیث الخلة فلو سلمنا بصحته جدلا، فانه لا یثبت لأبی بکر فضیلة؛ لأن النبی صلی الله علیه وآله وسلم لم یصیره خلیله واقعا، واکتفی بإعطائه صفات یشترک فیها مع سائر الصحابة، ففی بعض النصوص: (ولکن أخوة الإسلام ومودته)(1)، وفی بعضها: (لکن خلة الإسلام أفضل)(2)، وفی بعضها (ولکنه أخی وصاحبی)(3)، وفی بعضها (ولکن أخوة الإسلام أفضل)(4)، وأمثال هذه الأوصاف العامة التی لا


1- صحیح البخاری للبخاری  ج 1 ص 120.
2- المصدر نفسه.
3- فضائل الصحابة للنسائی ص 3.
4- مسند ابن راهویه لإسحاق بن راهویه ج 2 ص 22.

ص: 419

تفید زیادة کرامة ولا أفضلیة، فإخوة الإسلام ومودته والصحبة والأخوة فی الدین متحققة بین النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم وبین جمیع أمته وصحابته، کما انها متحققة بین الصحابة أنفسهم، وبین بقیة أفراد الأمة بعضهم مع بعضهم الآخر، فلا یمکن لمثل هذه الأوصاف العامة والمزایا التی لم یختص بها أبو بکر وحده أن تعارض حدیث الطائر المشوی الذی اختص به أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه دون سائر الخلق.

رابعا: اننا لا نشک فی أن حدیث الخلة المزعوم هو من الأحادیث الموضوعة، ولنا علی هذه الحقیقة عدة شواهد منها:

أ: ان هذا الحدیث قد وقع کما زعموا فی الأیام الأخیرة من حیاة النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، ففی صحیح البخاری: (فی مرضه الذی مات فیه)(1)، وفی صحیح مسلم: (قبل أن یموت بخمس)(2)، وفی هذا الوقت کان أبو بکر وعمر وعثمان وغیرهم فی جیش أسامة بن زید، فقد روی غیر واحد من المؤرخین دخول هؤلاء وغیرهم من وجوه المهاجرین والأنصار فی ذلک الجیش(3)، وقد اشتهر أمر عصیانهم وتخلفهم عن ذلک الجیش شهرة تغنی عن الاستدلال، حتی اضطر النبی صلی الله علیه وآله وسلم ان یخرج علی الرغم من مرضه عاصبا رأسه مهدود القوی یتّکئ علی الإمام علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه ورجل آخر، فخطب فیهم محذرا ومشجعا ومصرا علی إنفاذ جیش أسامة وإخراجه، حتی بلغ تشدده صلی الله علیه وآله وسلم


1- صحیح البخاری ج 1 ص 120.
2- صحیح مسلم ج2 ص68.
3- راجع علی سبیل المثال:الطبقات الکبری لمحمد بن سعد ج2 ص249، والسیرة الحلبیة ج3 ص227 __ 229.

ص: 420

إلی درجة انه لعن کل من تخلف ولم یمض ویلتحق بذلک الجیش(1).

 لکن القوم لم یخرجوا ولم یسیروا بهذا الجیش إلی أن لحق النبی صلی الله علیه وآله وسلم بربه وهو غضبان أسفا علی أولئک الذین عصوا الرسول وخالفوا أمره وشملتهم اللعنة.

فکیف یعقل أن یکون أبو بکر من ضمن المتخلفین عن ذلک الجیش وشموله بذلک الذی صدر من النبی صلی الله علیه وآله وسلم فی حق من تخلف، ومع ذلک یتخذه أو کاد أن یتخذه النبی صلی الله علیه وآله وسلم خلیلا، من دون العالمین، وهل هذا إلا تناقض حاشی النبی صلی الله علیه وآله وسلم من القیام به والوقوع فیه.


1- قال الإیجی فی کتابه (المواقف) ج 3 ص 649 __ 650: (قال الآمدی کان المسلمون عند وفاة النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم علی عقیدة واحدة وطریقة واحدة إلا من کان یبطن النفاق ویظهر الوفاق ثم نشأ الخلاف فیما بینهم أولا فی أمور اجتهادیة لا توجب إیمانا ولا کفرا وکان غرضهم منها إقامة مراسم الدین وإدامة مناهج الشرع القویم وذلک کاختلافهم عند قول النبی فی مرض موته «ائتونی بقرطاس أکتب لکم کتابا لا تضلوا بعدی» حتی قال عمر إن النبی قد غیبه الوجع حسبنا کتاب الله وکثر اللغط فی ذلک حتی قال النبی «قوموا عنی لا ینبغی عندی التنازع» وکاختلافهم بعد ذلک فی التخلف عن جیش أسامة فقال قوم بموجب الإتباع لقوله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم «جهزوا جیش أسامة لعن الله من تخلف عنه»). وقال الشهرستانی فی کتابه (الملل والنحل) ج 1 ص 23: (الخلاف الثانی فی مرضه أنه قال جهزوا جیش أسامة لعن الله من تخلف عنه فقال قوم یجب علینا امتثال أمره وأسامة قد برز من المدینة وقال قوم قد اشتد مرض النبی علیه الصلاة والسلام فلا تسع قلوبنا مفارقته والحالة هذه فنصبر حتی نبصر أی شیء یکون من أمره). وقال ابن أبی الحدید المعتزلی فی کتابه (شرح نهج البلاغة) ج 6 ص 52: (وقام أسامة فتجهز للخروج، فلما أفاق رسول الله صلی الله علیه وآله سأل عن أسامة والبعث، فأخبر أنهم یتجهزون، فجعل یقول: أنفذوا بعث أسامة، لعن الله من تخلف عنه وکرر ذلک).

ص: 421

ب: ومما یدل علی وضع هذا الحدیث وانه لم یکن علی عهد رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وانه اخترع وابتدع بعد استشهاده صلی الله علیه وآله وسلم وقیام من قام بعده، ان ابا بکر وعمر ومن کان معهما فی سقیفة بنی ساعدة لم یحتج أی منهم علی الأنصار بهذا الحدیث، مع انهم بأشد الحاجة إلیه یومئذ لو کان هذا الحدیث موجودا وله واقعیة، فان القوم فی سقیفة بنی ساعدة حاولوا جاهدین تحشید کل غث وسمین واستغلال أی أمر یمکن أن یثقل کفتهم أمام الأنصار، فاحتجوا بالصحبة وبالهجرة وبان أبا بکر کبیر السن وغیر ذلک من الأشیاء العامة التی یشترک فیها مع بقیة الصحابة، فلو کان لهذا الحدیث وجود فی زمن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم لما ترکه القوم ولصاحوا به ورفعوه علی کل مئذنة ومنبر.

وتوجد أدلة أخری ترکناها للاختصار.

 خامسا: ان حدیث الخلة المزعوم قد وصف النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم بأنه خلیل الله، وهو شاذ وغیر محفوظ، وهو مخالف أیضا لإجماع الأمة الإسلامیة شیعة وسنة، لان الأمة الإسلامیة اجتمعت کلمتها علی ان صفة (خلیل الله) خاصة بنبی الله إبراهیم صلوات الله وسلامه علیه، وکون النبی الأعظم محمد بن عبد الله صلی الله علیه وآله وسلم (خلیل الله) علی ما تتبعناه لم نجده فی نص وحدیث آخر غیر هذا الحدیث المزعوم، ووجدنا أنّ کل من اثبت کون نبینا صلی الله علیه وآله وسلم (خلیل الله) اعتمد علی حدیث الخلة، فیکون محتوی الحدیث مخالفا لإجماع المسلمین، وما خالف إجماع المسلمین ضرب به عرض الحائط.

أضف إلی ذلک وجود نصوص کثیرة تحدثت عن اختصاص لقب (خلیل الله) بنبی الله إبراهیم صلوات الله وسلامه علیه وعدم مشارکة غیره من أهل السماوات والأرض معه فیه، فقد أخرج الحاکم النیسابوری فی (المستدرک علی الصحیحین)

ص: 422

قول الله سبحانه وتعالی لنبی الله إبراهیم صلی الله علیه وآله وسلم: (أما أنت یا إبراهیم فقد وجبت لک الجنة علی فأنت خلیلی من بین أهل الأرض دون رجال العالمین وهی فضیلة لم ینلها أحد قبلک ولا أحد بعدک فخر إبراهیم ساجدا تعظیما لما سمع)(1).

وعن الحاکم أیضا فی (المستدرک علی الصحیحین): (فیقولون یا إبراهیم أنت خلیل الرحمن قد سمع بخلتک أهل السماوات وأهل الأرض)(2).

وعن احمد بن حنبل فی مسنده قال: (...فیکون أول من یکسی إبراهیم علیه السلام یقول اکسوا خلیلی فیؤتی بریطتین بیضاوین فیلبسهما ثم یقعد فیستقبل العرش...)(3)فلو کان النبی صلی الله علیه وآله وسلم من ألقابه أو أوصافه (خلیل الله) لورد الأمر (اکسوا خلیلی) بصیغة المثنی.

وکذلک وردت الروایة باختصاص کل نبی من الأنبیاء صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین بلقب وصفة خاصة میزته عن غیره ولا یشارکه فیها احد من بقیة الأنبیاء فضلا عن بقیة العالمین، فنبی الله إبراهیم صلوات الله وسلامه علیه خلیل الله، ونبی الله موسی صلوات الله وسلامه علیه کلیم الله، ونبی الله عیسی صلوات الله وسلامه علیه روح الله، ونبینا الأعظم محمد صلی الله علیه وآله وسلم حبیب الله، وقد وردت أحادیث عدیدة فی إیضاح اختصاص هؤلاء الأنبیاء العظام بهذه الألقاب والأوصاف، ففی سنن الدارمی عن: (ابن عباس قال جلس ناس من أصحاب النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم ینتظرونه فخرج حتی إذا دنا منهم سمعهم یتذاکرون فتسمع حدیثهم فإذا بعضهم یقول عجبا ان الله اتخذ من خلقه خلیلا فإبراهیم خلیله وقال آخر ماذا بأعجب من:


1- المستدرک للحاکم النیسابوری  ج 2 ص 560.
2- المصدر السابق ص 549 __550.
3- مسند احمد ج 1 ص 398 __ 399.

ص: 423

وکلم الله موسی تکلیما وقال آخر فعیسی کلمة الله وروحه وقال آخر وآدم اصطفاه الله فخرج علیهم فسلم وقال قد سمعت کلامکم وعجبکم ان إبراهیم خلیل الله وهو کذلک وموسی نجیه وهو کذلک وعیسی روحه وکلمته وهو کذلک وآدم اصطفاه الله تعالی وهو کذلک ألا وأنا حبیب الله ولا فخر وأنا حامل لواء الحمد یوم القیامة تحته آدم فمن دونه ولا فخر وأنا أول شافع وأول مشفع یوم القیامة ولا فخر وأنا أول من یحرک بحلق الجنة ولا فخر فیفتح الله فیدخلنیها ومعی فقراء المؤمنین ولا فخر وأنا أکرم الأولین والآخرین علی الله ولا فخر)(1).

وعن: (عمرو بن قیس ان رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم قال إن الله أدرک بی الأجل المرحوم واختصر لی اختصارا فنحن الآخرون ونحن السابقون یوم القیامة وانی قائل قولا غیر فخر إبراهیم خلیل الله وموسی صفی الله وأنا حبیب الله ومعی لواء الحمد یوم القیامة وان الله عز وجل وعدنی فی أمتی وأجارهم من ثلاث لا یعمهم بسنة ولا یستأصلهم عدو ولا یجمعهم علی ضلالة)(2).

فکون نبی الله إبراهیم صلوات الله وسلامه علیه (خلیل الله) هی مسألة مفروغ منها، وکون نبینا صلی الله علیه وآله وسلم (حبیب الله) هی مسألة مجمع علیها، وما جاء فی حدیث الخلة المکذوب، مخالف لما مجمع علی ثبوته واعتقاده، وما یکون کذلک یضرب به عرض الحائط حتی لو جاءت بعض نصوصه صحیحة السند.

سادسا: حتی لو تنزلنا وأغمضنا العین عن کل الملاحظات السابقة واللاحقة، وقلنا: إنّ النبی صلی الله علیه وآله وسلم کاد یتخذ أبا بکر خلیلا، وان أبا بکر وان لم یتخذه النبی کذلک إلا انه یتمتع بهذه الصفة، فانه مع کل هذا لا یصیر أفضل


1- سنن الدارمی لعبد الله بن بهرام الدارمی  ج1 ص26.
2- المصدر السابق ص29.

ص: 424

من أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه، لان الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه قد ثبت له مقام (أحب الخلق إلی الله) وأبا بکر بزعمهم قد ثبت له مقام (الخلة لرسول الله) ومقام الحب والمحبة ارفع درجة وأسمی من مقام الخلة، لان مقام الحبیب أعطی للنبی صلی الله علیه وآله وسلم، ومقام الخلة أعطی لإبراهیم صلوات الله وسلامه علیه، وبما ان نبینا الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم ارفع وأکمل من جمیع الأنبیاء فلابد أن یکون مقامه __ الحبیب __ ارفع من کل مقاماتهم حتی مقام الخلیل، وعلیه یصبح مقام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه وما اختص بکونه (أحب الخلق إلی الله) أسمی وارفع مما أعطی أبا بکر من مقام الخلة لو صدقت الروایة، فکیف الحال والروایة المزعومة مکذوبة ملفقة.

سابعا: ان حدیث الخلة المزعوم فیه رکاکة لغویة اعترف بها النووی فی (شرح مسلم) بقوله: (قوله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم «ألا إنی أبرأ إلی کل خل من خله» هما بکسر الخاء فأما الأول فکسره متفق علیه وهو الخل بمعنی الخلیل وأما قوله من خله فبکسر الخاء عند جمیع الرواة فی جمیع النسخ وکذا نقله القاضی عن جمیعهم قال والصواب الأوجه فتحها)(1).

واو: زعمه أنّ عائشة وأباها أحب إلی رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم من فاطمة وعلی صلوات الله وسلامه علیهما

واعترض ابن تیمیة علی حدیث الطائر المشوی بقوله: (وقوله فی الحدیث الصحیح لما سئل أی الناس أحب إلیک؟ قال: عائشة. قیل: من الرجال؟ قال: أبوها وقول الصحابة أنت خیرنا وسیدنا وأحب إلی رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم یقوله عمر بین المهاجرین والأنصار ولا ینکر ذلک منکر وأیضا فالنبی صلی الله علیه وسلم محبته تابعة لمحبة الله وأبو بکر أحبهم إلی الله تعالی فهو أحبهم إلی


1- شرح مسلم للنووی ج 15 ص 153.

ص: 425

رسوله... فإن الصحابة أجمعوا علی تقدیم عثمان الذی عمر أفضل منه وأبو بکر أفضل منهما وهذه المسألة مبسوطة فی غیر هذا الموضع وتقدم بعض ذلک ولکن ذکرنا هذا لنبین أن حدیث الطیر من الموضوعات)(1).

أقول: ان جمیع الأحادیث التی أوردها هذا المتعصب معارضة بغیرها من الأحادیث والدالة علی خلاف مراده، فقد روی عن جمیع بن عمیر التیمی قال: دخلت مع عمتی علی عائشة فسألت أی الناس کان أحب إلی رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم؟ قالت: فاطمة. فقیل: من الرجال؟ قالت: زوجها إن کان ما علمت صواما قواما)(2).

وعن ابن بریدة قال: (جاء رجل إلی أبی فسأله: أی الناس کان أحب إلی رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم من النساء؟ فقال: کان أحب الناس إلی رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم من النساء ؛ فاطمة, ومن الرجال ؛ علی)(3).

وعن النعمان بن بشیر قال: (استأذن أبو بکر علی النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فسمع صوت عائشة وهی تقول لقد علمت أن علیا أحب إلیک من أبی مرتین أو ثلاثا قال فاستأذن أبو بکر فدخل فأهوی إلیها فقال یا بنت فلانة لا أسمعک ترفعین صوتک علی رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم. قلت(4) رواه


1- منهاج السنة النبویة لابن تیمیة الحرانی ج7 ص385.
2- المستدرک علی الصحیحین للحاکم النیسابوری ج3 ص157، وقد علق علیه الحاکم النیسابوری بقوله: (هذا حدیث صحیح الاسناد ولم یخرجاه).
3- سنن الترمذی ج5 ص362.
4- والقائل هو الهیثمی صاحب کتاب مجمع الزوائد ومنبع الفوائد.

ص: 426

أبو داود غیر ذکر محبة علی رضی الله عنه رواه البزار ورجاله رجال الصحیح)(1).

وقد صحح ابن حجر هذا الحدیث والاعتراف من عائشة فی (فتح الباری) بقوله: (وأخرج أحمد وأبو داود والنسائی بسند صحیح عن النعمان بن بشیر قال استأذن أبو بکر علی النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فسمع صوت عائشة عالیا وهی تقول والله لقد علمت أن علیا أحب إلیک من أبی الحدیث)(2).

وهذه الأحادیث هی المتعینة دون التی ذکرها ابن تیمیة فی کلامه السابق، لعدة اسباب منها:

أ: ان أبا بکر لم یحتج فی السقیفة بکونه أحب الناس إلی رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، ولو کانت هذه الأحادیث لها حقیقة ومصداقیة لما تهاون هو وأصحابه فی ذکرها والاحتجاج بها.

ب: إضافة إلی ان أبا بکر وبمجرد أن وصل إلی الکرسی خطب خطبته المشهورة وصرح بعدم أفضلیته علی احد من المسلمین فضلا عن أفضلیته علی أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه، فقد روی ابن کثیر فی (السیرة النبویة) عن أبی بکر فی خطبته قوله: (أما بعد، أیها الناس فإنی قد ولیت علیکم ولست بخیرکم، فإن أحسنت فأعینونی، وإن أسأت فقومونی...__ ثم علق ابن کثیر بقوله __ وهذا إسناد صحیح)(3).

فأیهما نصدق یا تری کلام أبی بکر علی نفسه، وکلام عائشة علیها وعلی أبیها أم کلام ابن تیمیة وأکاذیبه؟.


1- مجمع الزوائد للهیثمی  ج 9 ص 126 __ 127.
2- فتح الباری لابن حجر  ج 7 ص 19.
3- السیرة النبویة لابن کثیر  ج 4 ص 493.

ص: 427

وقد حاول ابن کثیر أن یبرر لأبی بکر مقولته هذه واعترافه بأنه لیس من أفضل الصحابة بقوله: (فقوله رضی الله عنه: «ولیتکم ولست بخیرکم» من باب الهضم والتواضع)(1)، لکن ابن حزم أفحمه بالرد علیه وتکذیب هذا التبریر المضحک بقوله: (فإن قال قائل: إنما قال أبو بکر هذا تواضعاً!! قلنا له: هذا هو الباطل المتیقن، لأن الصدیق الذی سماه رسول الله «صلی الله علیه __ وآله __ وسلم» بهذا الاسم(2) لا یجوز أن یکذب، وحاشا له من ذلک، ولا یقول إلا الحق والصدق. فصحّ أن الصحابة متفقون فی الأغلب علی تصدیقه فی ذلک((3).

ونحن وان لم نکن نقر لابن حزم ان النبی صلی الله علیه وآله وسلم قد سمی أبا بکر صدیقا أو انه لم یکن یکذب أبدا، لأنه غیر معصوم باعترافنا واعترافهم وغیر المعصوم لابد أن یقع منه الکذب قطعا، إلا أننا إنما استشهدنا بکلامه لأنه أقوی عند الاحتجاج والإلزام، لان ابن حزم منهم بل من کبرائهم ورده علیهم هو رد بنفس الأدلة التی یعتقدون بصحتها ویؤمنون بصدقها.

وأما قول ابن تیمیة: (وقول الصحابة أنت خیرنا وسیدنا وأحب إلی رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم یقوله عمر بین المهاجرین والأنصار ولا ینکر ذلک منکر).

فلیس فی قول عمر هذا أی حجة علی أفضلیة أبی بکر، لان عمر بن الخطاب


1- السیرة النبویة لابن کثیر  ج 4 ص 493.
2- لقب الصدیق هو من الألقاب التی أطلقها النبی الاعظم صلی الله علیه وآله وسلم علی أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه، ولکنه سرق منه ونسب إلی غیره مثلما سرقت کثیر من ألقابه ونسبت إلی غیره وستأتی الاشارة إلی کثیر منها فی الصفحات القادمة من هذا الکتاب.
3- الفصل فی الملل والأهواء والنحل لابن حزم الظاهری: ج4، ص106.

ص: 428

قالها ارتجالا فی محل جدل مع الأنصار الذین لم یردوا علیه؛ لأنهم لم یکونوا فی صدد المحاورة والنقاش حول من هو الأحب إلی رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، وإنما کان الأنصار وبعض المهاجرین یتماری بعضهم مع بعض أیهم یأتی بکلام یغلب الآخر ویسکته، فلا یستکشف من سکوتهم الإقرار.

وکیف یستکشف الإقرار والأنصار کانوا فرقتین، ففرقة الخزرج کانت وبلا أدنی شک تفضل سعد بن عبادة، وفرقة الأوس کانت وبلا أدنی شک تفضل أسید ابن حضیر، وکثیر من المهاجرین الذین لم یحضروا السقیفة لم یکونوا یفضلون أبا بکر، فعلی وبنو هاشم والزبیر وعمار بن یاسر وأبو ذر الغفاری وغیرهم من أعیان الصحابة کانوا یفضلون علیا علی أبی بکر.

نعم کان هنالک ثلة قلیلة تری فی أبی بکر أفضل من غیره، کعمر بن الخطاب وبعض من کان حاضرا فی سقیفة بنی ساعدة، ولا نرید أن ندخل فی سبب هذا التفضیل من عمر بن الخطاب وغیره، ونکتفی بما خاطب أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه عمر بن الخطاب حینما رأی منه الاستقتال والاستماتة علی بیعة أبی بکر فخاطبه بالقول: (إحلب حلبا لک شطره) أی نصفه، ثم لا عبرة بکلام عمر مع تکذیب أبی بکر لمقولته فی خطبته التی تقدمت وتصریحه بأنه لیس أفضل هذه الأمة ولا خیرها.

وأما قوله: (فإن الصحابة أجمعوا علی تقدیم عثمان الذی عمر أفضل منه وأبو بکر أفضل منهما وهذه المسألة مبسوطة فی غیر هذا الموضع).

أقول: لا یزال ابن تیمیة __ عامله الله بعدله __ ینتقل من کذبة إلی کذبة، وأعظم کذبة هی إدّعاؤه للإجماع فی مسألة تفضیل عثمان بن عفان علی أمیر المؤمنین علی ابن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه.

ص: 429

لان إجماع علماء أهل السنة علی تفضیل أبی بکر وعمر علی أمیر المؤمنین لم یتحقق أصلا،فکیف عن أفضلیة عثمان علیه صلوات الله وسلامه علیه، والیک دلیل عدم انعقاد مثل هذا الإجماع الکاذب الذی ادعاه ابن تیمیة، من أقوال علماء أهل السنة وأعلامهم.

فالقاضی أبو البکر بن الطیب الباقلانی فی کتابه (مناقب الأئمة الأربعة) یقر أولا بان مسألة التفضیل هی لیست مسألة یقینیة عند أهل السنة وإنما هی مسألة اجتهادیة قابلة للأخذ والرد فیقول: (وجملة ما یقوی فی هذا الباب ان الکلام فی التفضیل مسألة اجتهادیة لا یبلغ الخطأ بصاحبه فیها منزلة الفسق، وما یوجب البراءة، لان الفضائل المرویة أکثرها متقابل متعارض فی الفضل، وما یذکر من السبق إلی الإسلام والجهاد وغیر ذلک محتمل التأویل)(1).

ثم یتوقف فی مسألة التفضیل من دون أن یبدی أی ترجیح لأی طرف من الأطراف فیقول فی الکتاب نفسه: (فأما القائلون بانا نقف من غیر قطع علی تفضیل أحد منهم أو قطع تساویهم فی الفضل، فإنهم أقرب إلی الصواب، وأقدر علی الاحتجاج)(2)

ثم صرح بعد ذلک بما یقضی علی الإجماع الکاذب الذی ادعاه ابن تیمیة، فقال: (وقد علمنا أن الصحابة مختلفة فی التفضیل، فلا سبیل إذن لنا إلی العلم بان واحدا منهم أفضل من غیره)(3).


1- مناقب الأئمة الأربعة للباقلانی  ص295 تحقیق الدکتورة سمیرة فرحات، طبع دار المنتخب العربی ببیروت لسنة 1422.
2- المصدر نفسه ص513 __ 514.
3- المصدر نفسه.

ص: 430

وقال إمام الحرمین الجوینی فی کتابه (الإرشاد إلی قواطع الأدلة فی أصول الاعتقاد): (لم یقم عندنا دلیل قاطع علی تفضیل بعض الأئمة علی بعض، إذ العقل لا یشهد علی ذلک والأخبار الواردة فی فضائلهم متعارضة...)(1).

وقال الآمدی فی (أبکار الأفکار): (والذی علیه اعتماد الأفاضل من أصحابنا __ یقصد بهم جمهور الأشاعرة __، انه لا طریق إلی التفضیل بمسلک قطعی، وأما المسالک الظنیة فهی متعارضة، وقد یظهر بعضها فی نظر بعض المجتهدین وقد لا یظهر)(2).

هذا وقد صرح مالک بن انس فی کثیر من کلماته التی نقلت عنه عدم تفضیله لأحد من العشرة __ الذین یسمونهم بالعشرة المبشرة بالجنة __ ولا غیرهم من الصحابة، قال ابن عبد البر فی الاستیعاب عن عبد الله بن وهب: (قال سمعت مالکا یقول لا أفضل أحدا من العشرة ولا غیرهم علی صاحبه وکان یقول هذا من علم الله الذی لا یعلمه غیره قال وقال مالک أدرکت شیوخنا بالمدینة وهذا رأیهم)(3).

وقال ابن عبد البر أیضا عن إسماعیل بن أبی أویس: (عن مالک بن أنس قال لیس من أمر الناس الذین مضوا أن یفاضلوا بین الناس، وحدثنا عبد الوارث بن سفیان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهیر قال سمعت مصعب بن عبد الله الولیدی یقول لم یکن أحد من مشایخنا الذین أدرکت ببلدنا یفضل بین


1- الإرشاد إلی قواطع الأدلة فی أصول الاعتقاد لإمام الحرمین الجوینی ص431، حققه وعلق علیه وقدم له وفهرسه محمد یوسف موسی وعلی عبد المنعم عبد الحمید، الناشر مکتبة الخانجی.
2- أبکار الأفکار للآمدی ص309.
3- الاستذکار لابن عبد البر  ج 5 ص 108.

ص: 431

أحد من العشرة لا مالک ولا غیره)(1).

وقد نقل أبو الحسن الأشعری فی (مقالات الإسلامیین) الاختلاف الشدید فی تعیین من هو الأفضل ولم یذکر وقوع الإجماع الذی ادعاه ابن تیمیة حیث قال: (واختلفوا فی التفضیل: فقال قائلون: أفضل الناس بعد رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم أبو بکر ثم عمر ثم عثمان ثم علی. وقال قائلون: أفضل الناس بعد رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم أبو بکر ثم عمر ثم علی ثم عثمان. وقال قائلون: نقول أبو بکر ثم عمر ثم عثمان ثم نسکت بعد ذلک. وقال قائلون: أفضل الناس بعد رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم علی ثم بعده أبو بکر. وأجمع من ثبت فضل أبی بکر وعمر أن أبا بکر أفضل من عمر، وأجمع من ثبت فضل عمر وعثمان أن عمر أفضل من عثمان. وقال قائلون: لا ندری أبو بکر أفضل أم علی فإن کان أبو بکر أفضل فیجوز أن یکون عمر أفضل من علی ویجوز أن یکون علی أفضل من عمر وإن کان علی أفضل من عمر فهو أفضل من عثمان لأن عمر أفضل من عثمان وإن کان عمر أفضل من علی فیجوز أن یکون علی أفضل من عثمان ویجوز أن یکون عثمان أفضل من علی، وهذا قول الجبائی)(2).

وقد ذهب جلة من العلماء کما وصفهم ابن عبد البر إلی تفضیل الصحابة الذین استشهدوا علی عهد رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم علی من بقی منهم بعده، قال ابن عبد البر: (وقد ذهب قوم من جلة العلماء إلی القطع أن من مات فی حیاة رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم من الشهداء مثل حمزة وجعفر ومصعب بن عمیر وسعد بن معاذ ومن جری مجراهم ممن موتهم قبله وصلی علیهم وشهد


1- الاستذکار لابن عبد البر  ج5 ص110.
2- مقالات الاسلامیین لابی الحسن الاشعری ج1 ص112.

ص: 432

بالجنة لهم أفضل ممن بقی بعده من أصحابه)(1).

ومنهم من کان یفضل عمر بن الخطاب علی الجمیع، کما قال ابن حجر فی (فتح الباری): (ومنهم من قال أفضلهم مطلقا عمر)(2).

ومنهم من کان لا یفرق أیهم صار الأفضل بشرط أن یعترف بفضل الشیخین ویحبهما، کما نقل ابن عبد البر فی (الاستیعاب): (وذکر عبد الرزاق عن معمر قال لو أن رجلا قال عمر أفضل من أبی بکر ما عنفته وکذلک لو قال علی أفضل من أبی بکر وعمر لم أعنفه إذا ذکر فضل الشیخین وأحبهما وأثنی علیهما بما هما أهله فذکرت ذلک لوکیع فأعجبه واشتهاه)(3).

کما وذهب أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وبنو هاشم، وشیعتهم قاطبة، وطائفة کثیرة من الصحابة والتابعین، ومعظم المعتزلة، والزیدیة قاطبة إلی تفضیل أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه، بصورة قاطعة لا تردد فیها.

وقد أخرجت کتب أهل السنة بأسانید حسان کما قال الهیثمی فی (مجمع الزوائد)(4)، عن أبی الطفیل قال: (خطبنا الحسن بن علی بن أبی طالب فحمد الله وأثنی علیه وذکر أمیر المؤمنین علیا رضی الله عنه خاتم الأوصیاء ووصی الأنبیاء وأمین الصدیقین والشهداء ثم قال یا أیها الناس لقد فارقکم رجل ما سبقه الأولون ولا یدرکه الآخرون لقد کان رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم یعطیه الرایة فیقاتل جبریل عن یمینه ومیکائیل عن یساره فما یرجع حتی یفتح الله علیه ولقد


1- الاستذکار لابن عبد البر  ج 5 ص 106.
2- فتح الباری لابن حجر  ج 7 ص 15.
3- الاستیعاب لابن عبد البر ج 3 ص 1150.
4- ج9 ص146.

ص: 433

قبضه الله فی اللیلة التی قبض فیها وصی موسی وعرج بروحه فی اللیلة التی عرج فیها بروح عیسی بن مریم وفی اللیلة التی أنزل الله عز وجل فیها الفرقان... ثم قال من عرفنی فقد عرفنی ومن لم یعرفنی فأنا الحسن بن محمد صلی الله علیه __ وآله __ وسلم ثم تلا هذه الآیة قوله یوسف ((وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِی إِبْرَاهِیمَ وَإِسْحَاقَ وَیَعْقُوبَ)) ثم أخذ فی کتاب الله ثم قال أنا ابن البشیر أنا ابن النذیر وأنا ابن النبی أنا ابن الداعی إلی الله بإذنه وأنا ابن السراج المنیر وأنا ابن الذی أرسل رحمة للعالمین وأنا من أهل البیت الذین أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهیرا وأنا من أهل البیت الذین افترض الله عز وجل مودتهم وولایتهم فقال فیما أنزل علی محمد صلی الله علیه __ وآله __ وسلم ((قُلْ لَا أَسْأَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبَی))...)(1).

فالإمام الحسن صلوات الله وسلامه علیه قد صرح وصدح بهذه الخطبة فی الکوفة علی مرأی ومسمع من مئات __ إن لم یکن آلاف __ الصحابة والتابعین، ولم یعترض أحد من هؤلاء الصحابة والتابعین علی تفضیل الإمام أمیر المؤمنین بتلک الکلمات ، وهو إقرار منهم بصحة جمیع ما فی تلک الخطبة فتأمل.

ولولا خوف الإطالة لسردنا علی القارئ الکریم عشرات المصادر التی صرحت بأن جملة من عظماء الصحابة کانوا یذهبون إلی تفضیل أمیر المؤمنین علی ابن أبی طالب علی کل من أبی بکر وعمر وعثمان بل علی جمیع الخلق باستثناء النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم.

فأین الإجماع المزعوم مع وجود کل هذا الخلاف، نعم قد ادعی غیر واحد من أمثال ابن تیمیة هذا الإجماع لإرغام أنوف أعدائهم وإفحام خصومهم والتشویش علی خصومهم وهی طریقة معروفة مشهورة لمن یدلس الحق ویطمس الحقیقة.


1- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهیثمی ج9 ص146.

ص: 434

وأخیرا یتضح لک ان قول ابن تیمیة الذی حاول أن ینهی به شبهاته المسمومة حینما قال (ولکن ذکرنا هذا لنبین أن حدیث الطیر من الموضوعات) هو عین الکذب وان شبهاته الفارغة هی الموضوعة ولیس حدیث رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم.

ثانیا: الإرهاب والتعسف فی حق کل من یصحح حدیث الطائر المشوی
اشارة

بعد أن بینا فی النقطة الأولی محاولات القوم المستمیتة لرد أسانید حدیث الطیر وطرقه وتضعیفها، نود أن نستعرض للقارئ الکریم بعض الأسالیب الإرهابیة والتعسفیة التی استخدمت ضد کل من یحاول أن یذکر أو یصنف أو یروی أو یصحح حدیث الطائر المشوی، ومنها نفهم سبب خوف کثیر من أعلام أهل السنة ومحدثیهم تصحیح الحدیث، ونفهم سبب عدم إخراج هذا الحدیث فی الصحاح أو الکتب المعتبرة الأخری عند أهل السنة، لان من یرویه أو یصححه أو یجمع طرقه یرمی بالتشیع أو الرفض أو یضرب ویحبس فی داره إن لم یقتل ویستباح دمه، وعلی هذه الحقیقة شواهد کثیرة منها.

ألف: طردهم ابن السقا وغسلهم موضعه بسبب تحدیثه بروایة الطائر المشوی

روی الذهبی فی غیر کتاب من کتبه قصة طرد ابن السقاء من تلامذته وطلابه من المسجد؛ لأنه حدثهم بحدیث الطائر المشوی، فلم تنشرح قلوبهم لهذا الحدیث ومحتواه، ولم یکتفوا بطرده حتی غسلوا مکانه الذی کان یجلس علیه، لاعتقادهم بان ابن السقا قد خرج عن الدین وصار نجسا وقد تنجس مکانه فاستوجب علیهم غسله وتطهیره، وقد ذکر الذهبی هذه القصة فی کتابه (تذکرة الحفاظ) بعد تعریفه بشخصیة ابن السقا ومنزلته العمیة بقوله: (ابن السقاء الحافظ الإمام محدث واسط أبو محمد عبد الله بن محمد بن عثمان الواسطی...وقال علی

ص: 435

ابن محمد الطیب الجلابی فی تاریخه: ابن السقاء من أئمة الواسطیین والحفاظ المتقنین...واتفق انه أملی حدیث الطیر فلم تحتمله نفوسهم فوثبوا به وأقاموه وغسلوا موضعه فمضی ولزم بیته فکان لا یحدث أحدا من الواسطیین، فلهذا قل حدیثه عندهم)(1).

باء: خوف الحاکم النیسابوری وتخفیه فی داره بعد کسر منبره لأنه حدث بحدیث الطیر وغیره

روی الحاکم النیسابوری عدة فضائل من فضائل الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه وصححها، وانتقد أصحاب الحدیث وعاب علیهم عدم إخراجها فی کتب الصحیح، منها حدیث المنزلة، وحدیث الطائر المشوی، وغیر هذه الأحادیث، لکن علماء أهل السنة ومحدثیهم أنکروا علیه وبشدة إخراجه مثل هذه الأحادیث التی تضرهم وتحرجهم ولا تنفعهم، ولم یلتفتوا إلی أقواله وتصحیحاته ورموه تارة بأنه من المتساهلین فی الروایة، ورماه بعضهم الآخر بالتشیع، وشنع علیه بعضهم الآخر بأنه رافضی خبیث، حتی بلغ به الحال أن حوصر إعلامیا واجتماعیا، وهیجت علیه هذه الأقوال وغیرها رعاع الناس وسفهاؤهم من أنصار الأمویین ومحبی أعداء أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، فهوجم بعد أن کثرت علیه الاعتراضات والتحریض من بعض المخالفین بسبب إخراجه تلک الأحادیث، وحطموا منبره الذی کان یجلس علیه للتحدیث والروایة، وهرب منهم وبقی متخفیا فی بعض المنازل خوف القتل والأذی، وقد ذکر الخطیب البغدادی سبب هذه الفتنة بقوله: (جمع الحاکم أبو عبد الله أحادیث زعم أنها صحاح علی شرط البخاری ومسلم یلزمهما إخراجها فی


1- تذکرة الحفاظ للذهبی ج3 ص965 __ 966، وراجع أیضا: سیر أعلام النبلاء للذهبی ج16 ص352.

ص: 436

صحیحیهما، منها الحدیث الطائر «ومن کنت مولاه فعلی مولاه» فأنکر علیه أصحاب الحدیث ذلک ولم یلتفتوا فیه إلی قوله، ولا صوبوه فی فعله)(1).

وقد روی قصة تخفیه وخوفه غیر واحد من المؤرخین والمحدثین منهم ابن کثیر فی کتابه (البدایة والنهایة) حیث قال: (وقال محمد بن طاهر المقدسی: قال الحاکم: حدیث الطیر لم یخرج فی الصحیح وهو صحیح، قال ابن طاهر: بل موضوع لا یروی إلا عن إسقاط أهل الکوفة من المجاهیل، عن أنس، فإن کان الحاکم لا یعرف هذا فهو جاهل، وإلا فهو معاند کذاب. وقال أبو عبد الرحمن السلمی: دخلت علی الحاکم وهو مختف من الکرامیة لا یستطیع یخرج منهم، فقلت له: لو خرجت حدیثا فی فضائل معاویة لاسترحت مما أنت فیه فقال: لا یجیء من قبلی(2)، لا یجیء من قبلی)(3).

وقال الذهبی فی (تاریخ الإسلام): (وکان منحرفا غالیا عن معاویة وأهل بیته، یتظاهر به ولا یعتذر منه. فسمعت أبا الفتح سمکویه بهراة یقول: سمعت عبد الواحد الملیحی یقول: سمعت أبا عبد الرحمن السلمی یقول: دخلت علی أبی عبد الله الحاکم وهو فی داره لا یمکنه الخروج إلی المسجد من أصحاب أبی عبد الله بن کرام، وذلک أنهم کسروا منبره ومنعوه من الخروج، فقلت له: لو خرجت وأملیت فی فضائل هذا الرجل شیئا لاسترحت من هذه المنحة. فقال: لا یجیء من قلبی، لا یجیء من قلبی)(4).


1- تاریخ بغداد للخطیب البغدادی  ج 3 ص 94.
2- الصحیح من قلبی ولیس من قبلی
3- البدایة والنهایة لابن کثیر  ج 11  ص 409.
4- تاریخ الإسلام للذهبی ج 28 ص 132.

ص: 437

جیم: مقتل النسائی بسبب تألیفه کتاب (خصائص أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب)

ولیس ما فعل بابن السقا وبالحاکم النیسابوری بعجیب، لان القوم ومتعصبیهم قد فعلوا بالنسائی أشد من ذلک وأعظم، فقد شنع علیه بسبب تألیفه لکتاب الخصائص الذی جمع فیه الفضائل الخاصة بأمیر المؤمنین علی بن أبی طالب فقط، وکثر علیه السؤال من علماء أهل زمانه، کما نقل ذلک المزی بقوله فی (تهذیب الکمال): (وسمعت قوما ینکرون علیه کتاب «الخصائص» لعلی رضی الله عنه وترکه لتصنیف فضائل أبی بکر وعمر وعثمان رضی الله عنهم، ولم یکن فی ذلک الوقت صنفها)(1).

أقول: والله لو أن النسائی صنف کتابا مستقلا فی فضائل عمر أو عثمان أو أبی بکر وغض الطرف عن ذکر الإمام أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه، لما أنکر علیه المنکرون ولا شنع علیه المشنعون ولا عاتبه احد من أهل زمانه فی إغضائه وعدم ذکره لعلی بن أبی طالب وعدم تألیفه کتابا فیه، ولکنها العصبیة العمیاء قاتلها الله وقاتل من ینتهجها ویؤمن بها.

فکان النسائی یجیب المعترضین علیه بقوله الذی نقله أبو بکر المأمونی حیث قال: (سألته عن تصنیفه کتاب الخصائص فقال دخلت دمشق والمنحرف بها عن علی کثیر وصنفت کتاب الخصائص رجاء أن یهدیهم الله)(2).

لکن هذا الجواب لم یقنع المتعصبین واستمرت علیه الضغوطات بحسب الظاهر مما اضطره اختیارا أو إجبارا إلی کتابة کتاب آخر أسماه (فضائل الصحابة)، ولکن المتعصبین لم یکتفوا منه بهذا القدر من التنازل والاعتذار، حتی طلبوا منه أن


1- تهذیب الکمال للمزی  ج 1 ص 338.
2- تهذیب التهذیب لابن حجر ج 1 ص 33.

ص: 438

یکتب فی فضائل معاویة بن أبی سفیان، حتی لا یکون لعلی فضائل ولیس لمعاویة مثلها، لان ذلک انتقاص لمعاویة وإعلاء لشأن أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه، فلما رفض إعطاءهم سؤلهم والنزول عند رغباتهم ضربوه ضربا مبرحا أمرضه وأدی به إلی الوفاة، قال أبو بکر المأمونی بعد کلامه المتقدم: (ثم صنف بعد ذلک کتاب فضائل الصحابة وقرأها علی الناس وقیل له وأنا حاضر ألا تخرج فضائل معاویة فقال أی شیء أخرج اللهم لا تشبع بطنه وسکت، وسکت السائل)(1).

لکن هذا السکوت کان بمنزلة الهدوء الذی یسبق العاصفة، فقد طولب مرة أخری بذکر فضائل معاویة بن أبی سفیان وروایتها وبعد رفضه للانصیاع حدثت الفضیحة، قال الحاکم أبو عبد الله الحافظ: (سمعت علی بن عمر یقول: کان أبو عبد الرحمان النسائی أفقه مشایخ مصر فی عصره، وأعرفهم بالصحیح والسقیم من الآثار، وأعلمهم بالرجال، فلما بلغ هذا المبلغ حسدوه فخرج إلی الرملة، فسئل عن فضائل معاویة، فأمسک عنه، فضربوه فی الجامع. فقال: أخرجونی إلی مکة، فأخرجوه إلی مکة وهو علیل، وتوفی بها مقتولا شهیدا)(2).

وقال ابن الأثیر: (وقال الدارقطنی: کان أفقه مشایخ مصر فی عصره، وأعرفهم بالصحیح من السقیم من الآثار، وأعرفهم بالرجال، فلما بلغ هذا المبلغ حسدوه فخرج إلی الرملة، فسئل عن فضائل معاویة فأمسک عنه فضربوه فی الجامع، فقال: أخرجونی إلی مکة، فأخرجوه وهو علیل، فتوفی بمکة مقتولا


1- تهذیب التهذیب لابن حجر ج 1 ص 33.
2- تهذیب الکمال للمزی ج 1 ص 338 __ 339.

ص: 439

شهیدا، مع ما رزق من الفضائل رزق الشهادة فی آخر عمره)(1).

وقال ابن الأثیر فی موضع آخر: (أنه إنما صنف الخصائص فی فضل علی وأهل البیت، لأنه رأی أهل دمشق حین قدمها فی سنة ثنتین وثلاثمائة عندهم نفرة من علی، وسألوه عن معاویة فقال ما قال، فدققوه فی خصیتیه فمات. وهکذا ذکر ابن یونس وأبو جعفر الطحاوی: أنه توفی بفلسطین فی صفر من هذه السنة)(2).

من هنا ومن خلال هذه الشواهد العدیدة نفهم أمرین مهمین:

 الأول: ان من یحاول الخروج عن الاعتقاد المألوف والمتداول عند أهل السنة یواجه بالضرب والإقصاء بل والقتل، لذلک لا نجد کثیراً من علمائهم یصرحون بکثیر من الأحادیث الصحیحة عن أهل البیت وفضائلهم وأفضلیتهم علی غیرهم مع معرفتهم بها، خوفا من التیار الجماهیری الذی یمکن أن یثور علیه ویتصرف بطریقة تؤدی إلی قتله أو تهجیره أو إلحاق ضرر بالغ به أو بذویه.

الثانی: ان هذا التعامل القاسی والرهیب کانوا یتعاملون به مع علمائهم ومحدثیهم وحفاظهم من أهل ملتهم ومذهبهم وطریقتهم، فکیف کانوا یتعاملون یا تری مع مخالفیهم ومعارضیهم ومن لا یشارکونهم فی کثیر من الأمور کالشیعة الإمامیة وغیرهم، فمن هنا نعلم مدی قسوة تلک الأزمنة المظلمة، ومدی الاضطهاد والتعسف والإرهاب الفکری والاجتماعی الذی مورس ضد محدثی الشیعة الإمامیة وسائر أتباع أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، والذی ما یزال مستمرا إلی یوم الناس هذا.


1- البدایة والنهایة لابن کثیر ج 11 ص 141.
2- المصدر نفسه.

ص: 440

ثالثا: رفضهم الحدیث لیس له أساس علمی وهو رفض مذهبی متعصب
اشارة

إن لکل مذهب من المذاهب أو طائفة من الطوائف عقائد وأفکاراً ومتبنیات معینة، تتبلور ومع مرور الوقت شیئا فشیئا فتصبح قاعدة أساسیة لا یمکن التنازل عنها أو التهاون فیها بحال من الأحوال، وهو ما یمکن أن نسمیه بأصول المذهب، وأهل السنة بمحدثیهم وعلمائهم وعامتهم ونتیجة للتربیة التی تلقوها عبر مئات السنین من الدول والحکومات التی تولت الزعامة منذ استشهاد النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم والی الیوم، تبلورت وتأسست لدیهم مجموعة من الأفکار التی صارت مع مرور الوقت قاعدة لا یمکن التفاوض علیها، وأساساً لا یمکن التنازل عنه بحال من الأحوال.

وإحدی هذه القواعد والأسس التی تکونت وتبلورت مع مرور الوقت هی مسألة تفضیل کل من أبی بکر وعمر بن الخطاب علی أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه، فهذا التفضیل وکما عرفنا من قبل لم یکن علی عهد النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، وکذلک لم یکن علی عهد الصحابة، لان کثیرا من الصحابة والتابعین سواء أفی عصر النبی الأعظم أم بعده کانوا یعتقدون بأفضلیة الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه علی جمیع الصحابة، ولهم فی ذلک أدلة ومواقف وأقوال قالها النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم فی حق الإمام أمیر المؤمنین علی ابن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه، ولکن هذه الفکرة قد تغیرت مع مرور الوقت لأسباب لا تخفی علی المتتبع، فالحکومات التی تصدرت کرسی الخلافة کانت مجتمعة علی رفض أن یکون للإمام أمیر المؤمنین أی أفضلیة علی الشیخین، والناس علی دین ملوکها، فصار من یقول بخلاف ما تقول به السلطة خارجاً عن القانون ویرمی بالرفض تارة وبالتشیع تارة أخری، وکثیراً ما یضاف إلیها کلمات أخری

ص: 441

مثل شیعی خبیث أو رافضی ملعون أو رافضی متحرق أو غیر ذلک، وهی تهم خطیرة آنذاک، والذی یتهم بها یصبح منبوذا من العامة ومطارداً مستباح الدم والمال من الدولة، وبهذه الطریقة تم استئصال فکرة أفضلیة الإمام أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه من الجذور، ولم یبق لها قائل، وإذا تجرأ احد أعلام أهل السنة وقالها أو أشار إلیها أو لمح لها فانه یحل علیه غضب السلطة والعلماء والعامة علی حد سواء، ویطرد من درسه ویضرب ویحاصر فی داره حتی یموت أو یتم اغتیاله، کما فعلوا مع النسائی والحاکم النیسابوری وغیرهما.

وبهذا صار تفضیل أبی بکر وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان علی أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه عقیدة وأساساً لا یمکن التنازل عنه والتفاوض بشأنه، وأصبح هذا الأمر أصلاً من أصول المذهب عندهم، هرم علیه الکبیر، وشاب علیه الصغیر، وألفته النفوس واستعذبته الأسماع، ولو أن الأمر توقف عند هذا الحد لهان الخطب، لکنه تعدی إلی أن أصبحت هذه العقیدة میزانا توزن به الأحادیث النبویة، ومعیارا تصحح من خلاله الأحادیث النبویة أو ترفض، فما وافقها حکموا علیه بالصحة حتی وان جاء بالأسانید الضعیفة أو المکذوبة، وما خالفها رفض وحکم علیه بالوضع والبطلان والشذوذ والغرابة وغیر ذلک من الأوصاف حتی ولو جاء بأسانید معتبرة صحیحة(1)، وهذا انحراف خطیر جدا، لان


1- ولیس هذا القول منا تجنیا علی أهل السنة ولا من باب الکذب علیهم فقد احتوت کتبهم وأبحاث علمائهم علی عدة شواهد یتیقن معها الباحث من تأثیر العقیدة علی تصحیح الأحادیث والعمل بها او تکذیبها وترکها، فکم من حدیث صحیح قد ثبت لدیهم صحته عن النبی الأعظم صلوات الله وسلامه علیه لکنهم فعلوا خلافه، وعملوا بعکسه، لان عقیدتهم وما تربت علیه أجیالهم تستمج هذه الأحادیث الصحیحة، ولا تستسیغ العمل بها. ومن الشواهد علی هذه الحقیقة ورود النص الصحیح عندهم بصحة الصلاة علی أی إنسان کان، بان یقال له (صلی الله علیک) ولکنهم رفضوا أن یقال (صلی الله علی علی) أو (صلی الله علی فاطمة) أو (صلی الله علی الحسن والحسین) أو أن یقول (اللهم صل علی محمد وآل محمد) ویقصد بآل محمد خصوص علی وفاطمة والحسن والحسین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، بل لابد بزعمهم أن یدخل معهم آل جعفر بن أبی طالب وآل عقیل بن أبی طالب وغیرهم کزوجات النبی صلی الله علیه وآله وسلم والصحابة، وفی هذا الصدد یقول ابن حجر فی (فتح الباری ج 11 ص 146) (وقال ابن القیم المختار أن یصلی علی الأنبیاء والملائکة وأزواج النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم وآله وذریته وأهل الطاعة علی سبیل الإجمال وتکره فی غیر الأنبیاء لشخص مفرد بحیث یصیر شعارا ولا سیما إذا ترک فی حق مثله أو أفضل منه کما یفعله الرافضة... «تنبیه» اختلف فی السلام علی غیر الأنبیاء بعد الاتفاق علی مشروعیته فی تحیة الحی فقیل یشرع مطلقا وقیل بل تبعا ولا یفرد لواحد لکونه صار شعارا للرافضة). وقال الزمخشری فی تفسیره (الکشاف عن حقائق التنزیل وعیون الأقاویل ج 3 شرح ص 273) (القیاس جواز الصلاة علی کل مؤمن لقوله تعالی (هُوَ الَّذِی یُصَلِّی عَلَیکُم) وقوله تعالی (وَ صَلِّ عَلَیهِم إنَّ صَلَوتَکَ سَکَنٌ لَهُم)  وقوله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم: «اللهم صل علی آل أبی أوفی» ولکن للعلماء تفصیلا فی ذلک وهو أنها إن کانت علی سبیل التبع کقولک صلی الله علی النبی وآله فلا کلام فیها، وأما إذا أفرد غیره من أهل البیت بالصلاة کما یفرد هو فمکروه، لان ذلک صار شعارا لذکر رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم ولأنه یؤدی إلی الاتهام بالرفض. وقال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم «من کان یؤمن بالله والیوم الآخر فلا یقفن مواقف التهم»). وقد ترکوا سنة التختم بالیمین مع ان فیها أحادیث صحیحة وتختموا بالیسار لان الشیعة تتختم بالیمین فلم تطاوعهم أنفسهم فی التشبه بهم، فقد ورد فی (سنن ابن ماجة ج 2 ص 1203 باب التختم بالیمین) عن عبد الله بن جعفر قال: (إن النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم، کان یتختم فی یمینه)، ومع ذلک نری ابن عبد البر فی (التمهید ج6 ص80 __ 81) یقول: (قد کان التختم فی الیمین مباحا حسنا لأنه قد تختم به جماعة من السلف فی الیمین کما تختم منهم جماعة فی الشمال وقد روی عن النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم الوجهان جمیعا فلما غلبت الروافض علی التختم فی الیمین ولم یخلطوا به غیره کرهه العلماء منابذة لهم وکراهیة للتشبه بهم). ولو أحصینا جمیع المخالفات لخرجنا عن الاختصار ولاحتاج الأمر إلی بحث مستقل، لکن ابن تیمیة یریحنا ویریح القارئ الکریم؛ لأنه یجعل قاعدة کلیة لهذه المسألة فیجوز مخالفة کل سنة تکون شعارا لأهل البدع فی نظره القاصر، فیقول فی (منهاج السنة النبویة لابن تیمیة ج4 ص145) (وهذا القول یقوله سائر الأئمة فإنه إذا کان فی فعل مستحب مفسدة راجحة لم یصر مستحبا ومن هنا ذهب من ذهب من الفقهاء إلی ترک بعض المستحبات إذا صارت شعارا لهم فلا یتمیز السنی من الرافضی ومصلحة التمیز عنهم لأجل هجرانهم ومخالفتهم أعظم من مصلحة هذا المستحب). فسبحان الله کیف یصیر فی الفعل المستحب مفسدة راجحة، والمستحبات احکام شرعیة انزلت وشرعت لکمال الانسان ومراعاة مصالحه الدنیویة والاخرویة، فکیف یقلبها ابن تیمیة وغیره من المصلحة الی المفسدة لمجرد ان مخالفیهم یفعلون تلک المستحبات ویتمسکون بها، وهذه اکبر ضربة لمن یدعی بان مصطلح (أهل السنة) مشتق ومأخوذ من التزام القوم بالسنة النبویة والاقتداء الحرفی والکامل بها، إذ یتبین ومن خلال تلک الأمثلة وغیرها الکثیر ان هذا الالتزام بالسنة النبویة منهم هو التزام مزاجی أو کیفی، فمتی ما تماشت السنة مع میولهم العقائدیة وما تربوا علیه اخذوا بها ومتی ما خالفت السنة النبویة هذه المیول وتلک العقائد التی ترعرعوا علیها ترکوها وضربوا بها عرض الجدار، وهذا أمر خطیر للغایة، إذ صارت السنة النبویة تابعة غیر متبوعة، وهو خلاف منهج القرآن والسنة المطهرة.

ص: 442

ص: 443

 المفروض والصحیح هو ان یعرض المسلم عقائده علی الکتاب العزیز والقرآن الکریم، والسنة النبویة الصحیحة، فما وافق کتاب الله وسنة رسوله صلی الله علیه وآله وسلم قبله، وما خالف ذلک رفضه وضرب به عرض الجدار.

وحدیث الطیر قد مر بهذه المشکلة الخطیرة نفسها، لأنه یصرح وبکل وضوح ان الإمام أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه هو الفرد الأحب إلی الله سبحانه ورسوله الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، ولیس لأبی بکر وعمر وعثمان نصیب من هذه المنزلة الرفیعة، بل أکثر من ذلک فان بعض طرق الحدیث تثبت بما لا یقبل الشک ان النبی صلی الله علیه وآله وسلم أحبط عدة محاولات لهم لإدخال أنفسهم فی ضمن

ص: 444

الحدیث واستغلال الظروف، وهذه صدمة قویة وضربة قاضیة لذلک المبدأ الفکری والعقائدی الذی تربی علیه صغیرهم ومات علیه کبیرهم، فکان من الطبیعی أن یرفض حتی لو جاء بمائة طریق صحیح، وحتی لو صححه عشرات الحفاظ والنقاد، ما دام یؤید مذهب الشیعة او الروافض کما یحبون ان یسمونا، ولیس هذا من باب الافتراء علی القوم بل هذا هو المفهوم من کلمات أعلامهم وتصریحاتهم فیحدیث الطائر المشوی نختار منها علی نحو الإجمال والاختصار ما یأتی:

ألف: التوربشتی یحاول إدخال أبی بکر وعمر وعثمان فی حدیث الطائر المشوی

قال المبارکفوری فی (تحفة الأحوذی): (قَالَ التُّورْبَشْتِیُّ: هَذَا الْحَدِیثُ لا یُقَاوِمُ مَا أَوْجَبَ تَقْدِیمَ أَبِی بَکْرٍ وَالْقَوْلُ بِخَیْرِیَّتِهِ مِنْ الأَخْبَارِ الصِّحَاحِ مُنْضَمًّا إِلَیْهَا إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ لِمَکَانِ سَنَدِهِ فَإِنَّ فِیهِ لأَهْلِ النَّقْلِ مَقَالا وَلا یَجُوزُ حَمْلُ أَمْثَالِهِ عَلَی مَا یُخَالِفُ الإِجْمَاعَ... فَالسَّبِیلُ أَنْ یُؤَوَّلَ عَلَی وَجْهٍ لا یُنْقَضُ عَلَیْهِ مَا اِعْتَقَدَهُ وَلا یُخَالِفُ مَا هُوَ أَصَحُّ مِنْهُ مَتْنًا وَإِسْنَادًا وَهُوَ أَنْ یُقَالَ یُحْمَلُ قَوْلُهُ بِأَحَبَّ خَلْقِک عَلَی أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ اِئْتِنِی بِمَنْ هُوَ مِنْ أَحَبِّ خَلْقِک إِلَیْک فَیُشَارِکُهُ فِیهِ غَیْرُهُ وَهُمْ الْمُفَضَّلُونَ بِإِجْمَاعِ الأُمَّةِ...فَیُؤَوَّلُ هَذَا الْحَدِیثُ عَلَی الْوَجْهِ الَّذِی ذَکَرْنَاهُ أَوْ عَلَی أَنَّهُ أَرَادَ بِأَحَبِّ خَلْقِهِ إِلَیْهِ مِنْ بَنِی عَمِّهِ وَذَوِیهِ)(1).

أقول: ویرد علی هذا القائل عدة أمور مهمة منها:

1: حاول التوربشتی من خلال قوله(هَذَا الْحَدِیثُ لا یُقَاوِمُ مَا أَوْجَبَ تَقْدِیمَ أَبِی بَکْرٍ وَالْقَوْلُ بِخَیْرِیَّتِهِ مِنْ الأَخْبَارِ الصِّحَاحِ مُنْضَمًّا إِلَیْهَا إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ لِمَکَانِ سَنَدِهِ فَإِنَّ فِیهِ لأَهْلِ النَّقْلِ مَقَالا وَلا یَجُوزُ حَمْلُ أَمْثَالِهِ عَلَی مَا یُخَالِفُ الإِجْمَاعَ) أن


1- تحفة الأحوذی للمبارکفوری ج10 ص153.

ص: 445

یضرب حدیث الطائر المشوی من خلال سنده بحجة أن لأهل النقل فیه مقالاً، وکذلک حاول ضربه من خلال الإجماع الذی زعمه علی أفضلیة أبی بکر علی غیره، وضربه أیضا لمخالفته للأخبار التی دلتهم بزعمه علی أفضلیة أبی بکر علی غیره من الصحابة.

وجمیع هذه الأدلة باطلة زائفة، فأما طعن حدیث الطائر من خلال سنده وان لأهل النقل فیه مقالاً، فقد أثبتنا بطلانه وعدم إنصافه، وإلا فأی حدیث من أحادیث النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم عندهم لیس لأهل النقل فیه مقال، فمعظم أحادیثهم سواءأ التی فی الصحیحین أم غیرهما من الکتب، قد اختلفت أقوالهم فیها ما بین مکذب ومصدق، وما بین مضعف ومقوٍّ، فلو التزموا بإبطال کل حدیث یوجد لأهل النقل فیه مقال لما بقی لهم حدیث أصلا.

 وأما الإجماع المزعوم علی أفضلیة أبی بکر علی سائر الصحابة عموما وعلی أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب علی وجه الخصوص فهو إجماع کاذب لا رصید له من الحقیقة، لأننا عرفنا فی موضوع سابق، ان الصحابة والتابعین وغیرهم قد اختلفوا اشد الاختلاف فیمن هو الفضلیات الصحابة، فمنهم من کان یری أن الأفضل هو أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه وهو الموافق للحق، ومنهم من کان یری أن الأفضل هم الشهداء الذین استشهدوا فی عهد رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، ومنهم من کان یری ان عمر بن الخطاب هو الأفضل، ومنهم من کان یری ان زوجات النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم هن الأفضل، ومنهم من کان یری غیر ذلک کله، ولو أردنا الاستقصاء لطال بنا المقام، وهذا یکذب ادعاء الإجماع، نعم الإجماع قد حصل فی عصور متأخرة جدا عن عصر الصحابة والتابعین وتابعی

ص: 446

التابعین، بل لم یکن فی زمن أصحاب المذاهب الأربعة(1)، وقد تشکل وتبور بعدهم بوقت طویل، فهو إجماع متأخر بینا أسبابه من قبل، وهو لیس بحجة قطعا، لان الإجماع المعتد به والذی یکون له حجة شرعیة هو إجماع الأمة منذ زمن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم ومرورا بعصر الصحابة ثم التابعین وتابعی التابعین ویستمر إلی یومنا هذا، وکل إجماع لا یکون کذلک فهو إجماع مکذوب ملفق، والإجماع الذی ادعاه التوربشتی وغیره من هذا القبیل.

أما محاولة ضرب الحدیث بحجة انه مخالف للأحادیث التی نصت علی أفضلیة أبی بکر فهی محاولة فاشلة تضاف إلی محاولاته السابقة، لان جمیع أحادیث فضائل أبی بکر وباعتراف أعلام أهل السنة معارضة بأحادیث أخری نصت علی أفضلیة غیره علیه(2)، إضافة إلی تکذیب أبی بکر لهذه الأفضلیة بقوله: (ولیتکم ولست


1- تقدم قول انس بن مالک الذی نقله ابن عبد البر فی (الاستذکار ج5 ص108) (عن عبد الله بن وهب قال سمعت مالکا یقول لا أفضل أحدا من العشرة ولا غیرهم علی صاحبه وکان یقول هذا من علم الله الذی لا یعلمه غیره قال وقال مالک أدرکت شیوخنا بالمدینة وهذا رأیهم)، وفی (ص110) عن إسماعیل بن أبی أویس: (عن مالک بن أنس قال لیس من أمر الناس الذین مضوا أن یفاضلوا بین الناس، وحدثنا عبد الوارث بن سفیان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهیر قال سمعت مصعب بن عبد الله الولیدی یقول لم یکن أحد من مشایخنا الذین أدرکت ببلدنا یفضل بین أحد من العشرة لا مالک ولا غیره).
2- قد تقدم قول إمام الحرمین الجوینی فی کتابه (الإرشاد إلی قواطع الأدلة فی أصول الاعتقاد ص431) (لم یقم عندنا دلیل قاطع علی تفضیل بعض الأئمة علی بعض، إذ العقل لا یشهد علی ذلک والأخبار الواردة فی فضائلهم متعارضة...)، وقول الآمدی فی (أبکار الأفکار ص309) (والذی علیه اعتماد الأفاضل من أصحابنا __ یقصد بهم جمهور الأشاعرة __، انه لا طریق إلی التفضیل بمسلک قطعی، وأما المسالک الظنیة فهی متعارضة، وقد یظهر بعضها فی نظر بعض المجتهدین وقد لا یظهر).

ص: 447

بخیرکم). فجمیع محاولات التوربشتی لضرب الحدیث هی محاولات عقیمة تعود بالضرر علیه وتظهر مدی انحیازه وتصلبه فی الباطل، لدفعه لکلام النبی صلی الله علیه وآله وسلم بحجج واهیة ضعیفة.

2: ولما کان التوربشتی یعلم فی قرارة نفسه کذب الأدلة التی قدمها لرفض حدیث الطائر المشوی وخطأها وضحالتها، عمد إلی محاولة أخری هی أقبح من محاولاته السابقة، وهی المحاولة التی یلجأ إلیها جمیع محدثی أهل السنة حینما یضطرهم الحق إلی الاعتراف بشیء لا تستسیغه نفوسهم، فیهربون إلی التأویل للخروج من المأزق، فیحاول احدهم أن یجد للحدیث ککل أو لبعض ألفاظه مخرجاً مشترکاً أو وجهاً ثانیاً فیتمسک به ویرفض الرضوخ للمعنی الذی لا ینسجم مع مبتغاه(1)، وقد طبق التوربشتی هذه المحاولة هنا، فقال: (یُحْمَلُ قَوْلُهُ بِأَحَبِّ خَلْقِک عَلَی أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ اِئْتِنِی بِمَنْ هُوَ مِنْ أَحَبِّ خَلْقِک إِلَیْک فَیُشَارِکُهُ فِیهِ غَیْرُهُ وَهُمْ الْمُفَضَّلُونَ بِإِجْمَاعِ الأُمَّةِ) ولا أظن أنّ هذا التأویل السقیم یحتاج إلی وقفة طویلة، لان قائله نسی او تعمد النسیان أنّ النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم اعلم الناس بالعربیة وهو أفصح من نطق الضاد، ولو أراد معنی غیر الذی قاله فی الحدیث لما احتاج إلی رأی التوربیشی، فلو أراد أن یدخل غیر علی فی قوله: (ائتنی بأحب خلقک) أو یستثنی غیره من هذه الجملة لما عجز صلی الله علیه وآله وسلم عن ذلک حتی یحتاج إلی التوربشتی لینبهه إلی ذلک حاشاه، ولکنها العصبیة البغیضة ومحاولة تحریف الکلم عن مواضعه.


1- کما فعلوا مع حدیث (من کنت مولاه فهذا علی مولاه) فانهم لما وجدوا ان الحدیث متواتر ولا یمکن نکرانه ورد أسانیده عمدوا الی تأویلهم للفظ المولی، فقالوا ان قصد النبی لیس هو الولایة بمعنی الحکومة والامارة، بل بمعنی الصدیق والمحب وغیر ذلک، فزعموا ان النبی کان یرید من کنت حبیبه فعلی حبیبه او من کنت صدیقه فعلی صدیقه وغیر ذلک من الوجوه السقیمة.

ص: 448

باء: التفتزانی یقول إنّ أبا بکر وعمر مستثنیان من عبارة (ائتنی بأحب خلقک)

قال التفتزانی فی (شرح المقاصد فی علم الکلام): (لا کلام فی عموم مناقبه ووفور فضائله واتصافه بالکمالات واختصاصه بالکرامات إلا أنه لا یدل علی الأفضلیة بمعنی زیادة الثواب والکرامة عند الله بعدما ثبت من الاتفاق الجاری مجری الإجماع علی أفضلیة أبی بکر ثم عمر...وأن أحب خلقک یحتمل تخصیص أبی بکر وعمر منه عملا بأدلة أفضلیتهما... وأما حدیث العلم والشجاعة فلم تقع حادثة إلا ولأبی بکر وعمر فیه رأی وعند الاختلاف لم یکن یرجع إلی قول علی رضی الله تعالی عنه البتة...)(1).

أقول: ومعنی تخصیص کل من أبی بکر وعمر من حدیث الطائر المشوی، هو ان الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه کان أحب الخلق إلی الله لکن باستثناء أبی بکر وعمر بن الخطاب فإنهما أحب إلی الله منه.

وهو کلام ضعیف للغایة فلو کان النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم یرید ذلک لصرح به، وبما انه لم یصرح فیثبت انه لم یکن یریده، إضافة إلی أن النبی صلی الله علیه وآله وسلم لو کان قاصدا استثناء کل من أبی بکر وعمر لما ردهما عن بابه حینما أرادا الدخول علیه والأکل معه من ذلک الطائر المشوی، فالإطلاق فی اللفظ یشملهما وغیرهما، ولا یخرجان ولا غیرهما عن هذا الحدیث.

جیم: الألبانی یقول یمکن تصحیح الحدیث لو ورد بغیر صیغة التفضیل

قال الألبانی فی (السلسلة الضعیفة) بعد أن أورد جملة من طرق حدیث الطائر المشوی وأسانیده: (قلت: فلو أن الحدیث کان فی أکثر طرقه بلفظ من هذه الألفاظ المتفقة المعنی، ولم تکن باسم التفضیل «أحب خلقک»، لکان من الممکن القول بثبوته، ویکون کحدیث الرایة الصحیح الذی فی بعض روایاته:«لأعطین


1- المقاصد فی علم الکلام للتفتزانی ج3 ص466.

ص: 449

الرایة رجلاً یفتح الله علی یدیه، یحب الله ورسوله، ویحبه الله ورسوله...» رواه البخاری «4210»، ومسلم «7/127». لکن الواقع أن أکثر الروایات بلفظ اسم التفضیل: «أحب».. ومن هنا جاء الحکم علیه بالوضع __ کما تقدم __)(1).

أقول: وهذا تصریح واضح ومهم یقدمه لنا الشیخ الألبانی عن علة حکمهم علی حدیث الطائر المشوی بالوضع والنکارة والغرابة وغیر ذلک من ألفاظ الجرح التی أطلقوها ضده، فالسبب إذن لیس عدم صحة أسانیده، أو ضعف رجال سلسلته، بل السبب هو ان حدیث الطیر یخصص مرتبة (الأحب) لأمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه، ولو کان الحدیث لم یأتِ بهذه العبارة وجاء مثلا بصیغة (اللهم ائتنی من أحب خلقک إلیک یأکل معی من هذا الطائر) التی تقتضی کون الإمام أمیر المؤمنین لیس هو الحبیب الوحید أو الأفضل، فیترک الباب مفتوحا لدخول غیره معه، لان حرف الجر (من) یفید التبعیض ویترک هنالک مجالا لدخول الأغیار، لصححوا الحدیث.

إذن فمشکلة حدیث الطائر المشوی ومعضلته هو انه جاء بلفظ (أحب خلقک) الذی قطع الطریق علی کل من یحاول أن یدخل نفسه أو یدخله الآخرون فی هذا الحدیث غیر أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه، فلما لم یستطیعوا احتماله ولا تأویله حکموا علیه بالوضع کما قال الألبانی.

وبهذا ینتهی الکلام عن حدیث الطائر المشوی الذی یثبت ان أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه أحب الخلق إلی الله سبحانه وتعالی بعد نبیه الکریم صلی الله علیه وآله وسلم، وقد ترکنا کثیراً من کلمات القوم وطعونهم واقتصرنا علی ما تقدم؛ لان الهدف من هذا الکتاب هو استعراض النماذج المهمة لا استقصاء جمیع تلک النماذج.


1- السلسلة الضعیفة للألبانی ج14 ص184.

ص: 450

الحدیث الثالث: فاطمة علیها السلام سیدة نساء العالمین وسیدة نساء المؤمنات وسیدة نساء أهل الجنة

بعض النصوص الصحیحة التی صرحت بهذه الفضیلة

اشارة

وردت نصوص کثیرة صحیحة نصت بأجمعها علی أن السیدة فاطمة بنت محمد - لقبّها النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم بسیدة نساء هذه الأمة، أو سیدة نساء المؤمنین، أو سیدة نساء أهل الجنة، وغیر ذلک، وفی بعض النصوص ان الله سبحانه هو الذی وصفها بذلک کما سیأتی، وقد اخترنا عدة نصوص من باب الشاهد والاختصار ولیس من باب التطویل والاستقصاء، وهی کما یأتی:

أولا: ما أخرج فی مسند احمد بن حنبل

قال: (ثنا أبو بکر أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالک القطیعی قال ثنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل قال حدثنی أبی أحمد بن محمد بن حنبل قال ثنا أبو نعیم الفضل بن دکین قال ثنا زکریا بن أبی زائدة عن الفراس عن الشعبی عن مسروق عن عائشة قالت أقبلت فاطمة تمشی کأن مشیتها مشیة رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فقال مرحبا بابنتی ثم أجلسها عن یمینه أو عن شماله ثم إنه أسر إلیها حدیثا فبکت فقلت لها استخصک رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم حدیثه ثم تبکین ثم إنه أسر إلیها حدیثا فضحکت فقلت ما رأیت کالیوم فرحا أقرب من حزن فسألتها عما قال فقالت ما کنت لأفشی سر رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم حتی إذا قبض النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم سألتها فقالت إنه أسر إلی فقال إن

ص: 451

جبریل علیه السلام کان یعارضنی بالقرآن فی کل عام مرة وانه عارضنی به العام مرتین ولا أراه إلا قد حضر أجلی وانک أول أهل بیتی لحوقا بی ونعم السلف أنا لک فبکیت لذلک ثم قال ألا ترضین أن تکونی سیدة نساء هذه الأمة أو نساء المؤمنین قالت فضحکت لذلک)(1).

وورد أیضا فی المسند: (حدثنا عبد الله حدثنی أبی ثنا یونس ثنا داود بن أبی الفرات عن علباء عن عکرمة عن ابن عباس قال خط رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فی الأرض أربعة خطوط قال تدرون ما هذا فقالوا الله ورسوله اعلم فقال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم أفضل نساء أهل الجنة خدیجة بنت خویلد وفاطمة بنت محمد وآسیة بنت مزاحم امرأة فرعون ومریم ابنة عمران رضی الله عنهن أجمعین)(2).

ثانیا: ما أخرجه البخاری فی صحیحه

قال البخاری: (حدثنا أبو نعیم حدثنا زکریا عن فراس عن عامر عن مسروق عن عائشة رضی الله عنها قالت أقبلت فاطمة تمشی کأن مشیتها مشی النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فقال النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم مرحبا یا بنتی ثم أجلسها عن یمینه أو عن شماله ثم أسر إلیها حدیثا فبکت فقلت لها لم تبکین ثم أسر إلیها حدیثا فضحکت فقلت ما رأیت کالیوم فرحا أقرب من حزن فسألتها عما قال فقالت ما کنت لأفشی سر رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم حتی قبض النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فسألتها فقالت أسرّ إلیّ أن


1- مسند احمد للإمام احمد بن حنبل  ج 6 ص 282.
2- المصدر السابق ج1 ص293.

ص: 452

جبریل کان یعارضنی القرآن کل سنة مرة وانه عارضنی العام مرتین ولا أراه إلا حضر أجلی وانک أول أهل بیتی لحاقا بی فبکیت فقال أما ترضین أن تکونی سیدة نساء أهل الجنة أو نساء المؤمنین فضحکت لذلک)(1).

وروی البخاری أیضا فی (باب من ناجی بین یدی الناس ولم یخبر بسر صاحبه فإذا مات أخبر به): (حدثنا موسی عن أبی عوانة حدثنا فراس عن عامر عن مسروق حدثتنی عائشة أم المؤمنین قالت انا کنا أزواج النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم عنده جمیعا لم تغادر منا واحدة فأقبلت فاطمة علیها السلام تمشی لا والله ما تخفی مشیتها من مشیة رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فلما رآها رحب قال مرحبا بابنتی ثم أجلسها عن یمینه أو عن شماله ثم سارها فبکت بکاء شدیدا فلما رأی حزنها سارها الثانیة إذا هی تضحک فقلت لها أنا من بین نسائه خصک رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم بالسر من بیننا ثم أنت تبکین فلما قام رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم سألتها عما سارک قالت ما کنت لأفشی علی رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم سره فلما توفی قلت لها عزمت علیک بمالی علیک من الحق لما أخبرتنی قالت أما الآن فنعم فأخبرتنی قالت أما حین سارنی فی الأمر الأول فإنه أخبرنی ان جبریل کان یعارضه بالقرآن کل سنة مرة وانه قد عارضنی به العام مرتین ولا أری الأجل إلا قد اقترب فاتقی الله واصبری فانی نعم السلف انا لک قالت فبکیت بکائی الذی رأیت فلما رأی جزعی سارنی الثانیة قال یا فاطمة ألا ترضین أن تکونی سیدة نساء المؤمنین أو سیدة نساء هذه الأمة)(2).


1- صحیح البخاری ج 4 ص 183.
2- صحیح البخاری ج 7 ص 141 __ 142.

ص: 453

ثالثا: ما أخرجه مسلم فی صحیحه

روی مسلم فی صحیحه بألفاظ متقاربة مع ما رواه کل من احمد بن حنبل والبخاری ننقل منها محل الشاهد طلبا للاختصار، قال: (حدثنا) أبو کامل الجحدری فضیل بن حسین حدثنا أبو عوانة عن فراس عن عامر عن مسروق عن عائشة...قال یا فاطمة أما ترضین أن تکونی سیدة نساء المؤمنین أو سیدة نساء هذه الأمة قالت فضحکت ضحکی الذی رأیت)(1).

رابعا: ما رواه الهیثمی وصححه

قال الهیثمی فی (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد): (وعن عائشة قالت ما رأیت أفضل من فاطمة غیر أبیها قالت وکان بینهما شیء فقالت یا رسول الله سلها فإنها لا تکذب. رواه الطبرانی فی الأوسط وأبو یعلی إلا أنها قالت ما رأیت أحدا قط أصدق من فاطمة، ورجالهما رجال الصحیح)(2).

وقال الهیثمی أیضا: (عن النعمان بن بشیر قال استأذن أبو بکر علی رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فسمع صوت عائشة عالیا وهی تقول والله لقد عرفت ان علیا وفاطمة أحب إلیک منی ومن أبی مرتین أو ثلاثا فاستأذن أبو بکر فأهوی إلیها فقال یا بنت فلانة لا أسمعک ترفعین صوتک علی رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم قلت رواه أبو داود غیر ذکر علی وفاطمة رواه أحمد ورجاله رجال الصحیح)(3).


1- صحیح مسلم ج 7 ص 142 __ 144.
2- مجمع الزوائد للهیثمی  ج 9 ص 201.
3- المصدر السابق ص 201 __ 202.

ص: 454

وقال أیضا: (وعن ابن عباس قال خط رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فی الأرض أربعة خطوط فقال أتدرون ما هذا فقالوا الله ورسوله أعلم فقال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم أفضل نساء أهل الجنة خدیجة بنت خویلد وفاطمة ابنة محمد صلی الله علیه __ وآله __ وسلم ومریم ابنة عمران وآسیة ابنة مزاحم امرأة فرعون. رواه أحمد وأبو یعلی والطبرانی ورجالهم رجال الصحیح)(1).

خامسا: تصحیح الحاکم وابن حجر لطرق تفضیل السیدة خدیجة والسیدة فاطمة صلوات الله و سلامه علیهما

قال الحاکم النیسابوری فی المستدرک علی الصحیحین): (الأخبار ثابتة صحیحة عن النبی صلی الله علیه وآله ان فاطمة علیها السلام سیدة نساء هذه الأمة)(2).

کما تجدر الإشارة إلی أن الحاکم قد صحح کذلک حدیث نزول الملک من عند العلی الأعلی لإخبار النبی بان فاطمة بنت محمد هی سیدة نساء أهل الجنة، فروی عن المنهال بن عمرو عن زر بن حبیش عن حذیفة رضی الله عنه عن رسول الله صلی الله علیه وآله قال: (نزل من السماء ملک فاستأذن الله أن یسلم علی لم ینزل قبلها فبشرنی ان فاطمة سیدة نساء أهل الجنة)

ثم علق الحاکم النیسابوری علی هذا الحدیث بقوله: هذا حدیث صحیح الإسناد ولم یخرجاه __ أی مسلم والبخاری فی صحیحیهما __)(3).


1- مجمع الزوائد للهیثمی ج 9 ص 223.
2- المستدرک للحاکم النیسابوری ج 4 ص 44.
3- المصدر السابق ج 3 ص 151.

ص: 455

أما ابن حجر فقد قال: (وقد ورد من طریق صحیح ما یقتضی أفضلیة خدیجة وفاطمة علی غیرهما وذلک فیما سیأتی فی قصة مریم من حدیث علی بلفظ خیر نسائها خدیجة وجاء فی طریق أخری ما یقتضی أفضلیة خدیجة وفاطمة وذلک فیما أخرجه ابن حبان وأحمد وأبو یعلی والطبرانی وأبو داود فی کتاب الزهد والحاکم...)(1).

سادسا: تصحیح المناوی لحدیث خیر نساء العالمین أربع

قال المناوی فی (التیسیر بشرح الجامع الصغیر): («خیر نساء العالمین أربع مریم بنت عمران وخدیجة بنت خویلد وفاطمة بنت محمد وآسیة امرأة فرعون» والمراد أن کلا منهن خیر نساء الأرض فی عصرها وأما التفضیل بینهن فمسکوت عنه «حم طب عن أنس» بإسناد صحیح)(2).

أقول: سیأتی أن التفضیل بینهن غیر مسکوت عنه، وان الأدلة قائمة علی أن أفضل الأربعة اثنتان خدیجة وفاطمة صلوات الله وسلامه علیهما، وان السیدة الزهراء صلوات الله وسلامه علیها هی أفضل الاثنتین، فتکون صلوات الله وسلامه علیها أفضل الجمیع بأدلة ستأتی فی محلها إن شاء الله سبحانه.

سابعا: تصحیح الآلوسی لحدیث ولم یکمل من النساء إلا أربع

قال الآلوسی فی تفسیره: (وفی «الصحیح» کمل من الرجال کثیر ولم یکمل من النساء إلا أربع: آسیة بنت مزاحم امرأة فرعون. ومریم ابنة عمران. وخدیجة بنت خویلد. وفاطمة بنت محمد صلی الله علیه __ وآله __ وسلم وفضل عائشة علی


1- فتح الباری لابن حجر  ج 6 ص 321.
2- التیسیر بشرح الجامع الصغیر للمناوی ج1 ص1077.

ص: 456

النساء کفضل الثرید علی سائر الطعام)(1).

أقول: سیأتی ان عبارة (وفضل عائشة علی النساء کفضل الثرید علی سائر الطعام) مدسوسة فی ضمن هذه الأحادیث لهدف مذهبی، لان النبیصلی الله علیه وآله وسلم فی هذا الحدیث فی صدد تبیان الکاملات الأربع من النساء، ودخول عائشة أجنبی عن الهدف وغیر متناسب مع السیاق، فنشاز هذه العبارة بیّن وواضح یعرفه أدنی من له ذوق فی اللغة والأدب.

هذا وستأتی قریبا نصوص أخری کثیرة سواء من النصوص الروائیة أم من أقوال أعلام أهل السنة وتصریحاتهم فی الاعتراف والإذعان بکون السیدة فاطمة بنت محمد - أفضل نساء العالمین من الأولین والآخرین.

محاولات علماء أهل السنة التغطیة علی هذه الأحادیث وتمییعها

اشارة

لم یکن هذا الحدیث بمعزل عن الهجمات التی شنت ضد سائر فضائل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، ولم تکن فضائل السیدة فاطمة الزهراء - بمستثناة من تلک الحرب الضروس التی شنت علی فضائل أمیر المؤمنین *، فمثلما کانت الحرب شدیدة وقاسیة ضد فضائل الرجال، کذلک کانت قاسیة وضروساً فی ساحة فضائل النساء، فالحرب نفس الحرب والأهداف نفس الأهداف والغایات فی کلا الحربین واحدة.

وقد أوضحنا فی أوراق سابقة من هذا البحث، ان حیاة النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم کانت ملیئة بتصریحات لا تعد ولا تحصی فی حق أهل بیته صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وان کفتهم کانت مثقلة بآیات کثیرة وأحادیث جمة نطقت


1- تفسیر الآلوسی ج 28 ص 165.

ص: 457

بتفضیلهم والثناء علیهم وجعلهم فی مرتبة لا یطمع فی إدراکها طامع، وهی إلی الآن وعلی الرغم من تعاضد قوی الظلام وسیاسات الشر علی طمسها وتحریفها وإخفائها تشع کالشمس فی رابعة النهار أو کالقمر المنیر فی اللیلة الحالکة الظلام، فکیف یا تری کانت ستکون لو لم یمارس ضدها ذلک الإرهاب الفکری الذی طمس کثیرا من معالمها وملامحها ورونقها.

وکذلک أوضحنا ان الذین تسلقوا کرسی الحکم بعد الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم کانوا فقراء من حیث التأیید والتزکیة والتفضیل، ولکن وبعد أن جرت الدنیا بأیدیهم، وسیطروا علی الأموال والدماء، تغیرت الأوضاع وتبدلت الأحوال، فصار الذی قد کان بالأمس ینادی علیه أبو سفیان (غلبکم علی هذا الأمر أذل أهل بیت فی قریش)(1)، والذی یصف نفسه مخاطبا الطائر بقوله: (طوبی لک یا طیر والله لوددت أنی کنت مثلک، تقع علی الشجرة وتأکل من الثمر ثم تطیر ولیس علیک حساب ولا عذاب، والله لوددت أنی کنت شجرة إلی جانب الطریق مر علی جمل فأخذنی فأدخلنی فاه فلاکنی ثم إزدردنی ثم أخرجنی بعرا ولم أکن بشرا)(2)، فصار مثل هذا الإنسان البسیط القدر والمنزلة وباعترافه، بعد تولیه السلطة، وبعد جریان انهار الذهب والفضة علی الوضاعین (یکسب المعدوم ویصل الرحم ویحمل الکل ویقری الضیف ویعین علی نوائب الحق)(3) (ورئیسا فی قریش


1- هذا الکلام قاله أبو سفیان قاصدا به أبا بکر بعد بیعته فی السقیفة، راجع: المصنف لعبد الرزاق الصنعانی ج 5 ص 451.
2- وهذا أیضا مما قاله أبو بکر علی نفسه کما فی المصنف لابن أبی شیبة الکوفی ج 8  ص 144، وراجع أیضا کنز العمال للمتقی الهندی  ج 12 ص 528.
3- صحیح البخاری ج 3 ص 58.

ص: 458

مکرما، وصاحب مال، وداعیة إلی الإسلام)(1).

وصارت زعیمة المعارضة ورأس الحربة التی طالما طعنت نحور أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وصدورهم، والتی ثبت فی الخبر الصحیح أنها تظاهرت علی رسول اللهصلی الله علیه وآله وسلم هی وصاحبتها مرارا وتکرارا، حتی نزل فیهما قرآن یتلی آناء اللیل وأطراف النهار، فما زال قوله سبحانه فی سورة التحریم ((إِنْ تَتُوبَا إِلَی اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُکُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَیْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِیلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِینَ وَالْمَلَائِکَةُ بَعْدَ ذَلِکَ ظَهِیرٌ * عَسَی رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَکُنَّ أَنْ یُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَیْرًا مِنْکُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَیِّبَاتٍ وَأَبْکَارًا))(2) یشهد علی فعلتهما، ویصدح بمعاناة الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم من هاتین المرأتین اللتین کانتا تغضبان رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم حتی یبقی عامة یومه غضبان، وإذا بین لیلة وضحاها تصبح من کانت تغضب رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم حبیبته، وصارت من تتظاهر علیه وتتآمر لها فضل کفضل الثرید علی سائر الطعام، وأصبحت بعد أن لم تکن، أفضل زوجاته صلی الله علیه وآله وسلم وأقرب إلیه من بناته.

فیوم السقیفة لم یکن انقلابا عسکریا أو سیاسیا أو حکومیا فحسب، بل کان انقلابا أخلاقیا عقائدیا مبدئیا بالدرجة الأولی، غیر جمیع القیم، وزیف کل الحقائق التی کانت کالشمس علی عهد الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، صیر السادة أتباعا، وجعل من الأتباع ملوکا.

وواحدة من الحقائق التی زیفت وطمست وبدلت وحیکت حولها المؤامرات والخطط والمکائد بعد یوم السقیفة المشؤوم، هی حقیقة کون السیدتین خدیجة


1- البدایة والنهایة لابن کثیر ج 3 ص 36 __ 37.
2- سورة التحریم الآیة 4 __5.

ص: 459

وفاطمة صلوات الله وسلامه علیهما سیدتی نساء هذه الأمة وبلا منازع، بل وسیدتی نساء أهل الجنة وبلا منافس، فالدولة لم یکن یروقها هذا الأمر، لان السیدة فاطمة صلوات الله وسلامه علیها کانت علی قمة تیار المعارضة للدولة البکریة، فکان تثبیت هذا الوصف لها - معناه تقویتها وشد القلوب والأفئدة نحوها، وهو یعنی إضعاف الدولة وضربها فی الصمیم، إذ کیف تکون هذه الدولة شرعیة وسیدة نساء العالمین وسیدة نساء أهل الجنة تقول بعدم شرعیتها، وترفع رایة الحرب ضدها، وتدعو الناس جهرة وخفیة للإطاحة بها، ونزع ید الطاعة عنها، وهو أمر إن لم یؤثر علی الدولة البکریة فی حینها، لاجتماع الأمة علی هضم أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وقهرهم وغصب حقهم(1)، لکنه سیکون اخطر بکثیر بالنسبة للأجیال القادمة والتی ستتساءل عن سبب ممانعة سیدة نساء العالمین ومعارضتها لهذه الدولة وستکتشف هذه الأجیال أمورا لا ترغب الدولة بفضحها وکشفها للأجیال القادمة.

فرأت الدولة انها إذا ما أرادت البقاء والصمود أن تقضی علی هذه الفضیلة مهما کلفها الأمر، وسنورد للقارئ الکریم کیف خاض أهل السنة دولة وعلماءً، معارک شرسة وضاریة ضد هذه الفضیلة، وکیف استماتوا فی محاولة تفضیل عائشة بنت أبی بکر علی نساء العالمین لا سیما خدیجة وفاطمة ,، وکیف جعلوها طرفا للتفاضل معهن ومع آسیا بنت مزاحم ومریم ابنة عمران ,، بعد أن لم تکن تصلح طرفا للتفاضل مع بقیة زوجات النبی صلی الله علیه وآله وسلم فضلا عن أن تصلح طرفا للتفضیل مع سیدتی النساء خدیجة وفاطمة ,.


1- إلا القلیل ممن وفی ببیعته وراعی لهم حرمتهم.

ص: 460

أولا: محاولات متعمدة لتفضیل مریم بنت عمران وآسیة علی خدیجة وفاطمة صلوات الله و سلامه علیهما
اشارة

لم تکن أحادیث التفضیل لسیدات نساء العالمین __ فاطمة وخدیجة ومریم وآسیة __ تروق لرواة الحدیث ولا للدولة، ولکن لا حیلة لدی القوم، لان هذه الأحادیث متواترة لفظا أو معنی، وقد ذکرتها جمیع صحاحهم وسننهم ومسانیدهم، فالأمر اکبر من أن یسیطر علیه، فکان لابد للقوم من وضع مخططات بدیلة تغیر مسار تلک الأحادیث وتمنع أن یستغلّها خصومهم من أتباع أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، فشنوا علی هذه الفضیلة حربا من عدة محاور، ومن أکثر من اتجاه، وواحدة من تلک المحاور التی شنت الحرب منها، هی محاولاتهم الیائسة لجعل مریم بنت عمران وآسیة بنت مزاحم أفضل من سیدتی نساء العالمین خدیجة وفاطمة ,، فالمهم عند القوم أن لا تکون السیدة فاطمة - هی المتصدرة، ولا أمها خدیجة بنت خویلد -، خدیجة التی کانت لعائشة معها أنباء وهنبثة وقیل وقال، سیأتی ذکر بعضها إن شاء الله سبحانه، وسنتلو علی القارئ الکریم بعض الطرق التی استخدمت لتحقیق هذا الغرض الشیطانی.

ألف: إشاعتهم أحادیث لیس فیها ذکر للسیدة خدیجة والسیدة فاطمة الزهراء صلوات الله و سلامه علیهما
اشارة

إن من أوضح نصوص التفضیل لسیدتی نساء العالمین خدیجة بنت خویلد وفاطمة ابنتها صلوات الله و سلامه علیهما هو حدیث (خیر نساء العالمین أربع مریم بنت عمران وخدیجة بنت خویلد وفاطمة بنت محمد وآسیة امرأة فرعون) والذی مر تصحیحه، وحدیث (کمل من الرجال کثیر ولم یکمل من النساء إلا أربع: آسیة بنت مزاحم

ص: 461

امرأة فرعون. ومریم ابنة عمران. وخدیجة بنت خویلد. وفاطمة بنت محمد) والذی مر أیضا ذکره وتصحیحه، وأحادیث أخری کثیرة کلها تجمع علی أن أفضل النساء عددهن أربع لا اقل من ذلک ولا أکثر، وهذا هو المعروف والمحفوظ والمشهور فی کتب الحدیث والروایة.

لکن ولان القوم ثقل علیهم أن تنفرد کل من السیدة فاطمة وأمها خدیجة صلوات الله و سلامه علیهما بهذه المزیة العظیمة والفضیلة الجلیلة، ولا یکون لعائشة ولا لغیرها نصیب من ذلک، ابتدعوا أحادیث سرقت من السیدة فاطمة والسیدة خدیجة صلوات الله و سلامه علیهما هذه المزیة وسلبتهم هذه الفضیلة، واُخرجا من تلک الأحادیث إخراجا متعمدا، وأهمل ذکرهما إهمالا مقصودا، واستبدلوا اسمیهما باسم جدید هو اسم عائشة بنت أبی بکر، التی أقحم ذکرها فی هذا الحدیث إقحاما، کما سنری ذلک واضحا من سیاق ألفاظ الحدیث.

وقد لعب أبو موسی الأشعری، الحلیف والصدیق والمقرب من السلطة منذ نعومة أظفاره، وحبیب قلوب الخوارج الذین قدموه لیکون الحکم فی مسألة التحکیم التی وقعت بعد معرکة صفین والتی اثبت فیها أبو موسی الأشعری بأنه لیس عدوا لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فحسب بل ومغفل أیضا والقضیة مشهورة لا داعیَ للخوض فیها، فقد أخرج له أحمد بن حنبل فی مسنده والبخاری ومسلم فی صحیحیهما وغیرهم حدیثا یفضل فیه آسیة بنت مزاحم ومریم بنت عمران ویقحم معهما عائشة ویتجاهل __ مأثوما موزورا __ وبشکل متعمد ذکر سیدتی النساء خدیجة وفاطمة صلوات الله و سلامه علیهما حیث قال مدعیا: (قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم: کمل من الرجال کثیر ولم یکمل من النساء إلا آسیة امرأة فرعون ومریم بنت عمران وان فضل عائشة علی النساء کفضل الثرید علی

ص: 462

سائر الطعام)(1).

فاخرج أبو موسی الأشعری بظلمه کلاً من السیدة خدیجة والسیدة فاطمة صلوات الله و سلامه علیهما من حدیث التفضیل، وأقحم عائشة فی وسط هذا الحدیث إقحاما، وهذا الإخراج والإقحام متعمد واضح الأهداف، یشعر به ویعرفه أدنی الناس معرفة وإدراکا، وإلا لماذا أخرجت هاتان الشخصیتان بالتحدید؟ ولماذا دخلت هذه الشخصیة بالتحدید أیضا؟ سؤال سهل ینتظر التاریخ من أبی موسی الأشعری ومن الذین روجوا حدیثه وذکروه فی صحاحهم الإجابة المقنعة الواضحة.

وقد أدرک القوم خطورة هذا الحذف المتعمد والمکشوف، وأدرکوا انه کان ینبغی علیهم ان یتصرفوا بدهاء أکثر یبعد الشکوک ولا یثیر الشبهات، فعمدوا إلی روایة حدیث آخر، أدخلوا فیه السیدة خدیجة -، ولکنهم أصروا علی إخراج السیدة فاطمة الزهراء - من هذا الحدیث، فقد روی ابن کثیر فی (البدایة والنهایة) حدیثا صححه عن: (شعبة عن معاویة بن قرة عن أبیه قرة بن إیاس رضی الله عنه. قال: قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم: «کمل من الرجال کثیر ولم یکمل من النساء إلا ثلاث، مریم بنت عمران، وآسیة امرأة فرعون، وخدیجة بنت خویلد. وفضل عائشة علی النساء کفضل الثرید علی سائر الطعام» رواه ابن مردویه فی تفسیره. وهذا إسناد صحیح إلی شعبة وبعده)(2).

أقول: ولنا علی الحدیثین عدة ملاحظات منها:


1- راجع: مسند احمد ج 4 ص 394، و ج 4 ص 409 مع تقدیم ذکر مریم علی آسیة امرأة فرعون، وراجع أیضا صحیح البخاری ج 4 ص 131 __ 132، وصحیح مسلم ج 7 ص133 بلفظ (...غیر مریم بنت عمران وآسیة...).
2- البدایة والنهایة لابن کثیر ج 3 ص 159 __ 160.

ص: 463

1: تفرد أبی موسی الأشعری وقرة بن إیاس بهذا الحدیث

ففیما یخص الحدیث الأول الذی رواه أبو موسی الأشعری فقد تفرد به أبو موسی الأشعری عن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، فلم یروِ هذا الحدیث بهذا اللفظ عن النبی صلی الله علیه وآله وسلم إلا أبو موسی وهذا معنی التفرد.

أما الحدیث الذی رواه قرة بن إیاس فقد تفرد به قرة بهذا اللفظ عن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، وإذا وقع التفرد فی الحدیث ودار الإسناد علی صحابی بعینه من دون أن یشارکه صحابی آخر فیه سمی حدیثه بالحدیث الغریب إسنادا، والحدیث الغریب قسم من أقسام الحدیث الضعیف، فیکون کلا الحدیثین غریباً ضعیفاً.

ثم ان الحدیث الثانی أیضا تفرد به معاویة بن قرة عن أبیه لان إیاس بن معاویة لا یروی عنه احد غیر ابنه، فیکون الحدیث أضعف وأضعف، وقد ذکر بعضهم وهو الحق ان حدیث أبی موسی الأشعری أیضا قد تفرد به محمد ابن جعفر، وهو أمر آخر یضاف إلی سابقه فیزداد به الحدیث ضعفا علی ضعفه.

والحدیثان أیضا غریبان من حیث المتن، لان ما هو مجمع علیه بین المسلمین دخول السیدة فاطمة بنت محمد صلوات الله و سلامه علیهما فی ضمن النساء الکاملات مع کل من مریم وآسیة وخدیجة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، فإخراجها وحصر الکمال فی اثنتین أو ثلاث یعدّ مخالفة واضحة وصریحة لما هو مجمع علیه وما هو ثابت فی الأحادیث الصحیحة، وهذه المخالفة تسمی بغرابة المتن، والمتن إذا صار غریبا ضعفت الروایة وسقطت فی مقام التعارض.

ص: 464

2: ان رواته متهمون بالانحراف عن أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فلا یقبل منهم حدیثهم بسبب الخصومة

ان کلاً من أبی موسی الأشعری وقرة بن إیاس وابنه معاویة بن قرة متهم بالولاء للأمویین، ولجهات کانت معروفة بالعداوة والنصب لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، فیکونون من المتهمین الذین لا یقبل قولهم فی حق خصومهم بسبب العداوة المذهبیة أو التعصب غیر الشرعی.

أما انحراف أبی موسی الأشعری عن الإمام أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب * فهو أشهر من نار علی علم، وقد شهد علیه عمار بن یاسر بالنفاق وان رسول الله قد لعنه لیلة الجبل ویقصد بها لیلة العقبة، فقد أخرج المتقی الهندی فی (کنز العمال): (عن أبی نجاء حکیم قال: کنت جالسا مع عمار فجاء أبو موسی فقال: ما لی ولک؟ ألست أخاک؟ قال: ما أدری ولکن سمعت رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم یلعنک لیلة الجبل، قال: إنه قد استغفر لی، قال عمار: قد شهدت اللعن ولم أشهد الاستغفار)(1)، لکن حدیث عمار بن یاسر هذا لم یرق لعبد الله بن عدی، فشن علیه حملة فی کتابه (الکامل) قائلا: (وهذا الحدیث یروی من هذا الطریق ویرویه هذا الشیخ محمد بن علی بن خلف ومحمد بن علی هذا عنده من هذا الضرب عجائب وهو منکر الحدیث والبلاء فیه عندی من محمد بن علی بن خلف)(2).

إلا أن تضعیفه لمحمد بن علی بن الخلف المعروف بالعطار ورمی أحادیثه بالنکارة لم ینفع ابن عدی، لان الخطیب البغدادی اخرج توثیقا صریحا له نقله عن محمد بن منصور بقوله فی (تاریخ بغداد): (محمد بن علی بن خلف، أبو عبد الله العطار الکوفی... سمعت محمد بن منصور یقول: کان محمد بن علی بن خلف ثقة


1- کنز العمال للمتقی الهندی ج 13 ص 608.
2- الکامل لعبد الله بن عدی ج 2 ص 362.

ص: 465

مأمونا حسن العقل)(1)، فالنکارة فی أحادیثه من جهة أنها تخالف ما یعتقده ابن عدی من عدالة الصحابة لیس إلا، وهو قدح اجتهادی لیس فیه حجة قاطعة.

أضف إلی ذلک ان أبا موسی کان واجدا علی الإمام علی بن أبی طالب * بسبب عزله إیاه عن إمارة الکوفة، کما قال ابن عبد البر فی (الاستیعاب): (لما دفع أهل الکوفة سعید بن العاص ولوا أبا موسی وکتبوا إلی عثمان یسألونه أن یولیه فأقره عثمان علی الکوفة إلی أن مات وعزله علی رضی الله عنه عنها فلم یزل واجدا منها علی علی حتی جاء منه ما قال حذیفة فقد روی فیه لحذیفة کلام کرهت ذکره والله یغفر له ثم کان من أمره یوم الحکمین ما کان)(2)، وقوله (فقد روی فیه لحذیفة کلام کرهت ذکره) فیه إشارة إلی ما کان یصرح به حذیفة من الإعلان بنفاق أبی موسی الأشعری.

وقد وصفه بالنفاق أیضا مالک الأشتر بقوله الذی ذکره الطبری فی تاریخه إذ قال: (...نزل أبو موسی فدخل القصر فصاح به الأشتر أُخرج من قصرنا لا أم لک أخرج الله نفسک فوالله إنک لمن المنافقین قدیما...)(3).

وقد نص الإمام أمیر المؤمنین * علی عدم وثاقته وخیانته وابتعاده عن روح الولاء لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین بقوله الذی نقله ابن الأثیر فی (الکامل فی التاریخ) حیث قال: (...قال علی فإنه لیس بثقة قد فارقنی وخذل الناس عنی ثم هرب منی حتی آمنته بعد أشهر...)(4)، فیتلخص مما تقدم ان أبا


1- تاریخ بغداد للخطیب البغدادی ج 3 ص 269.
2- الاستیعاب لابن عبد البر ج 3 ص 980.
3- تاریخ الطبری ج 3 ص 501.
4- الکامل فی التاریخ لابن الأثیر  ج 3 ص 318 __ 319.

ص: 466

موسی الأشعری شهد علیه عدة من الصحابة والتابعین بالنفاق وعدم الثقة، کما انه من المنحرفین عن الإمام أمیر المؤمنین والموتورین منه، فإذا ما حدث حدیثا فیه قدح أو انتقاص فی حقه أو حق أهل بیته فانه لا یقبل منه للعداوة الظاهرة منه.

وأما راوی الحدیث الثانی وهو (قرة بن إیاس) وولده (معاویة بن قرة) فقد کان هواهم أمویا وهم من أعوان معاویة بن أبی سفیان وجنده، وقد قتل (قرة بن إیاس) فی جیش جهزه معاویة لقتال الأزارقة أو الخوارج، بقیادة (عبد الرحمن بن عبیس بن کریز القرشی العبشمی)(1) ومثل هؤلاء لا یقبل حدیثهم إذا کان فیه انتقاص لأهل البیت أو إجحاف فی حقهم بسبب هواهم الأموی المعروف بالعداوة لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ولان کلامهم حول أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین لابد وان یکون منطلقا من وجهة نظر الساسة الأمویین.

3: إن الحدیث مقطع من عدة أحادیث ومجموع فی حدیث واحد لأسباب مذهبیة

ان التحلیل العلمی لحدیث کل من أبی موسی الأشعری وحدیث قرة بن إیاس یثبت أنّ حدیثیهما عبارة عن عدة أحادیث قطعت أطرافها، ومن ثم أدمجت مع حدیث آخر، فخرج علینا حدیث جدید ملفق من عدة أحادیث، وقد تم التقطیع والقص لفقرات الحدیث ومن ثم إدخال حدیث فی حدیث بعنایة تامة وهدف مسبق لیؤدی إلی نتیجة مخطط لها سلفا.

فالحدیث الأصلی هو ما رواه عبد الله بن أبی جعفر الرازی عن أبیه قال: (کان ثابت البنانی یحدث أنس بن مالک أن رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم قال " خیر نساء العالمین أربع مریم بنت عمران وآسیة امرأة فرعون وخدیجة بنت


1- راجع کلاً من الاستیعاب لابن عبد البر  ج 3 ص 1280، التاریخ الکبیر للبخاری  ج 7 ص180.

ص: 467

خویلد وفاطمة بنت رسول الله)(1) فزیادة کون عائشة کالثرید لم تأتِ هنا کما هو ملاحظ.

ویوجد حدیث آخر مستقل روی عن انس وعن عائشة، فقد جاء عن انس بلفظ: (قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم إن فضل عائشة علی النساء کفضل الثرید علی سائر الطعام)(2)، وفی لفظ عائشة جاء هکذا: (إن رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم قال فضل عائشة علی النساء کفضل الثرید علی الطعام)(3)ولیس فیه کما تری ذکر لمریم ولا آسیة ولا غیرهما.

وفیما بعد أخذ أبو موسی الأشعری جزءاً من الحدیث الأول وهو ما یتعلق بمریم وآسیة، وأخذ قرة ابن إیاس مریم وآسیة وخدیجة، ثم أدخلا فیه حدیث عائشة وأنس بن مالک المختص بالثرید، فکونوا منه وجبة جدیدة شهیة تجمع بین سیدات النساء وسیدات الطعام، وبهذا الشکل أخرجت السیدة فاطمة - من هذه المائدة وتم استدعاء عائشة لتکون الطبق الممیز فی هذه السفرة الغنیة والملیئة بالثرید.

فهذه بعض الملاحظات علی هذه النقطة وقد ترکنا غیرها للاختصار.

باء: محاولة ابن حزم إعطاء مقام النبوة لمریم کی تصبح أفضل من السیدتین فاطمة وخدیجة صلوات الله و سلامه علیهما
اشارة

انفرد ابن حزم الأندلسی وتابعه بعض معاصریه ومن أتی بعده بفکرة نبوة النساء، وقد عقد فی غیر واحد من کتبه بحثا أظهر فیه إیمانه بفکرة وجود نبیات من


1- تفسیر ابن کثیر ج 1 ص 371.
2- مسند احمد ج 3 ص 156.
3- المصدر السابق ج 6 ص 159.

ص: 468

النساء، مستفیدا بذلک من المعنی اللغوی لکلمة (نبی)، ففی کتابه (الفصل فی الملل والأهواء والنحل) عقد بحثا بعنوان (نبوة النساء) اعترف فیه بان النزاع وإثارة هذا الموضوع لم یقع فی العصور السابقة علی عصره، وان المتنازعین اختلفوا إلی فرق ثلاث قد بینها بقوله: (هذا فصل لا نعلمه حدث التنازع العظیم فیه إلا عندنا بقرطبة وفی زماننا فإن طائفة ذهبت إلی إبطال کون النبوة فی النساء جملة وبدعت من قال ذلک وذهبت طائفة إلی القول بأنه قد کانت فی النساء نبوة وذهبت طائفة إلی التوقف فی ذلک)(1).

وادعی ابن حزم ان المخالفین لفکرة نبوة النساء لا یملکون دلیلا علی مخالفتهم إلا قوله تعالی ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِکَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِی إِلَیْهِمْ))(2)، وان هذا لا یعد دلیلا ناهضا، لان الآیة المبارکة تتکلم عن الرسالة والمرسلین ولا أحد یقول بان من النساء مرسلات، ثم یضع قاعدة یلزم بها نفسه تنص علی ان کل من یعلمه الله سبحانه بما یکون قبل أن یکون أو أوحی إلیه منبئا له بأمر فهو نبی، فقال: (ما نعلم للمانعین من ذلک حجة أصلاً إلا أن بعضهم نازع فی ذلک بقول الله تعالی ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِکَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِی إِلَیْهِمْ))... وهذا أمر لا ینازعون فیه ولم یدع أحد أن الله


1- الفصل فی الملل والأهواء والنحل لابن حزم ج2 ص59.
2- أقول قد تکرر هذا اللفظ فی ثلاثة مواضع من القرآن الکریم، ففی سورة یوسف الآیة رقم 109 قال تعالی: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِکَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِی إِلَیْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَی أَفَلَمْ یَسِیرُوا فِی الْأَرْضِ فَیَنْظُرُوا کَیْفَ کَانَ عَاقِبَةُ الَّذِینَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَیْرٌ لِلَّذِینَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ))، وفی سورة النحل الآیة رقم 43 قال تعالی: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِکَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِی إِلَیْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ))، وفی سورة الأنبیاء الآیة رقم 7 قال تعالی: ((وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَکَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِی إِلَیْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)).

ص: 469

تعالی أرسل امرأة وإنما الکلام فی النبوة دون الرسالة فوجب طلب الحق فی ذلک بأن ینظر فی معنی لفظة النبوة فی اللغة التی خاطبنا الله بها عز وجل فوجدنا هذه اللفظة مأخوذة من الإنباء وهو الإعلام فمن أعلمه الله عز وجل بما یکون قبل أن یکون أو أوحی إلیه منبئا له بأمر ما فهو نبی بلا شک)(1).

ومن هذا المنطلق ذهب ابن حزم إلی نبوة أم إسحاق؛ لان الملائکة حدثتها وبشرتها، فقال: (فقد جاء القرآن بأن الله عز وجل أرسل الملائکة إلی نساء فأخبروهن بوحی حق من الله تعالی فبشروا أم إسحاق بإسحاق عن الله تعالی قال عز وجل ((وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِکَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ یَعْقُوبَ * قَالَتْ یَا وَیْلَتَی أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِی شَیْخًا إِنَّ هَذَا لَشَیْءٌ عَجِیبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِینَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَکَاتُهُ عَلَیْکُمْ أَهْلَ الْبَیْتِ إِنَّهُ حَمِیدٌ مَجِیدٌ))(2)، فهذا خطاب الملائکة لأم إسحاق عن الله عز وجل بالبشارة لها بإسحاق ثم یعقوب ثم بقولهم لها أتعجبین من أمر الله ولا یمکن البتة أن یکون هذا الخطاب من ملک لغیر نبی بوجه من الوجوه)(3).

ثم ذهب إلی نبوة مریم بنت عمران علیها السلام بحجة ان جبرائیل قد أرسل إلیها وخاطبها، وکذلک ذهب إلی نبوة أم موسی لان الله قد أوحی إلیها أن تلقی ابنها فی البحر، قال ابن حزم: (ووجدناه تعالی قد أرسل جبریل إلی مریم أم عیسی علیهما السلام یخاطبها وقال لها: إنما أنا رسول ربک لأهب لک غلاما زکیا فهذه نبوة صحیحة بوحی صحیح ورسالة من الله تعالی إلیها... ووجدنا أم موسی علیهما الصلاة والسلام قد أوحی الله إلیها بإلقاء ولدها فی الیم وأعلمها أنه سیرده


1- الفصل فی الملل والأهواء والنحل لابن حزم ج2 ص59 __60.
2- سورة هود الآیة رقم 71 __ 73.
3- الفصل فی الملل والأهواء والنحل لابن حزم ج2 ص60.

ص: 470

إلیها ویجعله نبیا مرسلا فهذه نبوة لا شک فیها)(1).

ثم استدل ابن حزم بدلیل ثانٍ أراد من خلاله إثبات صحة نبوة مریم بنت عمران علیها السلام، من خلال ذکرها ضمن عدة من الأنبیاء فی سورة مریم، ثم أردف ذکرهم بقوله تعالی: ((أُولَئِکَ الَّذِینَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَیْهِمْ مِنَ النَّبِیِّینَ مِنْ ذُرِّیَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّیَّةِ إِبْرَاهِیمَ وَإِسْرَائِیلَ وَمِمَّنْ هَدَیْنَا وَاجْتَبَیْنَا))(2)، فادخلها سبحانه بزعم ابن حزم فی ضمنهم فتکون مشمولة بنفس وصفهم، قال ابن حزم: (ووجدنا الله تعالی قد قال وقد ذکر من الأنبیاء علیهم السلام فی سورة کهیعص ذکر مریم فی جملتهم ثم قال عز وجل ((أُولَئِکَ الَّذِینَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَیْهِمْ مِنَ النَّبِیِّینَ مِنْ ذُرِّیَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ)) وهذا هو عموم لها معهم لا یجوز تخصیصها من جملتهم)(3).

وقد جزم ابن حزم أیضا بنبوة آسیة بنت مزاحم امرأة فرعون اعتمادا علی الحدیث الذی سبق ذکره فقال: (ویلحق بهن علیهن السلام فی ذلک امرأة فرعون بقول رسول الله صلی الله علیه وسلم کمل من الرجال کثیرون ولم یکمل من النساء إلا مریم بنت عمران وآسیة بنت مزاحم امرأة فرعون)(4).

ثم حاول الاستفادة من کل ذلک بالجزم بکون مریم بنت عمران وآسیة بنت مزاحم أفضل النساء مطلقا، فقال: (وکان تخصیصه صلی الله علیه وسلم مریم وامرأة فرعون تفضیلا لهما علی سائر من أوتیت النبوة من النساء بلا شک إذ من نقص عن منزلة آخر ولو بدقیقة فلم یکمل فصح بهذا الخبر أن هاتین المرأتین کملتا


1- الفصل فی الملل والأهواء والنحل لابن حزم ج2 ص60.
2- سورة مریم الآیة رقم 58.
3- الفصل فی الملل والأهواء والنحل لابن حزم ج2 ص60.
4- المصدر نفسه.

ص: 471

کمالا لم یلحقهما فیه امرأة غیرهما أصلا)((1) فتندرج کل من السیدتین فاطمة وخدیجة صلوات الله و سلامه علیهما تحت هذا الکلام.

وقد اخذ القرطبی هذا المعنی لیقول بکل صراحة: (فَظَاهِر الْقُرْآن وَالْأَحَادِیث یَقْتَضِی أَنَّ مَرْیَم أَفْضَل مِنْ جَمِیع نِسَاء الْعَالَم مِنْ حَوَّاء إِلَی آخِر اِمْرَأَة تَقُوم عَلَیْهَا السَّاعَة ; فَإِنَّ الْمَلَائِکَة قَدْ بَلَّغَتْهَا الْوَحْی عَنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِالتَّکْلِیفِ وَالْإِخْبَار وَالْبِشَارَة کَمَا بَلَّغَتْ سَائِر الْأَنْبِیَاء ; فَهِیَ إِذًا نَبِیَّة وَالنَّبِیّ أَفْضَل مِنْ الْوَلِیّ فَهِیَ أَفْضَل مِنْ کُلّ النِّسَاء ثم بعدها فاطمة ثم خدیجة ثم آسیة)(2).

أقول: ویرد علی کلام ابن حزم السابق عدة ملاحظات مهمة، نورد فیما یأتی بعضاً منها:

1: ان القول بنبوة النساء قول شاذ مخالف لإجماع أهل السنة فضلا عن سائر الأمة

اعترف ابن حزم فی کلامه السابق بان القول بنبوة النساء قول محدث، تکلم فیه أهل زمانه، ویقصد بأهل زمانه الذین عاشوا فی سنة (456 للهجرة) أو قبلها بقلیل، وهو دلیل علی قیام الإجماع من الأمة الإسلامیة جمعاء بجمیع طوائفها ومذاهبها وأعلامها علی عدم نبوة النساء، وإجماع من هذا القبیل حجة شرعیة، لا یضره مخالفة ابن حزم وشذوذه.

فان قال قائل وأین الذین صرحوا بهذا الإجماع علی عدم نبوة النساء؟ قلنا لا یلزم فی الإجماع أن یکون مصرحا به منقولا، فیکفی أن تأخذ الأمة الإسلامیة بأمر جامع لا یشذ منهم شاذ ولا یخرج علیه منهم خارج فیکون إجماعا معتبرا.


1- ()  الفصل فی الملل والأهواء والنحل لابن حزم ج2 ص60.
2- تفسیر القرطبی ج4 ص83.

ص: 472

إضافة إلی وجود تصریح منقول من الحسن البصری المتوفی فی سنة (110 للهجرة) یمکن أن یکون کاشفا وبوضوح عن مثل هذا الإجماع، فقد نقل عن الحسن البصری قوله: (لَیْسَ فِی النِّسَاء نَبِیَّة وَلا فِی الْجِنّ)(1)، ولم ینقل لقوله هذا مخالف قبله ولا بعده إلی زمن ابن حزم، فیکون القول بإجماع الأمة علی عدم تحقق مرتبة النبوة بالنسبة للنساء هو المتعین، ویکون قول ابن حزم مخالفاً لهذا الإجماع، وما خالف إجماع الأمة یعرض عنه ولا یؤخذ به.

إضافة إلی کل ذلک فلو کان لقول ابن حزم مصداقیة وحقیقة لما أهملت آیات القرآن الکریم والنصوص النبویة الشریفة هذا الأمر ولأوضحته وصرحت به، ولتم تداوله علی ألسنة الصحابة والتابعین واشتهرت به أقوالهم؛ لأنه أمر لا یسکت عنه لو کان موجودا، لان القرآن والسنة والصحابة والتابعین قد نقلوا لنا أمورا اصغر من هذا واقل أهمیة فکیف یهملون جمیعا مثل هذا الأمر المهم والضروری.

2: لا یمکن الاعتماد علی المعنی اللغوی بمفرده لإثبات نبوة النساء

ان محاولة ابن حزم الأندلسی الاستفادة من المعنی اللغوی لکلمة (نبی) لإثبات ان من (أعلمه الله عز وجل بما یکون قبل أن یکون أو أوحی إلیه منبئا له بأمر ما فهو نبی) هی محاولة غیر سدیدة، لان المعانی اللغویة تختلف فی کثیر من الأحیان اختلافا کبیرا عن المعانی الشرعیة، ولا یمکن الأخذ بالمعنی اللغوی مجردا عن النصوص الشرعیة، فمعنی الصلاة لغة هی الدعاء، بینما المعنی الشرعی یختلف عن هذا اختلافا جذریا، فهی عبارة عن الهیئة المخصوصة المؤلفة من القراءة والرکوع والسجود وغیر ذلک من أرکان الصلاة وواجباتها وشروطها وقیودها،


1- فتح الباری لابن حجر ج6 ص339.

ص: 473

وکذا الحال بالنسبة لبقیة المسائل الشرعیة والوظائف العبادیة التی یکون المعنی اللغوی لها مختلفا اختلافا کبیرا عن معناها الشرعی، وعلیه فلا یمکن له الاعتماد علی المعنی اللغوی مجردا عن نظرة النصوص الشرعیة إلیه.

وعلیه فلا نسلم له بان کل من کلمته الملائکة وأوحی إلیه فهو نبی، لان الوحی فی اللغة یکون للأنبیاء ولغیرهم أیضا، کما یکون بالملک وبغیره، فیطلق الوحی علی الکتابة، وعلی الإلهام، وعلی الإشارة، وعلی کل إلقاء علم بخفاء، وقد جمع الجوهری جمیع هذه المعانی بقوله فی کتابه (الصحاح): (الوحی: الکتاب...والوحی أیضا: الإشارة، والکتابة، والرسالة، والإلهام، والکلام الخفی، وکل ما ألقیته إلی غیرک...)(1).

وقد یطلق الوحی علی الأمر، کما فی قوله تعالی: ((یَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّکَ أَوْحَی لَهَا))(2)، قال الخلیل الفراهیدی فی کتابه (العین): (وأوحی إلیها فی معنی الأمر. قال الله عز وجل: «بأن ربک أوحی لها»)(3).

فلا یخرج الوحی إلی مریم وآسیة وأم إسحاق عن واحدة من هذه المعانی، فتبشیر الملائکة لسارة بولادة إسحاق ومن ثم یعقوب کما فی قوله عز وجل ((وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِکَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ یَعْقُوبَ))(4) لا حجة فیه علی نبوة النساء مطلقا، لان الآیة لیس فیها تصریح بان البشری لأم إسحاق کانت من الملائکة بشکل مباشر، فلعله وهو الأقوی ان البشری لها کانت بوساطة نبی الله وخلیله


1- الصحاح للجوهری ج 6 ص 2519 __ 2520.
2- سورة الزلزلة الآیة رقم 4 __ 5.
3- کتاب العین للخلیل الفراهیدی ج3 ص320.
4- سورة هود الآیة رقم 71 __ 73.

ص: 474

إبراهیم صلوات الله وسلامه علیه، فیکون خلیل الله الواسطة بینها وبینهم، ویشهد لهذا الاحتمال قوله تعالی ((وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِیمَ بِالْبُشْرَی))(1)، وقوله تعالی: ((قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُکَ بِغُلَامٍ عَلِیمٍ))(2)، وقوله تعالی: ((فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِیفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِیمٍ))(3)، فهذه الآیات صریحة فی ان البشارة کانت بالأصل لنبی الله إبراهیم الخلیل صلوات الله وسلامه علیه، وبالتبع لسارة أم إسحاق، وهذا الأمر یبطل استدلال ابن حزم للقاعدة المشهورة، وإذا ورد الاحتمال بطل الاستدلال.

وکذلک یبطل قول ابن حزم بان (أم موسی علیهما الصلاة والسلام قد أوحی الله إلیها بإلقاء ولدها فی الیم وأعلمها أنه سیرده إلیها ویجعله نبیا مرسلا فهذه نبوة لا شک فیها) اذ لیس فیه تصریح قاطع وغیر قابل للشک بنوع هذا الوحی، فقد یکون بالإلهام، وهو المشهور شهرة قویة، وقد یکون بالإشارة الیقینیة التی تفهم منها أم موسی بان هذه الإشارة من الله سبحانه، وقد یکون عبارة أوحینا بمعنی أمرنا لان الأمر هو إحد معانی الوحی.

وکذلک إرسال جبرائیل إلی مریم لیهب لها غلاما زکیا فهو لا یدخل فی باب النبوة فی شیء، لان القول بنبوتها یلزم منه القول بأنها رسولة، لان الرسول کما هو مشهور من یأتیه الملک ویکلف بتکالیف یؤمر بإبلاغها إلی العباد، ومریم قد حصل معها هذا الأمر، ففی قوله تعالی ((فَکُلِی وَاشْرَبِی وَقَرِّی عَیْنًا فَإِمَّا تَرَیِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِی إِنِّی نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُکَلِّمَ الْیَوْمَ إِنْسِیًّا))(4) قد تم تکلیفها من الله تعالی بان


1- سورة هود الآیة رقم 69.
2- سورة الحجر الآیة رقم 53.
3- سورة الذاریات الآیة رقم 28.
4- سورة مریم الآیة رقم 26.

ص: 475

تقول للناس ما قد بینته الآیة وهذا الأمر یقتضی بحسب قواعدهم أن تکون رسولة، وهو باطل لورود النص القرآنی بان الرسالة لا تعطی إلا للرجال دون النساء کما قال تعال ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِکَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِی إِلَیْهِمْ))، فإذا بطل کونها رسولة بطل کذلک کونها نبیة، لان من یقول بنبوتها لابد وان یقول برسالتها والثانی باطل فالأول مثله.

وأما الدلیل الثانی الذی قدمه علی نبوة مریم بقوله: (ووجدنا الله تعالی قد قال وقد ذکر من الأنبیاء علیهم السلام فی سورة کهیعص ذکر مریم فی جملتهم ثم قال عز وجل ((أُولَئِکَ الَّذِینَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَیْهِمْ مِنَ النَّبِیِّینَ مِنْ ذُرِّیَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ))  وهذا هو عموم لها معهم لا یجوز تخصیصها من جملتهم) فهو دلیل غیر معتبر أیضا، لان هذه الآیة الکریمة التی استشهد بها ابن حزم قد تحدثت عن الأنبیاء الذین نصت الآیات التی قبل هذه الآیة بکونهم أنبیاء، أو قام الدلیل القطعی علی نبوتهم، مثل نبی الله زکریا ویحیی، والمذکورین فی قوله تعالی: ((وَاذْکُرْ فِی الْکِتَابِ إِبْرَاهِیمَ إِنَّهُ کَانَ صِدِّیقًا نَبِیًّا ... وَاذْکُرْ فِی الْکِتَابِ مُوسَی إِنَّهُ کَانَ مُخْلَصًا وَکَانَ رَسُولًا نَبِیًّا ... وَاذْکُرْ فِی الْکِتَابِ إِسْمَاعِیلَ إِنَّهُ کَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَکَانَ رَسُولًا نَبِیًّا ... وَاذْکُرْ فِی الْکِتَابِ إِدْرِیسَ إِنَّهُ کَانَ صِدِّیقًا)).

ومن ثم جاءت الآیة المبارکة ((أُولَئِکَ الَّذِینَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَیْهِمْ مِنَ النَّبِیِّینَ مِنْ ذُرِّیَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّیَّةِ إِبْرَاهِیمَ وَإِسْرَائِیلَ وَمِمَّنْ هَدَیْنَا وَاجْتَبَیْنَا))، فالآیة الکریمة تحدثت عن أنبیاء قد تم تشخیصهم وذکرهم فیما سبق، ولا ترید تعمیم القول علی کل من ذکر فی هذه السورة، هذا أولا.

وثانیا لیس فی ذکر مریم فی ضمن هذه السورة مع هؤلاء الأنبیاء صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین دلیل علی نبوتها، لان القرآن غالبا ما یتحدث فی ضمن السورة الواحدة عن عدة أنبیاء وعن عدة شخصیات أخری، فقد تحدث عن نبی

ص: 476

الله موسی وهارون صلوات الله وسلامه علیهما وفی الوقت نفسه تحدث عن فرعون وهامان وقارون، وتحدث عن نبی الله یوسف ویعقوب صلوات الله وسلامه علیهما وفی الوقت نفسه تحدث عن زلیخا وأخوة یوسف، فلیس کل من یرد اسمه بین الأنبیاء لابد وان یکون نبیا.

وأما إلحاقه لآسیة بنت مزاحم بمریم بنت عمران وغیرها وحکمه بنبوتها اعتمادا علی الحدیث الذی رواه (کمل من الرجال کثیرون ولم یکمل من النساء إلا مریم بنت عمران وآسیة بنت مزاحم امرأة فرعون) فهو من أعجب العجب، إذ لو کان هذا الاستدلال متینا صحیحا، للزمه القول بنبوة کل من خدیجة وفاطمة صلوات الله و سلامه علیهما بالاعتماد علی نفس هذا الحدیث نفسه، لأننا قد بینا سابقا بان الروایة الصحیحة هی (کمل من الرجال کثیر ولم یکمل من النساء إلا أربع: آسیة بنت مزاحم امرأة فرعون. ومریم ابنة عمران. وخدیجة بنت خویلد. وفاطمة بنت محمد) فالعلة بالقول بنبوة خدیجة وفاطمة صلوات الله و سلامه علیهما هی نفسها بالنسبة لآسیة بنت مزاحم امرأة فرعون.

ولو قال بان النبوة قد ختمت بنبوة نبینا الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، لقلنا بان ذلک لا یمنع من وصول کل من السیدتین خدیجة وفاطمة صلوات الله و سلامه علیهما إلی هذا المقام السامی، وان منع الشرع من إطلاق لفظ النبیة علیهما، وهذا هو الحق، فإذا لم یقر به لزمه عدم الإقرار بنبوة آسیة بنت مزاحم اعتمادا علی هذا الحدیث.

وبهذا نستطیع الجزم بکذب نظریة نبوة النساء التی اخترعها ابن حزم والتی حاول البعض الاستفادة منها لتفضیل مریم بنت عمران وغیرها علی کل من السیدتین الجلیلتین خدیجة بنت خویلد وفاطمة بنت محمد ,.

ص: 477

ثانیاً: محاولاتهم تفضیل عائشة علی السیدة خدیجة والسیدة فاطمة صلوات الله و سلامه علیهما
اشارة

لقد أخذت مسألة تفضیل نساء النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم عامة علی سائر الصحابة وغیرهم من نساء المؤمنین عامة، أو تفضیل عائشة بنت أبی بکر علی کل من خدیجة وفاطمة صلوات الله وسلامه علیهما حیزا کبیرا فی کلمات علماء أهل السنة وأقوالهم، فقد حاولوا جمع کل شاردة وواردة والاستفادة من کل ما یمکن الاستفادة منه فی هذا المجال، ولکنهم ولحسن الحظ لم یعثروا علی شیء ذی قیمة فی هذا المجال، لان النبی صلی الله علیه وآله وسلم وکما قلنا سابقا لم یعط امتیاز التفضیل إلا لأهل بیته خاصة، وإذا أعطی لغیرهم شیئا لم یجعله إلا دون مرتبتهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، لذلک عجز أنصار الدولة وأصحاب الحدیث عن إیجاد ما یمکن الاستفادة منه فی حربهم ضد فضائل السیدتین الطاهرتین خدیجة وفاطمة صلوات الله وسلامه علیهما، فتشبثوا کما سنری بمجموعة من الأدلة الواهیة التی هی کخیوط العنکبوت، من قبیل حدیث الثرید، أو بعض الصفات التی حدثت بها عائشة عن نفسها، تجر بذلک النار إلی قرصها، وسنورد فیما یأتی أهم ما حاولوا الاستدلال به فی تفضیلها علی سیدتی النساء خدیجة وفاطمة صلوات الله وسلامه علیهما، تارکین الخوض فی جمیع تلک الأدلة واستقصاء جمیع ما قیل فی هذا الموضوع، لان سردها والرد علیها یتطلب تألیفا مستقلا، عسی الله سبحانه أن یوفقنا لمثله فی المستقبل آمین.

ألف: محاولات لابن حزم فی تفضیل زوجات النبی صلی الله علیه وآله وسلم علی ابنته فاطمة صلوات الله وسلامه علیها
اشارة

قال ابن حزم الأندلسی فی کتابه (الفصل فی الملل والأهواء والنحل): (وأما فضلهن علی بنات النبی صلی الله علیه وسلم فبین بنص القرآن لا شک فیه قال الله

ص: 478

عز وجل ((یَا نِسَاءَ النَّبِیِّ لَسْتُنَّ کَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَیْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ)) فهذا بیان قاطع لا یسع أحدا جهله)(1).

أقول: هذه الآیة التی استشهد بها ابن حزم هی آیة نزلت فی ضمن آیات تحدثت عن نساء النبی صلی الله علیه وآله وسلم لابد من ذکرهن لتصبح عند القارئ العزیز فکرة کاملة عن هذه الآیة وما یحیطها من القرائن والدلائل التی یبطل سیاقها ما ادعاه ابن حزم.

وهذه الآیات المبارکة هی: ((یَا أَیُّهَا النَّبِیُّ قُلْ لِأَزْوَاجِکَ إِنْ کُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَیَاةَ الدُّنْیَا وَزِینَتَهَا فَتَعَالَیْنَ أُمَتِّعْکُنَّ وَأُسَرِّحْکُنَّ سَرَاحًا جَمِیلًا * وَإِنْ کُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْکُنَّ أَجْرًا عَظِیمًا * یَا نِسَاءَ النَّبِیِّ مَنْ یَأْتِ مِنْکُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَیِّنَةٍ یُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَیْنِ وَکَانَ ذَلِکَ عَلَی اللَّهِ یَسِیرًا * وَمَنْ یَقْنُتْ مِنْکُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَیْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا کَرِیمًا * یَا نِسَاءَ النَّبِیِّ لَسْتُنَّ کَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَیْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَیَطْمَعَ الَّذِی فِی قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِی بُیُوتِکُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِیَّةِ الْأُولَی وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِینَ الزَّکَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا یُرِیدُ اللَّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیرًا * وَاذْکُرْنَ مَا یُتْلَی فِی بُیُوتِکُنَّ مِنْ آَیَاتِ اللَّهِ وَالْحِکْمَةِ إِنَّ اللَّهَ کَانَ لَطِیفًا خَبِیرًا))(2).

فهذه الآیات کلهن باستثناء قوله سبحانه ((إِنَّمَا یُرِیدُ اللَّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیرًا)) قد نزلت فی نساء النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، وهی تشیر إلی عدة أشیاء مهمة منها:


1- الفصل فی الملل والأهواء والنحل ج1 ص475.
2- سورة الأحزاب الآیة رقم 28 __ 34.

ص: 479

1: ان من زوجاته صلی الله علیه وآله وسلم من کانت تمیل إلی الدنیا ومنهن من کن یؤذینه

إن منهن من کانت تمیل إلی متاع الدنیا، ومنهن من تؤذیه بغیرتها، ومنهن من تکلفه من النفقة ومتطلبات الدنیا والحلی ما کان یرهق کاهله صلی الله علیه وآله وسلم، لذلک خاطبهن الله سبحانه علی لسان رسوله صلی الله علیه وآله وسلم بقوله: ((یَا أَیُّهَا النَّبِیُّ قُلْ لِأَزْوَاجِکَ إِنْ کُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَیَاةَ الدُّنْیَا وَزِینَتَهَا فَتَعَالَیْنَ أُمَتِّعْکُنَّ وَأُسَرِّحْکُنَّ سَرَاحًا جَمِیلًا * وَإِنْ کُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْکُنَّ أَجْرًا عَظِیمًا)) ویشهد لذلک أیضا ما قیل فی سبب نزول هذه الآیة ووقوع هذا التخییر والتهدید لهن من الله سبحانه، فعن العینی فی کتابه (عمدة القارئ) قال: (قال المفسرون: کان نساء النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم، یسألنه من عروض الدنیا والزیادة فی النفقة ویتأذی بغیرة بعضهن علی بعض فهجرهن وآلی منهن شهرا ولم یخرج إلی أصحابه، فنزلت آیة التخییر. قوله: (إن کنتن تردن الحیاة الدنیا)(1).

وقال العینی أیضا: (وقیل: لأنهن اجتمعن یوما فقلن: نرید ما ترید النساء من الحلی حتی قال بعضهن: لو کنا عند غیر النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم لکان لنا شأن وثیاب وحلی، وقیل: لأن کل واحدة طلبت منه شیئا فکان غیر مستطیع فطلبت أم سلمة معلما، ومیمونة حلة یمانیة، وزینب ثوبا مخططا وهو البرد الیمانی. وأم حبیبة ثوبا سحولیا، وحفصة ثوبا من ثیاب مصر، وجویریة معجرا، وسودة قطیفة خیبریة، إلا عائشة فلم تطلب شیئا)(2).

ولکن إخراج العینی لعائشة من هذا الأمر تحیز واضح وهو مخالف للنصوص التاریخیة، لان بعض النصوص صرحت وبشکل جلی وواضح ان


1- عمدة القاری للعینی  ج 19 ص 117.
2- المصدر نفسه.

ص: 480

عائشة کانت سبب هذه المشکلة التی وقعت بین النبی وبین زوجاته، کما قال الزیلعی فی (تخریج الأحادیث والآثار): (حدثنا محمد بن بشار ثنا عبد الأعلی ثنا سعید بن أبی عروبة عن قتادة عن الحسن فی قوله تعالی ((یَا أَیُّهَا النَّبِیُّ قُلْ لِأَزْوَاجِکَ إِنْ کُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَیَاةَ الدُّنْیَا وَزِینَتَهَا)) قال أمره الله أن یخیرهن بین الدنیا والآخرة والجنة والنار قال قتادة وهی غیرة من عائشة فی شیء أرادته من الدنیا وکانت تحته تسع نسوة....)(1).

أضف إلی ذلک أن الآیة الکریمة صریحة فی ان نساء النبی ینقسمن إلی قسمین فقسم محسنات أما القسم الثانی فغیر محسنات وهو الظاهر من قوله تعالی: ((فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْکُنَّ أَجْرًا عَظِیمًا))، وهذا بیان قاطع وتصریح واضح لا یسع لأحد جهله، الا من اعمی الله بصره وبصیرته عن رؤیة البدیهیات، ثم اذا کان فیهن غیر المحسنات صار کثیر من نساء المؤمنین خیراً منهن وافضل، فکیف تقاس من حالهن بهذا الشکل بسیدة نساء العالمین فاطمة بنت محمد صلوات الله وسلامه علیها.

2: ان التفضیل مشروط بالتقوی وطاعة الله ورسوله، فمن فقدت الشرط فقدت الاحترام

وبعد أن أوضحت لنا الآیتان السابقتان ان نساء النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم کن علی صنفین، صنف کان یتعمد أذی النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم ویتمنی الدنیا وزینتها، وصنف منهن یردن الله ورسوله والدار الآخرة وهن المحسنات اللاتی اعد الله لهن أجرا عظیما، ولکی یحکم الله سبحانه بینهم بالعدل، فلا یضیع أجر من أحسن منهن، وفی المقابل لا یتجاوز عن المسیئة منهن، شدد علی المسیئة منهن وتوعدها بضعفین من العذاب، وان منزلتهن کنساء وزوجات للنبی الأعظم


1- تخریج الأحادیث والآثار للزیلعی ج 3 ص 105.

ص: 481

صلی الله علیه وآله وسلم لن تمنع من مجازاتهن وعذابهن، بل ان قربهن من النبی صلی الله علیه وآله وسلم وکونهن من زوجاته سیکون سببا لإنزال العقاب المضاعف علیهن کما قال تعالی: ((یَا نِسَاءَ النَّبِیِّ مَنْ یَأْتِ مِنْکُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَیِّنَةٍ یُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَیْنِ وَکَانَ ذَلِکَ عَلَی اللَّهِ یَسِیرًا)).

وبالعکس بالنسبة للمطیعات منهن، فان من تقنت منهن وتعمل صالحا یؤتها الله ضعفین من الأجر، کما قال تعالی: ((وَمَنْ یَقْنُتْ مِنْکُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَیْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا کَرِیمًا)).

إذن فمجرد کونهن زوجات لرسول الله صلی الله علیه وآله وسلم لا یکون فضلا وفخرا لهن ما لم تنظم إلیه التقوی والعمل الصالح، ولو کان مجرد کون المرأة زوجة للرسول أو النبی یصیرها أفضل أهل زمانها لما ((ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِینَ کَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ کَانَتَا تَحْتَ عَبْدَیْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَیْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ یُغْنِیَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَیْئًا وَقِیلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِینَ))(1)، فإطلاق القول بأفضلیة نساء النبی صلی الله علیه وآله وسلم علی سائر النساء قول لا یتماشی مع روح القرآن وجوهره.

3: ان الأفضلیة فی الآیة تخص الثواب والعقاب لا غیر

نحن لا نسلم لابن حزم ولا لغیره بأن قوله تعالی ((یَا نِسَاءَ النَّبِیِّ لَسْتُنَّ کَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَیْتُنَّ)) ینص أو یشیر إلی أفضلیتهن علی سائر النساء مطلقا، وبمعنی آخر ان الأفضلیة هنا لیست إلا من حیث الثواب والعقاب، فالآیات کلها تتحدث عن تکلیفهن بتکالیف معینة وترتیب الأثر الشرعی والجزائی علی هذه التکالیف،


1- سورة التحریم الآیة رقم 10.

ص: 482

فبعد تخییرهن بین الحیاة الدنیا وزینتها وبین تسریحهن سراحاً جمیلاً جاء الجواب لمن اختارت الله ورسوله صلی الله علیه وآله وسلم ((فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْکُنَّ أَجْرًا عَظِیمًا))، ولابد من التأکید علی کلمة ((أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْکُنَّ)) إذ  القرآن لا یری مجرد اختیارهن لله ولرسوله فضیلة تعصمهن فیما یأتی من قابل أیامهن.

وبعد تحذیرهن بقوله سبحانه ((یَا نِسَاءَ النَّبِیِّ مَنْ یَأْتِ مِنْکُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَیِّنَةٍ))  یأتی الجزاء والأثر لمن تأتی بالفاحشة المبینة بقوله ((یُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَیْنِ وَکَانَ ذَلِکَ عَلَی اللَّهِ یَسِیرًا)).

ثم یبین سبحانه ان المضاعفة لا تختص بالعذاب أو النکال فقط، بل تکون للحسنات والثواب أیضا، فمن تقنت منهن وتعمل صالحا تؤت ضعفین من الثواب والأجر ولها رزق کریم کما قال سبحانه ((وَمَنْ یَقْنُتْ مِنْکُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَیْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا کَرِیمًا)).

4: ان مضاعفة الثواب والعقاب یشمل غیر زوجات النبی صلی الله علیه وآله وسلم  فلا اختصاص لهن به

ان مضاعفة الثواب ومضاعفة العذاب لیس أمرا خاصا بزوجات النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم بل شارکهن فی هذا الأمر کثیر ممن تکلمت آیات القرآن الکریم عنهم، فقد ضاعف الله سبحانه الثواب لمن ینفقون أموالهم ابتغاء رحمة الله قال تعالی: ((وَمَثَلُ الَّذِینَ یُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِیتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ کَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُکُلَهَا ضِعْفَیْنِ فَإِنْ لَمْ یُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِیرٌ))(1).

وقد أعطی سبحانه کفلین من رحمته لکل من یؤمن بالله ویتقیه، قال تعالی:


1- سورة البقرة الآیة 265.

ص: 483

((یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ یُؤْتِکُمْ کِفْلَیْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَیَجْعَلْ لَکُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَیَغْفِرْ لَکُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِیمٌ))(1).

بل وضاعف سبحانه لمن ینفق أمواله فی سبیل الله سبعمائة ضعف کما فی قوله تعالی: ((مَثَلُ الَّذِینَ یُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِی سَبِیلِ اللَّهِ کَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِی کُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ یُضَاعِفُ لِمَنْ یَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِیمٌ))(2) والآیات التی تحدثت عن مضاعفة الحسنات والثواب کثیرة جدا تفوق ما نحن فیه من الاختصار.

إذن فحتی مسألة التشریف لنساء النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم بمضاعفة الثواب علی اعمالهن الصالحة هی لیست مما انفردن به دون بقیة المسلمین، بل شارکهن فی هذا الأمر طوائف ممن ذکرتهم الآیات السابقة وطوائف أخری ترکنا ذکرهم للاختصار.

5: لیس فی کون المرأة زوجة للنبی صلی الله علیه وآله وسلم فضل لذاته ولابد ان یکون مقرونا بالتقوی والطاعة

لا یعنی کلامنا السابق ان نساء النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم لیس لهن فضیلة تذکر علی غیرهن، کلا وکیف یکون کذلک وقد ثبت لبعضهن فضائل جمة لا تحصی کمثل الذی ثبت للسیدة خدیجة بنت خویلد صلوات الله وسلامه علیها، بل الذی اقصده من کلامی السابق ان مجرد کون إحداهن زوجة للنبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم لا یصیرها أفضل من بقیة نساء المسلمین، فربما کانت إحداهن أشر نساء المسلمین جمیعا ان لم تلتزم بالتقوی والعمل الصالح ولم تقر فی بیتها وغیر ذلک من الأحکام والواجبات التی ألزمهن الله سبحانه بها.


1- سورة الحدید الآیة 28.
2- سورة البقرة الایة 261.

ص: 484

ففی مقام تفضیلهن علی غیرهن یجب أن لا ینظر إلیهن جملة واحدة، بل لابد وان ینظر الی حال کل واحدة منهن علی حدة، فمن ثبت التزامها بالتقوی والبقاء فی بیتها بعد رحیل زوجها النبی صلی الله علیه وآله وسلم، وکانت من القانتات المصلحات المتمسکات ببقیة الواجبات الملقاة علی عاتقهن کانت منزلتها حیث انزلها الله سبحانه ثابتة یجب مراعاتها، أما اللاتی یثبت إخلالهن بحکم من الأحکام کعدم اللبث فی بیوتهن کما أمرهن الله سبحانه أو عدم التقوی والطاعة لله ورسوله فلا فضل لها ولا کرامة، وسیقع فی حقها ما وعدها الله سبحانه به من مضاعفة العذاب والنکال وکان ذلک علی الله یسیرا.

6: عائشة لم تلتزم بالشروط التی وضعتها الآیة لزوجات النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم

بعد المراجعة لأقوال علماء أهل السنة ومحدثیهم تبین لنا وبوضوح أن زوجات النبی صلی الله علیه وآله وسلم ووفقا للمنظور السنی تتراوح مراتبهن فی الفضل، وان مرتبة الأفضل بالنسبة لهن مترددة ما بین السیدة خدیجة الکبری صلوات الله وسلامه علیها، وعائشة بنت أبی بکر، فبعضهم یقدم خدیجة وبعضهم یقدم عائشة وبعضهم یتوقف، وکما اعتقد لا ینبغی التوقف فی تفضیل السیدة خدیجة علی سائر نساء النبی صلی الله علیه وآله وسلم ومن ضمنهم عائشة بنت أبی بکر، بل ولا ینبغی التوقف أیضا فی تفضیل باقی نساء النبی صلی الله علیه وآله وسلم علی عائشة بنت أبی بکر.

فأما تفضیل السیدة خدیجة صلوات الله وسلامه علیها علی سائر نساء النبی صلی الله علیه وآله وسلم فلورود الروایات الکثیرة والمتواترة لفظا أو معنی علی کونها وابنتها الزهراء سیدتی نساء العالمین وسیدتی نساء أهل الجنة، وهو یعم نساء النبی صلی الله علیه وآله وسلم وغیرهن، فنساء النبی داخلات فی ضمن (نساء العالمین)

ص: 485

وکذا هن داخلات فی ضمن (أهل الجنة) فتکونان أفضل منهن علی وفق هذه الروایة.

وأما تقدیم باقی زوجات النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم علی عائشة، فلالتزامهن أو أکثرهن بما کلفن به من التکالیف التی أوضحتها الآیات التی تقدمت سابقا، وعدم التزام عائشة بنت أبی بکر بجمیع تلک الأحکام والشروط أو أغلبها، وخیر دلیل علی عدم تمسکها وخضوعها لما افترضه الله سبحانه علیها، هو خروجها یوم الجمل، وسط الأغراب والرجال الأجانب، تنتقل من بلد إلی بلد، تارکة بیتها الذی أمرت بالاستقرار والمکث فیه حتی حلول أجلها، ولیتها اکتفت بهذا القدر من المخالفة، فقد خرجت علی إمام زمانها، وجیشت الجیوش ضده، وأراقت دماء الآلاف من الأبریاء من الصحابة والمؤمنین، وشقت عصا المسلمین، بما بقی أثره إلی یوم الناس هذا، بل وسیبقی هذا الأثر إلی قیام یوم الدین.

7: خدیجة أفضل نساء النبی صلی الله علیه وآله وسلم وسائر نسائه أفضل من عائشة وفاطمة أفضل الجمیع

فیتبین من جمیع ما سبق ان سائر نساء النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم أفضل من عائشة بنت أبی بکر، وان خدیجة أفضل نساء النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم لا لکونها زوجته فحسب بل لورود الأدلة الکثیرة علی فضلها وعلو مرتبتها وقد تقدم بعضها وسیأتی بعضها الآخر إن شاء الله تعالی، وان السیدة الزهراء صلوات الله وسلامه علیها أفضلهن جمیعا، لأنها سیدة نساء أهل الجنة وسیدة نساء العالمین وجمیع النساء داخلات فی ضمن هذا اللفظ ومنهن زوجات النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم حتی السیدة خدیجة علی ما لها من الفضل وعلو المنزلة والجاه عند الله سبحانه ورسوله صلی الله علیه وآله وسلم.

ص: 486

باء: محاولة أخری من محاولات ابن حزم لتفضیل عائشة علی السیدة الزهراء صلوات الله وسلامه علیها
اشارة

وکمحاولة أخری یائسة من ابن حزم لتفضیل عائشة علی السیدة فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه علیها حاول ابن حزم وبجمیع جهده التفریق ما بین السیادة والفضل، لیصل عن طریق هذا التفریق إلی ان السیدة الزهراء صلوات الله وسلامه علیها هی سیدة نساء المؤمنین ولکن عائشة أفضل منها لقوله صلی الله علیه وآله وسلم المزعوم فضل عائشة علی النساء کفضل الثرید علی سائر الطعام، فقال ابن حزم موزورا غیر مأجور: (واستدرکنا بیانا زائدة فی قول النبی صلی الله علیه وسلم فی أن فاطمة سیدة نساء المؤمنین أو نساء هذه الأمة فنقول وبالله تعالی التوفیق إن الواجب مراعاة ألفاظ الحدیث وإنما ذکر علیه السلام فی هذا الحدیث السیادة ولم یذکر الفضل وذکر علیه السلام فی حدیث عائشة الفضل نصا بقوله علیه السلام فضل عائشة علی النساء کفضل الثرید علی سائر الطعام...والسیادة غیر الفضل ولا شک أن فاطمة رضی الله عنها سیدة نساء العالمین بولادة النبی صلی الله علیه وسلم لها فالسیادة من باب الشرف لا من باب الفضل فلا تعارض بین الحدیث البتة والحمد لله رب العالمین وقد قال ابن عمر رضی الله عنهما هو حجة فی اللغة العربیة کان أبو بکر خیر وأفضل من معاویة وکان معاویة أسود من أبی بکر ففرق ابن عمر کما تری بین السیادة وبین الفضل والخیر وقد علمنا أن الفضل هو الخیر نفسه لأن الشیء إذا کان خیرا من شیء آخر فهو أفضل منه بلا شک)(1).

أقول: ویرد علی هذا المتبجح المعاند عدة أمور منها:


1- الفصل فی الملل والأهواء والنحل ج4 ص103.

ص: 487

1: معنی السیادة فی (سیدة نساء العالمین) و(سیدة نساء أهل الجنة) هو بمعنی أفضلهن

ان الأحادیث التی وردت عن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم فی حق ابنته وبضعته السیدة فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه علیها یفسر بعضها بعضا، فقد ورد التعبیر عن السیدة فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه علیها ب_(سیدة نساء العالمین) أو (سیدة نساء أهل الجنة) أو (سیدة نساء المؤمنین) کما فی الحدیث المروی فی صحیح البخاری ومسلم ومسند احمد (...أما ترضین أن تکونی سیدة نساء أهل الجنة أو نساء المؤمنین...)(1)، وفی أحادیث أخری ورد التعبیر عنها صلوات الله وسلامه علیها (أفضل نساء أهل الجنة) کما فی الحدیث الذی أخرجه احمد بن حنبل فی مسنده عن: (ابن عباس قال خط رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فی الأرض أربعة خطوط قال تدرون ما هذا فقالوا الله ورسوله اعلم فقال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم أفضل نساء أهل الجنة خدیجة بنت خویلد وفاطمة بنت محمد وآسیة بنت مزاحم امرأة فرعون ومریم ابنة عمران رضی الله عنهن أجمعین)(2) فدل وبوضوح ان السیادة فی قوله صلی الله علیه وآله وسلم هی بمعنی التفضیل.

 فیصبح کلام ابن حزم وإشکاله بان النبی صلی الله علیه وآله وسلم ذکر السیادة ولم یذکر الفضل لا معنی له وهو کلام لا یقوله عالم متتبع للآثار والسنة النبویة المطهرة، لان النبی صلی الله علیه وآله وسلم قد ذکر الفضل فی أحادیث أخری، فإذا عطفنا أحادیث الفضل علی أحادیث السیادة تبین أن معنی السیادة هنا هو الفضل، ویتبین أیضا تدلیس ابن حزم وکذبه.


1- صحیح البخاری ج 4 ص 183.
2- المصدر السابق ج1 ص293.

ص: 488

2: لا یمکن لحدیث الثرید من معارضة حدیث (سیدة نساء العالمین) و(سیدة نساء أهل الجنة)

ان حدیث الثرید المزعوم وان ذکر فیه التفضیل صریحا ولکن هیهات أن یعارض أو یساوی حدیث (سیدة نساء العالمین) أو (سیدة نساء أهل الجنة) أو (أفضل نساء أهل الجنة فاطمة) فأین الثرید من سیادة نساء أهل الجنة، وأین سیدة الثرید من سیدة نساء العالمین، فحدیث الثرید لو سلم من التزویر والکذب فلیس له الأهلیة للوقوف بوجه أحادیث تفضیل بضعة النبی صلی الله علیه وآله وسلم وسیدة نساء الدنیا والآخرة، ومحاولة ابن حزم الأندلسی للحط من قدر السیدة فاطمة الزهراء ورفع قدر عائشة بنت أبی بکر بحجة حدیث الثرید هی محاولة مکشوفة الأغراض والأهداف للجاهل قبل العالم.

3: دس ابن حزم لسمومه فی العسل محاولة منه لتجرید السیدة الزهراء صلوات الله وسلامه علیها من فضائلها

ان محاولة ابن حزم لتجرید السیدة فاطمة الزهراء من کل فضل ومیزة وکمال واضحة لا تخفی علی بصیر، وقوله (ولا شک أن فاطمة رضی الله عنها سیدة نساء العالمین بولادة النبی صلی الله علیه وسلم لها فالسیادة من باب الشرف لا من باب الفضل) هو دس للسم فی العسل، فهو یحاول ان یوحی للقارئ وبطریقة مفبرکة أن لا فضل لسیدة نساء العالمین صلوات الله وسلامه علیها إلا بولادة النبی صلی الله علیه وآله وسلم لها، وهو نفی منه لان یکون للسیدة الزهراء صلوات الله وسلامه علیها أی مزایا روحیة وکمالات معنویة وهو قول لا یقوله إلا ناصبی متعصب للباطل زائغ عن الحق، لان السیادة کما أثبتنا فی الفقرة الأولی هی من باب الشرف والفضل علی حد سواء.

ص: 489

4: إبطال کون ابن عمر حجة فی اللغة العربیة وهو الذی عجز عن طلاق زوجته

ان استشهاده بکلام ابن عمر علی التفریق ما بین السیادة والفضل عجیب للغایة، والأعجب منه زعمه بان ابن عمر حجة فی اللغة العربیة، وهو من الأقوال التی لا ینفک سامعها عن الضحک، فمتی أصبح ابن عمر حجة فی اللغة؟! ومن القائل بحجیته یا تری سوی ابن حزم الدافع عن أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فضائلهم بأدنی سبب ومختلف الحجج، ألیس ابن عمر هذا هو الذی عجز عن طلاق امرأته ولم یعرف کیف یطلقها، فکیف بمن لا یعرف أن یطلق امرأته أن یصیر حجة فی اللغة العربیة.

ولکن هلا کلف ابن حزم نفسه ورجع إلی باقی أحادیث النبی صلی الله علیه وآله وسلم فی شأن السیدة فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه علیها لیقارن ویکتشف بان معنی السیادة فی الحدیث هو معنی التفضیل نفسه کما أوضحنا ذلک فی الفقرة الأولی بدلا من أن یأتی بکلام ابن عمر الذی یعرفه الجمیع ویعرف توجهاته الأمویة المناهضة لأهل البیت علیهم السلام.

جیم: محاولة ابن القیم تفضیل عائشة علی السیدة فاطمة صلوات الله وسلامه علیها بالعلم والمعرفة
اشارة

حاول طائفة من أعلام أهل السنة ومحدثیهم تسلیط الضوء علی کثرة ما روی عن عائشة من الروایات والأحکام والأخبار والاستفادة من هذه الکثرة فی مسألة التفضیل فیما بینها وبین السیدة خدیجة بنت خویلد والسیدة فاطمة بنت محمد صلوات الله وسلامه علیهما، فزعموا أنّ کثرة الروایة والنقل تدل علی العلم، والعلم یدل علی الفضل، ولیس للسیدة خدیجة ولا السیدة فاطمة صلوات الله وسلامه علیهما من الروایة والأحکام مثل ما لعائشة، وهذا یعنی انها افضل، وهذا ملخص مفید لمقاصد القوم ونیاتهم علی اختلاف ألفاظهم.

ص: 490

قال ابن القیم الجوزیة: (فائدة التفضیل بین عائشة وفاطمة: الخلاف فی کون عائشة أفضل من فاطمة أو فاطمة أفضل إذا حرر محل التفضیل صار وفاقا فالتفضیل بدون التفصیل لا یستقیم فإن أرید بالفضل کثرة الثواب عند الله عز وجل فذلک أمر لا یطلع علیه إلا بالنص لأنه بحسب تفاضل أعمال القلوب لا بمجرد أعمال الجوارح وکم من عاملین أحدهما أکثر عملا بجوارحه والآخر أرفع درجة منه فی الجنة.

وإن أرید بالتفضیل التفضل بالعلم فلا ریب أن عائشة أعلم وأنفع للأمة وأدت إلی الأمة من العلم ما لم یؤد غیرها واحتاج إلیها خاص الأمة وعامتها وإن أرید بالتفضیل شرف الأصل وجلالة النسب فلا ریب أن فاطمة أفضل فإنها بضعة من النبی وذلک اختصاص لم یشرکها فیه غیر أخواتها وإن أرید السیادة ففاطمة سیدة نساء الأمة وإذا ثبتت وجوه التفضیل وموارد الفضل وأسبابه صار الکلام بعلم وعدل)(1).

ویرد علی کلام ابن القیم بأمور عدیدة منها:

1: السیدة فاطمة صلوات الله وسلامه علیها أعظم ثوابا عند الله سبحانه من عائشة

ان التفضیل بکثرة الثواب عند الله سبحانه وان کان لا یطلع علیه إلا بالنص لأنه من أعمال القلوب، إلا أن النص موجود فی مورد التفضیل ما بین السیدة فاطمة صلوات الله وسلامه علیها وعائشة، فالحدیث الذی وصف السیدة فاطمة الزهراء بسیدة نساء أهل الجنة کافٍ لمعرفة کثرة ثوابها عند الله سبحانه؛ لأنها صلوات الله وسلامه علیها لو لم تکن أکثر نساء العالمین ثوابا لما صارت أفضلهن، فصیرورتها سیدة لنساء أهل الجنة یثبت فضلها علی عائشة بنت أبی بکر بل علی سائر نساء العالمین من حیث الثواب المتعلق بالجوارح والقلوب.


1- بدائع الفوائد لابن القیم الجوزیة ج3 ص682.

ص: 491

2: السیدة الزهراء صلوات الله وسلامه علیها أعظم علما واکبر فائدة من عائشة

وأما التفضیل بالعلم وقوله بأنه (لا ریب أن عائشة أعلم وأنفع للأمة وأدت إلی الأمة من العلم ما لم یؤد غیرها واحتاج إلیها خاص الأمة وعامتها) فهو غیر مسلم بصحته، وهو أیضا یعبر عن وجهة نظر مذهبیة، وهو قول أهل السنة فقط، وللشیعة الإثنی عشریة أعزهم الله روایات کثیرة متواترة تنص علی أن السیدة الزهراء ترکت بعد موتها علما جما، کتبته فی مصحف خاص سمی فیما بعد بمصحف فاطمة وهو کتاب یحتوی علی روایات وأحکام سمعتها من النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم مباشرة، إضافة إلی أخبار أخری تتعلق بما سیکون فی مستقبل الأیام والدهور أخبرها به الملک الذی کان یواسیها ویؤنسها بعد رحیل النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، وهو عند الأئمة المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین یتوارثه إمام بعد إمام، ولولا خوفهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین من أئمة الجور وأشیاعهم وأتباعهم وأولیائهم لأخرجوه للناس ولاستفادت منه الأمة اشد وأعظم مما استفادته الأمة من أحادیث عائشة وأحکامها.

ثم ان السیدة الطاهرة فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه علیها لم یمهلها الأجل ولم تعطها السلطة التی کانت عائشة إحدی رکائزها ودعائمها الفرصة لنیل ما تستحقه من العنایة بها وبحدیثها، فقد قطفت زهرة عمرها فی الأیام الأولی لرحیل النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم عن هذه الدنیا، فلم تحظ بفرصتها کمحدثة وعالمة، ولم تهتم السلطة بها وبحدیثها مثلما اهتمت بعائشة وبحدیثها، بل العکس هو الذی جری علیها بأبی هی وأمی، فقد عاشت تلک الأیام القلیلة بعد رحیل النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم وهی حبیسة بیتها، بسبب ضرب السلطة ورموزها لها، حتی اسقطوا جنینها، وکسروا ضلعها، وصادروا نحلتها، ومنعوها إرثها، وروعوا

ص: 492

أولادها، وأحرقوا بیتها، فهل ینتظر من مثل هؤلاء أن یصغوا إلی روایاتها، وینقلوا حدیثها، ویقروا بعلمها، ویفضلوها علی عائشة التی لولاها لما قامت لدولة أبیها قائمة، هیهات أن یفعلوا کل ذلک.

کما وهنالک شواهد عدیدة تشیر وبوضوح إلی أن السیدة فاطمة بنت محمد صلوات الله وسلامه علیها کانت فی حیاة أبیها المصطفی صلی الله علیه وآله وسلم أعلم من عائشة، بل وأعلم من سائر نساء المؤمنین حتی نساء النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، ففی الحدیث المروی عن الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه انه قال: (قال لنا رسول الله __ صلی الله علیه وآله وسلم __ ذات یوم: أی شیء خیر للمرأة؟ فلم یکن عندنا لذلک جواب، فلما رجعت إلی فاطمة قلت: یا بنت محمد، إن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم سألنا عن مسألة فلم ندر کیف نجیبه! فقالت: وعن أی شیء سألکم؟ فقلت: قال: أی شیء خیر للمرأة؟ قالت: فما تدرون ما الجواب: قلت لها: لا، فقالت: لیس خیر من أن لا تری رجلا ولا یراها، فلما کان العشی جلسنا إلی رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فقلت له: یا رسول الله إنک سألتنا عن مسألة فلم نجبک فیها، لیس للمرأة شیء خیر من أن لا تری رجلا ولا یراها، قال: ومن قال ذلک؟ قلت: فاطمة: قال: صدقت، إنها بضعة منی)(1)وهذا الحدث کان فی وقت عائشة وزمانها فأین ذهب علمها عنها؟ ولماذا لم تجب عن سؤال النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم؟.

3: عائشة تصور نفسها للناس بأنها سفیهة قلیلة المعرفة وکثیرة اللهو واللعب

إن عائشة بنت أبی بکر کانت ولحین وفاة النبی صلی الله علیه وآله وسلم تصور نفسها بنفسها للتاریخ وتصف لنا شخصیتها وأنها الفتاة الصغیرة الحدیثة السن والسفیهة بحسب تعبیرها، فقد أخرج أحمد بن حنبل فی مسنده عن (یحیی بن عباد بن عبد الله


1- کنز العمال للهندی ج 16 ص 601.

ص: 493

ابن الزبیر عن أبیه عباد قال سمعت عائشة تقول مات رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم بین سحری ونحری وفی دولتی لم أظلم فیه أحدا فمن سفهی وحداثة سنی ان رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم قبض وهو فی حجری ثم وضعت رأسه علی وسادة وقمت ألتدم مع النساء وأضرب وجهی)(1).

وصورت نفسها فی روایة أخری بأنها لم تکن تعرف کیف تغسل وجه أسامة ابن زید وجسمه بالماء حینما کان صبیا، فعن الشعبی عن عائشة قالت: (تأمرنی رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم أن أغسل وجه أسامة بن زید یوما وهو صبی قالت وما ولدت ولا أعرف کیف یغسل الصبیان قالت فأخذته فغسلته غسلا لیس بذاک، قالت فأخذه __ یعنی النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم __ فجعل یغسل وجهه ویقول لقد أحسن بنا إذ لم تک جاریة ولو کنت جاریة لحلیتک وأعطیتک)(2).

وصورت نفسها بأنها کانت حریصة علی اللهو، فقد أخرج البخاری فی صحیحه عن عروة عن عائشة انها قالت: (رأیت النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم یسترنی بردائه وأنا انظر إلی الحبشة یلعبون فی المسجد حتی أکون أنا الذی أسأم فاقدروا قدر الجاریة الحدیثة السن الحریصة علی اللهو)(3).

وقد وصفتها بریرة إحدی النساء اللاتی عشن مع عائشة زمنا طویلا وعلمن بحالها وشؤونها بوصف ینم عن إهمالها وعدم مبالاتها واکتراثها بما یدور حولها بقولها: (أنها جاریة حدیثة السن تنام عن عجین أهلها فتأتی الداجن فتأکله)(4).


1- مسند احمد لأحمد بن حنبل  ج 6 ص 274.
2- کنز العمال للمتقی الهندی ج13 ص272.
3- صحیح البخاری ج 6 ص 159.
4- المصدر السابق ج 3 ص 147.

ص: 494

وأخرج البخاری فی قصة الإفک المزعومة اعترافها بأنها لم تکن تقرأ کثیرا من القرآن، وأنها أحقر من أن یتکلم القرآن بأمرها، فقالت: (...وأنا جاریة حدیثة السن لا اقرأ کثیرا من القرآن....ولکن والله ما ظننت أن ینزل فی شأنی وحیا ولأنا أحقر فی نفسی من أن یتکلم بالقرآن فی أمری)(1).

وانها وعلی الرغم من زواجها من النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم ومضی سنین عدیدة من هذا الزواج تصر علی تصویر نفسها بأنها جاریة صغیرة مدللة تأتی الجواری الصغار إلیها یلعبن معها، وأنها کانت لدیها دمی تلعب بها وغیر ذلک من المضحکات، فقد روی البخاری عن هشام عن أبیه عن عائشة قالت: (کنت ألعب بالبنات عند النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم وکان لی صواحب یلعبن معی فکان رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم إذا دخل یتقمعن منه فیسر بهن إلی فیلعبن)(2).

وفی سنن أبی داود: (حدثنا مسدد، ثنا حماد، عن هشام بن عروة، عن أبیه، عن عائشة قالت: کنت ألعب بالبنات، فربما دخل علی رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم وعندی الجواری، فإذا دخل خرجن، وإذا خرج دخلن)(3).

وفی سنن أبی داود أیضا عن عائشة قالت: (قدم رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم من غزوة تبوک، أو خیبر، وفی سهوتها ستر، فهبت ریح فکشفت ناحیة الستر عن بنات لعائشة لعب، فقال: ما هذا یا عائشة؟ قالت: بناتی، ورأی بینهن فرسا له جناحان من رقاع، فقال: ما هذا الذی أری وسطهن؟ قالت:


1- صحیح البخاری ج3 ص157.
2- المصدر السابق ج 7 ص 102.
3- سنن أبی داود لابن الأشعث السجستانی ج 2 ص 462.

ص: 495

فرس، قال: وما هذا الذی علیه؟ قالت: جناحان، قال: فرس له جناحان؟ قالت: أما سمعت أن لسلیمان خیلا لها أجنحة؟ قالت: فضحک حتی رأیت نواجذه)(1).

فإذا جمعنا کلمات عائشة التی قالتها بنفسها عن نفسها فسنکتشف بأنها، لا تعرف حتی کیف یغسل وجه الصبی وبدنه مع أن هذا الأمر بدیهی، فمثلما یغسل الإنسان وجه نفسه کذلک یغسل وجه غیره، ولکنها لم تدرکه علی الرغم من بداهته، وإنها کانت جاریة حریصة علی اللهو، وتنام عن عجین أهلها حتی تأتی الدابة فتأکله، وتدع أهلها بلا خبز ولا عجین، ولا تقرأ کثیرا من القرآن، وإنها کانت بمنزلة أحقر من أن یتکلم القرآن بأمرها، وإنها کانت علی الرغم من زواجها من سید المرسلین وخیرة الأنبیاء والأولیاء صلی الله علیه وآله وسلم إلا أنها تصر علی التصرف بطفولة وقلة اکتراث بمرکزها الاجتماعی فکانت تلعب بالدمی شأنها شأن الأطفال الصغار وتدخل علیها الجواری الصغار لیلعبن معها، وان هذه الحالة من الطفولیة والبساطة فی التصرفات قد صاحبتها إلی حین وفاة النبی صلی الله علیه وآله وسلم حیث بقیت تصف نفسها بحداثة السن والسفاهة فی الرأی والتصرف کما تقدم.

فامرأة بهذا الوصف وبهذه الشأنیة وبهذا القدر والمنزلة کیف أصبحت یا تری وبین لیلة وضحاها أفضل نساء النبی صلی الله علیه وآله وسلم بل وأفضل من سائر نساء المسلمین، وحتی غالی بعضهم وقارن بینها وبین مریم العذراء وخدیجة بنت خویلد وفاطمة بنت محمد سیدة نساء العالمین، وإنها اعلم الصحابة، وإنها کما یقول ابن القیم (عائشة أعلم وأنفع للأمة وأدت إلی الأمة من العلم ما لم یؤد غیرها واحتاج إلیها خاص الأمة وعامتها)، أو کما یقول ابن کثیر فی (البدایة


1- سنن أبی داود لابن الأشعث السجستانی ج 2 ص 462 __ 463.

ص: 496

والنهایة): (وروت بعده عنه علیه السلام علما جما کثیرا طیبا مبارکا فیه)(1)، أو کما یقول ابن حجر فی (فتح الباری): (وقد حفظت عنه شیئا کثیرا وعاشت بعده قریبا من خمسین سنة فأکثر الناس الأخذ عنها ونقلوا عنها من الأحکام والآداب شیئا کثیرا حتی قیل إن ربع الأحکام الشرعیة منقول عنها)(2)، فهل یعقل مسلم عاقل أن یأخذ ربع دینه من امرأة وصفت نفسها بالسفاهة تارة وبالحرص علی اللهو واللعب تارة أخری.

4: السیدة فاطمة صلوات الله وسلامه علیها أفضل من عائشة بشرف الأصل وجلالة النسب

وبهذا یندفع وجهان من أوجه التفضیل لعائشة علی سیدة نساء العالمین صلوات الله وسلامه علیها فمن حیث کثرة الثواب فان الزهراء صلوات الله وسلامه علیها أکثر کما بینا فی النقطة الأولی، ومن حیث العلم فان السیدة الزهراء اعلم کما بینا فی النقطة الثانیة والثالثة، وبقی وجهان من أوجه التفضیل التی أقرها ابن القیم بقوله: (وإن أرید بالتفضیل شرف الأصل وجلالة النسب فلا ریب أن فاطمة أفضل فإنها بضعة من النبی وذلک اختصاص لم یشرکها فیه غیر أخواتها وإن أرید السیادة ففاطمة سیدة نساء الأمة وإذا ثبتت وجوه التفضیل وموارد الفضل وأسبابه صار الکلام بعلم وعدل)(3) ونحن نوافقه الرأی، ففاطمة وبلا خلاف بین المسلمین أفضل نسبا من عائشة بنت أبی بکر بل ومن سائر نساء النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، ومن جمیع نساء المسلمین، وبهذا تثبت أفضلیتها صلوات الله وسلامه علیها بجمیع أوجه التفضیل، وصار الکلام بعلم وعدل.


1- البدایة والنهایة لابن کثیر  ج 3 ص 159.
2- فتح الباری لابن حجر  ج 7  ص 82 __ 83.
3- بدائع الفوائد لابن القیم الجوزیة ج3 ص682.

ص: 497

دال: تصریح خطیر لابن کثیر بان من فضّل عائشة علی خدیجة حملته قوة التسنن علی ذلک
اشارة

قال ابن کثیر: (وأما أهل السنة فمنهم من یغلو أیضا ویثبت لکل واحدة منهما __ أی السیدة خدیجة وعائشة __ من الفضائل ما هو معروف، ولکن تحملهم قوة التسنن علی تفضیل عائشة لکونها ابنة الصدیق، ولکونها أعلم من خدیجة فإنه لم یکن فی الأمم مثل عائشة فی حفظها وعلمها وفصاحتها وعقلها... وروت بعده عنه علیه السلام علما جما کثیرا طیبا مبارکا فیه حتی قد ذکر کثیر من الناس الحدیث المشهور «خذوا شطر دینکم عن الحمیراء»)(1).

أقول: ویرد علی کلام ابن کثیر عدة ملاحظات منها:

1: العصبیة والعناد أساس لجمیع محاولات تفضیل غیر أهل البیت علیهم

ان قول ابن کثیر (ولکن تحملهم قوة التسنن علی تفضیل عائشة لکونها ابنة الصدیق) شاهد صدق علی أنمنشأ کل قدح وتشکیک وتأویل لفضائل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ومقاماتهم هو العصبیة والتمذهب والنصب، فخدیجة إنما احتوشوها من کل جانب، وهضموا حقها، لأنها أم الزهراء صلوات الله وسلامه علیها، ولأنها أحب زوجات النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم إلیه، ولأنها أم أولاده، وعائشة إنما رفعت فوق رؤوسهم واستمیت فی الدفاع عنها واثبات فضائلها بکل حد وحدید؛ لأنها ابنة أبی بکر، فتقویتها وتقویة فضائلها هو فی الحقیقة تقویة لأبیها ودولته ومن ثمَّ تقویة للتسنن وإرغام لأنف الخصوم.

2: لا یمکن لابن کثیر إثبات هذه الکذبة

ان ادعاءه بأن عائشة بنت أبی بکر (أعلم من خدیجة فإنه لم یکن فی الأمم


1- البدایة والنهایة لابن کثیر  ج 3  ص 159.

ص: 498

مثل عائشة فی حفظها وعلمها وفصاحتها وعقلها) هو محض کذب وافتراء فمن أین لابن کثیر إثبات انه لم یکن فی الأمم السابقة أو اللاحقة مثل عائشة فهل عاش ابن کثیر فی أکثر من أمة من الأمم السابقة حتی یجری استقراء تاما علی کذبته هذه، فدون إثبات هذا المدعی خرط القتاد، وهیهات له ان یثبت ذلک.

3: السیدة خدیجة صلوات الله وسلامه علیها أعلم من عائشة لهذه الأسباب

نحن لا نقر لابن کثیر بأن عائشة کانت أعلم من خدیجة، فعلم عائشة ومستواه قد تبین لنا جلیا من کلامها نفسه وتصریحاتها عینها، والسیدة خدیجة وان لم ینقل عنها من الأحکام ما نقل عن عائشة بنت أبی بکر، أو أنها صلوات الله وسلامه علیها لم یرو عنها مثل ما روی عن عائشة، إلا أن هذا لا یعنی ان عائشة أعلم منها، فالنبی الأعظم کان موجودا والوحی ینزل علیه بالتشریع والأحکام فلم تکن السیدة خدیجة بحاجة إلی نقل الأحکام أو الروایة عنه صلی الله علیه وآله وسلم، ولو کانت صلوات الله وسلامه علیها قد بقیت بعد وفاته صلی الله علیه وآله وسلم مثلما بقیت عائشة لنقل عنها أکثر مما نقل عن عائشة بأضعاف مضاعفة، لأنها عاشت مع النبی صلی الله علیه وآله وسلم عمرا أطول مما عاشته عائشة.

ولان اختصاصها صلوات الله وسلامه علیها بالنبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم وقربها منه کان اکبر واخص من قرب عائشة واختصاصها به، ولان اطلاعها علی تفاصیل الدعوة النبویة أشمل وأوسع من اطلاع عائشة، بل وحتی أبیها أبی بکر وعمر وعثمان وغیرهم، لاسیما الأیام والأشهر والسنین الأولی من عمر الرسالة الإسلامیة، فلو کانت صلوات الله وسلامه علیها قد بقیت ووصلت إلی العمر الذی وصلت إلیه عائشة بنت أبی بکر، وسمحت لها الدولة بالکلام وإخراج مکنون علمها کما سمحت لعائشة، لأصبحت مرجعا علمیاً مهماً من مراجع الفقه والأحکام والروایة

ص: 499

والتفسیر والتاریخ ومنابعها، لا یلحق بها لاحق، ولا یطمع فی إدراکها طامع، باستثناء الأئمة المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.

4: اعتراف علماء أهل السنة بوفور علم السیدة خدیجة صلی الله علیه وآله وسلم وفقهها

وقد دلت بعض الروایات علی وفور علمها وفقهها، فقد أخرج البخاری عن أبی هریرة انه قال: (أتی جبریل النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فقال یا رسول الله هذه خدیجة قد أتت معها إناء فیه أدام أو طعام أو شراب فإذا هی أتتک فاقرأ علیها السلام من ربها ومنی وبشرها ببیت فی الجنة من قصب لا صخب فیه ولا نصب)(1).

وعن النسائی فی (فضائل الصحابة) عن أنس قال: (جاء جبریل إلی النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم وعنده خدیجة فقال إن الله یقرئ خدیجة السلام فقالت إن الله هو السلام وعلی جبریل السلام وعلیک السلام ورحمة الله وبرکاته)(2).

وعن الحاکم النیسابوری فی (المستدرک علی الصحیحین): (عن أنس رضی الله عنه قال أتی جبرئیل علیه الصلاة والسلام إلی النبی صلی الله علیه وآله وعنده خدیجة رضی الله عنها فقال إن الله یقرئ خدیجة السلام فقالت إن الله هو السلام وعلیک السلام ورحمة الله. وقال __ الحاکم النیسابوری __ هذا حدیث صحیح علی شرط مسلم ولم یخرجاه)(3).

وفی لفظ ابن السنی وبعد إیراده لجوابها صلوات الله وسلامه علیها السابق زاد عبارة:


1- صحیح البخاری ج 4 ص 231.
2- فضائل الصحابة للنسائی ص 75.
3- المستدرک للحاکم النیسابوری ج 3 ص 186.

ص: 500

(وعلی من سمع السلام إلا الشیطان)(1).

وقد علق ابن حجر فی (فتح الباری) تعلیقا مهما علی هذه الروایات بقوله: (قال العلماء فی هذه القصة دلیل علی وفور فقهها لأنها لم تقل وعلیه السلام کما وقع لبعض الصحابة حیث کانوا یقولون فی التشهد السلام علی الله فنهاهم النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم وقال إن الله هو السلام فقولوا التحیات لله فعرفت خدیجة لصحة فهمها ان الله لا یرد علیه السلام کما یرد علی المخلوقین لان السلام اسم من أسماء الله وهو أیضا دعاء بالسلامة وکلاهما لا یصلح ان یرد به علی الله فکأنها قالت کیف أقول علیه السلام والسلام اسمه ومنه یطلب ومنه یحصل فیستفاد منه انه لا یلیق بالله الا الثناء علیه فجعلت مکان رد السلام علیه الثناء علیه ثم غایرت بین ما یلیق بالله وما یلیق بغیره فقالت وعلی جبریل السلام ثم قالت وعلیک السلام ویستفاد منه رد السلام علی من أرسل السلام وعلی من بلغه والذی یظهر ان جبریل کان حاضرا عند جوابها فردت علیه وعلی النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم مرتین مرة بالتخصیص ومرة بالتعمیم ثم أخرجت الشیطان ممن سمع لأنه لا یستحق الدعاء بذلک قیل إنما بلغها جبریل علیه السلام من ربها بواسطة النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم احتراما للنبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم)(2).

وقال العینی تعلیقا علی تلک الأحادیث: (فیه دلالة علی صحة فهم خدیجة وقوة إدراکها مثل هذا. فإن قلت: لما ردت الجواب بما ذکرنا، هل کان جبریل، علیه الصلاة والسلام، حاضرا؟ قلت: بلی، کان حاضرا فردت علیه وردت علی


1- عمدة القاری للعینی ج 16 ص 281.
2- فتح الباری لابن حجر  ج 7 ص 105.

ص: 501

النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم، مرتین، ثم أخرجت الشیطان ممن سمع لأنه لا یستحق الدعاء بذلک)(1).

وقد استدل أبو بکر بن داود وابن العربی بقصة سلام الله سبحانه علی السیدة خدیجة بأفضلیة السیدة خدیجة علی عائشة، قال ابن حجر: (قال السهیلی استدل بهذه القصة أبو بکر بن داود علی أن خدیجة أفضل من عائشة لان عائشة سلم علیها جبریل من قبل نفسه وخدیجة ابلغها السلام من ربها وزعم ابن العربی انه لا خلاف فی أن خدیجة أفضل من عائشة ورد بأن الخلاف ثابت قدیما وإن کان الراجح أفضلیة خدیجة بهذا)(2).

أقول: وروایة سلام جبرائیل علی عائشة المذکور آنفا، هی من الروایات المطعون فیها، فهی شاذة کما قال ابن حجر فی (فتح الباری): (ومما نبه علیه انه وقع عند الطبرانی من روایة أبی یونس عن عائشة انها وقع لها نظیر ما وقع لخدیجة من السلام والجواب وهی روایة شاذة والعلم عند الله تعالی)(3).

5: تکذیب حدیث خذوا شطر دینکم عن الحمیراء یعنی عائشة

ان استدلال ابن کثیر علی أفضلیة عائشة بنت أبی بکر بقوله: (حتی قد ذکر کثیر من الناس الحدیث المشهور: «خذوا شطر دینکم عن الحمیراء») هو استدلال باطل وتدلیس علی الجهال، لان هذا الحدیث مما تکلم فیه، وثبت عند الخاص والعام بطلانه، وانه مکذوب علی النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، وقد اعترف ابن کثیر نفسه ببطلانه، فقال فی (البدایة والنهایة): (أما ما یلهج به کثیر من الفقهاء


1- عمدة القاری للعینی ج 16 ص 281.
2- فتح الباری لابن حجر  ج 7 ص 105.
3- المصدر السابق  ج 7  ص 106

ص: 502

وعلماء الأصول من إیراد حدیث: «خذوا شطر دینکم عن هذه الحمیراء» فإنه لیس له أصل ولا هو مثبت فی شیء من أصول الإسلام، وسألت عنه شیخنا أبا الحجاج المزی فقال: لا أصل له)(1)، وهذه هی إحدی ازدواجیات الموازین لدی علماء أهل السنة ومحدثیهم، فإنهم یستشهدون بالحدیث المکذوب من غیر أن یبینوا ضعفه، فی الوقت الذی یکون الاستشهاد به لمصلحتهم، ویشنعون علیه ویکذبونه متی ما خلت منه المصلحة، فابن کثیر استشهد بهذا الحدیث حینما کان الأمر یتعلق بسلب فضائل خدیجة وإعلاء شأن عائشة، أما حینما خلت المسألة من انتقاص أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ضعفه وکذبه وأبان عواره.

وممن نقل تکذیب هذا الحدیث المبارکفوری فی (تحفة الأحوذی) حیث قال: (وأما حدیث خذوا شطر دینکم عن الحمیراء یعنی عائشة فقال الحافظ ابن الحجر العسقلانی لا أعرف له إسنادا ولا روایة فی شیء من کتب الحدیث إلا فی النهایة لابن الأثیر ولم یذکر من خرجه وذکر الحافظ عماد الدین بن کثیر أنه سأل المزی والذهبی عنه فلم یعرفاه وقال السخاوی ذکره فی الفردوس بغیر إسناد وبغیر هذا اللفظ ولفظه خذوا ثلث دینکم من بیت الحمیراء وبیض له صاحب مسند الفردوس ولم یخرج له إسنادا وقال السیوطی لم أقف علیه کذا فی المرقاة)(2).

وقد نقل تکذیب الحدیث العجلونی فی (کشف الخفاء) بقوله: («خذوا شطر دینکم عن الحمیراء» قال الحافظ ابن حجر فی تخریج أحادیث ابن الحاجب من إملائه لا أعرف له إسنادا، ولا رأیته فی شیء من کتب الحدیث إلا فی النهایة لابن الأثیر ذکره فی مادة «ح م ر»، ولم یذکر من خرجه ورأیته فی الفردوس بغیر لفظة وذکره


1- البدایة والنهایة لابن کثیر  ج 8 ص 100.
2- تحفة الأحوذی للمبارکفوری ج 10 ص 259.

ص: 503

عن أنس بغیر إسناد بلفظ خذوا ثلث دینکم من بیت الحمیراء، وذکره ابن کثیر أنه سأل الحافظین المزی والذهبی عنه فلم یعرفاه، وقال السیوطی فی الدرر لم أقف علیه، لکن فی الفردوس عن أنس خذوا ثلث دینکم من بیت عائشة انتهی، وقال الحافظ عماد الدین فی تخریج أحادیث مختصر ابن الحاجب: هو حدیث غریب جدا، بل هو منکر، سألت عنه شیخنا المزی فلم یعرفه، وقال لم أقف له علی سند إلی الآن، وقال شیخنا الذهبی هو من الأحادیث الواهیة التی لا یعرف لها سند انتهی، قال القاری لکن فی الفردوس من غیر إسناد وخذوا ثلث دینکم من بیت عائشة، لکن معناه صحیح، ثم قال وقد اشتهر أیضا حدیث کلمتین یا حمیراء، ولیس له أصل عند العلماء)(1).

وبهذا تندفع جمیع شبهات ابن کثیر لا کثر الله من شبهاته المتعصبة ضد أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.

هاء: محاولة استدلالهم بحدیث الثرید علی حسن خلق عائشة وحلاوة منطقها ونحو ذلک
اشارة

قد حاول البعض الاستفادة من حدیث الثرید المزعوم، للوصول إلی رسم صورة شاعریة لعائشة بنت أبی بکر، وقد تفلسف هذا البعض فی تسطیر الفضائل والفوائد للثرید وعکس هذه الفضائل والفوائد علی عائشة بنت أبی بکر، والمبارکفوری فی (تحفة الأحوذی) کان احد هؤلاء المتفلسفین حیث قال: (قوله «فضل عائشة علی النساء کفضل الثرید علی سائر الطعام» الثرید بفتح المثلثة وکسر الراء معروف وهو أن یثرد الخبز بمرق اللحم وقد یکون معه اللحم، من أمثالهم «الثرید أحد اللحمین» وربما أکله أنفع وأقوی من نفس اللحم النضیج إذا ثرد


1- کشف الخفاء للعجلونی  ج 1 ص 374 __ 375.

ص: 504

بمرقته، قال التوربشتی: قیل إنما مثل الثرید لأنه أفضل طعام العرب، ولا یرون فی الشبع أغنی غناء منه، وقیل: إنهم کانوا یحمدون الثرید فیما طبخ بلحم، وروی سید الطعام اللحم، فکأنها فضلت علی النساء کفضل اللحم علی سائر الأطعمة، والسر فیه أن الثرید مع اللحم جامع بین الغذاء واللذة والقوة وسهولة التناول وقلة المؤونة فی المضغ وسرعة المرور فی المریء فضرب به مثلا لیؤذن بأنها أعطیت مع حسن الخلق والخلق وحلاوة النطق فصاحة اللهجة وجودة القریحة ورزانة الرأی ورصانة العقل والتحبب إلی البعل فهی تصلح للتبعل والتحدث والاستئناس بها والإصغاء إلیها وحسبک أنها عقلت عن النبی ما لم تعقل غیرها من النساء وروت ما لم یرو مثلها من الرجال)(1).

وقال ابن عبد الهادی: (قوله کفضل الثرید هو أفضل طعام العرب لأنه مع اللحم جامع بین اللذة والقوة وسهولة التناول وقلة المؤونة فی المضغ فیفید أنها جامعة لحسن الخلق وحلاوة المنطق ونحو ذلک)(2).

أقول: وفی کلام المبارکفوری وابن عبد الهادی عدة مغالطات نشیر فیما یأتی إلی بعضها:

1: إثبات ان حدیث الثرید صدر عن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم من باب المزاح وتخفیف الغیرة

ان حدیث الثرید لو تأمل فیه المتأمل لوجده للهزل هو أقرب منه إلی الجد، فالنبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم کان معروفا بالمزاح مع أصحابه وزوجاته وسائر المسلمین، ومن رجع إلی سیرته صلی الله علیه وآله وسلم وأقوال الصحابة الذین عاشروه وخالطوه وجد تصدیق ما ذهبنا إلیه، وفی هذا الصدد یقول الحلبی فی (السیرة


1- تحفة الأحوذی للمبارکفوری ج10 ص260 __ 261.
2- حاشیة السندی علی النسائی لابن عبد الهادی  ج 7 ص 68.

ص: 505

الحلبیة): (کان صلی الله علیه __ وآله __ وسلم سهل الخلق لین الجانب لیس بفظ ولا غلیظ....کان صلی الله علیه __ وآله __ وسلم یمازح أصحابه قال وقد جاء إنی لأمزح ولا أقول إلا حقا لکن جاء عن عائشة رضی الله عنها کان رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم مزاحا وکان یقول إن الله تعالی لا یؤاخذ المزاح الصادق فی مزاحه وجاء عن بعض الصحابة رضی الله تعالی عنهم ما رأیت أحدا أکثر مزاحا من رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم وعن ابن عباس رضی الله تعالی عنهما کانت فی النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم دعابة وعن بعض السلف کان للنبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم مهابة فکان یبسط الناس بالدعابة...)(1).

وقال عبد الله بن قدامة فی (المغنی): (وقد کان النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم یمزح ولا یقول إلا حقا ومزاحه أن یوهم السامع بکلامه غیر ما عناه وهو التأویل)(2).

وقد ذکرت روایات کثیرة تحکی حسن مزاحه وحلاوة دعابته، منها ان امرأة عجوزاً أتت إلی النبی صلی الله علیه وآله وسلم فقال: لا تدخل الجنة عجوز فبکت، فقال: إنک لست یومئذ بعجوز، قال الله تعالی: ((إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْکَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا))(3) وغیر ذلک کثیر جدا.

وانی لأجزم بأن قوله صلی الله علیه وآله وسلم: (فضل عائشة علی سائر النساء کفضل الثرید علی سائر الطعام) والمسمی والمعروف بحدیث الثرید ان صح صدوره عن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فهو من قسم المزاح الذی کان یمازح به النبی صلی الله علیه وآله وسلم زوجاته.


1- السیرة الحلبیة للحلبی ج 3 ص 440.
2- المغنی لعبد الله بن قدامة ج 11 ص 244.
3- سورة الواقعة الآیة رقم 35 __ 37.

ص: 506

وکل واحد من الناس وعلی اختلاف مستوی معرفتهم وإدراکهم یدرک انه من قبیل المزاح بمجرد سماعه لکلمات هذا الحدیث، فعائشة قد عرف عنها واشتهر بأنها کثیرة الغیرة من سائر زوجات النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم ومن ابنته فاطمة صلوات الله وسلامه علیها وحتی من الإمام علی بن أبی طالبصلوات الله وسلامه علیه، وقد مرت فیما سبق بعض الشواهد علی هذه الحقیقة وستأتی شواهد أخری لاحقا، والنبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم کان یعلم بشدید غیرتها، وقد کانت هذه الغیرة تشتد وتتعاظم کلما سمعت النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم یصف السیدة خدیجة ضرتها وابنتها السیدة الزهراء صلوات الله وسلامه علیها بأنهن سیدات نساء العالمین تارة، وسیدات نساء أهل الجنة تارة ثانیة، وإنهن فضلن علی سائر نساء العالمین من الأولین والآخرین حتی علی مریم العذراء وآسیة بنت مزاحم صلوات الله وسلامه علیهما.

فکان النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم یری شدة الغیرة فیها والحرص علی أن یکون لها ألقاب نظیر ما لسیدتی نساء العالمین من ألقاب، ومن شدة رحمة النبی صلی الله علیه وآله وسلم وعطفه ورقة قلبه قال لها حدیث الثرید لیطیب قلبها من جهة، ولیخفف غیرتها من جهة ثانیة، ولیوضح للأمة ان هذا الحدیث بهذا اللفظ هو من قبیل دعاباته صلی الله علیه وآله وسلم.

وإلا لو کان لعائشة فضل حقیقی تتفاضل به علی سائر النساء لعبر النبی صلی الله علیه وآله وسلم بغیر هذا التعبیر، ولقال فضلت بالتقوی أو بالعلم أو الطاعة أو الخلق أو غیر ذلک من جهات الفضل التی یتفاضل بها أبناء آدم بعضهم علی بعض، ولما عجز النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم عن الإتیان بلفظ یشعر السامع بأنّ قصده جدی ولیس بدعابة کما الحال بالنسبة لحدیث الثرید، وکیف یعجز عن ذلک وهو سید البلغاء وأفصح العرب لسانا وبیانا، فلما لم یفعل النبی صلی الله علیه وآله وسلم ذلک، وجاء

ص: 507

بلفظ یعلم کل من سمعه بأنه مزحة ودعابة من دعاباته صلی الله علیه وآله وسلم، علمنا انه لم یکن یقصد المعنی الحقیقی للتفضیل، وان تفضیله لعائشة وتشبیهها بالثرید دون الجوهر أو الذهب أو الکبریت الأحمر وغیر ذلک هو تفضیل صوری یقصد منه الدعابة وجبر الخاطر وتخفیف الغیرة.

2: کل ما ذکر للثرید من الفوائد موجود فی غیره من الأطعمة مثله أو أحسن منه

ان ما سطروه من فوائد للثرید من حیث انه (جامع بین الغذاء واللذة والقوة وسهولة التناول وقلة المؤونة فی المضغ وسرعة المرور فی المریء) کلها فوائد استحسانیة لا دلیل علیها إلا الذوق الشخصی، ولا یثبت فیها فضل مطلق للثرید علی غیره من الأطعمة، وإلا فلو رجع الإنسان وقاس بمنطق الإنصاف لا بمنطق التعصب والتحیز لوجد ان لکل نوع من أنواع الطعام فوائد ومنافع إن لم تکن أکثر من الثرید فهی مساویة له قطعا، وقد یکون الثرید أفضل من بعض الطعام إلا ان بعضه الآخر أفضل منه قطعا والی هذا المعنی أشار ابن حجر فی (فتح الباری) حیث قال معلقا علی حدیث الثرید المزعوم: (وکل هذه الخصال لا تستلزم ثبوت الأفضلیة له من کل جهة فقد یکون مفضولا بالنسبة لغیره من جهات أخری)(1).

ثم ان ثبوت الفضل للثرید علی سائر الطعام لو ثبت فعلا، لکان فی ذلک الزمن فقط دون الأزمنة اللاحقة والحالیة، فالثرید فی هذا الزمن لیس هو الأفضل قطعا ولا من أفضلها، فقد وجدت فی هذا الزمن أصناف وأنواع للطعام تفوق الثرید جودة ولذة وذوقا، والی هذا المعنی یشیر العینی فی (عمدة القاری) بقوله: (والظاهر أن فضل الثرید علی سائر الطعام إنما کان فی زمنهم لأنهم قلما کانوا یجدون الطبیخ، ولا سیما إذا کان باللحم، وأما فی هذا الزمان فأطعمة معمولة من أشیاء کثیرة متنوعة فیها من


1- فتح الباری لابن حجر ج 6 ص 321.

ص: 508

أنواع اللحوم ومعها أنواع من الخبز الحواری، فلا یقال: إن مجرد اللحم مع الخبز المکسور أفضل من هذه الأطعمة المختلفة الأجناس والأنواع، وهذا ظاهر لا یخفی)(1)والمفروض ان حدیث الثرید لو کان حقیقیا لانطبق صدقه علی کل زمان، حتی زماننا، وهذا لم یحصل فیتبین لنا ان حدیث الثرید المزعوم إما هو مکذوب عن الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، وإما قد صدر عنه صلی الله علیه وآله وسلم من باب المزاح فصیره القوم حقیقة بعد أن عجزوا عن إیجاد ما یساوی أو یشابه أحادیث السیادة والسؤدد لسیدتی نساء العالمین وسیدتی نساء أهل الجنة خدیجة وفاطمة صلوات الله وسلامه علیهما.

3: لا روایة صحیحة تنص علی وجود فضل للثرید، وروایة فضل عائشة غریبة المتن شاذة المعنی

إننا لم نجد حدیثا آخر صحیحا یثبت وجود الفضل للثرید علی سائر الطعام إلا هذا الحدیث وهو حدیث عائشة وان فضلها علی النساء کفضل الثرید علی سائر الطعام، فهو وان کان صحیحا فی بعض طرقه علی مبانی أهل السنة فقط وقواعدهم، إلا انه الوحید فی بابه، فلم یقدر القوم علی إیجاد حدیث آخر معاضد له یذکر فیه فضل الثرید علی سائر الطعام، فلو کان للثرید فضل علی سائر الطعام لذکر فی أحادیث وأقوال أخری للنبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم أو الصحابة، کما ذکر فضل التمر واللبن واللحم والرمان وغیره من الأطعمة المذکورة والمشهورة الفضل علی لسان الروایات الشریفة، فلما لم نجد للثرید فضلاً ولا ذکراً فی الروایات الشریفة علمنا ان الحدیث غریب المتن شاذ المعنی.

نعم روی البعض روایات تذکر ان للثرید فضلاً لکنها ضعیفة بأجمعها، لا تثبت حقا ولا تدفع شبهة ولا تنفع کشاهد أو معاضد، منها ما ذکره ابن الأشعث السجستانی فی (سنن أبی داود) وضعفه بقوله: (حدثنا محمد بن حسان السمتی،


1- عمدة القاری للعینی ج 16 ص 251.

ص: 509

ثنا المبارک بن سعید، عن عمر بن سعید، عن رجل من أهل البصرة، عن عکرمة، عن ابن عباس، قال: کان أحب الطعام إلی رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم الثرید من الخبز، والثرید من الحیس، قال أبو داود: وهو ضعیف)(1).

وقد جمعها الهیثمی فی (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد) وأشار إلی مواضع ضعفها وعوارها بقوله: («باب ما جاء فی الثرید» عن أبی هریرة قال دعا رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم بالبرکة فی الثرید والسحور. رواه أحمد وأبو یعلی وفیه محمد ابن أبی لیلی وهو سیئ الحفظ وبقیة رجاله رجال الصحیح. وعن أبی هریرة أن النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم قال السحور برکة والثرید برکة والجماعة برکة. رواه أبو یعلی وفیه أبو یاسر عمار بن هارون وهو ضعیف. وعن أبی هریرة قال دعا رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم بالبرکة لثلاثة السحور والثرید والکیل. رواه الطبرانی فی الصغیر والأوسط وفیه جماعة لم أجد من ترجمهم. وعن أنس قال: قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم أثردوا ولو بالماء. رواه الطبرانی فی الأوسط وفیه جماعة لم أجد من ترجمهم. وعن أنس قال: قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم أثردوا ولو بالماء. رواه الطبرانی فی الأوسط وفیه عباد بن کثیر الرملی وثقة بن معین وضعفه جماعة، وبقیة رجاله ثقات)(2).

وبهذا یثبت أن لا وجود لحدیث صحیح فی فضل الثرید، وان الثرید لم یکن معروف الفضل یومئذ، فکیف یفضل النبی صلی الله علیه وآله وسلم عائشة بشیء لم یکن مشهورا بالفضل، وهذا دلیل آخر علی کذب الحدیث، أو خروجه عن النبی صلی الله علیه وآله وسلم علی سبیل المزاح وعدم إرادة المعنی الجدی للتفضیل.


1- سنن أبی داود لابن الأشعث السجستانی ج 2 ص 205 باب فی أکل الثرید.
2- مجمع الزوائد للهیثمی ج 5 ص 18 __ 19.

ص: 510

4: لا ارتباط بین فوائد الثرید وحسن خلق عائشة وحلاوة نطقها وفصاحتها وغیر ذلک

ثم ان المستدل بحدیث الثرید انتقل وبصورة ملفتة للانتباه من ذکره لمنافع الثرید وانه سهل التناول وقلیل المؤونة فی المضغ وسریع المرور فی المریء، إلی تسطیر فضائل لعائشة لا ربط فیما بینها وبین تلک الفوائد المزبورة، فقال: (فضرب به __ أی بفضل الثرید __ مثلا لیؤذن بأنها أعطیت مع حسن الخلق والخلق وحلاوة النطق فصاحة اللهجة وجودة القریحة ورزانة الرأی ورصانة العقل والتحبب إلی البعل فهی تصلح للتبعل والتحدث والاستئناس بها والإصغاء إلیها).

وأی ارتباط یا أولی الألباب بین سهولة تناول الثرید وبین حسن الخلق والخلق وحلاوة النطق لعائشة؟ وأی وجه شبه بین قلة مؤونة المضغ للثرید وسرعة مروره بالمریء وبین فصاحة لهجة عائشة وجودة قریحتها ورزانة رأیها ورصانة عقلها وتحببها إلی البعل وصلاحها للتحدث والاستئناس بها والإصغاء إلیها؟! ألیس هذا من التکلف وتحمیل الألفاظ ما لا تطیق والتشبیه بغیر وجه شبه، وهو أمر مذموم عقلائیا ولغویا وذوقیا.

ثم ألیست هذه الألفاظ والأوصاف والنعوت مشترکة بین زوجات النبی صلی الله علیه وآله وسلم فأی واحدة منهن من وجهة نظر أهل السنة لم تکن تتمتع بحسن الخلق وحلاوة المنطق وفصاحة اللهجة وصلاحها للتبعل والتحدث والاستئناس بها والإصغاء إلیها، فإفراد عائشة دون سائر زوجات النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم بلا دلیل ولا مبرر، ولو کانت هذه الصفات جمیعها مجموعة فی شخصیة عائشة کما ادعی الخصم لما تزوج علیها النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم مرات وکرات، ولما فضل علیها غیرها کما سنعرف ذلک لاحقا.

نعم لو کان للحق صوت یسمع، لوجب وصف السیدة خدیجة صلوات الله وسلامه علیها بتلک الأوصاف التی وصفت بها عائشة بنت أبی بکر، فهی التی أعطیت کل هذه الصفات وأکثر، لذلک لم یتزوج علیها النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم ما دامت علی قید

ص: 511

الحیاة، اعتزازا بها وحفظا لحقها، ولکونها جامعة لسائر الصفات التی تصلح للتبعل والتحدث والاستئناس بها والإصغاء إلیها وغیر ذلک من صفات الفضل والکمال.

5: هل روت عائشة عن النبی صلی الله علیه وآله وسلم ما لم ترو الرجال عنه صلی الله علیه وآله وسلم

وأما قول هذا المتفلسف: (وحسبک أنها عقلت عن النبی ما لم تعقل غیرها من النساء وروت ما لم یرو مثلها من الرجال) فهو محض کذب، فإنها ما عقلت عن النبی صلی الله علیه وآله وسلم أکثر مما عقلته باقی النساء، فأم سلمة مثلا عقلت عن النبی أمورا لم تعقلها عائشة ولا غیرها، وقصة وضع النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم تربة کربلاء عندها لتعلم من خلالها تاریخ استشهاد الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه وموعده أمر لا ینکره إلا مکابر، وکذلک الحال بالنسبة للسیدة خدیجة والسیدة فاطمة صلوات الله وسلامه علیهما فان النبی اسر لهما أسرارا لم یسرها لعائشة ولا لغیرها، نعم قد کان لعائشة روایات عن النبی صلی الله علیه وآله وسلم أکثر من باقی نسائه لان الدولة آنذاک قد سمحت لها بالروایة والتدوین والنقل ولم تسمح لغیرها، فکثرت روایتها وعزت وندرت روایات الأخریات، وهو أمر یشین ویعیب به صاحبه أکثر مما یفتخر به ویمتدح علیه.

أما روایتها عن النبی صلی الله علیه وآله وسلم ما لم یرو مثلها من الرجال فهو کذب أیضا، فقد روی أبو هریرة روایات أکثر منها، وکذلک روی ابن عمر روایات أکثر مما روته هی وغیرها، وقد صنف ابن حزم الظاهری فی کتابه (أسماء الصحابة وما لکل واحد منهم من العدد) مرتبة عائشة فی الروایة فجعلها الرابعة من حیث عدد المرویات عن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، فجعل أبا هریرة فی المرتبة الأولی حیث روی عن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم خمسة آلاف وثلثمائة وأربعة وسبعین حدیثا(1)، وجعل


1- أسماء الصحابة وما لکل واحد منهم من العدد لابن حزم الظاهری تحقیق وتعلیق مسعد عبد الحمید السعدنی ص31 مکتبة القرآن للطباعة والنشر والتوزیع.

ص: 512

عبد الله بن عمر بن الخطاب فی المرتبة الثانیة حیث روی عن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، ألفی حدیث وستمائة حدیث وثلاثین حدیثا (1)، وجعل انس بن مالک فی المرتبة الثالثة لأنه روی عن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، ألفی حدیث ومائتی وستة وثمانین حدیثا)(2)، ثم تأتی مرتبة عائشة بنت أبی بکر وهی الرابعة حیث روت عن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم: (ألفی حدیث ومائتی وعشرة أحادیث)(3).

ثالثا: حذف حدیث فی فضل فاطمة من صحیح مسلم وإضافة حدیث الثرید مکانه

اعترف الحاکم النیسابوری فی کتابه (المستدرک علی الصحیحین) بأن مسلماً النیسابوری انفرد بإخراج حدیث (خیر نساء العالمین أربع مریم بنت عمران وآسیة بنت مزاحم وخدیجة بنت خویلد وفاطمة بنت محمد) فقال: (إنما تفرد مسلم بإخراج حدیث أبی موسی، عن النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم: خیر نساء العالمین أربع)(4).

ولکننا وحین رجوعنا إلی صحیح مسلم لم نجد لحدیث (خیر نساء العالمین أربع) أثراً یذکر، وهو یعنی ان ید التحریف والتزویر قد طالت هذا الحدیث وحذفته، وهی مظلومیة أخری لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین تضاف إلی مظلومیاتهم.

ولیت أن الأمر اقتصر علی هذا المقدار من التحریف، فقد اعترف الزیلعی فی (تخریج الأحادیث والآثار) ان حدیث (کمل من الرجال کثیر ولم یکمل من النساء إلا آسیة امرأة فرعون ومریم بنت عمران وإن فضل عائشة علی النساء کفضل الثرید علی سائر الطعام) قد أخرجه البخاری فی صحیحه ورواه الباقون من أصحاب


1- أسماء الصحابة، لابن حزم الظاهری ص32.
2- المصدر نفسه.
3- المصدر نفسه.
4- المستدرک للحاکم النیسابوری  ج 3 ص 154.

ص: 513

الکتب الستة إلا مسلماً النیسابوری لم یخرج فی کتابه الصحیح، قال الزیلعی: (والحدیث رواه البخاری فی صحیحه لیس فیه خدیجة ولا فاطمة رواه فی بدء الخلق فی باب قوله تعالی ((وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِینَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ)) من حدیث مرة الهمدانی عن أبی موسی قال: قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم کمل من الرجال کثیر ولم یکمل من النساء إلا آسیة امرأة فرعون ومریم بنت عمران وإن فضل عائشة علی النساء کفضل الثرید علی سائر الطعام انتهی، وکذلک رواه فی الأطعمة فی باب الثرید وسنده فیه ثنا محمد بن بشار ثنا غندر ثنا شعبة به ورواه الباقون إلا مسلما فالترمذی وابن ماجة فی الأطعمة والنسائی فی المناقب)(1).

إلا أننا وحین الرجوع إلی صحیح مسلم وجدنا حدیث الثرید موجودا ومذکورا فیه(2)، وهذا یعنی ان ید المحرفین لم تکتف بإخراج حدیث (خیر نساء العالمین أربع مریم بنت عمران وآسیة بنت مزاحم وخدیجة بنت خویلد وفاطمة بنت محمد) من صحیح مسلم حتی أضافت إلیه حدیث الثرید بعد أن لم یکن فیه، کرامة لعائشة وإرضاء لشیعتها ومحبیها.

وبهذا ینتهی الکلام عن هذا الحدیث، وقد ترکنا الکثیر من إشکالات القوم وأقوالهم وشبهاتهم ومحاولاتهم لضرب جمیع ما یشیر إلی أفضلیة السیدة الزهراء وأمها السیدة خدیجة صلوات الله وسلامه علیهما علی نساء العالمین ونساء أهل الجنة، کل ذلک طلبا للاختصار، ولان الهدف الأساس کما ذکرنا مرارا لیس الاستقصاء لجمیع کلماتهم بل عرض البعض منها لیتضح للقارئ الکریم فداحة الأمر وعظیم الجریرة التی اقترفها محدّثو أهل السنة ضد فضائل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین ومناقبتهم.


1- تخریج الأحادیث والآثار للزیلعی ج 4 ص 67.
2- صحیح مسلم ج 7 ص133.

ص: 514

الحدیث الرابع: الحسن والحسین سیدا شباب أهل الجنة

بعض نصوص هذا الحدیث مع ذکر تصحیحها ومن قال بتواترها

1: ما رواه احمد بن حنبل فی مسنده
اشارة

(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَیْرِیُّ حَدَّثَنَا یَزِیدُ بْنُ مَرْدَانُبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِی نُعْمٍ عَنْ أَبِی سَعِیدٍ الْخُدْرِیِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلی الله علیه __ وآله __ وسلم الْحَسَنُ وَالْحُسَیْنُ سَیِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ)(1).

أقول: وهذا إسناد صحیح، ورجاله ثقات، ورواته بأجمعهم من رجال الشیخین، باستثناء یزید بن مردانبة، الذی أخرج له النسائی، وهو ثقة، وتفصیل حالهم باختصار کالتالی:

ألف: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَیْرِیُّ

قال العجلی فی (معرفة الثقات): (أبو أحمد محمد بن عبد الله بن الزبیر الأسدی الزبیری الکوفی. مات بالأهواز سنة 20 ه. روی عنه العجلی فی موضعین وقال: کوفی ثقة وکان یتشیع)(2).

وقال الرازی فی (الجرح والتعدیل): (محمد بن عبد الله بن الزبیر أبو أحمد الزبیری الکوفی مولی لبنی أسد... أبو بکر بن أبی خیثمة فیما کتب إلی قال: سمعت یحیی بن معین یقول أبو أحمد الزبیری ثقة، نا عبد الرحمن قال سئل أبو زرعة عن أبی احمد الزبیری فقال صدوق حدثنا عبد الرحمن قال سئل أبی عن


1- مسند احمد: ج3، ص3.
2- معرفة الثقات للعجلی ج 1 ص 38.

ص: 515

أبی احمد الزبیری فقال حافظ للحدیث عباد مجتهد له أوهام)(1).

أقول: ولا یقدح قول الأخیر إنّ لمحمد بن عبد الله الزبیری أوهاماً، فی الحدیث الذی نحن بصدده لان هذا الحدیث محفوظ من طرق أخری بنفس اللفظ مما یدل علی أن محمد بن عبد الله الزبیری لم یتوهم فیه وهذه قاعدة عندهم مشهورة معروفة.

وقد ذکره أیضا ابن حبان فی کتابه (الثقات) فقال: (أبو أحمد الزبیری اسمه محمد بن عبد الله بن الزبیر الأسدی من أهل الکوفة یروی عن الثوری وإسرائیل روی عنه أحمد بن حنبل وأهل العراق مات سنة ثلاث ومائتین بالأهواز)(2)

وقال الخطیب البغدادی فی (تاریخ بغداد): (...سمعت ابن نمیر یقول: أبو أحمد الزبیری صدوق وهو فی الطبقة الثالثة من أصحاب الثوری. ما علمت إلا خیرا، مشهور بالطلب، ثقة صحیح الکتاب...حدثنا عبد الرحمن بن یوسف بن خراش قال: محمد بن عبد الله الأسدی أبو أحمد الزبیری، صدوق)(3).

وقال الذهبی فی (تذکرة الحفاظ): (أبو أحمد الزبیری محمد بن عبد الله بن الزبیر بن عمر الحافظ الثبت الأسدی الزبیری... وقال بندار: ما رأیت رجلا قط أحفظ من أبی احمد. وقال العجلی: ثقة یتشیع وقال أبو حاتم: حافظ عابد مجتهد له أوهام. وقیل کان یصوم الدهر)(4).

أقول: روی له أصحاب الکتب الستة وهم کل من (البخاری ومسلم وأبی داود والترمذی والنسائی وابن ماجه).


1- الجرح والتعدیل للرازی ج 7 ص 297.
2- الثقات لابن حبان ج 9 ص 58.
3- تاریخ بغداد للخطیب البغدادی  ج 3 ص 20 __ 21.
4- تذکرة الحفاظ للذهبی ج 1 ص 357.

ص: 516

باء: یَزِیدُ بْنُ مَرْدَانُبَةَ

قال ابن معین فی (تاریخ ابن معین): (یزید بن مردانبة ثقة)(1)، وقال العجلی فی (معرفة الثقات): (یزید بن مردانبة کوفی ثقة)(2).

وقال الرازی فی (الجرح والتعدیل): (حدثنا عبد الرحمن قال سألت أبی عن یزید بن مردانبة فقال قال وکیع: ثنا یزید بن مردانبة وکان ثقة)(3).

وقال المزی فی (تهذیب الکمال): (یزید بن مردانبة القرشی الکوفی التاجر... قال إسحاق بن منصور، عن یحیی بن معین: ثقة. وقال عبد الرحمان ابن أبی حاتم: سألت أبی عنه، فقال: قال وکیع: حدثنا یزید بن مردانبة وکان ثقة. قلت: فما تقول فیه؟ قال: لا بأس به. وذکره ابن حبان فی کتاب " الثقات)(4).

وقال الذهبی فی (الکاشف فی معرفة من له روایة فی کتب الستة): (یزید بن مردانبة الکوفی، عن أنس، وأبی بردة، وعنه أبو نعیم، والخریبی، ثقة)(5).

وقال ابن حجر فی (تقریب التهذیب): (یزید بن مردانبة بنون ثم موحدة الکوفی أصله من أصبهان، صدوق من الخامسة)(6).


1- تاریخ ابن معین بروایة الدوری ج 2 ص 24.
2- معرفة الثقات للعجلی ج 2 ص 367.
3- الجرح والتعدیل للرازی ج 1 ص 228.
4- تهذیب الکمال للمزی ج 32 ص 241 __ 243.
5- الکاشف فی معرفة من له روایة فی کتب الستة للذهبی  ج 2 ص 389.
6- تقریب التهذیب لابن حجر  ج 2 ص 331.

ص: 517

جیم: ابْنُ أَبِی نُعْمٍ

وهو عبد الرحمن بن أبی نعم البجلی الکوفی، ذکره ابن حبان فی کتابه (الثقات) بقوله: (عبد الرحمن بن أبی نعم البجلی الکوفی کنیته أبو الحکم یروی عن أبی هریرة وابن عمر وأبی سعید الخدری روی عنه زرارة بن أوفی وفضیل بن غزوان وکان من عباد أهل الکوفة ممن یصبر علی الجوع الدائم)(1).

وقال الذهبی فی (سیر أعلام النبلاء): (عبد الرحمن بن أبی نعم الإمام الحجة القدوة الربانی أبو الحکم البجلی الکوفی)(2).

وقال الذهبی فی (میزان الاعتدال): (عبد الرحمن بن أبی نعم البجلی. کوفی، تابعی مشهور. روی عن أبی هریرة، وابن عمر، وطائفة. وعنه مغیرة، وفضیل بن غزوان، وخلق: وکان من الأولیاء الثقات)(3).

وقال ابن حجر فی (تقریب التهذیب): (عبد الرحمن بن أبی نعم بضم النون وسکون المهملة البجلی أبو الحکم الکوفی العابد صدوق من الثالثة مات قبل المائة)(4).

دال: أَبو سَعِیدٍ الْخُدْرِیِّ

سعد بن مالک بن سنان بن عبید بن ثعلبة بن عبید بن الأبجر وهو خدرة بن عوف بن الحارث بن الخزرج الأنصاری، وهو صحابی، ومرتبة الصحابی من أعلی مراتب الوثاقة عندهم.

إذن فالحدیث بهذا السند صحیح.


1- الثقات لابن حبان ج 5 ص 112.
2- سیر أعلام النبلاء للذهبی ج 5 ص 62 __ 63.
3- میزان الاعتدال للذهبی ج 2 ص 595.
4- تقریب التهذیب لابن حجر ج 1 ص 593.

ص: 518

2: ما رواه احمد بن حنبل فی مسنده أیضا
اشارة

حَدَّثَنَا حُسَیْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِیلُ عَنْ مَیْسَرَةَ بْنِ حَبِیبٍ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَیْشٍ عَنْ حُذَیْفَةَ قَالَ: (سَأَلَتْنِی أُمِّی مُنْذُ مَتَی عَهْدُکَ بِالنَّبِیِّ صلی الله علیه __ وآله __ وسلم قَالَ فَقُلْتُ لَهَا مُنْذُ کَذَا وَکَذَا قَالَ فَنَالَتْ مِنِّی وَسَبَّتْنِی قَالَ فَقُلْتُ لَهَا دَعِینِی فَإِنِّی أَاتِی النَّبِیَّ صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فَأُصَلِّی مَعَهُ الْمَغْرِبَ ثُمَّ لا أَدَعُهُ حَتَّی یَسْتَغْفِرَ لِی وَلَکِ قَالَ فَأَتَیْتُ النَّبِیَّ صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فَصَلَّیْتُ مَعَهُ الْمَغْرِبَ فَصَلَّی النَّبِیُّ صلی الله علیه __ وآله __ وسلم الْعِشَاءَ ثُمَّ انْفَتَلَ فَتَبِعْتُهُ فَعَرَضَ لَهُ عَارِضٌ فَنَاجَاهُ ثُمَّ ذَهَبَ فَاتَّبَعْتُهُ فَسَمِعَ صَوْتِی فَقَالَ مَنْ هَذَا فَقُلْتُ حُذَیْفَةُ قَالَ مَالَکَ فَحَدَّثْتُهُ بِالْأَمْرِ فَقَالَ غَفَرَ اللَّهُ لَکَ وَلِأُمِّکَ ثُمَّ قَالَ أَمَا رَأَیْتَ الْعَارِضَ الَّذِی عَرَضَ لِی قُبَیْلُ قَالَ قُلْتُ بَلَی قَالَ فَهُوَ مَلَکٌ مِنْ الْمَلَائِکَةِ لَمْ یَهْبِطْ الْأَرْضَ قَبْلَ هَذِهِ اللَّیْلَةِ فَاسْتَأْذَنَ رَبَّهُ أَنْ یُسَلِّمَ عَلَیَّ وَیُبَشِّرَنِی أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَیْنَ سَیِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَنَّ فَاطِمَةَ سَیِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ رَضِیَ اللَّهُ عَنْهُمْ)(1).

أقول: وهذا الحدیث صحیح ورواته رواة الکتب الستة، وتفصیل حال رجال إسناده کالتالی:

ألف: حُسَیْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ

قال ابن سعد فی (الطبقات الکبری): (حسین بن محمد بن بهرام المروزی ویکنی أبا أحمد وکان ثقة)(2)، وقال العجلی فی (معرفة الثقات): (حسین بن محمد ابن بهرام بصری ثقة)(3).


1- مسند احمد: ج5، ص392.
2- الطبقات الکبری لمحمد بن سعد ج 7 ص 338.
3- معرفة الثقات للعجلی ج 1 ص 303.

ص: 519

وقال الذهبی فی (سیر أعلام النبلاء): (أبو أحمد المؤدب الإمام الحافظ الثقة، أبو أحمد، حسین بن محمد بن بهرام المروذی المؤدب، نزیل بغداد...قال معاویة بن صالح الأشعری: قال لی أحمد بن حنبل: اکتبوا عن أبی أحمد حسین ابن محمد. وجاء أحمد معی إلیه یسأله أن یحدثنی. وقال محمد بن سعد: ثقة. وقال النسائی: لیس به بأس)(1).

وقال ابن حجر فی (تقریب التهذیب): (الحسین بن محمد بن بهرام التمیمی أبو أحمد أو أبو علی المروذی بتشدید الراء وبذال معجمة نزیل بغداد ثقة من التاسعة مات سنة ثلاث عشرة أو بعدها بسنة أو سنتین)(2).

أقول: قد اخرج له وروی عنه جمیع أصحاب الکتب الستة(البخاری ومسلم وأبو داود والترمذی والنسائی وابن ماجه) وغیرهم.

باء: إِسْرَائِیل

وهو إسرائیل بن یونس بن أبی إسحاق السبیعی الهمدانی، أبو یوسف الکوفی من کبار أتباع التابعین، وقد وثقه ابن سعد فی (الطبقات الکبری) بقوله: (إسرائیل بن یونس بن أبی إسحاق السبیعی ویکنی أبا یوسف توفی بالکوفة سنة اثنتین وستین ومائة وقال أبو نعیم سنة ستین ومائة وکان ثقة حدث عنه الناس حدیثا کثیرا)(3).

ووثقه العجلی فی (معرفة الثقات) بقوله: (إسرائیل بن یونس بن أبی إسحاق


1- سیر أعلام النبلاء للذهبی ج 10 ص 216.
2- تقریب التهذیب لابن حجر  ج 1 ص218.
3- الطبقات الکبری لمحمد بن سعد  ج 6 ص 374.

ص: 520

کوفی ثقة وقال مرة جائز الحدیث)(1).

وقال الرازی فی (الجرح والتعدیل): (حدثنا عبد الرحمن حدثنا ابن أبی خیثمة فیما کتب إلی قال سمعت یحیی بن معین یقول: إسرائیل بن یونس ثقة. حدثنا عبد الرحمن حدثنا حرب بن إسماعیل الکرمانی فیما کتب إلی قال: قال أحمد بن حنبل: إسرائیل کان شیخا ثقة وجعل یعجب من حفظه. حدثنا عبد الرحمن سمعت أبی یقول: إسرائیل ثقة متقن من أتقن أصحاب أبی إسحاق)(2).

وقد ذکره ابن حبان فی (الثقات) بقوله: (إسرائیل بن یونس بن أبی إسحاق السبیعی الهمدانی من أهل الکوفة أخو عیسی بن یونس یروی عن أبی إسحاق وسماک یروی عنه أهل العراق ولد سنة مائة ومات سنة ستین ومائة وقد قیل سنة اثنتین وستین ومائة کنیته أبو یوسف سمعت ابن خزیمة یقول سمعت الدورقی یقول سمعت ابن مهدی یقول قال عیسی بن یونس قال إسرائیل کنت أحفظ حدیث یونس بن أبی إسحاق کما أحفظ السورة من القرآن)(3).

وکذلک ذکره ابن حبان فی (مشاهیر علماء الأمصار) قائلا: (إسرائیل بن یونس بن أبی إسحاق السبیعی أبو یوسف من المتقنین مات سنة ستین ومائة)(4).

أقول: وقد اخرج له جمیع أصحاب الکتب الستة وغیرهم.


1- معرفة الثقات للعجلی  ج 1 ص 222.
2- الجرح والتعدیل للرازی ج 2 ص 331.
3- الثقات لابن حبان  ج 6  ص 79.
4- مشاهیر علماء الأمصار لابن حبان ص 267.

ص: 521

جیم: مَیْسَرَةُ بْنُ حَبِیبٍ

وهو من کبار أتباع التابعین، قال العجلی فی (معرفة الثقات): (میسرة بن حبیب النهدی ثقة کوفی روی عن المنهال بن عمرو وهو فی عداد الشیوخ)(1).

وقال الرازی فی (الجرح والتعدیل): (میسرة بن حبیب النهدی أبو حازم الکوفی... حدثنا عبد الرحمن حدثنا عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل فیما کتب إلی قال أملی علیّ أبی بأن أبا حازم میسرة ثقة. حدثنا عبد الرحمن قال ذکره أبی عن إسحاق بن منصور عن یحیی بن معین أنه قال: میسرة بن حبیب ثقة. حدثنا عبد الرحمن قال سألت أبی عن میسرة بن حبیب أحب إلیک أو الحجاج بن أرطأة وابن أبی لیلی؟ فقال: میسرة أحب إلی من الحجاج بن أرطأة وابن أبی لیلی علی قلة ما ظهر من حدیثه. حدثنا عبد الرحمن قال قیل لأبی فما قولک فیه؟ قال: لا بأس به)(2).

وقال ابن حجر فی (تهذیب التهذیب): (قال عبد الله بن أحمد أملی علی أبی ان أبا خازم میسرة ثقة وقال ابن معین والعجلی والنسائی ثقة وقال أبو داود معروف وقال ابن أبی حاتم سألت أبی عن میسرة بن حبیب وحجاج بن أرطاة وابن أبی لیلی فقال میسرة أحب إلی علی قلة ما ظهر من حدیثه فما تقول فیه قال لا بأس به وذکره ابن حبان فی الثقات)(3).

أقول: وقد روی له البخاری فی کتابه (الأدب المفرد) وکذلک روی له کل من ابی داود والترمذی والنسائی، فهو من أصحاب الکتب الستة، وقد ذکره الذهبی فی (الکاشف فی معرفة من له روایة فی الکتب الستة) قائلا: (میسرة بن حبیب النهدی،


1- معرفة الثقات للعجلی ج 2 ص306.
2- الجرح والتعدیل للرازی  ج 8 ص 253.
3- تهذیب التهذیب لابن حجر ج 10 ص 345.

ص: 522

عن المنهال، وعدی بن ثابت، وعنه شعبة، وإسرائیل، ثقة. د ت س(1))(2).

وقال ابن حجر فی تهذیب التهذیب: (بخ د ت س «البخاری فی الأدب المفرد وأبی داود والترمذی والنسائی» میسرة بن حبیب النهدی أبو خازم الکوفی)(3).

وقال فی (تقریب التهذیب): (میسرة بن حبیب النهدی بفتح النون أبو حازم الکوفی صدوق من السابعة بخ د ت س)(4).

دال: الْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو

وهو من صغار التابعین، قال الدوری فی (تاریخ ابن معین): (سمعت یحیی یقول المنهال بن عمرو ثقة)(5)، وقال الرازی فی (الجرح والتعدیل): (منهال بن عمرو الأسدی مولی لبنی عمرو بن أسد بن خزیمة کوفی...نا عبد الرحمن قال ذکره أبی عن إسحاق بن منصور عن یحیی بن معین أنه قال: المنهال بن عمرو ثقة)(6).

وقال العجلی فی (معرفة الثقات): (منهال بن عمرو کوفی ثقة)(7)، وقال


1- الحروف (د، ت، س) هی حروف اختصار یستعملها أصحاب الجرح والتعدیل وأصحاب الحدیث یرمزون بها لأصحاب الکتب الستة، فحرف (د) یقصدون به (ابو داود)، وحرف (ت) یقصدون به (الترمذی)، وحرف (س) یقصدون به (النسائی)، فهؤلاء ثلاثة من أصحاب الکتب الستة، ویوجد ثلاثة آخرون یرمز إلیهم کالتالی: فالبخاری یرمز له بحرف (خ)، ومسلم یرمز له بحرف (م)، وابن ماجة یرمز له بحرف (ق).
2- الکاشف فی معرفة من له روایة فی کتب الستة للذهبی ج 2 ص 310.
3- تهذیب التهذیب لابن حجر ج 10 ص 344
4- تقریب التهذیب لابن حجر ج 2  ص 232.
5- تاریخ ابن معین بروایة الدوری ج 1 ص 299.
6- الجرح والتعدیل للرازی  ج 8 ص 356 __ 357
7- معرفة الثقات للعجلی ج 2 ص 300.

ص: 523

المزی فی (تهذیب الکمال): (عن یحیی بن معین: ثقة وکذلک قال النسائی...وقال الدارقطنی: صدوق)(1).

وقال ابن حجر فی(تقریب التهذیب): (المنهال بن عمرو الأسدی مولاهم الکوفی صدوق ربما وهم من الخامسة)(2).

أقول: وقد روی له أصحاب الکتب الستة باستثناء مسلم، قال المزی فی (تهذیب الکمال): (وذکره ابن حبان فی کتاب «الثقات» روی له الجماعة سوی مسلم)(3).

هاء: زِرُّ بْنُ حُبَیْشٍ

من کبار التابعین، وهو کما وصفه ابن عبد البر ووثقه فی (الاستیعاب) بقوله: (زر بن حبیش بن حباشة بن أوس بن هلال أو بن بلال الأسدی من بنی أسد بن خزیمة یکنی أبا مریم وقیل یکنی أبا مطرف أدرک الجاهلیة ولم یر النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم وهو من جلة التابعین من کبار أصحاب ابن مسعود أدرک أبا بکر وعمر وروی عن عمر وعلی وروی عنه الشعبی وإبراهیم النخعی وکان عالما بالقرآن قارئا فاضلا توفی سنة ثلاث وثمانین وهو ابن مائة وسنة وعشرین سنة یعد فی الکوفیین وقیل إنه مات سنة إحدی وثمانین والأول أصح)(4).

وقال محمد بن سعد فی (الطبقات الکبری): (وکان ثقة کثیر الحدیث)(5)،


1- تهذیب الکمال للمزی ج 28 ص 570 __ 571.
2- تقریب التهذیب لابن حجر ج 2 ص 216.
3- تهذیب الکمال  ج 28 ص 572.
4- الاستیعاب لابن عبد البر ج 2 ص 563.
5- الطبقات الکبری لمحمد بن سعد ج 6 ص 105.

ص: 524

وعده محمد بن سعد ممن کان یحب الإمام أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه فقال: (وقال یحیی بن آدم عن أبی بکر عن عاصم قال کان زر بن حبیش أکبر من أبی وائل فکانا إذا اجتمعا لم یحدث أبو وائل عند زر وکان زر یحب علیا وکان أبو وائل یحب عثمان)(1)، وقال ابن أبی الحدید المعتزلی: (کان أبو وائل عثمانیا، وکان زر بن حبیش علویا)(2).

وقد ذکره ابن حبان فی (الثقات) قائلا: (زر بن حبیش الأسدی من أهل الکوفة من بنی غاضر کنیته أبو مریم وقد قیل أبو مطرف یروی عن عمر وعلی روی عنه أهل الکوفة مات سنة ثنتین وثمانین قبل الجماجم وهو ابن اثنتین وعشرین ومائة سنة وکان من أعرب الناس وکان عبد الله بن مسعود یسأله عن العربیة)(3).

أقول: روی له جمیع أصحاب الکتب الستة، وقد ذکره الذهبی فی (الکاشف فی معرفة من له روایة فی الکتب الستة)(4).

واو: حُذَیْفَةُ

حذیفة بن الیمان: اسمه حسیل، ویقال: حسل، بن جابر بن أسید، أبو عبد الله العبسی صاحب سر رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم، وهو صحابی، ومرتبة الصحابی عندهم من اعلی مراتب الوثاقة.

فالحدیث بناء علی ما تقدم صحیح لا مریة فیه.


1- الطبقات الکبری لمحمد بن سعد ج 6 ص 105.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید ج 4 ص 99.
3- الثقات لابن حبان ج 4 ص 269.
4- الکاشف فی معرفة من له روایة فی کتب الستة للذهبی  ج 1 ص 402.

ص: 525

3: ما رواه النسائی فی السنن الکبری
اشارة

أخبرنا عمرو بن منصور قال حدثنا أبو نعیم قال حدثنا یزید بن مردانبة عن عبد الرحمن بن أبی نعم عن أبی سعید الخدری قال: قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم (الحسن والحسین سیدا شباب أهل الجنة)(1).

وهذا أیضا حدیث صحیح رجاله ثقات، وتفصیل حالهم کالتالی:

ألف: عمرو بن منصور

وهو من أوساط الآخذین عن تبع الأتباع، قال المزی فی (تهذیب الکمال): (قال بشر بن أحمد الاسفرایینی عن عبد الله بن محمد بن سیار الفرهیانی: سمعت عباسا العنبری یقول: ما قدم علینا مثل عمرو بن منصور وأبی بکر الوراق)(2)، وقال فی موضع آخر من کتابه: (روی عنه: النسائی فأکثر، وعبد الله بن محمد بن سیار، والقاسم بن زکریا المطرز. قال النسائی: ثقة، مأمون، ثبت)(3).

وقال عنه الذهبی فی (سیر أعلام النبلاء): (عمرو بن منصور الحافظ، المجود، المصنف، أبو سعید النسائی، أحد من یضرب به المثل فی الحفظ، وهو قدیم الوفاة. حدث عن: أبی مسهر الغسانی، وأبی نعیم، وأبی الیمان، وآدم بن أبی إیاس، ومسلم بن إبراهیم، وطبقتهم. حدث عنه: النسائی کثیرا، وعبد الله بن محمد بن سیار، وقاسم بن زکریا المطرز، وآخرون. قال النسائی: ثقة، مأمون، ثبت)(4).

وقال الذهبی فی (میزان الاعتدال): (وعمرو بن منصور النسائی [س].


1- السنن الکبری للنسائی ج5 ص149.
2- تهذیب الکمال للمزی ج 1 ص 477.
3- المصدر السابق ج 22 ص 251 __ 252.
4- سیر أعلام النبلاء للذهبی ج 13 ص 382.

ص: 526

متأخر، ثقة. من شیوخ أبی عبد الرحمن النسائی. لحق أبا نعیم وطبقته. قال النسائی: ثبت مأمون)(1)

وقال ابن حجر فی (تقریب التهذیب): (عمرو بن منصور النسائی أبو سعید ثقة ثبت من الحادیة عشرة)(2).

باء: أبو نعیم

وأبو نعیم هو الفضل بن دکین الأحول الکوفی، وهو من کبار الآخذین عن تبع الأتباع، وقد ذکره العجلی فی (معرفة الثقات) ووثقه بقوله: (الفضل بن دکین أبو نعیم الأحول کوفی ثقة ثبت فی الحدیث)(3).

وقال الرازی فی (الجرح والتعدیل): (الفضل بن دکین أبو نعیم الملائی الأحول کوفی... ثنا صالح بن أحمد بن حنبل قال قلت لأبی: وکیع وعبد الرحمن بن مهدی وأبو نعیم ویزید بن هارون أین یقع أبو نعیم من هؤلاء؟ قال أبو نعیم یجیء حدیثه علی النصف من هؤلاء إلا انه کیس یتحری الصدق، قلت فأبو نعیم أثبت أم وکیع؟ قال أبو نعیم أقل خطأ... نا عبد الرحمن نا أبی قال سألت علی بن المدینی من أوثق أصحاب الثوری؟ قال یحیی القطان وعبد الرحمن بن مهدی ووکیع وأبو نعیم، وأبو نعیم من الثقات... نا عبد الرحمن قال سألت أبی عن أبی نعیم الفضل بن دکین فقال ثقة کان یحفظ حدیث الثوری ومسعر حفظا جیدا کان یحزر حدیث الثوری ثلاثة آلاف وخمسمائة حدیث، وحدیث مسعر نحو خمسمائة حدیث کان یأتی بحدیث الثوری عن لفظ واحد لا یغیره وکان لا یلقن وکان حافظا متقنا، نا عبد الرحمن قال


1- میزان الاعتدال للذهبی  ج 3 ص 289.
2- تقریب التهذیب لابن حجر ج 1 ص 747.
3- معرفة الثقات للعجلی ج 2 ص 205.

ص: 527

سئل أبو زرعة عن أبی نعیم وقبیصة فقال أبو نعیم أتقن الرجلین)(1).

وذکره ابن حبان فی (الثقات) بقوله: (الفضل بن دکین بن حماد أبو نعیم الملائی مولی طلحة بن عبید الله القرشی من أهل الکوفة یروی عن الأعمش وفطر ابن خلیفة کان مولده سنة ثلاثین ومائة ومات آخر یوم من شعبان سنة ثمان أو تسع عشرة ومائتین وکان أصغر من وکیع بسنة وکان أتقن أهل زمانه)(2).

وقال الذهبی فی (تذکرة الحفاظ): (أبو نعیم الفضل بن دکین «واسم دکین» عمرو بن حماد «بن زهیر» الحافظ الثبت الکوفی الملائی التاجر من موالی طلحة بن عبید الله التیمی... وقال أحمد بن صالح: ما رأیت محدثا أصدق من أبی نعیم وقال یعقوب الفسوی: أجمع أصحابنا ان أبا نعیم کان غایة فی الإتقان. وقال أبو «حاتم: أبو» نعیم حافظ متقن. وقال محمد بن عبد الوهاب الفراء: کنا نهاب أبا نعیم أشد من هیبة الأمیر. وقال یحیی القطان: إذا وافقنی هذا الأحول ما أبالی من خالفنی)(3).

أقول: وقد روی للفضل بن دکین أربعة من أصحاب الکتب الستة وهم کل من (البخاری والترمذی والنسائی وابن ماجه).

جیم: یزید بن مردانبة

قد مرت ترجمته وتوثیقه فی الحدیث الأول، فراجع.

دال: عبد الرحمن بن أبی نعم

قد مرت ترجمته أیضا وتوثیقه فی الحدیث الأول، فراجع.


1- الجرح والتعدیل للرازی ج 7 ص 61 __ 62.
2- الثقات لابن حبان ج 7 ص 319.
3- تذکرة الحفاظ للذهبی ج 1 ص 372 __ 373.

ص: 528

هاء: أبو سعید الخدری

وهو صحابی ومرتبة الصحابی عندهم أعلی مراتب التوثیق.

فالحدیث صحیح لا ریب فیه.

4: تصحیح زیادة (وأبوهما خیر منهما)

یوجد حدیث آخر مروی عن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم ورد فیه ذکر الإمامین الحسن والحسین صلوات الله وسلامه علیهما وانهما سیدا شباب أهل الجنة، مع إضافة حقیقة جدیدة ومهمة وهی تصریحه صلی الله علیه وآله وسلم الواضح والجلی بان أباهما أمیر المؤمنین الإمام علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه خیر منهما.

وهذا الأمر مجمع علیه عند المسلمین کافة وبجمیع مذاهبهم، أما عند الشیعة الإثنی عشریة فالأمر واضح، وذلک لأنهم یعتقدون بان أفضل الخلق عند الله وأحبهم إلیه مرتبون علی النحو التالی، فالنبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم فی المرتبة الأولی، إذ لیس یوجد انس ولا جان ولا نبی ولا مرسل ولا عبد ولا حر ولا اسود ولا ابیض أحب إلی الله سبحانه منه إلیه، ومن ثم یأتی الامام امیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه نفس النبی صلی الله علیه وآله وسلم وصهره فی المرتبة الثانیة من حیث الفضل والرفعة، ثم تأتی الصدیقة الطاهرة فاطمة بنت محمد صلوات الله وسلامه علیها بضعة النبی وسیدة نساء العالمین فی الدنیا والآخرة فی المرتبة الثالثة، ثم یأتی الإمامان الحسن والحسین صلوات الله وسلامه علیهما فی المرتبة الرابعة بعد جدهما المصطفی وأبیهما وأمهما صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین.

فالإمام أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه وبإجماع کلمة الشیعة الإثنی عشریة هو أفضل من ابنیه وولدیه الحسن والحسین صلوات الله وسلامه علیهما،

ص: 529

وعلیه فإذا کان الإمامان الحسن والحسین سیدیّ شباب أهل الجنة فإن أباهما سیدهما وسیدهما یعنی سید سیدی شباب أهل الجنة.

وبمعنی آخر، إذا کان الإمامان الحسن والحسین أفضل شباب أهل الجنة وإذا عرفنا أن جمیع أهل الجنة شباب جرد مرد کما فی الأحادیث الصحیحة، فهذا یعنی أن الإمامین الحسن والحسین صلوات الله وسلامه علیهما سیدا جمیع أهل الجنة ومنهم الأنبیاء والمرسلون والشهداء والصدیقون حتی أبینا آدم وأمنا حواء وبقیة الرسل من أولی العزم وغیرهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، لان الحدیث مطلق لا یخرج منه احد إلا بدلیل قاطع وقوی، وعلیه فیکون معنی (وأبوهما خیر منهما) هو أن الإمام علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه أفضل من ولدیه، وهو ومن باب أولی أفضل من جمیع أهل الجنة ومنهم الأنبیاء والمرسلون صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وغیرهم ممن تقدّم ذکرهم، لان الأفضل من الأفضل هو أفضل من الجمیع فتأمل.

نعم یستثنی من هذا الأمر النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم لقیام الدلیل القطعی عند الشیعة الإمامیة بأفضلیته علی الإمام أمیر المؤمنین صلی الله علیه وآله وسلم وعلی الإمامین الحسن والحسین صلوات الله وسلامه علیهما وعلی جمیع أهل السماوات والأرض، فهو صلی الله علیه وآله وسلم خارج تخصصا عن القاعدة السابقة.

أما علی وفق المنظور السنی، فإضافة (وأبوهما خیر منهما) مما اجتمعت علیه کلمتهم، فهم یعتقدون بأفضلیة ما یسمونهم بالخلفاء الأربعة الراشدین، علی باقی الصحابة أجمع، ومنهم الإمامان الحسن والحسین صلوات الله وسلامه علیهما، وهذا الإجماع علی ما فیه من علات ومؤاخذات یکفی لتصحیح زیادة (وأبوهما خیر منهما) بغض النظر عن الأسانید التی نقلت لنا هذه الإضافة، لان الأمة عندهم لا تجتمع علی باطل، أو خطأ، وقد علمنا أن الأمة علی اختلاف مشاربها مجمعة علی

ص: 530

أفضلیة الإمام أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه علی ولدیه صلوات الله وسلامه علیهما.

ومثل هذا الإجماع وان کان حجة شرعیة ومدرکا قویا یصحح قول النبی صلی الله علیه وآله وسلم: (الحسن والحسین سیدا شباب أهل الجنة وأبوهما خیر منهما) بغض النظر عن أسانیده إلا أننا سنذکر للقارئ الکریم عدة ممن روی هذا الحدیث وصححه والتفصیل موکول إلی محله.

والحاکم النیسابوری فی (المستدرک علی الصحیحین) ممن روی الحدیث وصححه، حیث قال: («حدثنا» أبو سعید عمرو بن محمد بن منصور العدل ثنا السری بن خزیمة ثنا عثمان بن سعید المری ثنا علی بن صالح عن عاصم عن زر عن عبد الله رضی الله عنه قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله الحسن والحسین سیدا شباب أهل الجنة وأبوهما خیر منهما * هذا حدیث صحیح بهذه الزیادة ولم یخرجاه)(1).

وقد وافقه الذهبی علی هذا القول فی (تلخیص المستدرک) فقال: (صحیح)(2).

وقد اخرج ابن ماجة فی صحیحه هذا الحدیث عن: (محمد بن موسی الواسطی. ثنا المعلی بن عبد الرحمن. ثنا ابن أبی ذئب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم " الحسن والحسین سیدا شباب أهل الجنة. وأبوهما خیر منهما)(3).


1- المستدرک للحاکم النیسابوری ج 3 ص 167.
2- المستدرک بتعلیق الذهبی ج3 ص182 حدیث رقم 4779.
3- سنن ابن ماجة لمحمد بن یزید القزوینی ج 1 ص 44.

ص: 531

وقد صحح الألبانی هذا السند فی (صحیح وضعیف ابن ماجة)(1)، وکذلک صحح الألبانی حدیثین وردت فیهما هذه الزیادة والمرویة عن الإمام علی صلوات الله وسلامه علیه وابن عمر، والتی أوردها ابن عساکر فی (تاریخ مدینة دمشق) فراجع(2).

5: بعض من قال بتواتر حدیث الحسن والحسین سیدا شباب أهل الجنة

قال بتواتره المناوی فی (فیض القدیر شرح الجامع الصغیر) فبعد ان بین طرق تخریج الحدیث ختمها بقوله: (قال الترمذی: حسن صحیح قال المصنف: وهذا متواترا)(3).

وقد عده الحافظ السیوطی من الأحادیث المتواترة، وقد نقل المبارکفوری فی (تحفة الأحوذی) قول السیوطی بتواتر حدیث (الحسن والحسین سیدا شباب أهل الجنة) فقال: (وهذا الحدیث مروی عن عدة من الصحابة من طرق کثیرة ولذا عده الحافظ السیوطی من المتواترات)(4).

وممن اعترف بتواتر حدیث الثقلین الشیخ محمد ناصر الألبانی وهو وهابی العقیدة والفکر، فبعد أن استعرض جمیع طرق هذا الحدیث وزیاداته وصحح کثیرا منها قال فی (السلسلة الصحیحة): (وبالجملة فالحدیث صحیح بلا ریب بل هو متواتر کما نقله المناوی وکذلک الزیادات التی سبق تخریجها، فهی صحیحة ثابتة)(5).


1- صحیح وضعیف ابن ماجة للألبانی ج1 ص190.
2- صحیح الجامع الصغیر للألبانی ج1 ص3.
3- فیض القدیر فی شرح الجامع الصغیر للمناوی ج3 ص550.
4- تحفة الأحوذی للمبارکفوری ج 10 ص 186.
5- السلسلة الصحیحة للألبانی ج2 ص438.

ص: 532

محاولات أهل السنة للتشویش علی هذا الحدیث

اشارة

تعرض هذا الحدیث شأنه شأن الأحادیث والفضائل الأخری لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین إلی شیء من التشویش ومحاولة التغطیة والتعمیة علی ألفاظه أو مدالیله، وفیما یأتی جملة من تلک المحاولات:

1: محاولتهم إقحام نبی الله عیسی ویحیی فی ضمن الحدیث
اشارة

لم ترض الدولة التی حکمت المسلمین، ولا محدثو أهل السنة ورواتهم وعلماؤهم، أن تکون لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین أو لأحدهم فضیلة مستقلة، یمتازون بها عن غیرهم، لان السیاسة التی قام علیها الفکر السنی، قائمة ومنذ الیوم الأول علی جعل أفراد أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین أناسا عادیین، لا امتیاز لهم ولا خصوصیة ینفردون بها عن باقی الصحابة، أو غیرهم من الناس.

وإذا ما وجدت فضیلة أو خصوصیة قیلت فی حقهم علی لسان القرآن الکریم أو النبی صلی الله علیه وآله وسلم فإنهم یسارعون بإدخال وإقحام غیرهم معهم فی تلک الفضیلة أو الخصوصیة، لکی لا تکون دلیلا علی تقدمهم علی غیرهم من الصحابة لا سیما الثلاثة منهم وعائشة، وقد مرت شواهد کثیرة علی هذه الحقیقة، ولکی لا یحتج بتلک الأحادیث محتج من خصوم أهل السنة، فإذا ما احتج منهم محتج محاولا الاستفادة من هذه الأحادیث لإثبات حق أهل البیت ووجوب تقدیمهم علی العالمین جوبه واصطدم بحجة ان هذه الفضائل لیست مختصة بأهل البیت وقد شارکهم الناس بذلک فیضیعون بذلک الهدف الأساس من صدورها عن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم.

ص: 533

وحدیث (الحسن والحسین سیدا شباب أهل الجنة) لم یستثن من هذا المخطط الملعون، فان القوم لما أحسوا أن هذا الحدیث مما یتفرد به الإمامان الحسن والحسین صلوات الله وسلامه علیهما، وانه یؤدی إلی سیادة الإمامین صلوات الله وسلامه علیهما علی أبی بکر وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وغیرهم من الصحابة بل وغیرهم من سائر الأنبیاء والمرسلین والشهداء والصدیقین فی الجنة، عمدوا إلی إقحام بعض الشخصیات واستثنائها من عموم هذا الحدیث وشموله، فرووا حدیثا استثنوا منه نبی الله عیسی بن مریمصلوات الله وسلامه علیه، ونبی الله یحیی بن زکریا صلوات الله وسلامه علیهما، ورووا حدیثا آخر استثنوا منه کلاً من أبی بکر وعمر وسیأتی تفصیله بعد هذا الحدیث.

ألف: مناقشة ما صححه الحاکم النیسابوری
اشارة

قال الحاکم النیسابوری فی (المستدرک علی الصحیحین): («حدثنا» أبو العباس محمد بن یعقوب ثنا الحسن بن علی بن عفان ثنا عبد الحمید بن عبد الرحمن الحمانی ثنا الحکم بن عبد الرحمن بن أبی نعم عن أبیه عن أبی سعید الخدری رضی الله عنه عن النبی صلی الله علیه وآله انه قال: الحسن والحسین سیدا شباب أهل الجنة إلا ابنی الخالة * هذا حدیث قد صح من أوجه کثیرة وأنا أتعجب انهما __ أی البخاری ومسلم __ لم یخرجاه)(1).

أقول: لیس تعجب الحاکم النیسابوری فی محله، لان البخاری ومسلماً إنما لم یخرجاه لعدم وروده بطریق صحیح قطعا، وأما تصحیحه لسند هذا الحدیث فهو فی غیر محله أیضا، لعدة أسباب منها:


1- المستدرک للحاکم النیسابوری ج 3 ص 166 __ 167.

ص: 534

أولا: ان الذهبی تعقب تصحیح الحاکم ولم یقره علی قوله

ان الذهبی تعقب تصحیح الحاکم النیسابوری لهذا الحدیث فی کتابه (تلخیص المستدرک) بقوله:

(الحکم بن عبد الرحمن بن أبی نعم فیه لین)(1)، وقد ضعفه ابن معین أیضا کما نقله الرازی فی (الجرح والتعدیل بقوله: الحکم بن عبد الرحمن بن أبی نعم البجلی کوفی... عن إسحاق بن منصور عن یحیی بن معین أنه قال: الحکم بن عبد الرحمن بن أبی نعم ضعیف... حدثنا عبد الرحمن قال ذکره أبی. حدثنا عبد الرحمن قال سألت أبی عن الحکم بن عبد الرحمن بن أبی نعم فقال: صالح الحدیث)(2).

 ووصفه ابن حجر بسوء الحفظ فی (تقریب التهذیب) قائلا: (الحکم بن عبد الرحمن بن أبی نعم بضم النون وسکون المهملة الکوفی البجلی صدوق سیئ الحفظ من السابعة)(3)، وهذه الزیادة من سوء حفظه حتما، لان ما هو محفوظ ومشهور ومتواتر لیس فیه مثل هذه الزیادة.

وتوثیق أبی حاتم له بقوله (صالح الحدیث) لا ینفع فی هذا المورد بالذات، لان سیئ الحفظ إنما یکون حدیثه صالحا فیما لو وافق غیره من الحفاظ الأثبات، ولم یأت بزیادة منکرة لیست بمحفوظة، والحکم بن عبد الرحمن هنا لم یوافق قوله قول الحفاظ الأثبات وأتی بزیادة لم تأتِ عن ثقة حافظ ثبت، فهو فی هذا الحدیث غیر صالح الحدیث.


1- المستدرک بتعلیق الذهبی ج3 ص182 حدیث رقم 4778.
2- الجرح والتعدیل للرازی ج 3 ص 123.
3- تقریب التهذیب لابن حجر ج 1 ص 232.

ص: 535

ثانیا: فی السند عبد الحمید بن عبد الرحمن الحمانی وهو ضعیف متهم بالإرجاء ویخطئ

ولیس الحکم بن عبد الرحمن وحده المطعون فیه فی هذا الإسناد، فعبد الحمید بن عبد الرحمن الحمانی أیضا ضعیف یخطئ، وانه یعتقد بالإرجاء، وهی عقیدة فاسدة بإجماع الشیعة والسنة، وهی من العقائد التی بثتها وشجعتها واعتقدت بها الدولة الأمویة الغاشمة.

أما ضعفه فواضح فی کلمات أهل الجرح والتعدیل، فعن محمد بن سعد فی (الطبقات الکبری) انه قال: (عبد الحمید بن عبد الرحمن الحمانی ویکنی أبا یحیی وکان ضعیفا)(1)، وقال العجلی فی (معرفة الثقات): (عبد الحمید بن عبد الرحمن الحمانی کوفی ضعیف الحدیث مرجئ)(2).

وقال عبد الله بن عدی فی (الکامل): (عبد الحمید بن عبد الرحمن الحمانی کوفی یکنی أبا یحیی... وقد ضعفه أحمد بن حنبل وضعف ابنه یحیی)(3).

وقال ابن حجر فی (تقریب التهذیب): (عبدالحمید بن عبدالرحمن الحمانی بکسر المهملة وتشدید المیم أبو یحیی الکوفی لقبه بشمین بفتح الموحدة وسکون المعجمة وکسر المیم بعدها تحتانیة ساکنة ثم نون صدوق یخطئ ورمی بالإرجاء من التاسعة)(4).

 وقال الصفدی فی (الوافی بالوفیات): (عبد الحمید بن عبد الرحمن الحمانی الکوفی ولاؤه لحمان وهم بطن من تمیم وأصله خوارزمی ولقبه بشمین...وثقه ابن معین وقال النسائی لیس بالقوی وقال أبو داود کان داعیة فی الإرجاء)(5).


1- الطبقات الکبری لمحمد بن سعد ج 6 ص 399.
2- معرفة الثقات للعجلی ج 2 ص 70.
3- الکامل لعبد الله بن عدی ج 5 ص321.
4- تقریب التهذیب لابن حجر ج1 ص556.
5- الوافی بالوفیات للصفدی ج 18 ص.43

ص: 536

وتوثیق یحیی بن معین متضارب فیه، فقد نقلت عنه بعض الأخبار بأنه وثقه، ونقلت عنه أخبار أخری بأنه ضعفه، قال عبد الله بن عدی فی (الکامل): (حدثنا علان ثنا ابن أبی مریم سألت یحیی بن معین عن عبد الحمید بن عبد الرحمن الحمانی فقال ضعیف لیس بشیء حدثنا أحمد بن علی عن بحر قال: ثنا عبد الله بن أحمد الدورقی قال: قال یحیی بن معین یحیی بن عبد الحمید الحمانی ثقة وأبوه ثقة)(1) وعند حصول مثل هذا التضارب فإما أن یهمل هذا القول المتضارب، وأما یرجع فیه إلی المشهور، وفی کلتا الحالتین تسقط وثاقة الحمانی هذا.

وأما ذکر ابن حبان له فی ضمن کتابه (الثقات) فلا عبرة به، لان ابن حبان معروف بالتسرع فی توثیق المجاهیل والضعفاء، ولا ریب أن توثیقه هذا داخل فی هذا الأمر، ولأنه لو کان ثقة لما خفیت وثاقته عن احمد بن حنبل والنسائی وابن سعد وغیرهم.

ثالثا: أبو العباس محمد بن یعقوب الأصم کان أموی الانتماء فهو متهم فی هذا الحدیث

قال الذهبی فی (سیر أعلام النبلاء): (الأصم محمد بن یعقوب بن یوسف بن معقل بن سنان، الإمام المحدث مسند العصر، رحلة الوقت، أبو العباس الأموی مولاهم)(2).

وقال خیر الدین الزرکلی فی (الأعلام): (محمد بن یعقوب بن یوسف بن معقل بن سنان الأموی بالولاء، أبو العباس الأصم: محدث، من أهل نیسابور)(3).


1- الکامل لعبد الله بن عدی ج 5 ص321.
2- سیر أعلام النبلاء للذهبی ج 15 ص 452 __ 453.
3- الأعلام لخیر الدین الزرکلی ج 7 ص 145.

ص: 537

وکون أبی العباس الأصم أموی الولاء یبعث فی القلب الریبة، لان القرائن تشیر بأجمعها علی أن لبنی أمیة یداً طولی فی خلق هذه الزیادة.

فالحدیث الذی صححه الحاکم غیر صحیح یجمع الضعیف، والمرجئ، والمشهور بالخطأ، وسئ الحفظ، والأموی الهوی، فکیف یمکن تصحیح مثل هذا الحدیث أیها الحاکم النیسابوری؟!.

باء: مناقشة روایة النسائی فی کتابه (السنن الکبری)
اشارة

قال النسائی: (اخبرنا محمد بن آدم بن سلیمان عن مروان عن الحکم وهو ابن أبی نعیم بن عبد الرحمن عن أبیه عن أبی سعید قال: قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم: الحسن والحسین سیدا شباب أهل الجنة إلا ابنی الخالة عیسی بن مریم ویحیی بن زکریا)(1).

أقول: وهذه الروایة ضعیفة أیضا لعدة أسباب منها:

أولا: لوجود (مروان) فی إسناده وهو مدلس وقد عنعن

 وهو: (مروان بن معاویة بن الحارث بن أسماء بن خارجة الفزاری، أبو عبد الله الکوفی) وهو من الطبقة الوسطی من أتباع التابعین، وهو وان روی عنه أصحاب الکتب الستة (البخاری ومسلم وأبو داود والترمذی والنسائی وابن ماجة) إلا انه کان مدلسا، ویغیر فی أسماء من یروی عنهم، ویروی عن أشخاص مجهولین أو ضعفاء ویکنی عنهم ولا یذکر أسماءهم کی لا یعرفوا، وکان یلتقط شیوخه من السکک، وغیر ذلک من الأمور القادحة بالعدالة والضبط والوثاقة.

قال الخطیب البغدادی فی (تاریخ بغداد): (أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق،


1- السنن الکبری للنسائی ج 5 ص 50.

ص: 538

أخبرنا هبة الله بن محمد بن حبش الفراء، حدثنا أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبی شیبة قال: رأیت أبا حذیفة عبد الله بن مروان بن معاویة قد جاء إلی یحیی بن معین فسلم علیه، فلما قام قال له أبو شیبة ابن عمی: یا أبا زکریا، کیف کان مروان فی الحدیث؟ فقال: کان ثقة فیما روی عمن یعرف. وقال: إنه کان یروی عن أقوام لا یروی عنهم ویغیر أسماءهم، وکان یحدث عن محمد بن سعید الذی کان صلب وهو یکنی اسمه، فکان یقول: حدثنا محمد بن أبی قیس لکیلا یعرف...، أخبرنا أبو نعیم الحافظ، حدثنا موسی بن إبراهیم بن النضر العطار، حدثنا محمد بن عثمان بن أبی شیبة قال: وسألت علیا __ یعنی ابن المدینی __ عن مروان بن معاویة فقال: کان یوثق، وکان یروی عن قوم لیس بثقات ویکنی عن أسمائهم)(1).

وقال سلیمان بن خلف الباجی فی (التعدیل والتجریح): (مروان بن معاویة ابن الحارث بن أسماء بن خارجة أبو إسحاق الفزاری الکوفی... قال أبو حاتم هو صدوق لا یدفع عن صدق وتکثر روایته عن الشیوخ المجهولین... قال أبو بکر سمعت ابن معین یقول کان مروان بن معاویة یغیر الأسماء یعمی علی الناس کان یحدثنا عن الحکم بن أبی خالد وإنما هو الحکم بن ظهیر)(2).

وقال الذهبی فی (تذکرة الحفاظ): (وقال ابن معین: کان یلتقط شیوخا من السکک)(3)، وقال ابن حجر فی (تقریب التهذیب): (مروان بن معاویة بن الحارث ابن أسماء الفزاری أبو عبد الله الکوفی نزیل مکة ودمشق ثقة حافظ وکان یدلس أسماء الشیوخ من الثامنة مات سنة ثلاث وتسعین)(4).


1- تاریخ بغداد للخطیب البغدادی ج13 ص152.
2- التعدیل والتجریح لسلیمان بن خلف الباجی ج 2 ص 805.
3- تذکرة الحفاظ للذهبی ج 1 ص 295 __ 296.
4- تقریب التهذیب لابن حجر ج 2 ص 172.

ص: 539

أقول: إن مروان بن معاویة قد عنعن(1) فی هذا الإسناد، وهو مدلس، والمدلس إذا عنعن لا تقبل روایته بالاتفاق، قال الزیلعی فی (نصب الرایة): (والمدلس إذا عنعن لا یحتج به بالاتفاق)(2)، وقال محمد ناصر الألبانی فی (إرواء الغلیل): (والمدلس إذا عنعن، لا یحتج به بالاتفاق)(3)، وقال الشنقیطی فی (أضواء البیان): (والمدلس إذا عنعن لم تقبل روایته عند أهل الحدیث)(4).

ثم العجب کل العجب من أئمة الحدیث من أهل السنة کیف وثّقوا مثل هذا الراوی المدلس والکذاب علی الرغم من رمیه بکل تلک الطامات العظام، وهم الذین ضعفوا کثیرا من الرواة الآخرین لمجرد کون أحدهم شیعیا، أو انه یفضل الإمام علی بن أبی طالب علی أبی بکر وعمر وعثمان، أو لان اغلب روایاته فی فضائل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، أو غیر ذلک من الأسباب التافهة، والشواهد کثیرة لا یسعنا استیعابها، فهذا شاهد آخر علی تعصب القوم وعدم إنصافهم العلمی فی التعامل مع فضائل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وشیعتهم الناقلین لها، وإلا فلو تجرد القوم عن روح التعصب الأعمی فکیف یمکن ان یوصف رجل بالوثاقة وهو یلتقط شیوخه من السکک أی انه لا یبالی


1- سبق وان تعرفنا علی معنی المدلس وخطورة التدلیس، أما معنی (عنعن) فهو أن یقول الراوی: (عن فلان عن فلان عن فلان)، وقوله (عن فلان) هو المقصود بالعنعنة، وعبارة عن فلان هذه لا تعدّ تصریحا بأنه سمع ذلک فعلا من فلان، فلربما سمعه من غیره وأخفاه، لهذا لا یعتد أهل الحدیث بعنعنة المدلس، ولا یؤخذ قوله إلا إذا صرح بالسماع، بان یقول حدثنا فلان، لان عبارة حدثنا صریحة بان هذا المدلس قد سمع فعلا من فلان ذاک.
2- نصب الرایة للزیلعی  ج 2 ص 42.
3- إرواء الغلیل لمحمد ناصر الألبانی ج2 ص320.
4- أضواء البیان للشنقیطی ج4 ص464.

ص: 540

عمن اخذ وماذا أخذ، أم کیف یوصف بالثقة من کان یغیر الأسماء ویدلس الشیوخ یرید بذلک قلب الحقائق والتزویر والتعمیة علی الناس، فأین الأنصاف فی التقییم یا أهل الحدیث وأئمته؟!.

ثانیا: لوجود الحکم بن أبی نعیم بن عبد الرحمن

وقد مرت ترجمته فی مناقشة ما صححه الحاکم النیسابوری قبل عدة صفحات، وقد تبین انه ضعیف سئ الحفظ، وان توثیق ابی حاتم له لا ینفعه فی هذا المورد بالذات.

جیم: مناقشة روایة الطبرانی فی کتابه المعجم الکبیر
اشارة

قال الطبرانی فی (المعجم الکبیر): (حدثنا علی بن عبد العزیز ثنا أبو نعیم ثنا الحکم بن عبد الرحمن بن أبی نعم الأسماء حدثنی أبی عن أبی سعید الخدری رضی الله عنه قال: قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم الحسن والحسین سیدا شباب أهل الجنة إلا مشهور الخالة عیسی بن مریم ویحیی بن زکریا)(1).

أقول: وهذه الروایة أیضا ساقطة عن الاعتبار لعدة أسباب منها:

أولا: لوجود أسباط بن نصر الهمدانی الذی یقلب الأسانید والموصوف بالأهوج

وهو من الطبقة الوسطی من أتباع التابعین، روی له جمیع أصحاب الکتب الستة، علی الرغم من کون عامة أحادیثه وباعترافهم سقطاً مقلوبة الأسانید، وانه أهوج، ولیس بالقوی، قال المزی فی (تهذیب الکمال): (أسباط بن نصر الهمدانی، أبو یوسف، ویقال: أبو نصر الکوفی... قال حرب بن إسماعیل: قلت لأحمد: کیف حدیثه؟ قال: ما أدری. وکأنه ضعفه. وقال أبو بکر بن أبی خیثمة، عن یحیی


1- المعجم الکبیر للطبرانی ج 3 ص 38.

ص: 541

بن معین: ثقة. وقال أبو حاتم: سمعت أبا نعیم یضعف أسباط بن نصر، وقال: أحادیثه عامته سقط مقلوب الأسانید. وقال محمد بن مهران الجمال: سألت أبا نعیم عنه، فقال: لم یکن به بأس، غیر أنه کان أهوج. وقال النسائی: لیس بالقوی. روی له الجماعة)(1).

ولم یکتب عنه احمد بن حنبل ولا وکیع ولا أبو نعیم، ففی کتاب (العلل) المنسوب لأحمد بن حنبل: (سألته عن أسباط بن نصر فقال ما کتبت من حدیثه عن أحد شیئا ولم أره عرفه ثم قال وکیع وأبو نعیم یحدثان عن مشایخ الکوفة ولم أرهما یحدثان عنه)(2).

وأسباط بن نصر هو الذی اعترض لأجله أبو زرعة علی مسلم النیسابوری وعاب علیه إخراج حدیثه فی صحیحه (صحیح مسلم) لبعد حدیث أسباط بن نصر عن الصحیح بحسب تعبیر أبی زرعة، ففی (تهذیب الکمال) قال المزی: (...حدثنا سعید بن عمرو البرذعی، قال: شهدت أبا زرعة یعنی الرازی ذکر کتاب «الصحیح» الذی ألفه مسلم بن الحجاج، ثم الفضل الصائغ علی مثاله، فقال لی أبو زرعة: هؤلاء قوم أرادوا التقدم قبل أوانه، فعملوا شیئا یتسوقون به، ألفوا کتابا لم یسبقوا إلیه، لیقیموا لأنفسهم ریاسة قبل وقتها. وأتاه ذات یوم وأنا شاهد رجل بکتاب «الصحیح» من روایة مسلم، فجعل ینظر فیه، فإذا حدیث عن أسباط بن نصر، فقال أبو زرعة: ما أبعد هذا من الصحیح یدخل فی کتابه أسباط بن نصر؟!)(3).


1- تهذیب الکمال للمزی ج 2 ص 357 __359.
2- العلل لأحمد بن حنبل ج 2 ص 95 __ 96.
3- تهذیب الکمال للمزی ج 1 ص 419.

ص: 542

أقول: ولا یعتد بتوثیق یحیی بن معین وقوله عن أسباط بن نصر بانه (ثقة)(1)، وکذلک لا یعتد بذکر ابن حبان له فی کتابه (الثقات)(2)، وعدم الاعتداد بتوثیقهما راجع إلی قاعدة مشهورة عندهم تنص علی ان (الجرح المفسر مقدم علی التعدیل المجمل)، ومن طعن وجرح أسباط بن نصر قد فسر هذا الطعن بکونه أحادیثه مقلوبة الأسانید ساقطة، أو انه أهوج وغیر ذلک، أما من وثقه فقد أجمل فیه القول، واکتفی بقوله (ثقة) کما فعل یحیی بن معین، أو ذکر اسمه ومن روی عنه أو روی عنهم فقط کما فعل ابن حبان، ولکنهما لم یبینا سبب توثیقه، فیکون جرح الجارحین له مقدماً علی توثیق الموثقین عملا بقاعدة (الجرح المفسر مقدم علی التعدیل المجمل).

ثانیا: لوجود جابر بن یزید الجعفی

وهو من صغار التابعین، روی عنه ثلاثة من أصحاب الکتب الستة (أبو داود والترمذی وابن ماجة) وغیرهم، وهو عندهم متروک الحدیث، رافضی خبیث، یؤمن بالرجعة ویکذب، وانه لا یکتب حدیثه ولا کرامة، قال العقیلی فی (ضعفاء العقیلی): (جابر بن یزید الجعفی... حدثنا محمد بن عیسی قال حدثنا عباس بن محمد قال حدثنی یحیی بن یعلی المحاربی عن زائدة قال کان جابر الجعفی کذابا یؤمن بالرجعة... عن ثعلبة بن سهیل الطهوی قال: قال لی لیث لا تقربن جابر الجعفی ولا تسمع منه... حدثنا أبو یحیی الحمانی قال سمعت الربیع بن المنذر یقول


1- تهذیب الکمال للمزی ج 2 ص 357 __359.
2- قال ابن حبان فی الثقات ج 6 ص85: (أسباط بن نصر الهمدانی کنیته أبو نصر من أهل الکوفة یروی عن سماک بن حرب والسدی روی عنه عمرو بن محمد العنقزی وعمرو بن حماد بن طلحة القناد).

ص: 543

لسفیان الثوری اتق الله یا سفیان ولا ترو عن جابر شیئا... حدثنا بشر قال حدثنا الحمیدی قال حدثنا سفیان قال الناس یحملون عن جابر قبل أن یظهر ما أظهر فلما أظهر ما أظهر اتهمه الناس فی حدیثه وترکه بعض الناس فقیل له وما أظهر قال الإیمان بالرجعة... حدثنا یحیی قال سمعت زائدة یقول جابر الجعفی لا یکتب حدیثه ولا کرامة حدثنا محمد بن عثمان بن أبی شیبة قال سمعت یحیی بن معین یسأل عن جابر الجعفی فقال کان یضعف فقیل لیحیی إن شعبة یحدث عنه فقال یحیی کان جابر ضعیفا ضعیفا...حدثنا أبو یحیی الحمانی عن أبی حنیفة قال ما رأیت أحدا أکذب من جابر الجعفی)(1).

وقال الرازی فی (الجرح والتعدیل): (جابر بن یزید الجعفی الکوفی أبو محمد... حدثنا عبد الرحمن قال سمعت أبی یقول: جابر الجعفی یکتب حدیثه علی الاعتبار ولا یحتج به. حدثنا عبد الرحمن قال سمعت أبا زرعة یقول: جابر الجعفی لین)(2).

وقال ابن حجر فی (تقریب التهذیب): (جابر بن یزید بن الحارث الجعفی أبو عبد الله الکوفی ضعیف رافضی من الخامسة مات سنة سبع وعشرین ومائة وقیل سنة اثنتین وثلاثین)(3).

أقول: وان کانت جمیع الأمور التی من اجلها قد تم تضعیف جابر بن یزید الجعفی غیر منطقیة وغیر مبررة، کمثل رمیهم له بالرفض، أو اعتقاده بالرجعة، وأمثال هذه الأمور، إلا أن تضعیفهم له کاف لرد الروایة من باب الإلزام، عملا بما


1- ضعفاء العقیلی للعقیلی ج 1 ص 191 __ 196.
2- الجرح والتعدیل للرازی  ج 2 ص498.
3- تقریب التهذیب لابن حجر ج 1 ص 154.

ص: 544

اشتهر عن المعصومین صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین: (ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم)(1).

فیثبت بما مر أن الروایة التی رواها الطبرانی فی معجمه الکبیر ضعیفة ساقطة عن الاعتبار، وبها یثبت عدم صحة زیادة (إلا ابنی الخالة....) ویبقی حدیث (الحسن والحسین سیدا شباب أهل الجنة) علی إطلاقه شاملا لکل أهل الجنة وبلا استثناء عدا النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم وأبوهما الإمام أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه وامهما الزهراء سیدة نساء العالمین صلوات الله وسلامه علیها.

2: محاولتهم اختلاق حدیث (أبو بکر وعمر سیدا کهول أهل الجنة) وتصحیحه
اشارة

تعددت ضربات مطارق رواة أهل السنة لفضائل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فما تکاد فضائل هؤلاء الأطهار تفوق من ضربة من ضرباتهم ومطرقة من مطارقهم حتی یوجهوا لها ضربة أخری بهدف قتلها أو إضعافها علی اقل التقادیر، فحدیث (الحسن والحسین سیدا شباب أهل الجنة) ما کاد یفوق من ضربة إدخال ابنی الخالة عیسی ویحیی فی ضمن الحدیث وإقحامها، حتی ألحقوه بضربة أخری هی قلب ألفاظ هذا الحدیث ونسبته إلی أشخاص آخرین، لیقطعوا الطریق أمام من یحاول الاستفادة من حدیث لإثبات أفضلیتهم علی الصحابة عامة وعلی أبی بکر وعمر وعثمان خاصة.

فلعل سائلاً من المسلمین وبعد قراءته حدیث (الحسن والحسین سیدا شباب أهل الجنة وأبوهما خیر منهما) یقول: إذا کان هؤلاء الأطهار صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین أفضل من جمیع الصحابة، فلماذا تقدم أبو بکر وعمر وعثمان ومعاویة وغیرهم علیهما وعلی أبیهما؟.


1- تهذیب الأحکام للشیخ الطوسی ج9 ص322.

ص: 545

 وإذا کانا وأبوهما أفضل المسلمین بعد رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم فلماذا تجاهلهم التاریخ؟ ولماذا أخذ المسلمون السنة ورواتهم عن غیر أهل البیت أضعاف ما أخذوه عنهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین؟.

بل لماذا لم یأخذوا عن أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین شیئا یذکر فیما لو قسناه بما تم أخذه عن أبی هریرة أو أنس بن مالک وعبد الله بن عمر وغیرهم من الصحابة العادیین من ذوی الرتب المتواضعة بالقیاس إلی أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین؟.

فمقدار ما أخذ عن الإمام أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه من الاحادیث والسنن والروایات هو خمسمائة وسبعة وثلاثون حدیثا فقط(1)، بینما لم یأخذوا عن السیدة الزهراء صلوات الله وسلامه علیها سوی ثمانیة عشر حدیثا فقط(2)، أما الإمام الحسن صلوات الله وسلامه علیه فلم یأخذوا منه إلا ثلاثة عشر حدیثا فقط(3)، وکان الإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه هو الأقل من حیث عدد الأحادیث التی رویت عنه فی کتبهم، فلم یرووا عنه إلا ثمانیة أحادیث(4) فقط.

فهل یعقل ان الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه باب مدینة علم رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم وأعلم الصحابة من بعده صلی الله علیه وآله وسلم لم یکن یحفظ سوی خمسمائة حدیث فقط؟.


1- أسماء الصحابة وما لکل واحد منهم من العدد لابن حزم الظاهری، تحقیق وتعلیق مسعد عبد الحمید السعدنی، ص33 أصحاب المئتین.
2- المصدر السابق ص42 أصحاب الثمانیة عشر.
3- أسماء الصحابة وما لکل واحد منهم من العدد لابن حزم الظاهری، تحقیق وتعلیق مسعد عبد الحمید السعدنی، ص45 أصحاب الثلاثة عشر.
4- المصدر السابق ص50 أصحاب الثمانیة.

ص: 546

 أم هل یعقل ان سیدة نساء العالمین وأم أبیها ومن یغضب الله لغضبها ویرضی لرضاها لم تکن تحفظ سوی ثمانیة عشر حدیثا عن أبیها التی عاشت معه جمیع سنی عمرها؟.

 أم هل یعقل ان الإمامین الحسن والحسین صلوات الله وسلامه علیهما سیدی شباب أهل الجنة ومن تربیا فی حجره وعاشا فی کنفه سنین طویلة لم یتعلّما من جدهما إلا ثلاثة عشر حدیثا بالنسبة للإمام الحسن وثمانیة أحادیث بالنسبة للإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیهما؟.

 أم ان هنالک أمراً خفیاً، وتجاهلاً متعمداً لهؤلاء الأطهار صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین لإبعادهم وابعاد اخبارهم والحجر علیهم وعلیها قدر المستطاع؟! ووحده المغفل الذی یعتقد أنّ مثل هذا الإعراض عنهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وعن روایاتهم قد جاء بحسن نیة وعدم قصد، وان السلطة لم یکن لها ید فی التعمیة والتضلیل علی أخبارهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وإرعاب من یرغب أو ینوی الروایة عنهم وتخویفه.

ولا اقصد بالسلطة هنا السلطة الأمویة والعباسیة والسلطات التی أتت من بعدهما إلی الیوم، بل اقصد بالسلطة سلطة الثلاثة أبی بکر وعمر وعثمان، لان الطامة قد بدأت من هناک، وان خطة التجاهل والإغماض والإقصاء فی تلک الأیام قد أسست، ومن ثم استمرت وأصبحت عبر السنین أمرا مسلما ومستساغا لا یرتاب فیه.

 والأعجب من ذلک کله هو قلة حیاء وإنصاف من محدثی أهل السنة عند اعتذارهم عن سبب قلة مرویات أئمة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فی کتبهم ومدوناتهم وتصانیفهم، فحینما سئل مالک بن أنس صاحب کتاب (الموطأ) الذی یعد من أقدم مصادر التدوین الروائی فی هذا العصر، عن سبب قلة مرویات

ص: 547

الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه وقلة مرویات ابن عباس فی کتابه الموطأ فانه یجیب کما نقله الزرقانی فی (شرح الزرقانی علی الموطأ) بقوله: (لم یکونا ببلدی ولم ألق رجالهما)(1)، ویجدر الإشارة إلی أن المرویات التی نقلها مالک بن أنس فی الموطأ عن الإمام أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب لم تتجاوز الثلاث عشرة روایة أو قریباً من ذلک، کذلک یجدر الإشارة إلی أن مالکاً من أهل المدینة لم یرحل إلی غیرها لطلب الحدیث فکتب أکثر روایات الموطأ عن رواة أهل المدینة ومحدثیهم فقط.

ولا یخفی علی المتتبع المنصف ضعف ما قاله مالک بن أنس وما اعتذر به وعدم إنصافه، فقوله إنّ علیا لم یکن ببلدی محض کذب، لان الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه أقام فی المدینة المنورة قرابة ست وثلاثین سنة، ولم یرحل عنها إلا أربع سنوات تقریبا هی مدة بقائه فی الکوفة، فهل یعقل أن یضیع مالک بن انس مدة أربع وثلاثین سنة من مدة بقاء الإمام صلوات الله وسلامه علیه مع ما فیها من کثیر حدیث وفقه وتفسیر لأجل أربع سنوات ابتعد فیها الإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه عن أرضه وموطنه، إن هذا لشیء عجیب!.

 ثم إذا ابتعد الإمام عن موطنه، فان أصحابه والراوین عنه کانوا ما یزالون فی المدینة أو رجعوا إلیها بعد استشهاد أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه، وأکثرهم من أهل المدینة، فلماذا لم یأخذ عنهم مالک أحادیثه؟!

ثم إذا کان عذر مالک مع أحادیث أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه لهذا السبب فبماذا یعتذر عن أحادیث الإمام الحسن والحسین صلوات الله وسلامه علیهما، وندرة وجودها فی (الموطأ) إن قلنا بوجودها أصلا؟.


1- شرح الزرقانی علی الموطأ، ج1 ص13 طبعة دار الکتب العلمیة.

ص: 548

ومع ملاحظة ان الإمام الحسن قد رجع إلی المدینة وحدث بها وبقی بها إلی أن استشهد صلوات الله وسلامه علیه، والإمام الحسین صلوات الله وسلامه علیه لم یخرج من المدینة إلا فی رحلته الأخیرة إلی کربلاء، فلماذا قلت روایته عنهم بل انعدمت؟ الم یکونوا من أهل المدینة وقد رووا ما لا یحصی من الروایات والأحکام؟.

 ولماذا ندرت روایاته عن الإمام علی بن الحسین وابنه محمد وابنه جعفر صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، الم یکونوا من أهل المدینة ولم یخرجوا منها؟.

 کل هذه التساؤلات وغیرها تجعل من الباحث یتیقن بان عدم اخذ مالک وعدم اهتمام الباقین ممن صنّف الحدیث ودوّنه راجع إلی أسباب التعصب المذهبی والفکری، وان جمیع ما یعتذرون به داخل فی المثل المشهور (عذر أقبح من فعل).

ثم إذا کان هذا عذر مالک بن انس فما هو عذر البخاری ومسلم واحمد وغیرهم من أصحاب الصحاح والمسانید والسنن الذین طافوا بلاد المسلمین وجمعوا آلاف الأحادیث إن لم نقل ملایین الأحادیث، فلماذا اغفلوا وتجاهلوا مرویات أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین؟، ومن أفضل من أهل البیت حتی ینقل منه؟، فهل معاویة بن أبی سفیان أفضل من سیدی شباب أهل الجنة؟، أم هل ان عمرو بن العاص أفضل منهما؟!، کلا وألف کلا.

فلماذا إذن نقلوا عن معاویة مئة وستة وثلاثین حدیثا(1)، ونقلوا عن عمرو بن العاص تسعة وثلاثین حدیثا(2)، بینما نقلوا عن الحسنین صلوات الله وسلامه علیهما ذلک العدد القلیل الذی ذکرناه، والحسنان صلوات الله وسلامه علیهما ان لم نقل بعصمتهما وإمامتهما فهما


1- أسماء الصحابة وما لکل واحد منهم من العدد لابن حزم الظاهری، تحقیق وتعلیق مسعد عبد الحمید السعدنی، ص35 أصحاب المائة.
2- المصدر السابق ص39 أصحاب العشرات.

ص: 549

علی اقل التقادیر من الصحابة الذین عاشوا مع النبی الأعظم سنین طویلة وقضوا معه أکثر ساعات عمریهما، ومعاویة بن أبی سفیان وعمرو بن العاص لم یدخلا إلی الإسلام إلا فی سنین متأخرة ولم یرافقا النبیصلی الله علیه وآله وسلم أو عاشا معه بالمقدار الذی عاشه الحسنان صلوات الله وسلامه علیهما، فلماذا قلت روایات هؤلاء وزادت روایات أولئک، هذا سؤال سیبقی یحتاج إلی إجابة صریحة وغیر متعصبة من إخواننا أهل السنة.

ولا ینفع جوابهم بان النبی صلی الله علیه وآله وسلم مات والحسن والحسین صلوات الله وسلامه علیهما ما زالا صغیرین فلم یحفظا عن جدیها الشیء الکثیر، لان مثل هذا الجواب مکشوف کذبه مفضوح أمره، لان فی الصحابة من کان اصغر من الإمامین صلوات الله وسلامه علیهما أو بعمرهما أو اکبر منهما بقلیل، ولم یرَ النبی بالمقدار الذی رآه الإمامان الحسن والحسین صلوات الله وسلامه علیهما، إلا أن القوم رووا عنهم أکثر مما رووا عن الإمامین الحسن والحسین صلوات الله وسلامه علیهما، والأمثلة علی هذه الحقیقة کثیرة، وبهذا یتضح ان إعراضهم عن الإمامین وعن أبویهما من قبل لیس لغرض صغر السن وقصر العمر وأمثال ذلک، بل السبب یعود کما ذکرنا من قبل إلی سیاسة وخطة منظمة ومعدة لإبعاد أهل هذا البیت وإقصائهم وإقصاء کل ما یتعلق بهم وکل ما یذکر بهم وروایاتهم کانت إحدی هذه الأمور المقصاة.

إذن فمن اجل أن تفتح کل هذه الملفات الحرجة والمحرجة، وکی لا تتشعب الأسئلة ویقع القوم فی الإحراج من الواعین من أبناء الأمة الإسلامیة، عمد القوم إلی مخطط آخر نجح إلی حد بعید فی صد الناس وتضلیلهم عن أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، هذا المخطط هو الذی أسمیناه واسماه البعض بمخطط قلب الأحادیث النبویة الواردة بحق أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، والأمثلة علی هذا المخطط کثیرة، فیکفی أن تتأمل فی قلب تسمیة النبی صلی الله علیه وآله وسلم لأمیر المؤمنین

ص: 550

علی بن أبی طالب بالفاروق، أو فاروق هذه الأمة، والذی سرق منه وأعطی لغیره، وبمعنی آخر قلبوه لصالح غیره، وتأمل فی أمر النبی للمسلمین بسد الأبواب التی کانت شارعة فی المسجد إلا باب علی، وکیف قلبوه إلی حدیث سد الأبواب إلا خوخة أو باب أبی بکر، ولاحظ کیف قلبوا حدیث النبی صلی الله علیه وآله وسلم وقوله لأمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه: (أنت منی بمنزلة هارون من موسی)، إلی: (...أبو بکر وعمر منی بمنزلة هارون من موسی)، وغیر ذلک الکثیر الکثیر، ولو قررنا استعراض هذه الأحادیث المقلوبة لما توقف بنا الحال عند حد معین.

وحدیث (الحسن والحسین سیدا شباب أهل الجنة) قد تعرض ولشدید الأسف إلی هذه العملیة القذرة من القلب المتعمد لألفاظ الحدیث، فصار بعد التلاعب (أبو بکر وعمر سیدا کهول أهل الجنة)، وهو لا یحتاج إلی بیان ولا إلی نقض فرائحة وضعه قد أزکمت الأنوف، ویکفی أن تقیسه بما سبق من الأحادیث الموضوعة لتعرف حقیقته، وسبب إیجاده، وعلة اختلاقه.

ولکننا ومع ذلک ولکی تتم الحجة علی من لا یعلم سنقدم بعض الإیرادات علی هذا الحدیث المختلق، والتی منها:

أولا: الجنة لیس فیها شیوخ بإجماع المسلمین وأهل الجنة شباب جرد مرد کما ورد فی الحدیث

من أقوی ما اعترض به علی هذا الحدیث هو مخالفته للمتعارف عند المسلمین، لان المسلمین قدیما وحدیثا استقرت عقیدتهم علی أن أهل الجنة شباب لا یهرمون ولا یکبرون ولا یموتون ولا عنها یرحلون، وان عمر الإنسان مقسم إلی ثلاث مراحل، کما هو واضح من قوله تعالی: ((اللَّهُ الَّذِی خَلَقَکُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَیْبَةً یَخْلُقُ مَا یَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِیمُ

ص: 551

الْقَدِیرُ))(1)، فعدّ القرآن الکریم مرحلة ما قبل الشباب ضعفا وکذلک مرحلة ما بعد الشباب، فالشباب إذن هی المرحلة الأفضل من مراحل العمر البشری، وبهذه المرحلة بالذات سیدخل أهل الجنة جنتهم، إذ من غیر المعقول أن یدخل الله سبحانه أهل الجنة وهم فی مرحلة الطفولة الضعیفة، ولا فی مرحلة الکهولة والشیخوخة التی عدّها القرآن الکریم من مراحل الضعف، لان الضعف لا یتناسب وعالم الجنة، لان الضعف نقص والجنة فیها الکمال بأبهی صوره.

فمن هنا یعلم ان أهل الجنة شباب لا أطفال ولا کهول، وان هذا الشباب دائم لا یفنی ولا یتبدل أو یبلی، وقد عضدت الروایات والأحادیث هذه العقیدة، فصرحت بان أهل الجنة مخلدون بلا موت ولا بؤس، لا یبلی شبابهم ولا تخرق ثیابهم، ففی مسند احمد بن حنبل: (حَدَّثَنَا وَکِیعٌ قَالَ حَدَّثَنَا سَعْدَانُ الْجُهَنِیُّ عَنْ أَبِی مُجَاهِدٍ الطَّائِیِّ عَنْ أَبِی مُدِلَّةَ عَنْ أَبِی هُرَیْرَةَ قَالَ: قُلْنَا یَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنَا عَنْ الْجَنَّةِ مَا بِنَاؤُهَا قَالَ لَبِنَةٌ مِنْ ذَهَبٍ وَلَبِنَةٌ مِنْ فِضَّةٍ مِلَاطُهَا الْمِسْکُ الأَذْفَرُ حَصْبَاؤُهَا الْیَاقُوتُ وَاللُّؤْلُؤُ وَتُرْبَتُهَا الْوَرْسُ وَالزَّعْفَرَانُ مَنْ یَدْخُلُهَا یَخْلُدُ لا یَمُوتُ وَیَنْعَمُ لا یَبْأَسُ لا یَبْلَی شَبَابُهُمْ وَلا تُخَرَّقُ ثِیَابُهُمْ)(2).

أقول: الشاهد هو فی قوله (لا یبلی شبابهم) فهو نص صریح علی ان أهل الجنة شباب لا ینتقلون عنه إلی مرحلة الکهولة والشیخوخة.

وسند الحدیث صحیح او حسن علی اقل التقادیر، فوکیع هو: (وکیع بن الجراح بن ملیح الرؤاسی، أبو سفیان الکوفی، من قیس عیلان من صغار أتباع التابعین روی عنه جمیع أصحاب الکتب الستة وهو ثقة حافظ عابد).


1- سورة الروم الآیة 54.
2- مسند أحمد بن حنبل ج2 ص445.

ص: 552

وسعدان الجهنی هو: (سعدان بن بشر، ویقال: ابن بشیر، الجهنی القبی الکوفی، وهو من الطبقة الوسطی من أتباع التابعین، روی له البخاری والترمذی وابن ماجة، وهو صدوق صالح الحدیث).

وأبو مجاهد الطائی هو: (سعد أبو مجاهد الطائی الکوفی، وهو من طبقة الذین عاصروا صغار التابعین، روی له البخاری وأبو داود والترمذی وابن ماجة وآخرون، ذکره ابن حبان فی الثقات وقال عنه احمد بن حنبل: لا بأس به، وقال وکیع: ثقة).

وأبو مدلة هو: (أبو مدلة، المدنی، مولی عائشة، یقال اسمه عبید الله بن عبد الله، وهو من الطبقة الوسطی من التابعین، روی له الترمذی وابن ماجة وآخرون، وقد وثق، ذکره ابن حبان فی کتابه الثقات، وابن المدینة کان یرمیه بالجهالة ویقول: أبو مدلة مولی عائشة لا یعرف اسمه مجهول، ولم یرو عنه غیر أبی مجاهد.

أقول: وهذا لا یضر وثاقته فجهالة الاسم مع معرفة الشخص لا تضر الوثاقة ولا تعد جهالة تامة تسقط الوثاقة، وإذا لم یعرف ابن المدینی اسمه وجهله فقد عرفه غیره وسماه فترتفع عنه جهالة الاسم وتثبت وثاقته.

وأما أبو هریرة فمعروف فهو عندهم من الصحابة ودرجة الصحابی هی أعلی درجات التوثیق عندهم، فالحدیث صحیح وان تنزلنا فهو حسن.

وروی المتقی الهندی فی (کنز العمال) حدیثا عن الخطیب فی کتابه (المتفق والمفارق) وصححه بقوله: (یقال لأهل الجنة: إن لکم أن تصحوا ولا تسقموا أبدا، وإن لکم أن تعیشوا فلا تموتوا أبدا، وإن لکم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا، وإن لکم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا __ أخرجه __ الخطیب فی المتفق والمفترق عن أبی سعید

ص: 553

وأبی هریرة معا ورجاله ثقات)(1).

وقد عضدت هذه الأحادیث والروایات شروح علماء أهل السنة وکلماتهم أیضا، فعن المناوی فی (فیض القدیر فی شرح الجامع الصغیر) وعند شرحه للحدیث الأول الذی تقدم قال: («لا تبلی ثیابهم ولا یفنی شبابهم» إشارة إلی بقاء الجنة وجمیع ما فیها ومن فیها وأن صفات أهلها من الشباب ونحوه لا یتغیر وملابسهم لا تبلی وقد نطق بذلک التنزیل فی عدة آیات لهم فیها نعیم مقیم أکلها دائم وظلها وفی طی ذلک تعریض بذم الدنیا فإن من فیها وإن نعم یبأس ومن أقام فیها لم یخلد بل یموت ویفنی شبابه ویبلی جسده وثیابه)(2).

وقال أیضا فی محل آخر عند شرحه لحدیث (من سره أن ینظر إلی سید شباب أهل الجنة فلینظر إلی الحسن): (وأهل الجنة کلهم شباب کما دل علیه خبر أهل الجنة جرد مرد لا یفنی شبابهم)(3).

فآیات القرآن الکریم وأحادیث النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، وکلمات أعلام أهل السنة، والمجمع علیه عند المسلمین إلا من شذ منهم، کلها متفقة علی أن جمیع أهل الجنة هم من الشباب، ولا مکان للکهول بینهم، فان کان أبو بکر وعمر سیدخلان الجنة شابین فالإمام الحسن والحسین سیداهما، وعلی کذلک سیدهما، ورسول الله صلی الله علیه وآله وسلم سید الجمیع، وان کانا سیدخلانها کهلین، فهذا یعنی انهما سیدخلان فی مکان غیر الجنة التی سیدخلها النبی صلی الله علیه وآله وسلم والإمام علی والحسنان صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وسائر أهل الإیمان.


1- کنز العمال للمتقی الهندی ج 14 ص 492.
2- فیض القدیر شرح الجامع الصغیر للمناوی ج 3 ص 480.
3- فیض القدیر شرح الجامع الصغیر للمناوی: ج6، ص196.

ص: 554

ثانیا: طعن أصحاب الحدیث وأهل الجرح والتعدیل بطرق هذا الحدیث
اشارة

لا یمکن لنا فی هذه العجالة استعراض جمیع طرق حدیث (أبو بکر وعمر سیدا کهول أهل الجنة) لأنهم رووه بطرق متعددة کثیرة وإیرادها علی کثرتها هنا یستلزم جهدا کبیرا، ویخرج بنا عن حالة الاختصار التی انتهجناها فی عرض الأحادیث ومناقشتها، ولکن ما لا یدرک کله لا یترک کله کما یقول المثل المعروف، لذا قررنا استعراض بعض طرق الحدیث وتبیان ما قاله أعلام السنة حولها، وفیما یأتی جملة من هذه الأقوال:

1: تضعیف الهیثمی لعدة طرق من طرق الحدیث

قال الهیثمی: فی (مجمع الزوائد): (وعن أبی سعید الخدری قال: قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم لأبی بکر وعمر «هذان سیدا کهول أهل الجنة من الأولین والآخرین». رواه البزار والطبرانی فی الأوسط وفیه علی بن عابس وهو ضعیف.

وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم «أبو بکر وعمر سیدا کهول أهل الجنة من الأولین والآخرین لا تخبرهما یا علی» رواه الطبرانی فی الأوسط عن شیخه المقدام بن داود وقد قال ابن دقیق المعید إنه وثق وضعفه النسائی وغیره، وبقیة رجاله رجال الصحیح.

 وعن ابن عمر عن النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم قال بمثل حدیث متنه ان النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم قال: «أبو بکر وعمر سیدا کهول الجنة من الأولین والآخرین إلا النبیین والمرسلین لا تخبرهما یا علی» رواه البزار وقال لا نعلم رواه عن عبید الله بن عمر إلا عبد الرحمن بن ملک بن مغول، قلت وهو متروک)(1).


1- مجمع الزوائد للهیثمی ج 9 ص 53.

ص: 555

2: تضعیف أبی داود لبعض طرق الحدیث لوجود عبد الرحمن بن مالک الکذاب فی سنده

جاء فی (سؤالات الآجری لأبی داود): (سألت أبا داود عن عبد الرحمن بن مالک بن مغول، فقال: آیة من الآیات، کذاب. وسئل أبو داود عنه مرة أخری، فقال: کان یضع الحدیث. روی عن عبید الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: أن النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم قال: أبو بکر وعمر سیدا کهول أهل الجنة)(1).

3: رمی الطبرانی لأکثر أسانید الحدیث بالتفرد
ألف: الروایة الأولی

قال الطبرانی فی (المعجم الأوسط): (حدثنا أحمد قال حدثنا أحمد بن عثمان بن حکیم قال حدثنا عبید بن الصباح قال حدثنا فضیل بن الاستثناء عن فراس عن الشعبی عن الحارث عن علی قال کنت عند النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فأقبل أبو بکر وعمر فقال هذان سیدا کهول أهل الجنة من الأولین والآخرین خلا النبی والمرسلین لا تخبرهما یا علی. لم یرو هذا الحدیث عن فضیل إلا عبید تفرد به أحمد بن عثمان)(2).

أقول: والحدیث إضافة إلی علة التفرد ضعیف، لوجود أکثر من راوٍ مطعون فی وثاقته، کالحارث الذی نقل الروایة عن الإمام علی صلوات الله وسلامه علیه، وهو: (الحارث بن عبد الله الأعور الهمدانی الحوتی الخارفی) وکان الشعبی یقول: (حدثنا الحارث الأعور وکان کذابا)(3) ویوجد فیها رجال آخرون ترکنا الخوض فی


1- سؤالات الآجری لأبی داود لسلیمان بن الأشعث ج 1 ص 152.
2- المعجم الأوسط للطبرانی  ج 2 ص 91.
3- علل الترمذی ص410.

ص: 556

تفاصیلهم کمثل فراس وعبید فکلاهما له أوهام ولعل هذا من أوهامهما.

والحارث وان کان عند الشیعة ثقة ومن أصحاب أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب الأجلاء، إلا أن تضعیفهم له کاف لإسقاط روایتهم هذه المکذوبة والمنسوبة إلی علی کذبا وافتراء من باب (ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم).

باء: الروایة الثانیة

وقال الطبرانی أیضا فی (المعجم الأوسط): (حدثنا علی بن العباس الأسماء الکوفی قال نا زکریا بن یحیی الأکفانی قال نا خنیس بن بکر بن خنیس قال نا مالک بن مغول عن عون بن أبی جحیفة عن أبیه قال: قال رسول الله «ص» أبو بکر وعمر سیدا کهول أهل الجنة من الأولین والآخرین ما خلا النبیین والمرسلین. لم یرو هذا الحدیث عن مالک إلا خنیس، تفرد به: زکریا بن یحیی، ولا یروی عن ابن أبی جحیفة إلا بهذا الإسناد)(1).

أقول: وهو مع علة التفرد ضعیف أیضا، ففیه خنیس بن بکر بن خنیس، وهو شیخ ضعیف، قال الخطیب البغدادی: (أخبرنا أحمد بن محمد الکاتب أخبرنا أبو مسلم بن مهران قال قرأت علی محمد بن أبی طالب بن علی قال: قال أبو علی صالح بن محمد: خنیس بن بکر بن خنیس شیخ ضعیف)(2).

وفیه أیضا مالک بن مغول، وأصحاب الحدیث من السنة وان وثقوه إلا أننا نتهمه فی هذا الحدیث لان مالک بن مغول هذا کان یبغض علیا ویزری علیه وعلی عمار بن یاسر، قال عبد الله بن عدی فی (الکامل): (ثنا محمد بن اللیث ثنا إسماعیل السدی ثنا علی بن قادم عن عبد السلام بن حرب قال قلت لشریک هل


1- المعجم الأوسط للطبرانی  ج 4 ص 272.
2- تاریخ بغداد للخطیب البغدادی ج 8 ص 338.

ص: 557

لک فی أخ تعوده قال من قلت مالک بن مغول قال لیس لی بأخ من أزری علی علی وعمار بن یاسر)(1) ومثل هذا الشخص یکون متهما فیما لو روی حدیثا ینقص من قدر علی وآله صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وهذا الحدیث داخل فی ضمن هذا العنوان.

مضافا إلی ان مالک بن مغول هذا کان ممن یشرب النبیذ وممن یجتمع عنده الناس لشرب النبیذ، قال ابن عدی فی (الکامل) نقلا عن شریک ورؤیته لسفیان الثوری وهو یشرب النبیذ فی بیت مالک بن مغول، قال شریک: (أنا رأیته یشرب فی بیت خیر أهل الکوفة فی زمانه مالک بن مغول)(2).

جیم: الروایة الثالثة

وقال الطبرانی: (حدثنا محمد بن أحمد بن عنبسة البزار المصیصی ثنا محمد ابن کثیر المصیصی ثنا الأوزاعی عن قتادة عن أنس قال نظر النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم إلی أبی بکر وعمر فقال هذان سیدا کهول أهل الجنة * لم یرو هذا الحدیث عن الأوزاعی إلا محمد بن کثیر، ولم یروه عن قتادة إلا الأوزاعی)(3).

أقول: وفی الحدیث تفردان کما صرح الطبرانی وهو ضعف علی ضعف، إضافة إلی أن محمد بن کثیر المصیصی کان کثیر الغلط ولابد أن هذه من أغلاطه.

دال: الروایة الرابعة

قال الطبرانی: (حدثنا مقدام ثنا عمی سعید بن عیسی نا سفیان بن عیینة عن جعفر بن محمد عن أبیه عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم أبو بکر وعمر سیدا کهول أهل الجنة من الأولین والآخرین ولا


1- الکامل لعبد الله بن عدی ج 4 ص 10.
2- المصدر السابق ص11.
3- المعجم الأوسط للطبرانی  ج 7 ص 68.

ص: 558

تخبرهما یا علی لم یرو هذا الحدیث عن جعفر بن محمد إلا سفیان بن عیینة تفرد به سعید بن عیسی)(1).

أقول: والروایة مع التفرد ضعیفة، لوجود (مقدام) فیها، وهو: (مقدام بن داود بن عیسی بن تلید)، وهو لیس بثقة، وضعیف، ولم یکن محمودا فی الروایة، وممن تکلم فیه، قال الذهبی فی (سیر أعلام النبلاء): (مقدام بن داود بن عیسی بن تلید... قال النسائی فی «الکنی»: لیس بثقة. وقال أبو عمرو محمد بن یوسف الکندی: کان فقیها مفتیا، لم یکن بالمحمود فی الروایة. وقال الدارقطنی: ضعیف. وقال ابن یونس: تکلموا فیه. مات فی رمضان سنة ثلاث وثمانین ومئتین)(2).

وقال ابن حجر («مقدام» بن داود بن عیسی بن تلید الرعینی أبو عمرو المصری...قال النسائی فی الکنی لیس بثقة، وقال ابن یونس وغیره تکلموا فیه، وقال محمد بن یوسف الکندی کان فقیها مفتیا لم یکن بالمحمود فی الروایة)(3).

هاء: الروایة الخامسة

قال الطبرانی فی (المعجم الأوسط): (حدثنا عبد الله بن ناجیة البغدادی قال نا عبید الله بن یوسف الجبیری قال نا علی بن عابس عن بدر بن الخلیل وعبد الملک ابن أبی سلیمان وأبی الجحاف وکثیر النواء کلهم سمعوا عطیة عن أبی سعید الخدری عن النبی صلی الله علیه وآله وسلم أنه قال یا علی هذان سیدا کهول أهل الجنة من الأولین والآخرین یعنی أبا بکر وعمر لا تخبرهما ذلک یا علی)(4).


1- المعجم الأوسط للطبرانی ج 8 ص 340.
2- سیر أعلام النبلاء للذهبی ج 13 ص 345 __ 346.
3- لسان المیزان لابن حجر  ج 6 ص 84.
4- المصدر نفسه.

ص: 559

أقول: والحدیث أیضا ضعیف لان فیه علی بن عابس، وهو (علی بن عابس الأسدی الأزرق الکوفی الملائی) وهو من صغار أتباع التابعین، روی له الترمذی وغیره، وهو ضعیف ولیس بشیء، قال الدوری فی (تاریخ ابن معین): (سمعت یحیی یقول علی بن عابس لیس بشیء)(1).

وقال ابن حبان فی (کتاب المجروحین): (علی بن عابس الأسدی الأزرق: بیاع الملاء، من أهل الکوفة، یروی عن العلاء بن المسیب روی عنه العراقیون، کان ممن فحش خطؤه وکثر وهمه فیما یرویه، فبطل الاحتجاج به)(2).

وقال عبد الله بن عدی فی (الکامل): (وقال النسائی علی بن عابس ضعیف)(3). وقال ابن حجر فی (تقریب التهذیب): (علی بن عابس بموحدة مکسورة بعدها الأسدی الکوفی ضعیف من التاسعة)(4).

واو: الروایة السادسة

قال الطبرانی فی (المعجم الصغیر): (حدثنا محمد بن أحمد بن عنبسة البزار بکفربیا حدثنا محمد بن کثیر الصنعانی حدثنا الأوزاعی عن قتادة عن أنس بن مالک قال: قال: رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم أبو بکر وعمر سیدا کهول أهل الجنة لم یروه عن الأوزاعی إلا محمد بن کثیر)(5).

أقول: وهذه الروایة إضافةً إلی علة التفرد فهی ضعیفة بمحمد بن کثیر، وهو


1- تاریخ ابن معین لیحیی بن معین  بروایة الدوری ج 1 ص 209.
2- کتاب المجروحین لابن حبان ج 2 ص 104 __ 105.
3- الکامل لعبد الله بن عدی ج 5 ص.189
4- تقریب التهذیب لابن حجر ج 1 ص 697.
5- المعجم الصغیر للطبرانی ج 2 ص 77.

ص: 560

(محمد بن کثیر بن أبی عطاء الثقفی، أبو یوسف الصنعانی ثم المصیصی) من صغار أتباع التابعین، روی له ثلاثة من أصحاب الکتب الستة، هم أبو داود والترمذی والنسائی، وآخرون من غیرهم، قال الآجری فی (سؤالات الآجری لأبی داود): (سمعت أبا داود ذکر محمد بن کثیر المصیصی فقال: لم یکن یفهم الحدیث)(1).

وکان احمد بن حنبل یضعفه جدا، ففی کتاب (العلل): (ذکر أبی محمد بن کثیر المصیصی فضعفه جدا وقال سمع من معمر ثم بعث إلی الیمن فأخذها فرواها وضعف حدیثه عن معمر جدا وقال هو منکر الحدیث أو قال یروی أشیاء منکرة)(2).

وروایة محمد بن کثیر للحدیث المزعوم (أبو بکر وعمر سیدا کهول أهل الجنة) قد طعن المزی فیها علی وجه الخصوص، ففی (تهذیب الکمال) قال: (وقال یونس بن حبیب الأصبهانی: ذکرت لعلی بن المدینی محمد بن کثیر المصیصی وأنه حدث عن الأوزاعی، عن قتادة، عن أنس قال: «نظر النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم إلی أبی بکر، وعمر، فقال: هذان سیدا کهول أهل الجنة». فقال علی: کنت أشتهی أن أری هذا الشیخ فالآن لا أحب أن أراه)(3).

وعدم رغبة علی بن المدینی فی رؤیة محمد بن کثیر بعد أن کان یشتهی رؤیته، قد جاء بعد سماعه لهذا الحدیث بهذا السند، ولیس ذاک إلا لنکارته وضعفه وتلاعبه بالإسناد أو کذبه فی المتن مما أدی إلی إسقاط عدالته ووثاقته التی أدت بدورها إلی انقلاب رغبة علی بن المدینی وحبه للقاء محمد بن کثیر إلی کره لقائه وعدم محبة رؤیته.


1- سؤالات الآجری لأبی داود لسلیمان بن الأشعث ج 2 ص 258.
2- العلل لأحمد بن حنبل ج 3 ص 251 __ 252.
3- تهذیب الکمال للمزی ج 26 ص 331، وراجع أیضا الجرح والتعدیل للرازی ج 8 ص 69.

ص: 561

4: طعن الدارقطنی فی عدة طرق من طرق الحدیث
ألف: طعنه فی طریق الحسین عن علی

ورد فی کتاب (علل الدارقطنی): (وسئل عن حدیث الحسین بن علی عن علی عن النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم قال: أبو بکر وعمر سیدا کهول أهل الجنة، فقال یرویه علی بن الحسین بن علی واختلف عنه فرواه الحسین بن زید عن جعفر بن محمد عن أبیه عن جده عن أبیه الحسین عن علی وخالفه محمد بن عبد الرحمن الملیکی فرواه عن جعفر بن محمد عن أبیه عن جده علی بن الحسین عن علی ولم یذکر الحسین وکذلک روی عن الزهری عن علی بن الحسین عن جده علی قاله الموقری عن الزهری وقیل الموقری عن الزهری عن علی بن الحسین عن أبیه عن علی ورواه إبراهیم بن صرمة عن یحیی بن سعید الأنصاری عن سعید بن المسبب عن علی بن الحسین عن أبیه عن علی)(1).

أقول: وهذا هو ما یسمی بالاضطراب فی السند، وهو یؤدی إلی تضعیف الحدیث بلا أدنی شک.

باء: طعنه لطریق الحارث عن علی

وورد فی کتاب (علل الدارقطنی) أیضا: (وسئل __ أی الدارقطنی __ عن حدیث الحارث عن علی عن النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فی أبی بکر وعمر رضی الله تعالی عنهما هذان سیدا کهول أهل الجنة من الأولین والآخرین فقال: یرویه الشعبی واختلف عنه فرواه الحکم بن عتیبة وزکریا بن أبی زایدة وعبد الأعلی بن عامر الثعلبی وفراس بن یحیی ولیث بن أبی سلیم عن الشعبی عن الحارث عن علی فأما حدیث الحکم فرواه عنه محمد بن مرة والحسن بن


1- علل الدارقطنی ج 3 ص 93 __ 94.

ص: 562

عمارة وأما حدیث زکریا بن أبی زایدة فرواه عنه الهذیل بن میمون واختلف عنه فقال محمد بن الصباح الجرجرائی عن الهذیل بن میمون عن زکریا عن الشعبی وقال محمد بن یحیی بن أبی سمینة عن الهذیل عن زکریا عن أبی إسحاق ثم قالا عن الحارث عن علی وأما حدیث عبد الأعلی فرواه عنه محمد ابن طلحة وأما حدیث لیث بن أبی سلیم فرواه عنه منصور بن أبی الأسود وأما حدیث فراس فرواه عنه شریک بن عبد الله وفضیل بن مرزوق وعبد الله بن میسرة أبو لیلی والحسن بن عمارة وقیل إن شریکا وفضیل بن مرزوق إنما أخذاه عن الحسن بن عمارة ولم یسمعاه من فراس ورواه بن عیینة عن فراس ولم یسمعه منه وإنما أخذه عن الحسن بن عمارة عنه ورواه إبراهیم بن طهمان عن الحسن بن عمارة عن فراس عن الشعبی فقال عن حارثة بن مضرب عن علی وقیل عن ابن عیینة فیه أقاویل عدة وقال المسیب بن واضح عنه عن فراس وقال أبو مسلم المستملی عبد الرحمن بن یونس وابن المقرئ عن ابن عیینة عن الحسن ابن عمارة عن فراس وقال بن أبی عمر العدنی عن ابن عیینة حدثنا بعض أصحابنا عن فراس وقال عمر والناقد عن ابن عیینة ذکر ذلک عن الشعبی وقال مشکدانة عن ابن عیینة ثنا غیر واحد عن الشعبی وقال کثیر بن یحیی عن ابن عیینة عن عبید المکتب عن الشعبی وقال یعقوب الدورقی عن ابن عیینة ذکره داود عن الشعبی وقال هارون بن حاتم عن ابن عیینة عن خالد بن سلمة الفافا عن الشعبی وقال البرتی عن إسحاق بن إسماعیل عن ابن عیینة عن لیث عن الشعبی عن الحارث عن علی حدثناه النجاد عنه وقال سعید بن عیسی بن تلید عن ابن عیینة عن جعفر بن محمد عن أبیه عن جابر حدثناه أبو عبد الله الأیلی قال ثنا مقدام بن داود بن عیسی ثنا عمی سعید بن عیسی ثنا ابن عیینة الحدیث

ص: 563

وقال سعید ابن أبی مریم عن بن عیینة عن إسماعیل بن أبی خالد عن الشعبی وکلهم قالوا عن الحارث عن علی، وقال حجاج بن إبراهیم الأزرق عن ابن عیینة عن أبی إسحاق عن الحارث عن علی وکذلک قال علی بن شبرمة عن شریک عن أبی إسحاق عن الحارث عن علی وکذلک قال وضاح بن حسان عن فضیل بن مرزوق عن أبی إسحاق عن الحارث عن علی وکذلک قیل عن هذیل ابن میمون عن زکریا عن أبی إسحاق عن الحارث عن علی فأما حدیث بن أبی مریم عن ابن عیینة عن إسماعیل بن أبی خالد عن الشعبی عن الحارث عن علی فقد خالفه المحاربی رواه عن إسماعیل عن زبید عن الشعبی عن من حدثه عن علی وقال المحاربی أیضا عن أبی جناب الکلبی واسمه یحیی بن أبی حیة عن زبید الأیامی عن الشعبی عن یثیع أو ابن یثیع عن علی وقال محمد بن أبان عن أبی جناب عن الشعبی عن زید بن یثیع عن علی ولم یذکر فیه زبیدا وقال بکر ابن خنیس عن أبی جناب عن الشعبی عن الحارث عن علی وقال مغیرة بن مسلم وإسحاق الأزرق عن أبی جناب عن الشعبی عن علی وقال إسحاق الأزرق أیضا عن أبی جناب عن أبی إسحاق عن یثیع أو ابن یثیع عن علی وقال عثمان بن مطر الشیبانی عن أبی جناب الکلبی عن زر بن حبیش وسوید بن غفلة وعمرو بن شرحبیل وأبی الجعد مولی أشجع والمسیب بن عبد خیر ووهب أبی جحیفة عن علی واختلف عن مالک بن مغول فرواه هشیم عن مالک بن مغول عن الشعبی وعن أبی إسحاق الکوفی عن الشعبی عن الحارث عن علی ورواه أحمد بن یونس عن مالک بن مغول عن الشعبی عن علی ولم یذکر بینهما أحدا ورواه یونس بن أبی إسحاق وطعمة بن غیلان وسیار بن ثوبان عن الشعبی عن علی وروی عن عکرمة بن إبراهیم عن سعید بن مسروق عن

ص: 564

الشعبی عن الحارث بن سوید عن علی وروی عن فطر عن أبی إسحاق عن الشعبی عن علی وخالفه شریک من روایة علی بن شبرمة عنه وفضیل بن مرزوق من روایة وضاح عنه قالا عن أبی إسحاق عن الحارث عن علی وقد تقدم ذکر ذلک وروی هذا الحدیث عن الحسن بن علی بن أبی طالب عن علی وروی عن الحسن بن علی عن علی وروی عن جابر بن عبد الله عن علی)(1).

أقول: وهذه المناقشة الطویلة وأشباهها وان لم تکن واضحة عند کثیر من القراء الکرام بسبب عدم اشتغالهم أو قلة بضاعتهم فی علم الحدیث إلا أنها مهمة جدا عند من له استئناس وإحاطة بهذا العلم لذلک ذکرناها علی طولها، وهی کسابقتها تثبت وقوع الاضطراب فی سند هذا الحدیث فتتسبب فی إسقاطه عن الاعتبار.

جیم: طعنه فی طریق زر بن حبیش عن علی

وورد فی (علل الدار قطنی) أیضا: (وسئل __ أی الدار قطنی __ عن حدیث زر بن حبیش عن علی عن النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم فی أبی بکر وعمر هذان سیدا کهول أهل الجنة فقال حدث به روح بن مسافر ومفضل بن فضالة المصری أبو مالک أخو مبارک بن فضالة بن أبی أمیة عن عاصم عن زر وتابعه حفص بن سلیمان المقری واختلف عنه فرواه علی بن یزید الصدائی وعلی بن عیاض وعمرو ابن عون عن حفص عن عاصم عن زر وروی عن سلیمان الشاذکونی عن حفص عن عاصم عن أبی عبد الرحمن السلمی عن علی والمشهور حدیثه عن زر والله أعلم والمفضل بن فضالة القتبانی کنیته أبو معاویة)(2).


1- علل الدارقطنی ج 3 ص 142 __ 152.
2- المصدر نفسه ص 201 __ 203.

ص: 565

دال: طعنه فی طریق الشعبی عن أبی هریرة

وورد فی (علل الدار قطنی) أیضا: (وسئل عن حدیث عامر الشعبی عن أبی هریرة أقبل أبو بکر وعمر فقال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم " هذان سیدا کهول أهل الجنة " الحدیث. وقال: یرویه یونس بن أبی إسحاق عن الشعبی حدث به عنه أبو قتیبة، واختلف عنه فی متنه، فرواه إبراهیم بن عبد الله بن بشار الواسطی عن أبی قتیبة بهذا الإسناد، وهذه الألفاظ. وخالفه غیر واحد ممن رواه عن أبی قتیبة بهذا الإسناد أن النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم قال: "إن أهل الدرجات العلا". وکذلک رواه إسرائیل بن یونس عن أبیه یونس عن الشعبی عن أبی هریرة... وهو أصح من الأول)(1).

أقول: ویفهم من کلام الدار قطنی شیئان الأول: هو أنّ لطریق الشعبی عن أبی هریرة علّتین، الأولی هو الاضطراب فی السند، والثانیة هو الاضطراب فی المتن، وهذا الأمر یزید فی ضعف الحدیث ویوهنه وهناً علی وهنه.

والشیء الثانی: ان احد طرق هذا الحدیث اصح من الأول، حیث قال: (وکذلک رواه إسرائیل بن یونس عن أبیه یونس عن الشعبی عن أبی هریرة... وهو أصح من الأول) وهذا خطأ فاحش من مثل الدار قطنی، لان هذا الطریق ضعیف للغایة، فیونس هو (یونس بن أبی إسحاق: عمرو بن عبد الله الهمدانی السبیعی، أبو إسرائیل الکوفی) وهو من صغار التابعین، وهو صاحب حدیث مضطرب، وفی حدیثه زیادة علی حدیث الناس، وهو وان وثق بعضهم إلا انه لا یحتج بحدیثه، وقد ذکر هذه العلل جمیعهن الرازی فی (الجرح والتعدیل) فقال: (وحدث عبد الرحمن عن سفیان عنه. نا عبد الرحمن نا صالح بن أحمد بن حنبل حدثنا علی __ یعنی ابن


1- علل الدار قطنی ج 11 ص 113 __ 114.

ص: 566

المدینی __ قال سمعت یحیی بن سعید القطان وذکر یونس بن أبی إسحاق فقال: کانت فیه غفلة وکان منه سجیة یقول حدثنی أبی قال سمعت عدی بن حاتم نا عبد الرحمن نا محمد بن حمویه ابن الحسن قال سمعت أبا طالب قال: قال أحمد بن حنبل: یونس بن أبی إسحاق حدیثه فیه زیادة علی حدیث الناس. قلت یقولون انه سمع فی الکتاب فهو أتم قال: إسرائیل ابنه قد سمع من أبی إسحاق وکتب فلم یکن فیه زیادة مثل ما یزید یونس. نا عبد الرحمن انا عبد الله بن أحمد بن حنبل فیما کتب إلی قال سألت أبی عن یونس بن أبی إسحاق فقال: حدیثه مضطرب. نا عبد الرحمن قال ذکره أبی عن إسحاق بن منصور عن یحیی بن معین أنه قال: یونس بن أبی إسحاق ثقة. نا عبد الرحمن قال سألت أبی عن یونس بن أبی إسحاق فقال: کان صدوقا إلا انه لا یحتج بحدیثه)(1).

ویونس بن أبی إسحاق فوق کل ذلک من المدلسین، وقد عنعن فی هذه الروایة فلا تقبل روایته، وقد صرح ابن حجر العسقلانی فی (طبقات المدلسین) بان یونس السبیعی قد تعمد التدلیس فی هذا الحدیث بالذات، فأخفی اسم الحارث المجمع علی ضعفه، قال ابن حجر: (یونس بن أبی إسحاق عمرو بن عبد الله السبیعی حافظ مشهور کوفی یقال انه روی عن الشعبی حدیثا وهو حدیثه عن الحارث عن علی رضی الله تعالی عنه حدیث: أبو بکر وعمر سیدا کهول أهل الجنة فأسقط الحارث)(2).

فکیف یا تری خفی عن الدارقطنی جمیع هذه الحقائق حتی حکم بأن هذا الطریق أصح من الطریق الآخر الذی ذکره، وإذا کان حال الطریق الأصح هکذا فکیف سیکون حال الطریق الثانی؟!.


1- الجرح والتعدیل للرازی ج 9 ص 244.
2- تعریف أهل التقدیس بمراتب الموصوفین بالتدلیس المعروف بطبقات المدلسین لابن حجر العسقلانی.

ص: 567

فضح الشیخ الألبانی الوهابی ورد تحسینه لحدیث أبو بکر وعمر سیدا کهول أهل الجنة
اشارة

ان واحدة من أهم أهداف هذا الکتاب هو تبیان الازدواجیة فی التعامل والتحیز الواضح والمفضوح لأهل الحدیث من السنة مع فضائل رموزهم الدینیة والمذهبیة من جهة، ومع فضائل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین من جهة ثانیة، فحینما یتعلق الأمر بفضائل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین نری القوم یستمیتون فی سبیل إخماد أسانید هذه الفضائل وتکذیبها وتضعیفها وتحریف متونها، وما لم یستطیعوا تحریفه حرفوا مدالیله ومعانیه ولوازمه، وقد مرت فی الأحادیث السابقة شواهد کالشمس لا یمکن ردها تحکی هذه الحقیقة وتوضح مصادیق هذه المؤامرة.

وبعکس هذا کان یتعامل أهل الحدیث السنة مع فضائل رموزهم المذهبیة، بالأخص مع فضائل أبی بکر وعمر وعثمان ومعاویة وعائشة وغیرهم، فنراهم یحسنون من الأحادیث ما هو مکذوب، ویصححون ما هو باطل، ویقوون ما هو ضعیف، ویجبرون ما هو ساقط عن الاعتبار علی وفق الموازین الشرعیة وقوانین الجرح والتعدیل، فتغیب عنهم روح المسؤولیة الشرعیة وتتغیر عندهم القواعد وتتبدل لدیهم الموازین وکیف یتحول العلم إلی ألعوبة ووسیلة لإرضاء الحس الطائفی والمذهبی البغیض علی حساب الحقیقة والإنصاف العلمی والموضوعی.

ونحن فیما سبق أوضحنا مصادیق کثیرة جدا لهذه الحقیقة المرة البشعة، وسنستعرض هنا مصداقاً آخر من مصادیق هذا المخطط الماکر، والشیخ محمد ناصر الألبانی هو الذی سیظهر لنا هذه الحقیقة جلیة واضحة من خلال الطریقة التی سینتقد فیها حدیث (أبو بکر وعمر سیدا کهول أهل الجنة) فهل یا تری سیطبق قواعد الجرح والتعدیل علی أصولها الصحیحة، أم هل انه سیطبقها تطبیقا کیفیا

ص: 568

مزاجیا بهدف الخروج من خلال هذا التطبیق الکیفی بنتیجة هو مقتنع بها مسبقا، لذلک یحاول جاهدا لَیَّ أعناق النصوص والقواعد لیسوقها إلی حیث ما یحب لا إلی حیث ما هی تحب وترید، وهو ما سنراه واضحا وجلیا من خلال محاولاته المستمیتة لتحسین بعض الطرق الساقطة والواهیة والمکذوبة لحدیث (أبو بکر وعمر سیدا کهول أهل الجنة من الأولین والآخرین).

1: تضعیفه لطریق الحارث عن علی

قال الألبانی متحدثا عن هذه الروایة المکذوبة فی (السلسلة الصحیحة): (روی عن جمع من الصحابة منهم علی بن أبی طالب وأنس بن مالک وأبو جحیفة وجابر بن عبد الله وأبو سعید الخدری.

1: أما حدیث علی، فله عنه طرق: الأولی: عن الحارث عنه به وزاد: «لا تخبرهما یا علی». أخرجه الترمذی «4/310» وابن ماجه «1/ 49» وابن عدی «214/ 2» والخطیب وابن شاهین فی «السنة» «رقم 67 نسختی» والخطیب فی «تاریخ بغداد» «10/192» وابن عساکر فی «تاریخ دمشق» «9/307/2». قلت: سکت عنه الترمذی، والحارث ضعیف، وأسقطه بعض الرواة من السند عند ابن عساکر فی بعض روایاته. وجعل بعضهم مکانه زید بن یثیع وهو ثقة. لکن الراوی عن الشعبی ضعیف)(1).

أقول: قد أنصف الألبانی نفسه وأنصفنا فی هذا الحکم، ولا یمکن تجاهل هذا الأمر منّا، فالحق أحق أن یتبع ویقال ویعمل به، وإسقاطه وتضعیفه لهذا الطریق صحیح لا ریب فیه.


1- السلسلة الصحیحة لمحمد ناصر الألبانی ج2 ص323.

ص: 569

2: تحسینه لطریق زر بن حبیش عن علی

وقال الألبانی فی المصدر نفسه: (الثانیة: عن زر بن حبیش عنه. أخرجه الدولابی فی «الکنی» «2/99» وابن عدی «100/2» وعبد الغنی المقدسی فی «الإکمال» «1/14/2» وابن عساکر «9/310/1» من طرق عن عاصم بن بهدلة عنه. وقال المقدسی: «هذا حدیث مشهور، له طرق جمة، روی عن جماعة من أصحاب النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم». قلت: وهذا إسناد حسن، معروف الحسن، فإن زرا هذا ثقة من رجال الشیخین، وعاصم، أخرجا له مقرونا، قال الحافظ: «صدوق له أوهام، حجة فی القراءة»)((1).

أقول: وهنا لم ینصف الألبانی نفسه، ولم یعمل بقواعد الجرح والتعدیل، وخالف المنهج العلمی وأخلد إلی الأرض واتبع هواه، ولم یحسن فی تحسین هذا الطریق المکذوب، وذلک للأسباب التالیة:

ألف: ان محاولته التمهید قبل الحکم علی هذا الطریق بأنه حسن بقول المقدسی: (هذا حدیث مشهور، له طرق جمة، روی عن جماعة من أصحاب النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم) هی محاولة فاشلة منه ومن المقدسی، لأنه وبحسب قواعدهم فی الجرح والتعدیل، لا اعتبار لکثرة الطرق وقلتها فی تصحیح الأسانید أو تحسینها وعدمه، فرب حدیث لم یصل إلا عبر طریق واحد لکنه صحیح، ورب حدیث وصل إلینا بعشرات الطرق لکنه یبقی ضعیفاً ولا یحتج به، فرب ضعیف لا تزیده کثرة الطرق إلا ضعفا، وهذا الأمر وهو عدم تقویة الحدیث الضعیف بکثرة طرقه مما اشتهر عندهم ولم یخف علی مطلع.

وفی هذا الصدد یقول ابن الصلاح فی (مقدمة ابن الصلاح): (لیس کل


1- ()  السلسلة الصحیحة لمحمد ناصر الألبانی ج2 ص323.

ص: 570

ضعف فی الحدیث یزول بمجیئه من وجوه... ومن ذلک ضعف لا یزول بنحو ذلک لقوة الضعف وتقاعد هذا الجابر عن جبره وذلک کالضعف الذی ینشأ من کون الراوی متهما بالکذب أو کون الحدیث شاذاً)(1).

وقال الزیلعی فی (نصب الرایة): (وکم من حدیث کثرت رواته وتعددت طرقه، وهو حدیث ضعیف...بل قد لا یزید الحدیث کثرة الطرق إلا ضعفاً)(2).

وقال الشیخ عبد الله بن یوسف الجدیع فی (تحریر علوم الحدیث): (وعدم الاعتبار بما ثبت أنه کذب أو منکر، ظاهر، وإن تعددت له الطرق وکثرت، فلا تعنی کثرتها فی التحقیق شیئاً؛ لجواز التواطؤ من قبل الکذابین والمتهمین علی تنویع الأسانید للحدیث الواحد، فربما نتج تعدد الطرق عن روایة رجل من الضعفاء، عرف بذلک الحدیث، فسرقه المتهمون وتداولوه بینهم، یسرقه بعضهم من بعض)(3).

إذن فمحاولة الاستفادة من کثرة طرق الحدیث المزعوم هی محاولة فاشلة لا تنطلی إلا علی المغفلین الساذجین من أتباع هذا الشیخ الذی انتقص من نفسه وکتابه بهذه الخدعة المکشوفة.

باء: وأما قوله: (قلت: وهذا إسناد حسن، معروف الحسن) فهو محض کذب وتزویر، وهو إدعاء بلا دلیل، ولو کان صدقا لبین من هم الذین حسنوه؟ وأین حسنوه؟ وعلی فرض وجود من حسنه فهل حسنوه علی وفق قواعد صحیحة بعیدة عن التعصب والطائفیة؟ وأین هذه الشهرة المزعومة؟ ومن قال بها ومن هم


1- مقدمة ابن الصلاح لعثمان بن عبد الرحمن ص35.
2- نصب الرایة للزیلعی ج1 ص484.
3- تحریر علوم الحدیث لعبد الله بن یوسف الجدیع ج2 ص200.

ص: 571

أفرادها؟ إلی غیر ذلک من الأسئلة الکثیرة، فنحن هنا لا نقول للشیخ الألبانی وتلامیذه ومن هم علی نهجه إلا ما قاله الله سبحانه لبعض عباده ((قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَکُمْ إِنْ کُنْتُمْ صَادِقِینَ)).

تاء: أحببت أن أنقل للقارئ الکریم تمام الإسناد الذی حکم علیه الألبانی بأنه حسن وان حسنه واضح، لیتضح من خلال ترجمة رجال سنده کذب الألبانی وتزویره وانه إنسان مخادع یختار من الکلام ما یتناسب وغرضه ویترک منه ما لا یتلاءم أو یتضارب مع هواه.

والسند الأول هو کما فی (تاریخ مدینة دمشق) لابن عساکر حیث قال: (ورواه زر بن حبیش عن علی أخبرناه أبو العز أحمد بن عبید الله السلمی أنا أبو محمد الحسن بن علی أنا علی بن محمد بن أحمد بن لؤلؤ حدثنا إسحاق بن عبد الله ابن إبراهیم الکوفی حدثنا حسین بن علی الصدائی حدثنا أبی علی بن یزید حدثنا حفص بن سلیمان الغاضری عن عاصم بن أبی النجود عن زر عن علی قال بینا أنا قاعد عند النبی «صلی الله علیه __ وآله __ وسلم) إذ أقبل أبو بکر وعمر فقال یا علی هذان سیدا کهول أهل الجنة من الأولین والآخرین ما خلا النبیین والمرسلین لا تخبرهما، فما أخبرتهما حتی ماتا ولو کانا حیین ما حدثت بهذا الحدیث)(1).

وأما السند الثانی فهو کالتالی: (أخبرناه أبو القاسم بن السمرقندی أنا أبو الحسین بن النقور أنا أبو طاهر المخلص نا أحمد بن إسحاق بن البهلول بن حسان الأنباری نا أبی نا أبی عن حفص أبی عمر البزاز عن عاصم بن أبی النجود عن زر بن حبیش عن علی قال بینا رسول الله «صلی الله علیه __ وآله __ وسلم» وأنا فی المسجد لیس معنا ثالث إذ أقبل أبو بکر وعمر کل واحد منهما آخذ بید صاحبه فقال یا علی


1- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج 44 ص 171 __ 172.

ص: 572

هذان سیدا کهول أهل الجنة ممن مضی من الأولین والآخرین ما خلا النبیین والمرسلین یا علی لا تخبرهما بذلک فما أخبرتهما حتی ماتا ولو کانا حیین ما حدثت به أحدا)(1).

أقول: والشیخ الألبانی عامله الله بعدله حینما قال: (فإن زرا هذا ثقة من رجال الشیخین، وعاصم، أخرجا له مقرونا، قال الحافظ: «صدوق له أوهام، حجة فی القراءة) قد اختار اثنین من رجال هذین الإسنادین فصدق فی توثیق أحدهما وکذب فی توثیق الآخر، وأخفی رجالاً آخرین لو ترجم لهم وأوضحهم لبان کذبه وانکشف تدلیسه.

ففی السند الأول یوجد:

أ: (علی بن یزید) وهو: (علی بن یزید بن سلیم الصدائی الکوفی، الأکفانی، والد الحسین بن علی بن یزید الصدائی المذکور قبله فی نفس السند، وهو من صغار التابعین لم یرو له إلا النسائی من بین أصحاب الکتب الستة) وکان لیس بالقوی، منکر الحدیث عن الثقات، وأحادیثه لا تشبه أحادیث الثقات، فهو فی أحادیثه متردد بین ثلاثة أوصاف فإما أن یأتی بإسناد لا یتابع علیه، أو یأتی بمتن عن الثقات منکر، أو یروی عن مجهول، وغیر ذلک من الأوصاف القادحة.

قال الرازی فی (الجرح والتعدیل): (علی بن یزید الصدائی أبو الحسن... حدثنا عبد الرحمن حدثنا عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل فیما کتب إلی قال: سألت أبی عن علی بن یزید الصدائی فقال ما کان به بأس، حدثنا عبد الرحمن قال سألت أبی عن علی بن یزید الصدائی فقال لیس بقوی منکر الحدیث عن الثقات)(2).


1- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج 44 ص 171 __ 172.
2- الجرح والتعدیل للرازی ج 6 ص 209.

ص: 573

وقال عبد الله بن عدی فی (الکامل): (أحادیثه لا تشبه أحادیث الثقات إما أن یأتی بإسناد لا یتابع علیه أو بمتن عن الثقات منکر أو یروی عن مجهول... ولعلی بن یزید غیر ما ذکرت أحادیث غرائب وعامة ما یرویه مما لا یتابع علیه)(1).

وقال الذهبی فی (میزان الاعتدال): (علی بن یزید الصدائی، أبو الحسن صاحب الأکفان... وقال أبو حاتم: منکر الحدیث عن الثقات)(2)، وقال ابن حجر فی (علی بن یزید بن سلیم الصدائی بضم المهملة وتخفیف الدال بمدة الأکفانی فیه لین من التاسعة)(3).

فهذا الطریق ضعیف منکر یقینا، بوجود هذا الراوی، وهو وان وثقه بعضهم کابن حبان وأمثاله من المتساهلین، إلا أن جرح الذین جرحوه کان مفسرا کما تری والجرح المفسر مقدم علی التوثیق المبهم کما هو ثابت فی محله.

والعجیب ان الألبانی فی کتابه (السلسلة الصحیحة) حکم علی حدیث فی سنده علی بن یزید الصدائی بالضعف فقال: (من حدیث أبی سعید الخدری. یرویه علی بن یزید الصدائی، أنبأنا فضیل بن مرزوق عن عطیة عنه مرفوعا به...قلت: وهذا إسناد ضعیف مسلسل بالضعفاء، عطیة العوفی فمن دونه)(4)، وقد لینه فی مواضع أخری من کتبه، فکیف خفی حاله علیه هنا؟.

ب: وفی السند الأول والثانی یوجد (حفص)، وهو (حفص بن سلیمان الأسدی أبو عمر البزاز الکوفی القارئ ویقال له الغاضری، وهو حفص بن أبی داود


1- الکامل لعبد الله بن عدی ج 5 ص 212 __ 213.
2- میزان الاعتدال للذهبی  ج 3 ص 162.
3- تقریب التهذیب لابن حجر ج 1 ص705.
4- السلسلة الصحیحة لمحمد ناصر الألبانی ج3 ص26.

ص: 574

المعروف بصاحب عاصم، وهو من الطبقة الوسطی من أتباع التابعین، روی له ثلاثة من أصحاب الکتب الستة، هم الترمذی، والنسائی فی مسند علی، وابن ماجة) وهو متروک الحدیث، واهٍ، لیس بثقة، ضعیف الحدیث، کذاب، یضع الحدیث، فهذه بعض الأوصاف التی وصفه بها أهل الجرح والتعدیل السنة، وفیما یأتی بعض أقوالهم:

قال یحیی بن معین فی (تاریخ ابن معین): (لیس بثقة)(1)، وقال احمد بن حنبل فی (العلل): (متروک الحدیث)(2)، وقال البخاری فی (التاریخ الصغیر): (منکر الحدیث)(3)، وقال الرازی: (حدثنا عبد الرحمن قال ذکره أبی نا أبو قدامة السرخسی قال سألت یحیی بن معین عن حفص بن سلیمان یعنی ابا عمر القارئ  __ فقال: لیس بثقة. حدثنا عبد الرحمن قال سألت أبی عن حفص بن سلیمان الکوفی الذی یروی عن علقمة بن مرثد ولیث بن أبی سلیم فقال: لا یکتب حدیثه، وهو ضعیف الحدیث، لا یصدق، متروک الحدیث. قلت ما حاله فی الحروف؟ قال: أبو بکر بن عیاش أثبت منه. حدثنا عبد الرحمن قال سئل أبو زرعة عن حفص بن أبی داود فقال: هو حفص بن سلیمان، وهو ضعیف الحدیث)(4).

وقال ابن حبان فی (کتاب المجروحین): (کان یقلب الأسانید ویرفع المراسیل، وکان یأخذ کتب الناس فینسخها ویرویها من غیر سماع)(5)، وقال عبد الله بن عدی فی (الکامل): (أحمد بن محمد البغدادی قال سمعت یحیی بن معین یقول کان حفص بن سلیمان وأبو بکر بن عیاش من أعلم الناس بقراءة عاصم


1- تاریخ ابن معین لیحیی بن معین بروایة الدارمی ص98.
2- العلل لأحمد بن حنبل ج 2 ص 380.
3- التاریخ الصغیر للبخاری ج 2 ص 233.
4- الجرح والتعدیل للرازی  ج 3 ص 173 __ 174.
5- کتاب المجروحین لابن حبان ج 1 ص 255.

ص: 575

وکان حفص أقرأ من أبی بکر وکان أبو بکر صدوقا وکان حفص کذابا)(1)هذا وقد ترکنا کثیرا من أقوال القدح التی قیلت بحقه طلبا للاختصار.

أقول: فلماذا لم یبین الشیخ الألبانی حال حفص هذا قبل حکمه علی ذلک الحدیث بأنه حسن، ولا أکاد أتردد بان الألبانی إنما لم یذکره مخافة أن ینکشف أمره ویفتضح سره، وها قد فضحه الله سبحانه فی هذا الکتاب الذی بین یدیک.

أضف إلی ذلک هذا الشیخ المتعصب المدلس قد حکم فی کتابه (إرواء الغلیل) علی حدیث فی سنده (حفص بن سلیمان المقرئ) بقوله: (وهذا إسناد ضعیف جدا، أبو عمر هذا هو حفص بن سلیمان القارئ الکوفی وهو متروک الحدیث)(2) فما له تذکره هنا وحکم بضعف الحدیث بسبب وجوده فی السند، لکنه أعمی عینیه وصم أذنیه عن حدیث (أبو بکر وعمر سیدا کهول أهل الجنة) فحسنه من دون شعور وبلا تردد، وهل هذا إلا التعصب الأعمی؟ وهل هذا إلا الکیل بمکیالین وعدم النزاهة فی العلم وعدم الإخلاص فی العمل؟.

ج: وفی السندین یوجد (عاصم) وهو (عاصم بن بهدلة وهو ابن أبی النجود، الأسدی الکوفی، أبو بکر المقرئ، من طبقة الذین عاصروا صغار التابعین، روی له أصحاب الکتب الستة وغیرهم)، وهو الذی قال عنه الألبانی آنفا: (وعاصم، أخرجا له مقرونا، قال الحافظ: «صدوق له أوهام، حجة فی القراءة) والألبانی فی هذه الجملة لم یقل الحقیقة بأکملها، فهو قد أخفی أشیاء أخری تؤثر علی سلامة الروایة وصحتها، من قبیل اضطرابه فی الحدیث، وسوء حفظه، وکثرة الخطأ فی حدیثه، وانه عثمانی، وغیر ذلک من الأمور القادحة.


1- الکامل لعبد الله بن عدی ج 2 ص 380.
2- إرواء الغلیل لمحمد ناصر الألبانی ج 1 ص 259 __ 260.

ص: 576

قال الرازی فی الجرح والتعدیل: (وقد تکلم فیه ابن علیة فقال کأن کل من کان اسمه عاصما سیئ الحفظ، نا عبد الرحمن قال وذکر أبی عاصم بن أبی النجود فقال محله عندی محل الصدق صالح الحدیث ولم یکن بذاک الحافظ)(1).

وقال ابن حجر فی تهذیب التهذیب: (وخطأه أبو بکر بن أبی داود... قال ابن سعد کان ثقة إلا أنه کان کثیر الخطأ فی حدیثه... وقال یعقوب بن سفیان فی حدیثه اضطراب وهو ثقة... قال ابن خراش فی حدیثه نکرة وقال العقیلی لم یکن فیه إلا سوء الحفظ وقال الدارقطنی فی حفظه شیء ... وقال العجلی کان عثمانیا)((2).

أقول: وسیّئ الحفظ فی الروایة ومن کان فی حدیثه اضطراب وکثیر الخطأ فی الحدیث لا تؤخذ بروایته حتی لو کان ثقة، إلا أن یوافق حدیثه حدیث الثقات، وحدیث (سیدا کهول أهل الجنة) لم یروَ عن ثقة، وعلیه فلا یمکن أن یؤخذ بروایة عاصم لسوء حفظه وعدم موافقة حدیثه لحدیث الثقات.

ولو اعرضنا بوجهنا عن سوء حفظ عاصم وکثرة خطئه واضطراب حدیثه، لما أمکن لنا قبول روایته لسبب آخر مهم، وهو کونه عثمانیا، والعثمانیون معروفون ببغضهم لأمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه ووضعهم وتشجیعهم لکل حدیث یؤدی إلی خفض منزلة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین عموما والإمام أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه علی وجه الخصوص، ویعلی من مراکز خصومهم وفضائلهم، فهو متهم بعثمانیته، مردود الروایة فیما یخص الانتقاص من أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وکرامتهم وفضائلهم، ولا ریب ان حدیث (سیدا کهول أهل الجنة) مما یدخل تحت هذه القاعدة فتأمل.


1- الجرح والتعدیل للرازی ج 6  ص 341.
2- ()تهذیب التهذیب لابن حجر ج 5 ص 35 __ 36.

ص: 577

إذن: فیتضح لنا فی هذا الحدیث الذی حسنه الشیخ الألبانی، ان فیه اثنین من الضعفاء وواحد من سیئی الحفظ والمتهمین بالعثمانیة، وسند هذا حاله لا یصححه أو یحسنه إلا من عمیت بصیرته وداس علی ضمیره وباع نزاهته العلمیة بثمن أو عصبیة.

3: تحسینه لحدیث فی زوائد مسند احمد بن حنبل

قال الألبانی فی (السلسلة الصحیحة): (الثالثة: قال عبد الله بن أحمد فی «زوائد المسند» «1/80»: حدثنی وهب بن بقیة الواسطی حدثنا عمر «فی الأصل: عمرو» بن یونس الیمامی عن عبد الله بن عمر الیمامی عن الحسن بن زید بن حسن حدثنی أبی عن أبیه عن علی رضی الله عنه قال: «کنت عند النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم، فأقبل أبو بکر وعمر رضی الله عنهما، فقال: یا علی هذان سیدا کهول أهل الجنة وشبابها بعد النبیین والمرسلین ». قلت __ والقائل هو الشیخ الألبانی __: وهذا سند حسن، رجاله کلهم ثقات معروفون، غیر الحسن بن زید بن الحسن ابن علی بن أبی طالب، وثقه ابن سعد والعجلی وابن حبان، وقال ابن معین: ضعیف، وقال ابن عدی: أحادیثه عن أبیه أنکر مما روی عن عکرمة. وقال الحافظ فی «التقریب»: «صدوق، یهم، وکان فاضلا». وبقیة الرجال مترجمون فی «التهذیب» غیر عمر بن یونس الیمامی، فترجمه ابن أبی حاتم «3/1/142__143» وروی عن أحمد وابن معین أنهما قالا: ثقة. وأخرجه ابن عساکر «9/307 /1» من طریق ابن أحمد وغیره عن وهب به. وتابعه عنده إبراهیم بن مرزوق أنبأنا عمر ابن یونس به)(1).

أقول: وتحسینه لهذا الطریق مرفوض أیضا وذلک للأسباب التالیة:


1- السلسلة الصحیحة لمحمد ناصر الألبانی ج2 ص323.

ص: 578

ألف: لقد اضطرب أهل الحدیث اضطرابا شدیدا فی تعریف الحدیث الحسن وکیفیة تمییزه وما هی شروطه وحدوده(1)، إلا أن أفضل من وضع للحدیث الحسن تعریفاً وشرطاً هو ابن القطان بحسب ما فهمته من کلماتهم، فذهب فی کتابه (بیان الوهم والإیهام) بعد أن عرف الحدیث الحسن بقوله: (ونعنی بالحسن، ما له من الحدیث منزلة بین منزلتی الصحیح والضعیف، ویکون الحدیث حسنا هکذا، إما بأن یکون أحد رواته مختلفا فیه ؛ وثقه قوم وضعفه آخرون، ولا یکون ما ضعف به جرحا مفسرا، فإنه إن کان مفسرا، قدم علی توثیق من وثقه، فصار به الحدیث ضعیفا)(2).


1- واضطرابهم فی تعریف الحدیث الحسن لیس بالامر الخافی علی ادنی من له اطلاع علی قواعدهم الرجالیة، ففی هذا الصدد یقول الذهبی فی (الموقظة فی علم المصطلح والحدیث ج1 ص1 __3) (الحَسَن: وفی تحریر معناه اضطراب... __ ثم قال بعد استعراض عدة تعاریف لعدة علماء __ ثم لا تَطمَعْ بأنَّ للحسَنِ قاعدةً تندرجُ کلُ الأحادیثِ الحِسانِ فیها، فأَنَا علی إِیاسٍ من ذلک، فکم من حدیث تردَّدَ فیه الحُفَّاظُ، هل هو حسَنٌ أو ضعیفُ أو صحیح ؟ بل الحافظُ الواحدُ یتغیَّرُ اجتهادُه فی الحدیث الواحد، فیوماً یَصِفُه بالصحة، ویوماً یَصِفُه بالحُسْن، ولربما استَضعَفَه). وهذا الذی صرح به الذهبی لیس بغریب لأننا قد أوضحنا من قبل بان القوم لیس لهم قواعد ثابتة ولا قوانین محددة یستطیع الباحث من خلالها تمییز الحقیقة عن غیرها، فالتصحیح والتحسین والتضعیف فی اغلب حالاته یکون مزاجیا تابعا للظروف والأحوال فإذا وافق الحدیث هوی المحدث صححه، وإذا خالف هواه أو متبنیاته ضعفه أو حسنه بحسب الظرف والحاجة، لذلک نری الواحد منهم __ کما قال الذهبی __ یتغیر اجتهاده فی الحدیث الواحد کما یقول الذهبی، فیصفه یوما بالصحة وفی یوم ثانٍ یصفه بالحسن ویضعفه فی الیوم الثالث، وهذه المرحلة هی من أخطر المراحل التی یمکن أن یصل إلیها المسلمون، وهی مرحلة جعل الحدیث الشریف والسنة المطهرة تابعة لهوی المصححین وأفکارهم ومتبنیاتهم، وهذا من أعظم الأخطار، لان المفترض وما ینبغی أن یکون هو ان یجعل المسلم __ سواء کان محدثا أو فقیها أو باحثا أو رجلا عادیا __ هواه وأفکاره ومتبنیاته وعقائده ومواقفه کلها تابعة للسنة النبویة المطهرة لا أن تکون السنة تابعة لهواه ومزاجه الشخصی کما بینا.
2- بیان الوهم والإیهام لابن القطان ج3 ص338.

ص: 579

وعلی هذا الأساس نرجع إلی الحدیث الذی حسنه الشیخ الألبانی فان کان فی رجال سنده شخص جرح بجرح مفسر کالوهم أو الغفلة أو التدلیس أو الکذب أو غیر ذلک یخرج حینئذ الحدیث من حد الصحیح والحسن إلی حد الضعیف، فان لم نجد جرحا مفسرا ووجدنا الاختلاف فی الراوی الواحد توثیقا وتضعیفا من دون تفسیر لأحدهما حکم حینئذ بحسنه.

والسند وان کان اغلب رجاله قد وثقوا من قبلهم، إلا أن العلة فیه کما لا یخفی هی فی (الحسن بن زید بن الحسن بن علی بن أبی طالب) فهو قد وثقه جماعة وضعفه آخرون، لکن الذی ضعفه أعطی علة مفسرة لتضعیفه، فیقدم حینئذ الجرح علی التعدیل ویخرج الحدیث بذلک من الصحیح أو الحسن إلی الضعیف، والعلة المفسرة هی الانقطاع فیما أسنده عن أبیه لان أباه مات وهو صغیر، وأیضا أحادیثه معضلة، وان فیها نکارة وخصوصا التی رواها عن أبیه وعکرمة، قال الخطیب البغدادی فی (تاریخ بغداد): (أن أباه توفی وهو غلام حدث)(1)، وقال الذهبی: (ذکره ابن حبان فی الثقات. وقال یحیی: ضعیف الحدیث. وقال ابن عدی: أحادیثه معضلة، وأحادیثه عن أبیه أنکر مما روی عن عکرمة)(2)، وقال ابن حجر فی (تهذیب التهذیب): (الحسن بن زید بن الحسن بن علی بن أبی طالب أبو محمد المدنی صدوق یهم)(3).

والحسن بن زید فوق کل ذلک کان من أعوان السلطة العباسیة المعروفة بتوجهاتها المعادیة لجمیع ما من شأنه ان یرفع مکانة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین،


1- تاریخ بغداد للخطیب البغدادی  ج7 ص321.
2- میزان الاعتدال للذهبی ج1 ص492.
3- تقریب التهذیب لابن حجر ج1 ص204.

ص: 580

والمؤیدة لجمیع ما من شأنه الانتقاص منهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین والناشرة لکل ما یحط من قدرهم ویجفوهم ویثقل کفة معارضیهم، وحدیث (أبو بکر وعمر سیدا کهول أهل الجنة) داخل تحت هذا الأمر قطعا، فیکون متهما بوضعه وسرقته من الضعفاء، وهو فوق ذلک کله متهم بدماء العلویین من أبناء الأئمة الأطهار، فهو الذی حرض المنصور العباسی  علی قتل محمد ذی النفس الزکیة وأبیه بوشایته علیهم، قال ابن خلدون فی (تاریخ ابن خلدون): (کان أبو جعفر المنصور قد اختص من العلویة من بنی الحسن السبط حفیده الحسن بن زید بن الحسن وولاه المدینة وهو الذی امتحن الإمام مالکا رحمه الله کما هو معروف وهو الذی أعز المنصور من قبل ببنی حسن وأخبره بدسیسة محمد المهدی وابنه عبد الله فی شأن الدعاء لهم حتی قبض علیهم وحملهم إلی العراق کما قدمناه)(1)، قال ابن الأثیر فی (الکامل فی التاریخ): (فکان موسی بن عبد الله بن الحسن یقول بعد ذلک اللهم اطلب الحسن بن زید بدمائنا)(2).

إذن فالحسن بن زید بن الحسن وان کان من أولاد الأئمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین إلا انه ممن خالف خطهم ونصر عدوهم وحرض علی قتل ذراریهم فهو متهم فی دینه وإیمانه فضلا عما قدمناه من اتهامه بوثاقته وحفظه، فیخرج من حد الثقة إلی حد الضعیف هو وحدیثه بلا أدنی إشکال.

باء: ان الشیخ الألبانی قد تناقض أشد التناقض فی تحسین أو أحادیث (الحسن بن زید بن الحسن) تضعیفها فقد حسن أحادیثه فی بعض کتبه وذکر أقوال المادحین له کما فعل ذلک هنا، لکنه ضعفه فی أحادیث أخری مبینا أقوال الذامین له وأوجه عدم قبول روایته.


1- تاریخ ابن خلدون لابن خلدون ج 4 ص22.
2- الکامل فی التاریخ لابن الأثیر ج 5 ص 513 __ 514 فیها القصة مفصلة.

ص: 581

ففی معرض کلامه عن حدیث (إذا أحب أحدکم أن یحدث ربه عز وجل فلیقرأ) قال فی (السلسلة الضعیفة): (ضعیف جدا... قلت: وهذا إسناد واه...والحسن ابن زید، الظاهر أنه الحسن بن زید الهاشمی، أورده الذهبی فی «الضعفاء» وقال: «ضعفه ابن معین». وقال الحافظ: «صدوق، یهم»...قلت: ولذلک قال الفقیه ابن عبد الهادی الحنبلی فی «هدایة الإنسان» (2/32/1): «إسناده مظلم، ولا یثبت مرفوعا». قلت: ولا موقوفا، فإنه لم یرد إلا من هذا الوجه الواهی)(1).

أقول: ما هذا التناقض أیها الألبانی وأین ذهب الإنصاف، ولماذا لم تتذکر هذه الطعون والمثالب فی حدیث (أبو بکر وعمر سیدا کهول أهل الجنة) فتحکم علیه بالضعف علی اقل التقادیر إن لم یکن موضوعا کما دلت علیه القرائن الکثیرة.

وفی معرض حدیثه عن حدیث النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم: (کان إذا توضأ، فضل ماء حتی یسیله علی موضع سجوده) قال فی (السلسلة الضعیفة): (والواقع أن النفس لم تطمئن لهذا الحدیث ; لغرابته، وشبهة الانقطاع بین زید بن الحسن وأبیه، فإن هذا مات سنة «50» وزید فی «120»، ما یبعد ثبوت سماعه منه...وأیضا ف_ «حسین بن زید» أورده الذهبی فی «المغنی»، وقال: «قال أبو حاتم: تعرف وتنکر». وأیضا ف_«زید بن الحسن» نفسه علی جلالته، لم یوثقه غیر ابن حبان «4/245»، ولم یرو عنه کبیر ثقة)(2).

أقول: فأین ذهب عنک رشدک أیها الألبانی ولماذا لم تحکم علی حدیث (سیدا کهول أهل الجنة) بالانقطاع، إذ إن الحسین یرویه عن أبیه وأنت أثبتّ انه یبعد سماعه عنه، وکیف حسنت حدیثه وأنت تعترف بأنه لم یوثقه غیر ابن حبان


1- السلسلة الضعیفة للألبانی ج4 ص341 حدیث رقم 1842.
2- المصدر السابق ج5 ص149 حدیث رقم 2150.

ص: 582

ولم یرو عنه کبیر ثقة، وهل هذا إلا من باب الازدواجیة فی الحکم والکیل بمکیالین بما یجعل الباحث یقف طویلا من تصحیح الألبانی وتحسینه لکثیر من الأحادیث الضعیفة والواهیة والمکذوبة.

4: تضعیفه لطریق الزهری عن علی ولطریق أنس بن مالک

قال الألبانی: (الرابعة: عن الولید بن محمد الموقری عن الزهری عن علی بن الحسین عن علی بن أبی طالب به. أخرجه الترمذی «4/310» وقال: «حدیث غریب من هذا الوجه». قلت: __ والقول للألبانی __: والولید هذا متروک متهم بالکذب. وأخرجه ابن عساکر «13/1» عنه، ومن طریق عصمة بن محمد الأنصاری أنبأنا یحیی بن سعید الأنصاری عن سعید بن المسیب عن علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب عن أبیه عن جده علی بن أبی طالب به. قلت __ والقول للألبانی __: وهذا إسناد متصل ولکن عصمة بن محمد کذاب یضع الحدیث کما قال ابن معین).

أقول: وقد کفانا الألبانی مؤونة رد هذا الحدیث وتکذیبه، لکنه مع هذا أخفی أو لا اقل إن أحسنا الظن به لم یتنبه علی أن الحدیث مرسل أیضا، لان علی ابن الحسین لم یسمع من جده علی بن أبی طالب، وهذا مشهور لا نری حاجة فی إطالة الکلام فیه.

وأما حدیث أنس فقد قال عنه الألبانی ما نصه: (و أما حدیث أنس، فله عنه طریقان: الأولی: یرویه قتادة عنه به، وفیه الزیادة. أخرجه الترمذی «4/310» والضیاء المقدسی فی «المختارة» «197 __ 198» وابن عساکر «2/250/1، 9/311/1، 13/24/1» من طریق محمد بن کثیر قال: حدثنا الأوزاعی عنه. وقال الترمذی: «حدیث حسن غریب من هذا الوجه». قلت __ والقول للألبانی __: رجاله ثقات رجال الشیخین غیر محمد بن کثیر وهو الصنعانی المصیصی قال

ص: 583

الحافظ: «صدوق کثیر الغلط». قلت: ویبدو أن بعضهم توهم أنه محمد بن کثیر العبدی البصری، وهو من رجال الشیخین أیضا. فقال المناوی: «قال الصدر المناوی: سنده سند البخاری» فالتبس علیه الصنعانی المضعف بالبصری الثقة، وقد خولف فی إسناده کما یأتی وأشار ابن أبی حاتم «2/390» إلی أنه منکر.

الثانیة: أخرجه ابن عساکر (9 / 310 / 2) والضیاء (145 / 2) من طریق أبی یعلی الموصلی: حدثنا سهل بن زنجلة الرازی حدثنا عبد الرحمن بن عمر حدثنا عبد الله بن یزید العبدی قال: سمعت أنس بن مالک یقول: فذکره مرفوعا. قلت __ والقول للألبانی __: وهذا إسناد لم أعرف منه غیر سهل هذا، وهو ثقة)(1).

أقول: ومعنی انه لم یعرفهم أی انهم مجهولو الحال والوثاقة ومن کان کذلک سقطت روایته عن الاعتبار، فکفانا الله سبحانه بذلک شر هذه الطرق الضعیفة المظلمة.

5: تحسینه لطریق مالک بن مغول عن عون بن أبی جحیفة

قال الألبانی: (وأما حدیث أبو جحیفة، فیرویه خنیس بن بکر بن خنیس حدثنا مالک بن مغول عن عون بن أبی جحیفة عن أبیه به. أخرجه ابن حبان «2192» وکذا ابن ماجه «1/51» والدولابی فی «الکنی» «1/120» من طرق عنه. قلت __ والقول للألبانی __: وهذا إسناد حسن رجاله ثقات غیر خنیس هذا، قال صالح جزرة: «ضعیف». وذکره ابن حبان فی «الثقات». وسکت علیه البوصیری فی «الزوائد» «8/1»، لکنه نص فی «المقدمة» أن ما سکت علیه، ففیه نظر)(2).


1- السلسلة الصحیحة لمحمد ناصر الألبانی ج2 ص323.
2- المصدر نفسه.

ص: 584

أقول: لم یحسن الألبانی فی قوله: (وهذا إسناد حسن)، ولم یحسن کذلک إذ اکتفی بتوثیق ابن حبان لخنیس بن بکر بن خنیس، ولم یحسن أیضا إذ لم یذکر عللاً أُخر لهذا الحدیث، وسنفصل القول فی کل ذلک بالنقاط التالیة:

ألف: ذکرنا فیما سبق ان الطبرانی فی (المعجم الوسیط) قد أعل هذه الروایة بالانفراد، فقال: (حدثنا علی بن العباس الأسماء الکوفی قال نا زکریا ابن یحیی الأکفانی قال نا خنیس بن بکر بن خنیس قال نا مالک بن مغول عن عون بن أبی جحیفة عن أبیه قال: قال رسول الله «ص» أبو بکر وعمر سیدا کهول أهل الجنة من الأولین والآخرین ما خلا النبیین والمرسلین. لم یرو هذا الحدیث عن مالک إلا خنیس، تفرد به زکریا بن یحیی، ولا یروی عن ابن أبی جحیفة إلا بهذا الإسناد)(1).

وعلة الانفراد علة معتد بها فی میدان الجرح والتعدیل ومع ذلک لم یذکرها الشیخ الألبانی فی معرض نقده لهذه الروایة، لأنه لو ذکرها وذکر تضعیف وقدحهم فی خنیس بن بکر بن خنیس لحصل یقین بضعفها وکذبها.

باء: والشیخ الألبانی عامله الله بعدله ذکر أنّ جمیع رجال السند ثقات إلا خنیس بن بکر بن خنیس ولکنه لم یذکر ان مالک بن مغول کان متهما ببغض الإمام أمیر المؤمنین علی صلوات الله وسلامه علیه والإزراء علیه وعلی عمار بن یاسر، کما فی (الکامل) لعبد الله بن عدی حیث قال: (حدثنا محمد بن اللیث ثنا إسماعیل السدی ثنا علی بن قادم عن عبد السلام بن حرب قال قلت لشریک هل لک فی أخ تعوده قال من قلت مالک بن مغول قال لیس لی بأخ من أزری علی علی وعمار بن


1- المعجم الأوسط للطبرانی  ج 4 ص 272.

ص: 585

یاسر)(1)، وهذا الأمر یؤثر تأثیرا بالغا فی قبول قوله أو عدمه، لان فیه تهمة الکذب لنصرة مذهبه ومعتقده وهو کثیر لأننا قد بینا فی صفحات سابقة أن جملة من الرواة کانوا یضعون الأحادیث نصرة لأفکار أو مذاهب أو اعتقادات کانوا یعتقدون بها، ویضعون کذلک أحادیث تستنقص وتسیء إلی مناوئیهم ومنافسیهم.

جیم: ان لکل محدث او عالم فی مجال الجرح والتعدیل قواعد خاصة یرتضیها ویلزم نفسه بها وعلی أساسها یبنی جمیع تصحیحاته أو تضعیفاته للأسانید والمتون، ومن القواعد التی بنی الشیخ الألبانی علیها جمیع کتبه هی قاعدة عدم الاکتفاء بتوثیق ابن حبان للراوی فیما لو انفرد بتوثیقه ولم یشارکه احد من بقیة أعلامهم فی ذلک التوثیق، لان الشیخ الألبانی یعتقد کما هو حال أغلب علماء أهل السنة أن ابن حبان متساهل فی توثیقه للرجال، فهو فی کتابه (الثقات) قد وثق کثیراً من الرجال المجهولین والضعفاء ومن أجمع بقیة أعلام أهل السنة علی تضعیفه وتکذیبه، بل کثیراً ما تناقض ابن حبان مع نفسه فأورد قسما کبیرا من الرواة فی کتابه (الثقات) ثم أعاد ذکرهم وطعن فی وثاقتهم فی کتاب (المجروحین) وهو أمر مشهور وقد بینا فی صفحات سابقة من هذا البحث هذا التناقض وذکرنا له عدة شواهد.

وقاعدة الألبانی فی عدم قبول توثیق ابن حبان إذا انفرد بتوثیق الرواة مذکورة فی عدة مواضع من کتبه نذکر منها علی سبیل المثال الآتی:

ففی کتابه (إرواء الغلیل) وفی معرض حدیثه عن حدیث عمر وقوله (لا تغتسلوا بالماء المشمس فإنه یورث البرص) قال: (إنما علة هذا الإسناد حسان هذا, فإنی لم أجد له ترجمة عند أحد سوی أن ابن حبان ذکره فی «الثقات», وما أظن أنه


1- الکامل لعبد الله بن عدی ج 4 ص 10.

ص: 586

یعرفه إلا فی هذا الأثر, وهو معروف بتساهله فی التوثیق)(1).

وفی الکتاب نفسه وعند حدیثه عن احد الرواة المجهولین وهو (الحارث بن مسلم) قال: (الحارث بن مسلم مجهول کما قال الدارقطنی, والهیثمی إنما اعتمد فی توثیقه علی إیراد ابن حبان إیاه فی «الثقات» ولیس ذلک منه بجید , لأن قاعدة ابن حبان فی التوثیق فیها تساهل کبیر حتی إنه لیوثق المجهولین الذین یصرح هو نفسه فی بعضهم أنه لا یعرفه, ولا یعرف أباه کما حققته فی «الرد علی التعقیب الحثیث»)(2) والشواهد من کتبه کثیرة جدا ترکناها واکتفینا بهذین الشاهدین للاختصار.

أقول: فکیف تناسی الألبانی قاعدته هذه هنا واکتفی بتوثیق ابن حبان خنیس بن بکر بن خنیس، مع ان صالحاً الملقب بجزرة وصف خنیساً بأنه: (شیخ ضعیف)، ومع ان البوصیری کما یقول الألبانی قد سکت علیه وکل ما سکت علیه البوصیری ففیه نظر کما أوضح البوصیری فی مقدمة کتابه (الزوائد) فاجتمع فیه قدحان من إمامین من أئمة الحدیث عندهم عرفا بتثبتهما وتحریهما فی الحدیث، فی مقابل مدح واحد لابن حبان المعروف بتساهله، ولا یوجد منصف عاقل من أهل الحدیث والجرح والتعدیل یقدم قول ابن حبان المطعون فی توثیقه علی طعن صالح والبوصیری الإمامین عندهم والثبتین.

إذن فالألبانی قد خالف بتحسینه هذا الحدیث قواعد الجرح والتعدیل عامة وقواعده التی ارتضاها علی وجه الخصوص فلا یعتد بمثل هذا التحسین؛ لأنه مخالف للمنهج العلمی ومتهم فیه باتباع هواه ومعتقده علی حساب الحق والصواب.


1- إرواء الغلیل لمحمد ناصر الألبانی ج1 ص54.
2- المصدر السابق ص115.

ص: 587

6: تضعیفه لطریق جابر وأبی سعید وابن عمر

قال الشیخ الألبانی: (وأما حدیث جابر، فرواه الطبرانی فی «الأوسط» عن شیخه المقدام بن داود، وقد قال ابن دقیق العید: إنه وثق، وضعفه النسائی وغیره، وبقیة رجاله رجال الصحیح کما قال الهیثمی «9/53»، ومن هذا الوجه أخرجه ابن عساکر «13/24/1»)(1).

وقال أیضا:

(وأما حدیث أبی سعید، فرواه البزار والطبرانی فی «الأوسط»، وفیه علی بن عابس وهو ضعیف)(2).

وقال أیضا:

(وأما حدیث ابن عمر، فیرویه داود بن مهران الدباغ أبو سلیمان: حدثنا عبد الرحمن بن مالک بن مغول عن عبید الله عن نافع عنه. أخرجه السهمی فی «تاریخ جرجان» وابن عساکر «13/23/2»، وقال ابن أبی حاتم «2/389» عن أبیه: «هذا حدیث باطل، یعنی بهذا الإسناد، وامتنع أن یحدثنا، وقال: اضربوا علیه، داود، وقال الدارقطنی: متروک، فهو آفة هذا الإسناد، وإنما ذکرته لبیان حاله)(3).

أقول: والألبانی وان لم یستوعب جمیع نقاط الضعف فی هذه الطرق إلا أن تضعیفه بهذا المقدار کاف لرد هذه الطرق وإسقاطها عن الاعتبار فلا نزید علی ذلک طلبا للاختصار.


1- السلسلة الصحیحة لمحمد ناصر الألبانی ج2 ص323.
2- المصدر نفسه.
3- المصدر نفسه.

ص: 588

7: کذبته الکبری بان الحدیث بمجموع طرقه صحیح بلا ریب

قال الألبانی عامله الله بعدله: (وجملة القول أن الحدیث بمجموع طرقه صحیح بلا ریب، لأن بعض طرقه حسن لذاته کما رأیت، وبعضه یستشهد به، والبعض الآخر مما اشتد ضعفه فنحن بما تقدم فی غنی عنه، وکأنه لذلک رمز السیوطی له بالصحة)(1).

أقول: صدق من قال (کذّب ثم کذّب حتی یصدقک الناس، ثم کذّب وکذّب حتی تصدق نفسک) وهذا ما قام به الألبانی عامله الله بعدله، فقد کذب علی الناس فی تحسینه أحد طرق الحدیث المکذوب (أبو بکر وعمر سیدا کهول أهل الجنة) ثم کذب علیهم مرة أخری بتصحیحه لطریق ثانٍ وثالث من طرق هذا الحدیث المدسوس المقلوب، فانطلی کذبه علی البسطاء، ومن لیس له درایة بعلم الحدیث، وقواعد الجرح والتعدیل، ثم وبعد أن صدقه الناس، کذب کذبته الأخیرة هذه علی أمل أن یصدق نفسه، فقال: (وجملة القول أن الحدیث بمجموع طرقه صحیح بلا ریب).

ولا أعلم کیف أمکنه رفع درجة الحدیث من الحسن إلی الصحیح، هذا ان تنزلنا وقلنا بوجود حدیث حسن فی تلک الأحادیث، ألیس مثل هذا الجمع هو جمع للنقیضین، وجمعاً النقیضین مستحیل لا یقول بإمکانه إلا مجنون لا عقل له، وذلک لان الصحیح هو: (المتصلُ السالمُ من الشذوذِ والعِلَّة، وأنْ یکون رُواتُه ذوی ضَبْطٍ وعدالةٍ وعدمِ تدلیس)(2)، أما الحدیث الحسن فلا ینفک عن ضعف ما، ولو لم تکن فیه علة لصار صحیحا، فجعل الحدیث الواحد صحیحا


1- السلسلة الصحیحة لمحمد ناصر الألبانی ج2 ص323.
2- المُوْقِظَةُ فی علم مصطلح الحدیث للذهبی ص1.

ص: 589

ولیس له علة، وفی الوقت نفسه حسنا له علة، هو جمع للنقیضین کما هو واضح، إذن فرفع الألبانی الحدیث وجعله صحیحا مع اعترافه بأنه حسن رفع باطل ومستحیل.

 ثم ولکی یعطی دلیلا علی کذبته هذه قال: (لأن بعض طرقه حسن لذاته کما رأیت، وبعضه یستشهد به، والبعض الآخر مما اشتد ضعفه فنحن بما تقدم فی غنی عنه، وکأنه لذلک رمز السیوطی له بالصحة).

وقوله (لان بعض طرقه حسن لذاته) محض افتراء وقد کذبنا سابقا تحسین الألبانی لطرق الحدیث، وأثبتنا أن جمیع طرق الحدیث ضعیفة، ولا ینجبر ضعفها بحال من الأحوال، لأنها لم تأتِ إلا عن الکذابین وسیئی الحفظ والمدلسین.

وقوله (وبعضه یستشهد به) هو کذبة أخری لان الشواهد لا یعتبر بها ما لم تکن صحیحة أو حسنة، وکلا الوصفین منتفیین عن هذا الحدیث، فجمیعها ضعیفة، والحدیث الضعیف لا یصح الاستشهاد به کما أوضحناه فی هذا البحث.

وقوله (والبعض الآخر مما اشتد ضعفه فنحن بما تقدم فی غنی عنه) وهذا ما ینبغی أن ینطبق علی جمیع الطرق التی ذکرها الألبانی، لا علی بعضها دون بعضها الآخر، فما من طریق إلا وفیه کذاب أو مدلس أو ناصبی مبغض لأهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین متهم بوضعه لهذا الحدیث وترویجه.

وقوله: (وکأنه لذلک رمز السیوطی له بالصحة) وهو عجیب منه فمتی صار یحتج بتصحیح السیوطی، وهو المعروف بالتساهل فی تصحیح الأخبار، وخصوصا تلک التی تکون لها طرق کثیرة، حتی وان کانت شدیدة الضعف، ومن تأمل فی

ص: 590

کتبه وجد صحة ذلک، ووجد بأنه صحح وقوی فی کتبه أحادیث لم یسبقه أحد إلی تقویتها، والألبانی نفسه قد اعترف بهذه الحقیقة فی کتابه (تمام المنة) فقال: (إن السیوطی معروف بتساهله فی التصحیح والتضعیف فالأحادیث التی صححها أو حسنها فیه قسم کبیر منها ردها علیه الشارح المناوی وهی تبلغ المئات إن لم نقل أکثر من ذلک وکذلک وقع فیه أحادیث کثیرة موضوعة مع أنه قال فی مقدمته: «وصنته عما تفرد به وضاع أو کذاب» وقد تتبعتها بصورة سریعة وهی تبلغ الألف تزید قلیلا أو تنقص کذلک...ومن الغریب أن قسما غیر قلیل فیها شهد السیوطی نفسه بوضعها فی غیر هذا الکتاب فهذا کله یجعل الثقة به ضیقة نسأل الله العصمة)(1).

فیثبت بعد کل ما قدمنا کذب الألبانی فی تحسینه وتصحیحه لطرق هذا الحدیث، وان تحسینه أو تصحیحه لم یکن مبنیا علی أساس علمی مهنی، وان رائحة التعصب الأعمی والتحیز البغیض علی حساب الحقیقة تفوح من مناقشاته ومحاولاته البائسة لإثبات ما هو مشهور ضعفه ومعلوم کذبه.

وبهذا نختم الکلام حول هذا الحدیث الذی هو الحدیث الخامس من أحادیث هذا الفصل، وبه أیضا یختم الکلام فی هذا الفصل کله، وانی لاعتذر شدید الاعتذار لأهل بیت العصمة والطهارة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین أولا، وللقارئ الکریم ثانیا، عن عدم استقصاء جمیع أحادیث فضائلهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وروایاتها، وتحقیق ما قیل فیها من زور وبهتان، بسبب خروج مثل هذا الأمر عن طاقتی وعدم توفر أسباب ذلک فی الوقت الحاضر، لان مثل هذا المشروع ینبغی أن تتفرغ له کوادر متخصصة ومتأهلة لمثل هذه البحوث الرجالیة والروائیة، نسأل الله


1- تمام المنة لمحمد ناصر الألبانی ج1 ص29.

ص: 591

سبحانه أن یوفقنا أو یوفق بعض المؤمنین من الباحثین أو المؤسسات العلمیة لذلک، ففیه خدمة جلیلة ونصرة أکیدة لمذهب أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وهو مشروع یستحق أن تفنی دونه الأعمار، وتنفق فی سبیله الأموال، ولعل هذا البحث یکون بادرة خیر وبذرة صلاح فی تحقیق هذا المشروع الضخم، آمین یا رب العالمین.

ص: 592

ص: 593

الفصل الخامس: اختلال موازین أهل الحدیث وتساهلهم المفرط فی معالجة فضائل الصحابة... بعض فضائل أبی بکر وعمر أنموذجا

اشارة

ص:594

ص:595

من یقیس تعامل محدثی أهل السنة مع أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وفضائلهم من جهة، ومع باقی الصحابة وبالخصوص الثلاثة منهم وعائشة من جهة أخری، یری العجب العجاب، فحینما یتعاملون مع فضائل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین یتعصبون فی تطبیق قواعد الجرح والتعدیل ویتزمتون فی التقییم، حتی یصل بهم الحال إلی استعمال الکذب والتدلیس واتباع الهوی والعصبیة کما مر علینا فی الفصل السابق کل ذلک فی سبیل ردها ودحضها، لکنهم یبدون فی غایة التسامح والتساهل حینما یتعلق الأمر فی الصحابة الثلاثة وعائشة ومن هم بمستواهم من الأهمیة عندهم.

وحینما یتعاملون مع أشخاص أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وفضائلهم فإنهم یحاولون الوقوف وقفة رجل واحد فی تسفیهها تارة وتحریف معانیها ومدالیلها تارة ثانیة، أو المجیء بما یناقضها تارة ثالثة، أو قلب مفرداتها ونسبتها إلی صحابة آخرین، أو غیر ذلک مما فصلناه وذکرناه فی الفصل السابق، لکنهم وحینما یتعلق الأمر بفضائل غیرهم، یقفون وقفة رجل واحد

ص: 596

محاولین بجهدهم وغایة طاقتهم تصحیحها وإیجاد شواهد لها ومتابعات وتأویل ما فیها من تضارب وتناقض بوجوه تخفف وتحسن ما فیها من الاختلاف والتهافت، بل وإیجاد مخارج ووجوه حکمة حتی للأحادیث المکذوبة منها، فمن باب المثال انظر بعین الإنصاف إلی قول المناوی فی (فیض القدیر شرح الجامع الصغیر) عند حدیثه عن روایة (عمر بن الخطاب سراج أهل الجنة)، قال المناوی: (أی یزهو ویضیء لأهلها کما یضیء السراج لأهل الدنیا وأنهم ینتفعون بهدیه فیها کما ینتفع أهل الدنیا بضوء المصباح لما سبق أن العلماء یحتاج الناس إلیهم فی الجنة... قال الهیثمی: فیه عبد الله بن إبراهیم بن أبی عمر الغفاری وهو ضعیف...ثم قال: غریب من حدیث مالک تفرد به عنه الواقدی)(1). فانظر کیف ان المناوی مع اعترافه بضعف هذا الحدیث وکذبه شرحه بما لا مزید علیه واوجد له وجهاً یحببه إلی النفوس والأسماع، بینما رأینا کیف تعاملوا مع حدیث الطائر المشوی أو حدیث الثقلین وکیف القوا علیهما شبهات لا تخطر علی قلب بشر، وکیف کرهوا القارئ والسامع فیهما وفی مضامینهما.

والحاصل أنّ تعداد الفرق بین موقفهم من فضائل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وبین موقفهم من فضائل غیرهم، مما یطول شرحه، وتکثر شواهده، فتبقی الإشارة إلیه أبلغ، والاختصار أوفق، وقد سقنا فی هذا الفصل عدة شواهد علی هذه الحقیقة، واکتفینا ببعض فضائل أبی بکر بن أبی قحافة، وعمر بن الخطاب، إنموذجاً لهذه الازدواجیة فی التقییم، والتناقض فی الموقف، وعلیها فلیقس القارئ الکریم ما عداها.


1- فیض القدیر شرح الجامع الصغیر للمناوی ج 4 ص 474.

ص:597

الحدیث الأول: لو وزن إیمان أبی بکر بإیمان الناس لرجح إیمان أبی بکر

اشارة

روی هذا الحدیث فی مصادر أهل السنة بسندین أحدهما ینتهی سنده إلی عمر بن الخطاب، والآخر ینتهی سنده إلی عبد الله بن عمر، فأما سند عمر فهو کما رواه إسحاق بن راهویه عن ابن المبارک قال حدثنا: (عبد الله بن شوذب، عن محمد ابن جحادة، عن سلمة بن کهیل، عن هزیل بن شرحبیل قال: قال عمر بن الخطاب لو وزن إیمان أبی بکر الصدیق بإیمان أهل الأرض لرجحهم)(1) وهؤلاء کلهم ثقات عند أهل السنة فالحدیث عندهم صحیح.

وأما حدیث ابن عمر فقد أخرجه ابن عساکر فی (تاریخ مدینة دمشق) حیث قال: (أخبرنا أبو القاسم بن السمرقندی ثنا أبو القاسم بن مسعدة أنا حمزة بن یوسف أنا أبو أحمد بن عدی ثنا محمد بن أحمد بن بخیت نا أحمد بن عبد الخالق الضبعی نا عبد الله بن عبد العزیز بن أبی رواد حدثنی أبی عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله «صلی الله علیه __ وآله __ وسلم» لو وزن إیمان أبی بکر بإیمان أهل الأرض لرجح)(2).

ولنا علی حدیث عمر بن الخطاب عدة ملاحظات منها:

1: ان حدیث عمر لیس حدیثا نبویا وإنما هو من أقوال عمر وآرائه الشخصیة

والحدیث الأول وان کان صحیح السند عندهم علی حسب موازینهم فی الجرح والتعدیل، إلا انه موقوف علی عمر، أی انه من کلام عمر بن الخطاب ولیس من کلام النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، وقد اعترفوا بالإجماع بان حدیث


1- مسند ابن راهویه: ج3، ص671.
2- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج 30 ص 126.

ص: 598

عمر الصحیح السند عندهم هو من قبیل الموقوف أی الذی لم یقله النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم وإنما هو من آراء عمر بن الخطاب وأقواله، قال الفتنی فی (تذکرة الموضوعات): (فی المقاصد «لو وزن إیمان أبی بکر بإیمان الناس لرجح إیمان أبی بکر» عن عمر موقوفا بسند صحیح وعن ابن عمر مرفوعا بسند ضعیف)(1).

وقال العجلونی فی (کشف الخفاء): (رواه إسحاق بن راهویه والبیهقی فی الشعب بسند صحیح عن عمر من قوله)(2)وعبارة (من قوله) تصریح بان هذا الحدیث لیس من الأحادیث النبویة بل هو من الأحادیث العمریة والآراء الشخصیة.

2: ان حدیث عمر وان صح سنده إلا انه لا قیمة علمیة له ولا تثبت به فضیلة

لان إخباره برجحان إیمان أبی بکر علی إیمان الناس هو إخبار عن المغیبات، والإخبار عن المغیبات لا یصح إلا أن یکون للمخبر اتصال بالغیب کالنبی والملک وأمثالهم، وعمر لیس کذلک قطعا.

وأما أن یکون الإخبار نقلا عمن له اتصال بالغیب کنقل المخبر عن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، وعمر هنا لم یقل اخبرنا النبی صلی الله علیه وآله وسلم، ولو کان النبی صلی الله علیه وآله وسلم قد قاله لما أخفاه عمر بن الخطاب، ولما خفی عن الصحابة ولتناقلته الرواة ولشاع وذاع أمره.

 إذن فإذا لم یکن لعمر اتصال بالغیب، ولم یأخذه عمن له اتصال بالغیب، فهذا یعنی ان تقییم عمر لإیمان أبی بکر هو تقییم شخصی لا یرجع إلی جهة موثوقة لها اطلاع علی الغیب، وهو من کیس عمر، وآرائه الشخصیة التی لا إلزامیة لها ولا حجة فیها علی غیر عمر بن الخطاب.


1- تذکرة الموضوعات للفتنی ص93.
2- کشف الخفاء للعجلونی ج 2 ص.165

ص: 599

3: ان فی هذا الحدیث منقصة وظلماً لأمة محمد صلی الله علیه وآله وسلم

ان فی قول عمر وتقییمه لإیمان أبی بکر، وانه لو وزن مع إیمان الناس لرجح، ظلماً وتعسفاً فی حق أُمة محمد صلی الله علیه وآله وسلم، وقد أوضح الشیخ عبد الله الحسن فی کتابه (المناظرات فی الإمامة) هذه الحقیقة بقوله: (أما الحدیث الذی یقول: لو وزن إیمان أمتی بإیمان أبی بکر لرجح إیمان أبی بکر، فهو باطل وغیر معقول، ولا یمکن أن یکون رجل قضی أربعین سنة من عمره یشرک بالله ویعبد الأصنام أرجح إیمانا من أمة محمد بأسرها، وفیها أولیاء الله الصالحین والشهداء والأئمة الذین قضوا أعمارهم کلها جهادا فی سبیل الله، ثم أین أبو بکر من هذا الحدیث؟ لو کان صحیحا لما کان فی آخر حیاته یتمنی أن لا یکون بشرا. ولو کان إیمانه یفوق إیمان الأمة ما کانت سیدة النساء فاطمة بنت الرسول __ صلی الله علیه وآله وسلم __، تغضب علیه وتدعو الله علیه فی کل صلاة تصلیها)(1).

4: لا تکفی صحة السند وحدها لقبول متن الحدیث ومضمونه

الثابت عند أهل السنة بحسب قواعدهم فی تصحیح الأحادیث وتضعیفها: ان الحدیث الصحیح لا یؤخذ به مطلقا، فکثیر من الأحادیث عندهم قد صحت أسانیدها إلا أنهم أعرضوا عنها ولم یقبلوها، لوجود علة فی المتن مخالفة للقرآن أو غیره من الثوابت الإسلامیة، قال ابن حجر فی (النکت علی ابن الصلاح): (صحة الحدیث وحسنه لیس تابعا لحال الراوی فقط، بل لأمور تنضم إلی ذلک من المتابعات والشواهد وعدم الشذوذ والنکارة)(2)، والعلة موجودة کما أوضحنا، فلا مجال لقبول حدیث عمر وتقییمه حتی وان صح سنده.


1- المناظرات فی الإمامة للشیخ عبد الله الحسن ص 572 __ 573.
2- النکت علی ابن الصلاح لابن حجر ج1 ص404.

ص: 600

5: هذا الحدیث من ضمن الأحادیث المسروقة من أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه

ان حدیث عمر بن الخطاب فی حق أبی بکر هو من الأحادیث المقلوبة، قد منح له بعد أن کان لغیره، وفقا للسیاسة التی بیناها فی غیر موضع من هذا الکتاب، والتی أسمیناها بسیاسة روی قلب الأحادیث من أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین إلی غیرهم، فقد روی کثیر من کتب أهل السنة ان النبی صلی الله علیه وآله وسلم قال فی حق أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه: (إن السماوات والأرض لو وضعتا فی کفة ثم وضع إیمان علی فی کفة لرجح إیمان علی).

قال ابن عساکر فی (تاریخ مدینة دمشق): (أخبرنا أبو بکر محمد بن عبد الباقی أنا أبو إسحاق إبراهیم بن سعید الحبال أنا الشریف أبو عبد الله محمد بن عبید الله بن الحسین بن طاهر بن یحیی الحسینی نا أبو عبد الله الکاتب النعمانی نا أحمد بن محمد بن سعید نا علی بن الحسن التیمی أنا جعفر بن محمد بن حکیم وجعفر بن أبی الصباح قالا نا إبراهیم بن عبد الحمید عن رقبة بن مصقلة العبدی عن أبیه عن جده قال أتی رجلان عمر بن الخطاب فی ولایته یسألانه عن طلاق الأمة فقام معتمدا بشیء بینهما حتی أتی حلقة فی المسجد وفیها رجل أصلع فوقف علیه فقال یا أصلع ما قولک فی طلاق الأمة فرفع رأسه إلیه ثم أومأ إلیه بإصبعیه فقال عمر للرجلین تطلیقتان فقال أحدهما سبحان الله جئنا لنسألک وأنت أمیر المؤمنین فمشیت معنا حتی وقفت علی هذا الرجل فسألته فرضیت منه بأن أومأ إلیک فقال أو تدریان من هذا قالا لا قال هذا علی بن أبی طالب أشهد علی رسول الله (صلی الله علیه __ وآله __ وسلم) سمعته وهو یقول لو أن السماوات السبع وضعن فی کفة میزان ووضع إیمان علی فی کفة میزان لرجح بها إیمان علی)(1) وروی ابن عساکر


1- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر  ج 42 ص 340 __ 341.

ص: 601

حدیثا آخر فیه الفضیلة نفسها لکن بسند آخر، وقد أخرج السید المرعشی النجفی فی (شرح إحقاق الحق) کثیراً ممن روی هذا الحدیث فی کتبهم ومصنفاتهم فراجع(1).

ولکن القوم کعادتهم طعنوا فی کل ما یرفع من شأن أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه، قال الذهبی فی (میزان الاعتدال) فی ترجمة محمد بن تسنیم الوراق: (محمد بن تسنیم الوراق. ما أعرف حاله، لکن روی حدیثا باطلا رواه ابن عساکر فی ترجمة أمیر المؤمنین علی رضی الله عنه عن قاضی المرستان، عن الجوهری، عن الدارقطنی، عن محمد بن القاسم المحاربی، حدثنا محمد بن تسنیم، حدثنا جعفر بن محمد بن حکیم الخثعمی، عن إبراهیم بن عبد الحمید، عن رقبة بن مصقلة، عن عبد الله بن ضبیعة، عن أبیه، عن جده أن عمر بن الخطاب قال: أشهد لسمعت رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم یقول: إن السماوات والأرض لو وضعتا فی کفة ثم وضع إیمان علی فی کفة لرجح إیمان علی)(2).

أقول: ولا اعتقد إلا ان الذهبی قد کذب فی زعمه عدم معرفته ب_(محمد بن تسنیم الوراق) لان محمد بن تسنیم هو من رجال ابن خزیمة الذین روی عنهم فی صحیحه(3)، وکذلک هو من رجال الطبرانی فی معجمه(4)، وهو ممن ذکره ابن حبان فی کتابه (الثقات) قائلا: (محمد بن تسنیم الحضرمی أبو الطاهر من أهل الکوفة یروی عن أبی نعیم وعبید الله روی عنه یعقوب بن سفیان وأهل الکوفة)(5)، وقال ابن حجر فی (تقریب التهذیب): (محمد بن تسنیم الحضرمی أبو الطاهر الوراق الکوفی


1- شرح إحقاق الحق للسید المرعشی ج 5 ص 614.
2- میزان الاعتدال للذهبی ج 3 ص 494.
3- راجع صحیح ابن خزیمة ج 3 ص 216.
4- راجع مثلا المعجم الکبیر للطبرانی  ج 4 ص 211.
5- الثقات لابن حبان ج 9 ص 96.

ص: 602

صدوق من الحادیة عشرة)(1)، فکیف یعقل بعد کل هذا أن لا یدری الذهبی حال محمد بن تسنیم؟! لکنها العصبیة وعدم الإنصاف الذی لیس له دواء.

وأما حدیث ابن عمر فیرد علیه عدة ملاحظات منها

اشارة

وحدیث ابن عمر الذی أخرجه ابن عساکر فی (تاریخ مدینة دمشق) حیث قال: (أخبرنا أبو القاسم بن السمرقندی ثنا أبو القاسم بن مسعدة أنا حمزة بن یوسف أنا أبو أحمد بن عدی ثنا محمد بن أحمد بن بخیت نا أحمد بن عبد الخالق الضبعی نا عبد الله بن عبد العزیز بن أبی رواد حدثنی أبی عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله «صلی الله علیه __ وآله __ وسلم» لو وزن إیمان أبی بکر بإیمان أهل الأرض لرجح)(2) یرد علیه اغلب ما ورد علی حدیث أبیه عمر بن الخطاب فلا نعید، ویرد علیه إضافة إلی ذلک عدة أمور منها:

1: فی احد طرقه عبد الله بن عبد العزیز وهو کذاب وأحادیثه عن أبیه لا یتابع علیها

لحدیث ابن عمر طریقان فی أحدهما (عبد الله بن عبد العزیز) المطعون فی وثاقته وصدقه، وحدیثه عن أبیه منکر، کما قال ابن عدی فی (الکامل): (عبد الله بن عبد العزیز بن أبی رواد یحدث عن أبیه عن نافع عن ابن عمر بأحادیث لا یتابعه أحد علیه ثنا محمد بن أحمد بن بخیت ثنا أحمد بن عبد الخالق الضبعی ثنا عبد الله بن عبد العزیز بن أبی رواد أخبرنی أبی عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم: لو وزن إیمان


1- تقریب التهذیب لابن حجر ج 2 ص 66.
2- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج 30 ص 126.

ص: 603

أبی بکر بإیمان أهل الأرض لرجح... قال الشیخ: وعبد الله بن عبد العزیز له غیر ما ذکرت أحادیث لم یتابعه أحد علیه ولم أر للمتقدمین فیه کلاما والمتقدمون قد تکلموا فیمن هو أصدق من عبد الله بن عبد العزیز وإنما ذکرته لما شرطت فی أول کتابی هذا)(1) وهذا کما لا یخفی إقرار بنکارة حدیث ابن عمر وعدم اعتباره.

ولکن کیف سوغ لنفسه (الشیخ) الذی ادعی بان عبد الله بن عبد العزیز لم یأتِ فی حقه کلام من المتقدمین، وقد نقل ابن حجر فی (لسان المیزان) قدح عدة من أعلامهم القدماء فیه حیث قال: («عبد الله» بن عبد العزیز بن أبی رواد، عن أبیه، قال أبو حاتم وغیره أحادیثه منکرة، وقال ابن الجنید لا یساوی شیئا، وقال ابن عدی روی أحادیث عن أبیه لا یتابع علیها، «حدثنا» محمد بن أحمد بن عبد الخالق الضبعی ثنا عبد الله بن عبد العزیز حدثنی أبی عن نافع عن ابن عمر رضی الله عنهما مرفوعا: لو وزن إیمان أبی بکر بإیمان أهل الأرض لرجح انتهی، وبقیة کلام ابن الجنید یحدث بأحادیث کذب وذکره ابن حبان فی الثقات، وقال یعتبر حدیثه إذا روی عن غیر أبیه وفی روایته عن إبراهیم بن طهمان مناکیر، وقال العقیلی له أحادیث مناکیر لیس ممن یقیم الحدیث)(2).

2: فی الطریق الثانی عیسی بن عبد الله ضعیف یسرق الحدیث

وهذا الطریق رواه ابن عدی فی (الکامل) فقال: (حدثنا زید بن عبد العزیز ابن حبان قال: ثنا عیسی بن عبد الله بن سلیمان القرشی قال: ثنا رواه بن الجراح


1- الکامل لعبد الله بن عدی ج 4 ص 201.
2- لسان المیزان لابن حجر ج 3 ص 310.

ص: 604

قال: ثنا عبد العزیز بن أبی رواد عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم: لو وضع إیمان أبی بکر علی إیمان هذه الأمة لرجح بها)(1).

وهو ضعیف یسرق الحدیث قال ابن عدی فی المصدر نفسه: (عیسی بن عبد الله بن سلیمان القرشی العسقلانی ضعیف یسرق الحدیث)(2).

3: حدیث ابن عمر مضطرب الإسناد کما فی علل الدارقطنی

قال الدارقطنی فی (علل الدارقطنی): (وسئل عن حدیث هزیل بن شرحبیل عن عمر لو وزن إیمان أبی بکر بإیمان أهل الأرض لرجح بهم فقال یرویه عبد الله ابن شوذب واختلف عنه فرواه ابن المبارک وأیوب بن سوید الرملی عن ابن شؤذب عن محمد بن جحادة عن سلمة بن کهیل عن هزیل بن شرحبیل عن عمر وخالفهم رواد بن الجراح فرواه عن ابن شؤذب عن محمد بن جحادة عن طلحة بن مصرف عن هزیل عن عمر وخالفهم ضمرة بن ربیعة رواه عن ابن شؤذب عن بن جحادة عن سلمة عن عمرو بن شرحبیل ولم یقل عن هزیل ووهم وأصحها قول ابن المبارک ومن تابعه)(3).

أقول: قوله (وأصحها قول ابن المبارک) إشارة منه إلی حدیث عمر بن الخطاب الذی أثبتنا انه موقوف ومن آرائه الشخصیة، وانه لیس من قول النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم. فالحدیث بکلا سندیه ضعیف لا یعتد به، ولا تصح نسبته بجمیع طرقه إلی النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم.


1- الکامل لعبد الله بن عدی ج 5 ص 259 __ 260.
2- المصدر نفسه ص258.
3- علل الدارقطنی ج2 ص223 __ 224.

ص: 605

استماتتهم فی سبیل إثبات هذا الحدیث الضعیف

اشارة

استمات علماء أهل السنة فی سبیل تقویة حدیث ابن عمر الضعیف، بغیة إثبات ما هو مستحیل، فحاولوا تقویته تارة بالشواهد، وأخری بالمتابعات، وثالثة بالتدلیس والتعمیة، لکن محاولاتهم ولله الحمد جمیعها باءت بالفشل، لان جمیع الشواهد والمتابعات التی حاولوا تقویة الحدیث بها ضعیفة وساقطة عن الاعتبار، وسنستعرض فیما یأتی جملة من تلک المحاولات مع تبیان مواقع الخلل والضعف فی تلک الشواهد والمتابعات المزعومة.

1: تدلیس السخاوی واستماتته لإثبات هذا الحدیث
اشارة

قال السخاوی فی (المقاصد الحسنة): (حَدِیث: لَوْ وُزِنَ إِیمَانُ أَبِی بَکْرٍ بِإِیمَانِ النَّاسِ لَرَجَحَ إِیمَانُ أَبِی بَکْرٍ، إسحاق بن راهویه والبیهقی فی الشعب بسند صحیح عن عمر من قوله، وراویه عن عمر هذیل بن شرحبیل، وهو عند ابن المبارک فی الزهد ومعاذ بن المثنی فی زیادات مسند مسدد، وکذا أخرجه ابن عدی فی ترجمة عیسی بن عبد اللَّه من کامله، وفی مسند الفردوس معا من حدیث ابن عمر مرفوعا بلفظ: لو وضع إیمان أبی بکر علی إیمان هذه الأمة لرجح بها، وفی سنده عیسی بن عبد اللَّه بن سلیمان وهو ضعیف، لکنه لم ینفرد به، فقد أخرجه ابن عدی أیضا من طریق غیره: لو وزن إیمان أبی بکر بإیمان أهل الأرض لرجحهم، وله شاهد فی السنن أیضا عن أبی بکرة مرفوعا: أن رجلا قال: یا رسول اللَّه رأیت کأن میزانا أنزل من السماء فوزنت أنت وأبو بکر فرجحت أنت، ثم وزن أبو بکر بمن بقی فرجح، الحدیث)(1).

أقول: وتوجد عدة ملاحظات علی کلام السخاوی نذکر منها:


1- المقاصد الحسنة للسخاوی ص186.

ص: 606

ألف: إنصاف السخاوی فی قوله ان الحدیث من قول عمر لا من قول النبی صلی الله علیه وآله وسلم

قد أنصف السخاوی فی الإشارة إلی ان الطریق الذی حکموا علیه بالصحة هو من قول عمر بن الخطاب لا من قول النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، فقال: (بسند صحیح عن عمر من قوله)، وکذلک أنصف فی تصریحه بضعف حدیث ابن عمر المروی عن عیسی بن عبد اللَّه بن سلیمان فقال: (وفی سنده عیسی بن عبد اللَّه بن سلیمان وهو ضعیف).

باء: تدلیسه وإیهامه للقارئ بان للحدیث متابعاً من دون أن یشیر إلی ضعف سنده

ولکن السخاوی لم ینصف ولم یعدل فی الحکم حینما قال: (لکنه __ أی عیسی بن عبد الله بن طهمان __ لم ینفرد به، فقد أخرجه ابن عدی أیضا من طریق غیره: لو وزن إیمان أبی بکر بإیمان أهل الأرض لرجحهم) وسکوته عن الحکم علی هذا الطریق الضعیف تدلیس وإیهام للقارئ بان هذا الطریق المسکوت عنه صحیح لا غبار علیه، وزاد الأمر إیهاما حینما لم یبین اسم الراوی الذی روی عنه ابن عدی ذلک الطریق الثانی، لان السخاوی لو أورد اسم الراوی لبان تدلیسه وإیهامه، لان راوی هذه الروایة هو (عبد الله بن عبد العزیز بن أبی رواد) الذی استعرضنا حاله فیما سبق وبینا بأنه مطعون فی عدالته وصدقه ووثاقته.

جیم: إثبات کذب ادعائه بان للحدیث شاهداً صحیحاً
اشارة

وکذلک لم ینصف السخاوی فی قوله: (وله __ أی لحدیث ابن عمر الضعیف __ شاهد فی السنن أیضا عن أبی بکرة مرفوعا: أن رجلا قال: یا رسول اللَّه رأیت کأن میزانا أنزل من السماء فوزنت أنت وأبو بکر فرجحت أنت، ثم وزن أبو بکر بمن بقی فرجح، الحدیث).

أقول: وسکوته عن تضعیف هذه الروایة من أعظم التدلیس علی القراء،

ص: 607

لان سکوته موهم بالصحة، لکن الحقیقة خلاف ذلک، لضعفها وسقوطها عن الاعتبار.

وهی کما رواها أبو داود فی سننه کالتالی: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّی حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِیُ حَدَّثَنَا الأَشْعَثُ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِی بَکْرَةَ أَنَّ النَّبِیَّ __ صلی الله علیه __ وآله __ وسلم __ قَالَ ذَاتَ یَوْمٍ «مَنْ رَأَی مِنْکُمْ رُؤْیَا». فَقَالَ رَجُلٌ أَنَا رَأَیْتُ کَأَنَّ مِیزَانًا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ فَوُزِنْتَ أَنْتَ وَأَبُو بَکْرٍ فَرُجِحْتَ أَنْتَ بِأَبِی بَکْرٍ وَوُزِنَ عُمَرُ وَأَبُو بَکْرٍ فَرُجِحَ أَبُو بَکْرٍ وَوُزِنَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ فَرُجِحَ عُمَرُ ثُمَّ رُفِعَ الْمِیزَانُ فَرَأَیْنَا الْکَرَاهِیَةَ فِی وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ __ صلی الله علیه __ وآله __ وسلم __)(1).

وهذه الروایة ضعیفة لعدة أسباب منها:

أولا: لان فیها محمد بن المثنی الذی کان فی عقله شیء

محمد بن المثنی وهو (محمد بن المثنی بن قیس بن دینار، أبو موسی العنزی الزمن)(2) وهو وان کان ثقة عندهم، وروی له أصحاب الکتب الستة وغیرهم، إلا انه کان فی عقله شیء، قال الخطیب البغدادی: (أخبرنی محمد بن علی المقرئ، حدثنا أبو مسلم بن مهران الحافظ، حدثنا عبد المؤمن بن خلف النسفی قال: سألت أبا علی صالح بن محمد عن أبی موسی الزمن فقال: صدوق اللهجة، وکان فی عقلة شیء... حدثنا محمد بن نعیم الضبی، قال: سمعت أبا نصر أحمد بن سهل الفقیه ببخاری یقول: سمعت أبا علی صالح بن محمد یقول: کان شیخ بالبصرة یقال له أبو موسی الزمن فی عقله شیء)(3).


1- سنن أبی داود لابن الأشعث السجستانی ج2 ص398.
2- تاریخ بغداد للخطیب البغدادی ج 4 ص 51.
3- المصدر السابق ص52 __ 53.

ص: 608

ثانیا: وفیها محمد بن عبد الله المثنی لم یکن من فرسان الحدیث وقد اختلط اختلاطا شدیدا ولم یسمع من أشعث

ومحمد بن عبد الله المثنی بن عبد الله بن انس بن مالک الأنصاری القاضی، وهو من صغار أتباع التابعین، روی له أصحاب الکتب الستة وغیرهم، وقد وثقوه، وهو وان کان ثقة عندهم إلا انه لم یکن من المتمرسین الأثبات فی الحدیث، وإنما کان من أهل القضاء والرأی، قال الخطیب البغدادی فی (تاریخ بغداد): (أخبرنی أبو بکر البرقانی، حدثنی محمد بن أحمد الأدمی، حدثنا محمد ابن علی الإیادی، حدثنا زکریا الساجی قال: محمد بن عبد الله الأنصاری رجل جلیل عالم لم یکن عندهم من فرسان الحدیث مثل یحیی القطان ونظرائه غلب علیه الرأی)(1).

وقال أیضا: (أخبرنا أبو سعید المالینی __ قراءة __ أخبرنا عبد الله بن عدی الحافظ. أخبرنا زکریا الساجی قال: حدثت عن یحیی بن معین قال: کان محمد بن عبد الله الأنصاری یلیق به القضاء فقیل له: یا أبا زکریا فالحدیث فقال:

للحرب أقوام لها خلقوا       ***     وللدواوین کتاب وحساب)(2)

وقد اختلط محمد بن عبد الله المثنی اختلاطا شدیدا، قال المزی: (وقال أبو داود: تغیر تغیرا شدیدا)(3)، وعلیه فیجب التوقف فی قبول روایته، للقاعدة التی تبناها أهل الحدیث من السنة وهی: عدم قبول روایة المختلط بعد الاختلاط، أو الذی یشک فی أمره، فلا یدری أحدث قبل الاختلاط أم بعده؟ قال ابن الصلاح فی


1- المصدر السابق ج 3 ص 28.
2- المصدر نفسه.
3- تهذیب الکمال للمزی ج 25 ص 542.

ص: 609

(مقدمة ابن الصلاح) عند حدیثه عن (النوع الثانی والستون معرفة من خالط فی آخر عمره من الثقات): (هذا فن عزیز مهم، لم أعلم أحداً أفرده بالتصنیف واعتنی به، مع کونه حقیقاً بذلک جداً. وهم منقسمون: فمنهم من خلط لاختلاطه وخرفه، ومنهم من خلط لذهاب بصره،أو لغیر ذلک. والحکم فیهم: أنه یقبل حدیث من أخذ عنهم قبل الاختلاط، ولا یقبل حدیث من أخذ عنهم بعد الاختلاط،أو أشکل أمره، فلم یدر هل أخذ عنه قبل الاختلاط أو بعده)(1).

وقال السیوطی فی (تدریب الراوی): (فمنهم من خلط لخرفه أو لذهاب بصره أو لغیره فیقبل ما روی عنهم قبل الاختلاط ولا یقبل ما بعد أوشک فیه)(2)، ونحن علی اقل التقادیر نشک فی هل ان حدیث (کَأَنَّ مِیزَانًا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ فَوُزِنْتَ أَنْتَ وَأَبُو بَکْرٍ فَرُجِحْتَ أَنْتَ بِأَبِی بَکْرٍ وَوُزِنَ عُمَرُ وَأَبُو بَکْرٍ فَرُجِحَ أَبُو بَکْرٍ وَوُزِنَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ فَرُجِحَ عُمَرُ ثُمَّ رُفِعَ الْمِیزَانُ) قد صدر عنه قبل الاختلاط أم بعده، فلا نقبل منه هذا الحدیث ومن یرید ان یصحح هذا الحدیث علیه أن یثبت أولا ان تحدیثه بهذا الحدیث قد وقع قبل الاختلاط.

ومحمد بن عبد الله المثنی إضافة إلی اختلاطه، فانه کان یقرأ من کتبه، وکتبه هذه لم تکن مصانة من التلاعب والدس، فانه کان له غلام یدخل فی کتبه بعض الأحادیث من دون علمه، قال الخطیب البغدادی فی (تاریخ بغداد): (وقد روی الأنصاری أیضا حدیث یزید بن الأصم هذا هکذا. ویقال إن غلاما له أدخل علیه حدیث ابن عباس)(3).


1- مقدمة ابن الصلاح ج1 ص87.
2- تدریب الراوی للسیوطی ج2 ص372.
3- تاریخ بغداد للخطیب البغدادی ج 3 ص 27.

ص: 610

وحتی کتبه هذه لم تسلم له، فقد تعرضت للتلف، فکان یحدث من کتب غلامه بأحادیث ضعیفة، قال الخطیب: (وسمعت أبا عبد الله ذکر الحدیث الذی رواه الأنصاری عن حبیب بن الشهید عن میمون عن ابن عباس: أن النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم إحتجم وهو صائم فضعفه. وقال: کانت ذهبت للأنصاری کتب فکان بعد یحدث من کتب غلامه أبی حکم __ أراه. قال: فکان هذا من تلک)(1).

ومن کان حاله هذا ضعف حدیثه وشک فی صحة مرویاته، قال السیوطی فی (تدریب الراوی): (قال الحاکم فی المدخل: المجروحون طبقات الأولی قوم وضعوا الحدیث الثانیة قلبوه فوضعوا لأحادیث أسانیدها الثالثة قوم حملوه الشره علی الروایة عن قوم لم یدرکوهم الرابعة قوم عمدوا إلی الموقوفات فرفعوها الخامسة قوم عمدوا إلی المراسیل فوصلوها السادسة قوم غلب علیهم الصلاح فلم یتفرغوا لضبط الحدیث فدخل علیهم الوهم السابعة قوم سمعوا من شیوخ ثم حدثوا عنهم بما لم یسمعوا الثامنة قوم سمعوا کتبا ثم حدثوا من غیر أصول سماعهم التاسعة قوم جیء إلیهم لیحدثوا بها فأجابوا من غیر أن یدروا أنها سماعهم العاشرة قوم تلفت کتبهم فحدثوا من حفظهم علی التخمین)(2) وحدیث الأنصاری داخل فی ضمن هذه الطبقات من المجروحین قطعا، وعلی من یرید ان یثبت صحة حدیثه المکذوب أن یثبت بأنه حدث من کتابه ولیس من کتاب غلامه وان أحدا لم یدخله علیه، ومن دون إثبات ذلک خرط القتاد.

ثم ان محمد بن عبد الله بن المثنی قد روی هذه الروایة عن الأشعث، وهو


1- المصدر السابق ص28.
2- تدریب الراوی للسیوطی ج2 ص371.

ص: 611

(أشعث بن عبد الله بن جابر الحدانی الضریر) ولکن (معاذ بن معاذ) الذی هو تلمیذ الأشعث الذی کان ملازما له علی الدوام، کان ینفی أن یکون محمد بن المثنی قد حضر عند الأشعث لأخذ الحدیث، وهو اتهام صریح بکذب محمد بن عبد الله بن المثنی فی روایته لأحادیث الأشعث، قال العقیلی فی (ضعفاء العقیلی): (محمد بن عبد الله بن المثنی الأنصاری حدثنا عبد الله بن أحمد قال سمعت أبی عن معاذ بن معاذ قال والله ما رأیته عند الأشعث یعنی محمد بن عبد الله الأنصاری)(1)، وجاء فی کتاب (العلل) لأحمد بن حنبل: (سمعت أبی یذکر عن بعض أصحاب الحدیث قال سمعت معاذ بن معاذ یقول والله ما رأیته عند الأشعث یعنی محمد بن عبد الله الأنصاری)(2)، فلا یعتد حینئذ بحدیث عن أشعث بن عبد الله بعد أن شهد معاذ بعدم حضوره وأخذه عنه.

وقد حاول ابن حجر فی تهذیب التهذیب إسقاط هذه التهمة عن محمد بن عبد الله بن المثنی الأنصاری، عن طریق إسقاط شهادة معاذ بشهادة أخری لنفس محمد بن عبد الله، یقر فیها بحضوره ویکذب من یزعم عدم حضوره عند الأشعث، فعدّها ابن حجر تعارضاً بین الشهادتین فتساقطا، قال ابن حجر فی (تهذیب التهذیب): (وقال معاذ: ما رأیته عند الأشعث قط... وقال الساجی: سمعت محمد بن المثنی یقول سمعت الأنصاری یقول: من زعم أصحاب أشعث ممن کان یلزمه أنه کان لا یرانی إلی جنبه فهو من الکاذبین کأنه یعرض بمعاذ بن معاذ وعلی هذا فقد تعارضا فتساقطا)(3).


1- ضعفاء العقیلی ج 4 ص 90 __ 91.
2- العلل لأحمد بن حنبل ج 2 ص 302.
3- تهذیب التهذیب لابن حجر ج 9 ص 245 __ 246.

ص: 612

أقول: لا یمکن أن تحل المسألة بهذه السذاجة یا ابن حجر، لان شهادة معاذ أقوی، وذلک لان معاذاً کان ملازما لأشعث بن عبد الله الحدانی، ومن المختصین به والمرافقین له، وهو اثبت من محمد بن عبد الله الأنصاری، قال أحمد بن حنبل: (إلیه المنتهی فی التثبت بالبصرة)(1)، وقال یحیی بن سعید: (ما بالبصرة، ولا بالکوفة، ولا بالحجاز، أثبت من معاذ بن معاذ)(2)، فإذا تعارضت شهادة الأثبت مع غیره فکیف یصح ان تساوی شهادة الأثبت مع غیره فتتساقط إن هذا لشیء عجیب، ثم إن معاذاً یتکلم عن شهادة حسیة میدانیة فهو مرافق وملازم للأشعث، ولو کان محمد بن عبد الله الأنصاری قد حضر فی مجالس الأشعث لشاهد حضوره، وتنبه علی وجوده، وبما انه لم یره فمعناه انه لم یحضر، أما محمد بن عبد الله الأنصاری فهو یبرهن علی حضوره بشهادة نفسه فقط دون أن یقدم برهانا آخر، وشهادة المرء لنفسه مطعون فیها لأنه یجر النار إلی قرصه، ولو کان محمد بن عبد الله الأنصاری قد حضر فعلا مجلس الأشعث لاستشهد بغیره، ولقال مثلا اسألوا فلانا وفلانا فإنهم قد رأونی فی مجلس الأشعث وهو یحدثنی أو یحدثنا کلنا، وبما انه لم یقدم دلیلا خارجیا علی حضوره فلا تقبل شهادته لنفسه لوحدها فتقدم حینئذ شهادة معاذ للأسباب السابقة، وتبطل محاولة ابن حجر لإسقاط الشهادتین فی سبیل إنقاذ محمد بن عبد الله الأنصاری من ورطته.

فعلی من یرید تصحیح حدیث أَبِی بَکْرَةَ: (أَنَّ النَّبِیَّ __ صلی الله علیه __ وآله __ وسلم __ قَالَ ذَاتَ یَوْمٍ «مَنْ رَأَی مِنْکُمْ رُؤْیَا». فَقَالَ رَجُلٌ أَنَا رَأَیْتُ کَأَنَّ مِیزَانًا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ فَوُزِنْتَ أَنْتَ وَأَبُو بَکْرٍ فَرُجِحْتَ أَنْتَ بِأَبِی بَکْرٍ وَوُزِنَ عُمَرُ وَأَبُو بَکْرٍ


1- الکاشف فی معرفة من له روایة فی کتب الستة للذهبی ج2 ص273.
2- تاریخ بغداد للخطیب البغدادی ج 13 ص 134.

ص: 613

فَرُجِحَ أَبُو بَکْرٍ وَوُزِنَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ فَرُجِحَ عُمَرُ ثُمَّ رُفِعَ الْمِیزَانُ فَرَأَیْنَا الْکَرَاهِیَةَ فِی وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ __ صلی الله علیه __ وآله __ وسلم __)(1) أن یثبت صحة روایة محمد بن عبد الله الأنصاری وسماعه من الأشعث بدلیل آخر غیر شهادة محمد الأنصاری لنفسه بالسماع والحضور.

ثالثا: وفیها الأشعث وهو ممن اختلف فی توثیق أحادیثه وفی حدیثه أوهام

والأشعث هو (أشعث بن عبد الله بن جابر الحدانی أبو عبد الله البصری الأعمی) وهو من صغار التابعین، أخرج له أربعة من أصحاب الکتب الستة ولم یخرج له البخاری إلا حدیثا واحدا معلقا، أما مسلم فلم یخرج له فی صحیحه أی حدیث، وهو ممن اختلف فی توثیق أحادیثه، قال ابن حجر فی (فتح الباری): (أشعث بن جابر وهو ابن عبد الله بن جابر نسب إلی جده وهو أبو عبد الله الأعمی البصری الحدانی...وهو مختلف فیه)(2).

وقال احمد بن حنبل: (أشعث بن جابر الحدانی ما أعلم إلا خیرا)(3)، وقال المزی: (وقال النسائی: ثقة)(4).

وقال الذهبی فی (میزان الاعتدال): (وقد أورده العقیلی فی الضعفاء، وقال: فی حدیثه وهم)(5)، وقال ابن حجر فی (تهذیب التهذیب): (وقال البزار لیس به بأس مستقیم الحدیث وفرق بین الحمدانی هذا وبین أشعث الأعمی فقال فیه لین


1- سنن أبی داود لابن الأشعث السجستانی ج2 ص398.
2- فتح الباری لابن حجر ج 10 ص 100.
3- العلل لأحمد بن حنبل ج 2 ص 524.
4- تهذیب الکمال للمزی ج 3 ص 273.
5- میزان الاعتدال للذهبی ج 1 ص 266.

ص: 614

الحدیث وقال ابن حبان فی الثقات ما أراه سمع من أنس وقال العقیلی فی حدیثه وهم)(1).

أقول: فیجب علی من یصحح روایة أبی بکرة: (أَنَّ النَّبِیَّ __ صلی الله علیه __ وآله __ وسلم __ قَالَ ذَاتَ یَوْمٍ «مَنْ رَأَی مِنْکُمْ رُؤْیَا». فَقَالَ رَجُلٌ أَنَا رَأَیْتُ کَأَنَّ مِیزَانًا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ فَوُزِنْتَ أَنْتَ وَأَبُو بَکْرٍ فَرُجِحْتَ أَنْتَ بِأَبِی بَکْرٍ وَوُزِنَ عُمَرُ وَأَبُو بَکْرٍ فَرُجِحَ أَبُو بَکْرٍ وَوُزِنَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ فَرُجِحَ عُمَرُ ثُمَّ رُفِعَ الْمِیزَانُ فَرَأَیْنَا الْکَرَاهِیَةَ فِی وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ __ صلی الله علیه __ وآله __ وسلم __)(2)، ان یثبت أولا ان هذه الروایة لیست من أوهام (أشعث بن عبد الله أو ابن جابر الحدانی).

رابعا: وفی السند (الحسن) المعروف ب_(الحسن البصری) وکان کثیر التدلیس والإرسال وقد دلس هنا وأرسل

وهو (الحسن بن یسار أبو سعید المشهور بالحسن البصری) وهو من الطبقة الوسطی من التابعین، روی له أصحاب الکتب الستة کلهم، وروی له غیرهم، وهو من الرواة المکثرین وله عشرات الروایات __ إن لم نقل مئات الروایات __ فی صحاحهم وسننهم ومسانیدهم، وهو من الذین ضخمت شخصیاتهم ونسب لها الأساطیر والألقاب الوهمیة التی یکذبها واقعه العملی وشهادة معاصریه.

فرووا له حکایة باطلة مع أم سلمة زوجة النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، وإنها کانت تلقمه ثدیها تلهیه عند بکائه إلی أن ترجع أمه، وان الحلیب کان یدر علیه منها، مع العلم ان النبی صلی الله علیه وآله وسلم قد توفی قبل مجیء الحسن البصری بأکثر من عشر سنوات، وان أم سلمة لم یکن لها طفل حتی یدر حلیبها، وان الذی حصل


1- تهذیب التهذیب لابن حجر  ج 1 ص 310.
2- سنن أبی داود لابن الأشعث السجستانی ج2 ص398.

ص: 615

هو کرامة له، وان العلم الذی تعلمه فی الکبر هو من برکة ذلک الحلیب، قال المزی فی (تهذیب الکمال): (عن عوف بن أبی جمیلة الأعرابی، قال: کان الحسن ابنا لجاریة لام سلمة زوج النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم، فبعثت أم سلمة جاریتها فی حاجتها، فبکی الحسن بکاء شدیدا، فرقت علیه أم سلمة، فأخذته فوضعته فی حجرها، فألقمته ثدیها، فدر علیه، فشرب منه، وکان یقال: إن المبلغ الذی بلغه الحسن من الحکمة بذلک اللبن الذی شربه من أم سلمة زوج النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم)(1)فهل یقبل غیور عاقل هذه الفریة علی أم سلمة زوجة النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم؟ فکیف یقبل من أم سلمة أن تلهی الطفل بهذه الطریقة الغریبة، ومن أین جاء اللبن فی صدر أم سلمة ولم تکن ذات بعل ولا ولد، إن هذا لشیء عجیب، ولو ان أحد الشیعة قال ذلک عن أحد التابعین من الموالین لأهل البیت الأطهار صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، لأقاموا علیه الدنیا ولم یقعدوها ولرموه بکل عظیمة، فانا لله وإنا إلیه راجعون، فلیس الدافع للإساءة إلی أم سلمة زوج النبی صلی الله علیه وآله وسلم غیر التقدیس الأعمی.

ومن تقدیسهم له أن جعلوه من ضمن سبعة أشخاص بهم یسقی الله سبحانه أهل الأرض وبهم یدفع عنهم السوء والمکاره والعذاب، قال المزی: (وقال الجمحی أیضا، عن همام، عن قتادة: یقال: ما خلت الأرض من سبعة رهط، یسقون، وبهم یدفع عنهم، قال قتادة: وإنی أرجو أن یکون أحد السبعة)(2)، وهذا مثل سابقه کذب فی کذب وهو من التقدیس الکاذب والنابع من التعصب الطائفی، فهم لا یقبلون من الشیعة الإثنی عشریة أن یقولوا بأن الأئمة الأطهار


1- تهذیب الکمال للمزی ج 6 ص 118.
2- المصدر السابق ص 109.

ص: 616

صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین بهم یسقی الله أهل الأرض وبهم یدفع عن أهل الأرض أنواع العذاب، وهم أهل لذلک ولأکثر من ذلک، لکنهم یقبلون هذه الأکاذیب فی حق من هم بمثل منزلة الحسن البصری الذی سیتبین لک شخصیته الحقیقیة لاحقا.

ومن تقدیسهم الأعمی له أن جعلوه أفضل من الصحابة، وإنهم لو أدرکهم وأدرکوه لما تقدموا علیه ولقدموه، قال المزی: (وعن حماد بن سلمة، عن علی بن زید، قال: من سعید بن المسیب، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وعروة ابن الزبیر، ویحیی بن جعدة بن هبیرة بن أبی وهب المخزومی، وأم جعدة أم هانی بنت أبی طالب فما رأیت فیهم مثل الحسن، ولو أدرک أصحاب رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم، وله مثل أسنانهم ما تقدموه)(1)، فلم یدر القوم انهم ولکی یرفعوا من منزلة الحسن البصری وضعوا من أقدار الصحابة، فأی فضیلة تبقی لأبی بکر وعمر وعثمان وأمثالهم إذا کان مثل الحسن البصری مقدماً علیهم لو کان بمثل أسنانهم وأعمارهم.

ومن تعصبهم أن جعلوا الحسن البصری أفضل من ابن عباس، قال المزی: (وقال عبد الرزاق، عن معمر: قال لی عمرو بن دینار: أبو الشعثاء عندکم أعلم أو الحسن؟ قال: قل: ما تقول؟! إن من عندنا یزعم أن الحسن أعلم من أبن عباس، قال: وهل کان الحسن إلا من صبیان ابن عباس؟ قال: فقلت: وهل کان أبو الشعثاء إلا من صبیان الحسن؟! قال: وما هو عندنا بأعلم منه. قال عبد الرزاق: فقلت لمعمر: أفرطت، قال: إنه أفرط فأفرطت)(2)، وفی هذه الروایة یتضح ان وضع هذه الفضائل الکاذبة، کان بغرض المطاولة والمماراة


1- تهذیب الکمال للمزی ج 6 ص 109 __ 110.
2- المصدر السابق ص 105.

ص: 617

فی الکلام، لان القوم کانت انتماءاتهم متشعبة مختلفة، فکل واحد منهم یوالی شخصا معینا، فإذا اخرج أصحاب هذا فضیلة، یخرج أصحاب ذاک فضیلة اکبر، وهکذا کلما زاد هؤلاء فی وضع الفضائل والمناقب المکذوبة، کلما زاد الطرف الآخر بوضع فضائل اکبر کذبا واشد زورا، فالحمد لله الذی فضح أمرهم علی أیدیهم.

ومن تعصبهم للحسن البصری حکمهم علی کل من یبغضه بأنه حروری، والحروری هم فرقة من فرق الخوارج الذین وصفهم النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم بأنهم یمرقون __ أی یخرجون __ من الإسلام کما یمرق السهم من الرمیة، قال المزی: (وقال موسی بن إسماعیل عن أبی هلال: کنا فی بیت قتادة، فجاء الخبر أن الحسن توفی، فقلت: لقد کان غمس فی العلم غمسته، فقال قتادة: لا والله، ولکن نبت فیه وتحقبه وتشربه، لا والله لا یبغض الحسن إلا حروری)(1)، ولا ادری بأی نص من کتاب أو سنة أدخل هذا الکذاب من یبغض الحسن البصری فی فرقة الخوارج الکافرة، وکیف یمکن لهؤلاء ان یدعوا بأنهم یتبعون السنة النبویة، فأین نصوص السنة النبویة القائلة بان کل من یبغض الحسن البصری فهو من الخوارج، واکرر القول لو أن الشیعة الکرام وعلماءهم الأعلام قالوا بان کل من یکره الإمام الصادق أو الباقر صلوات الله وسلامه علیهما، أو غیرهما من الأئمة صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فانه حروری خارجی مارق عن الإسلام، لرأینا کیف یسل أعلام السنة ومصنّفوهم السیوف ویکتبون عن هذه المقولة الکتب والتصانیف ردا وتفنیدا، ولرأینا کیف تصدر الفتاوی عن فقهائهم بهدر دم القائل لهذه المقالة وتکفیره، لکنهم یغمضون العین ویصمون الآذان عن قول قتادة هذا.


1- المصدر السابق ص 108.

ص: 618

وأعظم تعصب رأیته فی حق الحسن البصری، والذی فاقوا به کل التوقعات، هو تشبیهه بالأنبیاء صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، قال المزی: (وقال ضمرة بن ربیعة، عن الأصبغ بن زید: سمعت العوام بن حوشب یقول: ما أشبه الحسن إلا بنبی أقام فی قومه ستین عاما یدعوهم إلی الله عز وجل)(1)، ولا ادری أی شیء کان فی الحسن البصری هذا حتی یشبه بنبی أقام فی قومه ستین عاما یدعوهم إلی الله سبحانه، وکیف یمکن أن یشبه مثل هذا بالأنبیاء صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین الذین کلمهم الله سبحانه وکلموه ونزلت علیهم الشرائع والأحکام، وتحملوا اشد أنواع العذاب والآلام فی سبیل محاربة الظلم والطواغیت، بینما الحسن البصری قضی عمره کاتبا لأئمة الجور وأهل الباطل من بنی أمیة، ولم یکن سلیم الاعتقاد فقد کان متأرجحاً تارة مع المجبرة وأخری مع القدریة، ومن أعوان الظلمة ظاهرا وباطنا، کما سنعرف کل ذلک لاحقا، فکیف تسول أنفس القوم لهم تشبیه مثل هذا الإنسان بالأنبیاء العظام صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، والعجیب أننی لم أرَ بحسب ما تتبعت کلمة عتاب أو رد علی من ادعی هذه الفریة، بینما سلّ القوم سیوفهم ورموا الشیعة بکل ما عندهم حینما وصف الشیعة أئمتهم صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین بان منازلهم مثل منازل الأنبیاء صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فی أممهم، مع ان هذا حق وعلیه نصوص نبویة وقرآنیة موجودة فی کتب المخالف قبل الموالف.

وانی لاعتقد بأن برکة هذا التقدیس والتکریم قد جاءت للحسن البصری بسبب ان آراءه وأقواله کانت أشبه الأقوال والآراء برأی عمر بن الخطاب وأقواله، فقد اخرج ابن سعد فی (الطبقات الکبری) عن: (وهب بن جریر بن حازم قال حدثنا أبی قال سمعت حمید بن هلال قال: قال لنا أبو قتادة علیکم بهذا الشیخ یعنی


1- تهذیب الکمال للمزی ج 6 ص 105.

ص: 619

الحسن بن أبی الحسن فإنی والله ما رأیت رجلا قط أشبه رأیا بعمر بن الخطاب منه قال أخبرنا موسی بن إبراهیم قال حدثنا مهدی بن میمون قال حدثنا محمد بن عبد الله ابن أبی یعقوب قال سمعت مورقا یقول قال لی أبو قتادة العدوی:إلزم هذا الشیخ وخذ عنه فوالله ما رأیت رجلا أشبه رأیا بعمر بن الخطاب منه)(1)، فلا عجب حینئذ من تقدیس القوم للحسن البصری ورفع مکانته وجعله تارة أفضل من الصحابة، وأخری کالأنبیاء صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، ولو نقل لنا التاریخ وبنزاهة جمیع أقوالهم، لربما رأیناهم یصیرونه أفضل من الأنبیاء صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، فألف عین لأجل عین تکرم، ولأجل موافقة الحسن البصری لعمر بن الخطاب فی الآراء والأقوال أکرموا عینه، ورفعوه منزلة، ولو خرج الحسن البصری الیوم من قبره وسمع بها لتعجب، ولظن بان القوم یتکلمون عن شخص آخر غیره، ولضحک حتی الموت.

ولکننا لو رجعنا إلی سیرة الحسن البصری العملیة، وما نقل عنه من أفعال وأقوال واعتقادات، لا نری لتلک الصورة المثالیة الأسطوریة السابقة وجوداً یذکر، لان سیرته العملیة أثبتت بانه لم یکن محمود الفهم فی القضاء وغیره، فعن الذهبی فی (سیر أعلام النبلاء) عن: (عبد الرزاق بن همام، عن أبیه، قال: ولی وهب القضاء زمن عمر بن عبد العزیز فلم یحمد فهمه. فحدثت به معمرا، فتبسم وقال: ولی الحسن القضاء زمن عمر بن عبد العزیز فلم یحمد فهمه)(2)، فأین هذا الکلام من تلک الصفات المثالیة الکاذبة؟ وأین من لا یحمد فهمه من منازل الأنبیاء صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین والصحابة والعلماء؟ إن هذا لشیء عجیب.

ولو توغلنا فی شخصیة الحسن البصری لم نجده إلا خادما من خدام السلطة


1- الطبقات الکبری لمحمد بن سعد ج 7 ص 161.
2- سیر أعلام النبلاء للذهبی ج 4 ص 582.

ص: 620

وطغاتها، عاش علی موائدهم صغیرا، وحفظ لهم الجمیل کبیرا، فلم یکن یقبل لأحد الخروج علیهم، ورفع السیف بوجوههم، لردعهم عن باطلهم، وإقامة العدل فی العباد والبلاد، قال الذهبی فی (تذکرة الحفاظ): (وصار کاتبا فی دولة معاویة لوالی خراسان الربیع بن زیاد)(1).

وکان ینهی عن الخروج علی الحجاج الفاسق الظالم الجبار،قال محمد بن سعد فی (الطبقات الکبری): (فکان الحسن ینهی عن الخروج علی الحجاج ویأمر بالکف...تکلم الحسن فحمد الله وأثنی علیه ثم قال یا أیها الناس إنه والله ما سلط الله الحجاج علیکم إلا عقوبة فلا تعارضوا عقوبة الله بالسیف ولکن علیکم السکینة والتضرع...حدثنا عمرو بن یزید العبدی قال سمعت الحسن یقول لو أن الناس إذا ابتلوا من قبل سلطانهم صبروا ما لبثوا أن یفرج عنهم ولکنهم یجزعون إلی السیف فیوکلون إلیه...)(2).

وکان یفتی بمتابعة الحاکم الظالم حتی فی معصیة الله سبحانه، قال المزی فی (تهذیب الکمال): (لما ولی عمر بن هبیرة العراق. أرسل إلی الحسن وإلی الشعبی، فأمر لهما ببیت، وکانا فیه شهرا أو نحوه...فجاء عمر یتوکأ علی عصا له، فسلم ثم جلس فقال: إن أمیر المؤمنین یزید بن عبد الملک یکتب إلی کتبا أعرف أن فی إنفاذها الهلکة، فإن أطعته عصیت الله، وإن عصیته أطعت الله، فهل تریا لی فی متابعتی إیاه فرجا؟ فقال الحسن: یا أبا عمرو أجب الأمیر __ أی أطعه __... فلما کان من الغد أرسل إلیهما بإذنهما وجوائزهما، فأکثر منها للحسن)(3)، فأی محدث وأی


1- تذکرة الحفاظ للذهبی ج 1 ص 71.
2- الطبقات الکبری لمحمد بن سعد ج 7 ص 164 __ 165.
3- تهذیب الکمال للمزی ج 6 ص 113 __ 114.

ص: 521

عالم وأی تقی هذا؟! ألم یسمع أو یروِ قول النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم بأن (لا طاعة لمخلوق فی معصیة الخالق)(1)؟ فکیف یأمر بإجابة أمیر الظالمین وهو ظالم یأمر بالظلم والعصیان؟ أسئلة نترک جوابها للقارئ الکریم.

فهذه منزلته من حیث العلم والتقوی وخوف الله سبحانه، أما منزلته من حیث العقیدة فأعجب وأعجب، فقد کان متأرجحا ما بین القدریة والمجبرة، وقد نقلت عنه أقوال وتصریحات یطول ذکرها هنا، فمن أحب الاستزادة فلیرجع إلی ترجمته فی (سیر أعلام النبلاء) للذهبی(2)، وجمیع التراجم التی ترجمت حیاته وأقواله، لکن الذهبی حاول أن یخفف لغایة فی نفسه وطأة هذه الفاجعة فقال: (فلعلها هفوة منه ورجع عنها ولله الحمد)(3)، وقال فی (میزان الاعتدال): (وقد بدت منه هفوة فی القدر لم یقصدها لذاتها، فتکلموا فیه، فما التفت إلی کلامهم، لأنه لما حوقق علیها تبرأ منها)(4)، أقول: نعم قد رجع الحسن البصری عن قوله بالقدر، لکن رجوعه عنه کان ظاهریا، لان بعض معاصریه قد هدده بإیصال خبره وشکایته إلی السلطان وإنزال العقوبة بحقه إن لم ینتهِ عن قوله بالقدر فلذلک انتهی، کما صرح بذلک محمد بن سعد فی (الطبقات الکبری) حیث قال: (أخبرنا عارم بن الفضل قال حدثنا حماد بن زید عن أیوب قال أنا نازلت الحسن فی القدر غیر مرة حتی خوفته السلطان فقال لا أعود فیه بعد الیوم)(5)، ومثل هذا الرجوع لا یساوی فلسا، وهو مرفوض ومردود علیه وعلی الذهبی.


1- الحدیث مشهور صحیح راجع مسند احمد بن حنبل ج1 ص131، وغیر ذلک.
2- سیر أعلام النبلاء للذهبی ج 4  ص 580 __ 581.
3- المصدر السابق ص583.
4- میزان الاعتدال للذهبی ج 1 ص 527.
5- الطبقات الکبری لمحمد بن سعد ج7 ص167

ص: 622

أما منزلة الحسن البصری من حیث الفقه والروایة فحدث ولا حرج، فلم یکن الرجل من أهل الحدیث ولا من أقاربه، فهو من حیث الفتوی فقد اعترف القاصی والدانی بأنه کان یفتی فی کثیر من الأحیان برأیه الشخصی، ولم یکن یعتمد علی روایة أو آیة فی فتاواه، قال محمد بن سعد فی (الطبقات الکبری): (أخبرنا روح بن عبادة قال حدثنا حماد بن سلمة عن الجریری أن أبا سلمة بن عبد الرحمن قال للحسن بن أبی الحسن أرأیت ما تفتی الناس أشیاء سمعته أم برأیک فقال الحسن لا والله ما کل ما نفتی به سمعناه ولکن رأینا خیر لهم من رأیهم لأنفسهم)(1).

أما من حیث الحدیث والروایة فأدهی وأمر، فقد کان لا یضبط الأحادیث النبویة بنفس نصها المسموع والصادر عن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، فکان من المعروفین بنقل الروایات الشریفة بالمعنی لأنه لم یکن یستطیع حفظها کما هی، قال محمد بن سعد: (أخبرنا محمد بن عبد الله الأنصاری قال حدثنا ابن عون قال کان الحسن یحدث بالحدیث والمعانی... حدثنا جریر بن حازم قال کان الحسن یحدثنا الحدیث یختلف فیزید فی الحدیث وینقص منه ولکن المعنی واحد قال أخبرنا عفان ابن مسلم قال حدثنا مهدی یعنی ابن میمون قال حدثنا غیلان بن جریر قال قلت للحسن یا أبا سعید الرجل یسمع الحدیث فیحدث به لا یألو فیکون فیه الزیادة والنقصان قال ومن یطیق ذلک)(2)، وهو خلل عظیم فی عرف المحدثین حتی إن قسما منهم رد روایة من ینقل الروایات بالمعنی، وقوله (ومن یطیق ذلک) حجة فارغة یهدف من خلالها تبریر خلل أحادیثه، وإلا فان عامة المحدثین هم ممن یحفظ


1- الطبقات الکبری لمحمد بن سعد  ج 7 ص 165.
2- المصدر السابق ص 158 __ 159.

ص: 623

الحدیث مثل ما سمعه، فان کان الحسن البصری محدثا فیجب علیه أن ینقل بالنص، فان لم یستطع تنحی عن هذه المهمة وترک المیدان لرجاله.

وکان یحدث بالحدیث ثم ینسی فلا یدری من حدثه، فعن محمد بن سعد فی طبقاته قال: (أخبرنا عفان بن مسلم قال حدثنا حماد بن سلمة عن علی بن زید قال حدثت الحسن بحدیث فإذا هو یحدث به قال قلت یا أبا سعید من حدثکم قال لا أدری قال قلت أنا حدثتکم به)(1).

وکان یکذب فی نسبة الأحادیث والروایات إلی أصحابها، فأما أن ینسب الروایة إلی شخص ولکنه فی الحقیقة لم یدرک ذلک الشخص ولم یلتق به ولم یخبره بالحدیث أصلا، قال المزی فی (تهذیب الکمال): (روی عن: أبی بن کعب « ع» ولم یدرکه وثوبان «س» ولم یلقه وعمار بن یاسر «د»، ولم یسمع منه، وعمر بن الخطاب «د»، ولم یدرکه...)(2)، ومن ذلک کذبته بأنه أخذ بحجزة سبعین بدریا، أی انه شاهدهم واخذ عنهم الروایة، وقد کذبه ابن المدینی کما فی (سیر أعلام النبلاء) للذهبی: (قال یعقوب بن شیبة: قلت لابن المدینی: یقال عن الحسن: أخذت بحجزة سبعین بدریا، فقال: هذا باطل، أحصیت أهل بدر الذین یروی عنهم فلم یبلغوا خمسین، منهم من المهاجرین أربعة وعشرون)(3)، وکذلک کذبه قتادة بقوله: (ما شافه الحسن بدریا بحدیث)(4).

وکان الحسن البصری یکذب ویقول حضرت فی الزمن الفلانی وسمعت


1- الطبقات الکبری: ج7 ص165.
2- تهذیب الکمال للمزی ج 6 ص97 __ 98.
3- سیر أعلام النبلاء للذهبی ج 4 ص 566 __ 567.
4- المصدر السابق ص567.

ص: 624

فلاناً یقول کذا وکذا، وهو فی الحقیقة لم یحضر فی ذلک المکان ولم یسمع من فلان بأنه حدث بکذا وکذا، کما کان یقول خطبنا ابن عباس بالبصرة، وهو لم یر ابن عباس ولا حضر خطبته، قال ابن حجر فی (تهذیب التهذیب): (وقال علی ابن المدینی:... ولم یسمع من ابن عباس وما رآه قط کان الحسن بالمدینة أیام کان ابن عباس بالبصرة وقال أیضا فی قول الحسن خطبنا ابن عباس بالبصرة قال إنما أراد خطب أهل البصرة)(1).

وکذلک کان الحسن البصری یحدث عن أشخاص مجهولین لا أحد یعرفهم غیره، وربما لم یکن لهم وجود إلا فی مخیلته، قال المزی فی (تهذیب الکمال): (قال علی ابن المدینی: والذین روی عنهم الحسن البصری من المجهولین: أحمر السدوسی، وأسید بن المتشمس، وأنس بن حکیم الضبی، وجون بن قتادة البصری، وحبیب السلمی، عن عمر، وحکیم بن دینار، وحنتف بن السجف، ودغفل بن حنظلة، وسعد مولی أبی بکر، وعتی بن ضمرة السعدی، وعمرو بن تغلب وقبیصة بن حریث...)(2).

أقول: والعجیب ان أهل الحدیث لم یکذبوا الحسن البصری هذا رغم جمیع هذه الأکاذیب، ولکنهم حکموا بالکذب علی کثیر من رواة الشیعة __ الذین اعترف أهل السنة أنفسهم بوثاقتهم __ لمجرد أن احدهم کان یقول بالرجعة أو یروی حدیث الطائر المشوی فی فضائل أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه، أو غیر ذلک من الأسباب التافهة، ولکنهم أغمضوا العین عن کل أکاذیب الحسن البصری وأمثاله لا لشیء إلا لأنهم من أهل السنة، أو ممن روی لهم البخاری ومسلم، أو غیر ذلک من


1- تهذیب التهذیب لابن حجر ج 2 ص 233.
2- تهذیب الکمال للمزی ج 3 ص245.

ص: 625

الأسباب التی تعمی إبصار أهل الجرح والتعدیل عن رؤیة الواضحات وقبول البدیهیات، فانا لله وإنا إلیه راجعون.

والحسن البصری إضافة إلی کل ما ذکر کان مشهوراً بالإرسال والتدلیس، وقد اجتمعت کلمتهم علی أن لا یقبل من روایته إلا ما اسند منها وما صرح فیها بالتحدیث، أما مراسیله فلیست بحجة، وکذلک عنعنته، قال محمد بن سعد فی (الطبقات الکبری): (...وکان ما أسند من حدیثه وروی عمن سمع منه فحسن حجة وما أرسل من الحدیث فلیس بحجة)(1).

وفی (علل الترمذی): (قال أبو عیسی ومن ضعف المرسل فإنه ضعف من قبل أن هؤلاء الأئمة حدثوا عن الثقات وغیر الثقات فإذا روی أحدهم حدیثا وأرسله لعله أخذه عن غیر ثقة قد تکلم الحسن البصری فی معبد الجهنی ثم روی عنه)(2)، أقول: وکلام الحسن البصری عن (معبد الجهنی) نقله عبد الله بن عدی فی (الکامل) قائلا: (حدثنا الحسین بن یوسف البندار، أخبرنا أبو عیسی الترمذی، أخبرنا بشر بن معاذ، أخبرنا مرحوم بن عبد العزیز، حدثنی أبی وعمی قالا: سمعنا الحسن یقول: إیاکم ومعبد الجهنی، فإنه ضال مضل)(3).

وقال الذهبی فی (تذکرة الحفاظ): (وهو مدلس فلا یحتج بقوله «عن» «فی» من لم یدرکه، وقد یدلس عمن لقیه ویسقط من بینه وبینه والله أعلم)(4).

وقال الذهبی أیضا فی (میزان الاعتدال): (کان الحسن کثیر التدلیس، فإذا


1- الطبقات الکبری لمحمد بن سعد ج 7 ص 158.
2- علل الترمذی لمحمد بن سورة ص 410.
3- الکامل لعبد الله بن عدی ج 1 ص 53.
4- تذکرة الحفاظ للذهبی ج 1 ص 72.

ص: 626

قال فی حدیث عن فلان ضعف لحاجة ولا سیما عمن قیل إنه لم یسمع منهم، کأبی هریرة ونحوه، فعدوا ما کان له عن أبی هریرة فی جملة المنقطع. والله أعلم)(1).

وقال فی (سیر أعلام النبلاء): (والحسن مع جلالته فهو مدلس، ومراسیله لیست بذاک، ولم یطلب الحدیث فی صباه)(2)، وقال فی المصدر نفسه: (إنما أعرض أهل الصحیح عن کثیر مما یقول فیه الحسن: عن فلان، وإن کان مما قد ثبت لقیه فیه لفلان المعین، لان الحسن معروف بالتدلیس، ویدلس عن الضعفاء، فیبقی فی النفس من ذلک، فإننا وإن ثبتنا سماعه من سمرة، یجوز أن یکون لم یسمع فیه غالب النسخة التی عن سمرة والله أعلم)(3).

أقول: والحسن البصری قد عنعن فی الحدیث الذی رواه أبو داود فی سننه: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّی حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِیُ حَدَّثَنَا الأَشْعَثُ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِی بَکْرَةَ أَنَّ النَّبِیَّ __ صلی الله علیه __ وآله __ وسلم __ قَالَ ذَاتَ یَوْمٍ «مَنْ رَأَی مِنْکُمْ رُؤْیَا». فَقَالَ رَجُلٌ أَنَا رَأَیْتُ کَأَنَّ مِیزَانًا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ فَوُزِنْتَ أَنْتَ وَأَبُو بَکْرٍ فَرُجِحْتَ أَنْتَ بِأَبِی بَکْرٍ وَوُزِنَ عُمَرُ وَأَبُو بَکْرٍ فَرُجِحَ أَبُو بَکْرٍ وَوُزِنَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ فَرُجِحَ عُمَرُ ثُمَّ رُفِعَ الْمِیزَانُ فَرَأَیْنَا الْکَرَاهِیَةَ فِی وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ __ صلی الله علیه __ وآله __ وسلم __)(4)، فلا تقبل عنعنته وفقا لاعترافات أعلام أهل السنة، فیثبت ضعف هذا الحدیث وعدم صلاحیته لیکون شاهدا لحدیث ابن عمر الضعیف


1- میزان الاعتدال للذهبی ج 1 ص 527.
2- سیر أعلام النبلاء للذهبی ج 4 ص 572.
3- سیر أعلام النبلاء للذهبی ج 4 ص 588.
4- سنن أبی داود لابن الأشعث السجستانی ج2 ص398.

ص: 627

والقائل: (لو وزن إیمان أبی بکر بإیمان أهل الأرض لرجح)(1).

إضافة إلی کون الحدیث معنعناً عن الحسن البصری وان عنعنته غیر مقبولة، حتی مع ثبوت المعاصرة، والسماع، فان فی الحدیث مثلبة أخری وهی أن الحسن البصری لیس له سماع مباشر من (أبی بکرة) وان هنالک واسطة ما بینه وبین أبی بکرة قد تم حذفها من السند، فیصبح بذلک الحدیث مرسلاً، ومراسیل الحسن البصری لا یعتد بها کما بینا سابقا، وفیما یأتی جملة ممن قالوا وصرحوا بعدم سماع الحسن البصری من أبی بکرة، قال الذهبی فی (سیر أعلام النبلاء): (وقد روی بالإرسال عن طائفة: کعلی، وأم سلمة، ولم یسمع منهما، ولا من أبی موسی، ولا من ابن سریع، ولا من عبد الله بن عمرو، ولا من عمرو بن تغلب، ولا من عمران، ولا من أبی برزة، ولا من أسامة بن زید، ولا من ابن عباس، ولا من عقبة بن عامر ولا من أبی ثعلبة، ولا من أبی بکرة...)(2).

وقال سلیمان بن خلف الباجی فی (التعدیل والتجریح): (وأنکر أبو الحسن الدارقطنی ویحیی بن معین أن یکون الحسن سمع من أبی بکرة وذکر أبو الحسن أن الأحنف بن قیس بینهما)(3).

وقال الباجی أیضا فی المصدر نفسه: (قال أبو بکر سئل یحیی بن معین فقال لم یسمع الحسن من أبی بکرة ولا سمع من جابر بن عبد الله ولا من أبی هریرة)(4).

فیتلخص من جمیع ما مر ان الشاهد الذی ادعی السخاوی وجوده هو شاهد


1- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج 30 ص 126.
2- سیر أعلام النبلاء للذهبی ج 4 ص 566.
3- التعدیل والتجریح لسلیمان بن خلف الباجی ج 1 ص 486.
4- التعدیل والتجریح لسلیمان بن خلف الباجی ج 1 ص 489.

ص: 628

ضعیف الإسناد للأسباب التالیة:

1: وجود محمد بن المثنی الذی کان فی عقله شیء.

2: وجود محمد بن عبد الله المثنی، الذی لم یکن عندهم من فرسان الحدیث، والذی اختلط اختلاطا شدیدا، والذی کان یقرأ من کتبه التی لم تکن مصانة عن التلاعب والدس، وانه لم یسمع من (أشعث بن عبد الله) کما شهد بذلک معاذ، فعلی من یرید إثبات هذا الشاهد، إن یثبت بان هذا الحدیث کان قبل اختلاط محمد بن عبد الله المثنی علی نحو القطع فإذا شک فی ذلک لم یقبل وفقا لما بیناه من قبل، وان هذا الحدیث لم یکن مما دس فی کتبه وزید فیها من غلامه، وان یثبت سماع محمد بن عبد الله المثنی من أشعث بن عبد الله بشاهد من غیر کلامه هو.

3: وجود أشعث بن عبد الله بن جابر الحدانی المختلف فی توثیقه، وفی حدیثه وهم، فعلی من یرید تصحیح هذا الشاهد الضعیف أن یرد مطاعن الذین قدحوا فی عدالته، ویثبت أن هذا الحدیث لیس من أوهامه.

4: وجود الحسن البصری الذی لم یکن محمود الفهم فی القضاء والفتوی، وکان قدریا او مجبرا، وکان ممن یفتی برأیه دون الاعتماد علی آیة أو روایة، والذی کان لا یحسن ان ینقل الروایات بالنص فینقلها بالمعنی، ولا یدری من حدثه بالحدیث وینسی عمن نقله، وکان ینقل عن المجهولین الذین لا احد یعرفهم غیره، ویکذب فی سماعه فیدعی السماع من شخص أو الحضور فی مکان فیکذب فی ادعائه، وهو فوق کل هذا وغیره مشهور بالإرسال والتدلیس، لا تقبل عنعنته ولا إرساله ما لم یبین السماع ویظهر الواسطة، ولا یقتصر تدلیسه علی الذین لم یلقهم بل کان تدلیسه شاملا حتی مَن ثبت سماعه عنهم، إضافة إلی اعتراف جمع من

ص: 629

أعلامهم بعدم سماع الحسن البصری من أبی بکرة، فالحدیث مرسل، وما أرسله الحسن البصری لا یکون حجة.

فلهذه الأسباب وغیرها نمنع من صحة هذا الشاهد المکذوب وبه یرد علی السخاوی ومحاولاته الیائسة فی سبیل تصحیح حدیث ابن عمر المکذوب (لو وزن إیمان أبی بکر بإیمان أهل الأرض لرجح)(1).

خامسا: کیف یوضع النبی صلی الله علیه وآله وسلم مع أبی بکر وغیره ویقاس فی میزان واحد؟

وفی هذا الحدیث فاجعة کبیرة، إذ کیف یمکن أن یقاس النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم مع غیره، ویوزن فی مقابل أبی بکر، فأین أبو بکر من النبی صلی الله علیه وآله وسلم، فمهما قیل فی حقه، ومهما ابتدع فی فضله، ومهما ذکر من مآثره سواء کانت صادقة أو کاذبة، فان هذا کله لا یبرر ولا یجعل من أبی بکر عدلاً للنبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم ولا یصیره أهلا لان یوضع فی المیزان قبال النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، فالموازنة باطلة منذ الأساس، ولا یوجد وجه للقیاس بین أبی بکر والنبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، ومجرد جعل أبی بکر وغیره بل الأمة جمیعها مقابل النبی صلی الله علیه وآله وسلم هو ظلم واضح لشخص النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، فالحدیث وان ظن القوم بأنه یثبت فضیلة لأبی بکر إلا انه یثبت مثلبة اکبر وأعظم لشخص النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم إذ یجعله فی معرض المساواة مع عامة أفراد الأمة.

ولعل هذه الموازنة غیر المنصفة هی التی جعلت النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم یغضب بعد أن بین ذلک الشخص حلمه، وغضب النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم دلیل علی عدم دخول هذه الرؤیة فی الرؤیا الصالحة، وإذا لم تکن رؤیا صالحة کانت أضغاث أحلام لا غیر.


1- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج 30 ص 126.

ص: 630

2: خطأ الحاکم النیسابوری فی تصحیح هذا الشاهد الضعیف
اشارة

وبما مر من کلام ونقاش لذلک الشاهد المزعوم الذی ادعاه السخاوی سابقا، یتبین خطأ الحاکم النیسابوری بتصحیحه لحدیث الرؤیا المزعوم، حیث رواه فی کتابه (المستدرک علی الصحیحین) وحکم علیه بالصحة قائلا: (أخبرنی أبو عبد الرحمن ابن أبی الوزیر التاجر، ثنا أبو حاتم الرازی، ثنا محمد بن عبد الله الأنصاری، ثنا أشعث بن عبد الملک الحمرانی، عن الحسن، عن أبی بکرة رضی الله عنه، أن النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم قال: «من رأی منکم رؤیا؟» فقال رجل: أنا رأیت کأن میزانا نزل من السماء، فوزنت أنت وأبو بکر فرجحت أنت بأبی بکر، ووزن عمر وأبو بکر فرجح أبو بکر، ووزن عمر وعثمان فرجح عمر، ثم رفع المیزان، فرأینا الکراهیة فی وجه رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم «هذا حدیث صحیح علی شرط الشیخین، ولم یخرجاه»)(1).

أقول: ویرد علیه جمیع ما ورد علی السخاوی من أجوبة وتعلیقات قد مرت فی النقاط السابقة، فلا نطیل فی الجواب.

غیر ان الحاکم النیسابوری زعم عقب روایته لهذا الروایة المکذوبة وجود شاهد لها فقال: («وشاهده» حدیث سعید بن جمهان عن سفینة الذی «حدثناه» أبو العباس محمد بن یعقوب ثنا حمید بن عیاش الرملی ثنا المؤمل بن إسماعیل ثنا حماد بن سلمة عن سعید بن جمهان عن سفینة مولی أم سلمة رضی الله عنها قال کان رسول الله صلی الله علیه وآله إذا صلی الصبح ثم اقبل علی أصحابه فقال أیکم رأی اللیلة رؤیا قال فصلی ذات یوم فقال أیکم رأی رؤیا فقال رجل أنا رأیت یا رسول الله کأن میزانا دلی به من السماء فوضعت فی کفة ووضع أبو بکر فی کفة


1- المستدرک للحاکم النیسابوری ج3 ص71.

ص: 631

أخری فرجحت بأبی بکر فرفعت وترک أبو بکر مکانه فجیء بعمر بن الخطاب فوضع فی الکفة الأخری فرجح به أبو بکر فرفع أبو بکر وجیء بعثمان فوضع فی الکفة الأخری فرجح عمر بعثمان ثم رفع عمر وعثمان ورفع المیزان قال فتغیر وجه رسول الله صلی الله علیه وآله ثم قال خلافة النبوة ثلاثون عاما ثم تکون ملکاً قال سعید بن جمهان فقال لی سفینة امسک سنتی أبی بکر وعشر عمر وثنتی عشرة عثمان وست علی رضی الله عنهم أجمعین * وقد أسندت هذه الروایات بإسناد صحیح مرفوعا إلی النبی صلی الله علیه وآله*)(1).

أقول: وهذا شاهد ضعیف لا یعتد به لأسباب کثیرة منها:

ألف: فیه مؤمل بن إسماعیل ضعفه الجمهور منهم البخاری وغیره

وهو کما عن الرازی فی (الجرح والتعدیل): (مؤمل بن إسماعیل أبو عبد الرحمن مولی آل عمر بن الخطاب)(2)، وهو من طبقة صغار أتباع التابعین، لم یرو له البخاری فی صحیحه إلا حدیثا واحدا معلقا، وکذلک لم یروِ عنه مسلم فی صحیحه، وروی له أربعة من أصحاب الکتب الستة وآخرون، وهو ضعیف، کثیر الوهم والغلط، منکر الحدیث، دفن کتبه وحدث من حفظه فکان یخطئ کثیرا.

قال المزی فی (تهذیب الکمال): (مؤمل بن إسماعیل القرشی العدوی، أبو عبد الرحمان البصری... قال أبو بکر بن أبی خیثمة، عن یحیی بن معین: ثقة. وقال عثمان بن سعید الدارمی: قلت لیحیی بن معین: أی شیء حال مؤمل فی سفیان؟ فقال: هو ثقة...وقال أبو حاتم: صدوق، شدید فی السنة، کثیر الخطأ.


1- المستدرک للحاکم النیسابوری ج 3  ص 71.
2- الجرح والتعدیل للرازی ج 8 ص 374.

ص: 632

وقال البخاری: منکر الحدیث. وقال أبو عبید الآجری: سألت أبا داود عن مؤمل بن إسماعیل، فعظمه ورفع من شأنه إلا انه یهم فی الشیء. وذکره ابن حبان فی کتاب "الثقات". وقال غیره: دفن کتبه فکان یحدث من حفظه، فکثر خطؤه)(1).

وقال الهیثمی فی (مجمع الزوائد): (مؤمل بن إسماعیل ووثقه ابن معین وضعفه الجمهور)(2)، وقال فی موضع آخر: (مؤمل بن إسماعیل وثقه ابن حبان وضعفه جماعة)(3)، وقال فی موضع ثالث: (مؤمل بن إسماعیل وثقه ابن معین وابن حبان وضعفه البخاری وغیره)(4).

أقول: ولا عبرة بتوثیق یحیی بن معین، لان توثیقه خاص بأحادیث مؤمل بن إسماعیل التی یحدث بها عن سفیان، وهو خارج عن محل کلامنا، وکذلک لا یقبل توثیق ابن حبان له لأنه متهاون فی التوثیق فلا یؤخذ بقوله إذا خالف فیه المشهور، وکذلک لا ینفعه قول أبی داود ووصفه بأنه شدید فی السنة وأمثال ذلک، لان هذه الأمور لیس لها مدخلیة فی الوثاقة، فقد یکون الراوی ثقة لکنه لیس شدیدا فی السنة.

وکذلک لا یقبل توثیق من وثقه لسبب آخر وهو ان توثیقهم جاء مجملا، ومن جرح المؤمل فقد جرحه بجرح مفسر، والجرح المفسر مقدم قطعا علی التوثیق المجمل، وبالخصوص إذا جاء الجرح من البخاری وأمثاله.


1- تهذیب الکمال للمزی ج 29 ص 176 __ 179.
2- مجمع الزوائد للهیثمی ج 5 ص 49.
3- المصدر السابق ص 129.
4- المصدر السابق ص178.

ص: 633

باء: وفیه حماد بن سلمة الذی اختلط، والذی کانت الأحادیث تدس فی کتبه

وهو (حماد بن سلمة بن دینار البصری) من الطبقة الوسطی من أتباع التابعین، روی له أصحاب الکتب الستة، ولم یرو له البخاری إلا حدیثا فی الشواهد، وهو عندهم ثقة شدید التسنن، إلا انه ممن ثبت اختلاطه، وبحسب القاعدة التی ذکرناها سابقا من (أنه یقبل حدیث من أخذ عنهم قبل الاختلاط، ولا یقبل حدیث من أخذ عنهم بعد الاختلاط، أو أشکل أمره، فلم یدر هل أخذ عنه قبل الاختلاط أو بعده)(1)، وهذه الروایة یرویها حماد بن سلمة عن سعید بن جمهان، ولم أر أحداً من أهل الحدیث یقول بأن أحادیثه عن سعید بن جمهان کانت قبل الاختلاط، فهی إن لم نقطع بوقوعها بعد الاختلاط، فعلی اقل التقادیر تکون مشکوکاً فیها، وفی الحالتین لا تقبل وفقا للقاعدة السابقة.

وقد وصفه بالاختلاط الحافظ برهان الدین سبط بن العجمی فی کتابه (نهایة الاغتباط بمن رمی من الرواة بالاختلاط)(2)، وکذلک فعل خیر الدین الزرکلی فی (الأعلام) حیث قال: (حماد بن سلمة بن دینار البصری الربعی بالولاء، أبو سملة: مفتی البصرة، وأحد رجال الحدیث، ومن النحاة. کان حافظا ثقة مأمونا، إلا أنه لما کبر ساء حفظه فترکه البخاری، وأما مسلم فاجتهد وأخذ من حدیثه بعض ما سمع منه قبل تغیره)(3)، أقول: وقد رجعت إلی صحیح مسلم فلم أره قد نقل حدیثا عن حماد بن سلمة عن سعید بن جمهان، مما یدل علی ان سماعه من سعید قد جاء بعد الاختلاط والتغیر.

وحماد بن سلمة إضافة إلی تغیره واختلاطه فلم تکن کتبه مصانة عن


1- مقدمة ابن الصلاح ج1 ص87.
2- المصدر نفسه ص96.
3- الأعلام لخیر الدین الزرکلی ج 2 ص 272.

ص: 634

التحریف والدس والتزویر، قال عبد الله بن عدی فی (الکامل) فی معرض حدیثه عن بعض أحادیث حماد بن سلمة: (...إبراهیم بن عبد الرحمن بن مهدی قال کان حماد بن سلمة لا یعرف بهذه الأحادیث حتی خرج خرجة إلی عبادان فجاء وهو یرویها فلا أحسب إلا شیطانا خرج إلیه فی البحر فألقاها إلیه قال أبو عبد الله سمعت عباد بن صهیب یقول إن حماد بن سلمة کان لا یحفظ فکانوا یقولون إنها دست فی کتبه وقد قیل إن ابن أبی العوجاء کان ربیبه فکان یدس فی کتبه هذه الأحادیث. قال الشیخ: وأبو عبد الله بن الثلجی کذاب وکان یضع الحدیث ویدسه فی کتب أصحاب الحدیث بأحادیث کفریات فهذه الأحادیث من تدسیسه)(1).

أقول: فیجب علی من یرید تصحیح هذه الروایة أن یثبت أولا وبدلیل قاطع أنها صدرت عن حماد بن سلمة قبل الاختلاط، وان یثبت ثانیا أنها لم تکن من ضمن الروایات التی دست فی کتبه من قبل ابن أبی العوجاء أو غیره.

جیم: وفیه سعید بن جمهان الأسلمی البصری وهو مختلف فی وثاقته وعدالته

وهو من الطبقة التی تلی الوسطی من التابعین، لم یرو له البخاری فی صحیحه ولا مسلم، وفی حدیثه عجائب، وهو ممن یکتب حدیثه ولکن لا یحتج به، وهو أیضا ممن لا یتابع علی حدیثه، قال المزی فی (تهذیب الکمال): (وقال أبو حاتم: یکتب حدیثه، ولا یحتج به. وقال أبو أحمد بن عدی: روی عن سفینة أحادیث لا یرویها غیره، وأرجو أنه لا بأس به، فإن حدیثه أقل من ذلک. وقال أبو عبید الآجری، عن أبی داود: ثقة. وقال فی موضع آخر: هو


1- الکامل لعبد الله بن عدی ج 2 ص 260.

ص: 635

ثقة إن شاء الله، وقوم یضعفونه، إنما یخاف ممن فوقه وسمی رجلا، یعنی: سفینة)((1).

وقال ابن حجر فی (تهذیب التهذیب): (وقال البخاری فی حدیثه عجائب...وقال الساجی لا یتابع علی حدیثه)(2).

أقول: ولا تنافی بین ما ذهب إلیه ابن أبی حاتم مع ما ذهب إلیه بعض من توثیقه، لان الراوی ربما یکون ثقة ویکتب حدیثه ولکنه لا یحتج به، وعدم الاحتجاج لا من حیث الوثاقة وعدمها بل من حیث أمور خارجیة تستدعی ذلک، إضافة إلی أن لقیا سعید بن جمهان مع سفینة مشکوک فیها، لذلک خیف من روایته عن سفینة، ولذلک أیضا روی عن سفینة أحادیث لا یرویها غیره، فالواجب التوقف فی حدیثه عن سفینة، ثم لو ثبتت لقیاه مع سفینة فان الواجب عدم الاحتجاج بحدیثه عملا بقول أبی حاتم.

فهذه الروایة بعد کل هذه الملاحظات التی مرت ضعیفة مطعون فی صحتها، وتصحیح الحاکم النیسابوری لها من أعظم الظلم واشد أنواع المحاباة علی حساب الحق والعلم.

هذا تمام الکلام حول حدیث (لو وزن إیمان أبی بکر بإیمان أهل الأرض لرجح)، وبقیت أقوال ومحاولات تصحیحیة أخری للقوم ترکناها للاختصار، لان غرضنا هو الاستشهاد وعرض النماذج ولیس الاستقصاء لجمیع تلک الموارد والرد علیها لان ذلک یحتاج إلی تألیف مستقل.


1- ()تهذیب الکمال للمزی ج10 ص377 __ 378.
2- تهذیب التهذیب لابن حجر ج4 ص13.

ص: 636

الحدیث الثانی: لو کان بعدی نبی لکان عمر... وما فی معناه

اشارة

اقتضت خطة السلطة الحاکمة منذ استشهاد النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم علی جعل إحدی أولویاتها الاهتمام بأمرین مهمین:

الأول: محاولة إنزال النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم من مرتبته العالیة المرموقة الکاملة إلی مراتب أدنی فأدنی بحسب الطاقة والجهد، حتی یتساوی مع سائر الناس، وإذا أمکن أن یصیر أقل شأنا من سائر الناس فبها ونعمت، لذلک جعلوه صلی الله علیه وآله وسلم یبدو فی کتبهم یتصرف بتصرفات لا تنسجم مع تصرفات سائر الناس، فیبول واقفا، ویغضب ویسب ویلعن ویضرب من غیر ذنب ولا استحقاق، ولا علم له بأبسط قواعد الحیاة ومستلزمات المعیشة، کما فی قصة تأبیر النخل المکذوبة، ولا یعرف کیف یتصرف حیال ما یواجهه من مشاکل وصعوبات فی أثناء دعوته للناس فیحتاج من یرشده ویشیر علیه فینبری عمر بن الخطاب لتعلیمه وإرشاده وینبری آخرون لتوضیح الأمور له وإفهامه، والشواهد علی هذه الأمور کثیرة جدا.

الثانی: رفع رموز السلطة وجمیع من یناصرهم ویؤیدهم من مراتبهم التی هی کسائر الناس إلی مراتب الأنبیاء والرسل، وإعطاء الحصانة لجمیع من عاصر النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم، وإغلاق باب الأخذ والرد علیهم، وتعدیلهم جملة وتفصیلا، وتبریر جمیع ما صدر عنهم، ورمی من یتعرض لهم أو یحاول فهم حقیقة ما شجر بینهم، بالزندقة والبدعة والخروج عن الطاعة والجماعة، وإلصاق کل ما یمکن أن یخرجه من الدین ومن صف المسلمین ومن زمرة الموحدین به.

والحدیث الذی نحن بصدد الکلام عنه داخل فی ضمن کلا الأمرین، لأنه ینزل النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم من مستواه وعلیائه، وکونه خامس الأنبیاء من

ص: 637

أولی العزم، وخاتم المرسلین وسیدهم وأحبهم إلی الله سبحانه، إلی مرتبة المساواة مع عمر بن الخطاب وغیره من سائر الناس، وإلا فما معنی إخراجهم لحدیث (لو لم ابعث فیکم لبعث عمر بن الخطاب) أو أمثال ذلک؟! ألیس الهدف منه المساواة ما بین النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم وعمر بن الخطاب وان منزلتهما واحدة وان عمر ابن الخطاب بإمکانه أن یسد مسد النبی الأعظم ویأخذ مکانه، وفی هذا ظلم عظیم، إذ کیف یساوی بین النبی الأعظم وبین رجل قضی ثلث عمره ان لم نقل أکثره فی جاهلیة جهلاء یعبد الأصنام ویسجد للأحجار ویفعل أنواع الشرک والمعاصی والمخالفات، إلی أن منّ الله سبحانه علیه وعلی سائر المسلمین بالخروج من کل هذا ببرکة وجود النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم وبعثته، فکیف یقبل عاقل أن یساوی بینهما، وهل هذا إلا کمثل من یساوی بین الدر والحجر وبین التبر والتراب، فجمیع الخلق بالنسبة للنبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم بما فیهم عمر وسائر الصحابة هم بمنزلة التراب والحجر بالنسبة إلی النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم الذی هو درة عالم الإمکان وذهبه.

 وکذلک الحدیث داخل فی ضمن مخطط رفع رموز السلطة وإعطائها منزلة الرسل والأنبیاء صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، بهدف إسکات المعارضین وإخضاعهم وکسر شوکتهم، لکن الله سبحانه فضح بلطفه من روی مثل هذه الأحادیث، لأنها لم ترو عن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم بسند صحیح یرکن إلیه ویطمأن به، وکانت فضیحتهم اکبر وخزیهم أشد وأعظم حینما صحح القوم هذه الأکاذیب علی رغم نکارتها وضعفها ووضعها، وهذا ما سنتعرف علی تفاصیله فی الصفحات القادمة إن شاء الله سبحانه.

ص: 638

بعض نصوص هذا الحدیث المکذوب علی رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم

اشارة

قد ورد حدیث نبوة عمر المزعومة فی عدة أسانید وبألفاظ متقاربة، سنستعرضها فیما یأتی من کلام مع تبیان مواقع الخلل فیها.

الحدیث الأول فی مسند احمد بن حنبل
اشارة

جاء فی مسند احمد بن حنبل: (حدثنا عبد الله حدثنی أبی ثنا أبو عبد الرحمن ثنا حیوة انا بکر بن عمرو أن مشرح بن هاعان أخبره انه سمع عقبة بن عامر یقول سمعت رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم یقول لو کان من بعدی نبی لکان عمر بن الخطاب)(1).

أقول: ویرد علی هذه الروایة عدة ملاحظات مهمة، منها:

أولا: لان احمد بن حنبل أمر بحذف هذه الروایة من المسند لنکارتها إلا ان ابنه أبقاها

قد عرفنا فی احد فصول هذا الکتاب، ان کتاب المسند لأحمد بن حنبل، هو من الکتب التی تم التلاعب بها من ابنه عبد الله أو من أشخاص آخرین، وان کثیرا من الأحادیث التی أمر احمد بن حنبل ابنه عبد الله بحذفها من المسند لضعفها أو نکارتها أو وضعها لم تحذف منه، وان ابنه عبد الله قد أبقاها فی کتاب أبیه علی الرغم منه، وهذا الحدیث الذی بین أیدینا هو من الأحادیث التی تدخل فی ضمن هذا المخطط، فقد صرح موفّق الدین عبد الله بن أحمد بن محمّد الشهیر ب_:ابن قدامة المقدسی فی کتابه (المنتخب من العلل للخلال) بان احمد بن حنبل قد أمر ابنه بالضرب علی هذا الحدیث وعدم إخراجه فی المسند فقال: (وقال إبراهیم بن الحارث: إن أبا عبد الله سئل عن حدیث عقبة بن الحارث: «لو کان بعدی نبی


1- مسند احمد لأحمد بن حنبل ج 4 ص154.

ص: 639

لکان عمر»؟. فقال: اضرب علیه؛ فإنه عندی منکر)(1)وعلیه فلا وجه لنسبته إلی احمد بن حنبل، بل حکمه علیه بالنکارة من أقوی أدلة ضعفه، وذلک لاعتقاد المخالفین بتفوق احمد بن حنبل علی کثیر من نظرائه من المحدثین وأهل الجرح والتعدیل.

ثانیا: لوجود بکر بن عمرو المجهول العدالة والوثاقة

قال الرازی فی (الجرح والتعدیل): (بکر بن عمرو المعافری المصری إمام مسجد جامع مصر... وسألته __ أی أبا حاتم الرازی __ عنه فقال: شیخ. حدثنا عبد الرحمن انا حرب بن إسماعیل فیما کتب إلی قال سألت أحمد بن حنبل عن بکر ابن عمرو المعافری قال: یروی له)(2).

أقول: وهذه الألفاظ (شیخ، یروی له) لیست صریحة فی التوثیق، فکم من شیخ لا یساوی حدیثه فلسا واحدا، وکم من شخص یروی عنه وهو ضعیف هالک، وصحاحهم ومسانیدهم وسننهم وسائر مصادرهم حافلة بالرواة الذین روی عنهم ولکنهم ضعفاء أو کذابون أو مدلسون أو غیر ذلک، وعلیه فعبارة (شیخ) أو (یروی عنه) لیست صریحة فی توثیق هذا الراوی.

وأکثر ما وصف به هو العبادة والفضل، قال الذهبی فی (الکاشف فی معرفة من له روایة فی کتب الستة): (بکر بن عمرو المعافری...عابد قدوة)(3)، وقال الذهبی أیضا فی (تاریخ الإسلام): (وکان له فضل وعبادة. قال أبو حاتم:


1- المنتخب من العلل للخلال لموفّق الدین عبد الله بن أحمد بن محمّد الشهیر ب_:ابن قدامة المقدسی ص17 الرقم 106.
2- الجرح والتعدیل للرازی ج 2 ص 390.
3- الکاشف فی معرفة من له روایة فی کتب الستة للذهبی ج 1 ص 274.

ص: 640

شیخ)(1)، وقال ابن حجر: (بکر بن عمرو المعافری المصری إمام جامعها صدوق عابد من السادسة مات فی خلافة أبی جعفر بعد الأربعین)(2).

وکونه صاحب عبادة وفضل لا یعنی انه ثقة، إذ کثرة العبادة والفضل والصلاح عندهم لا تقتضی أن یکون ذلک العابد الصالح الفاضل ثقة، بل العکس هو الصحیح، فقد صرح القوم ان واحدة من أسباب رمی الراوی بالضعف وقلة الضبط هو کونه من أهل الصلاح وکثرة العبادة، بدعوی ان الحدیث والروایة تحتاج إلی تفرغ ومدارسة وتنقل فی البلدان والکتابة والتقیید وغیر ذلک، ومن یتفرغ للعبادة والصلاح لا یستطیع القیام بهذه المهام، لذا کان أهل العبادة والصلاح متهمین علی الدوام بقلة الضبط، وقلب الأسانید، والکذب والروایة عن کل من هب ودب، وغیر ذلک من القوادح، وقد فصل الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلی هذه القاعدة فی کتابه (شَرْحُ عِلَلِ التِّرْمِذِیِّ) بالقول: (ذکر الترمذی: أنه رب رجل صالح مجتهد فی العبادة، ولا یقیم الشهادة ولا یحفظها، وکذلک الحدیث لسوء حفظه وکثرة غفلته...وروی مسلم فی مقدمة کتابه «لن تری الصالحین فی شیء أکذب منهم فی الحدیث»... وروی ابن أبی حاتم بإسناده عن أبی أسامة قال: «إن الرجل یکون صالحاً ویکون کذاباً»... وروی أبو نعیم بإسناده عن ابن مهدی قال: «فتنة الحدیث أشد من فتنة المال وفتنة الولد، ولا تشبه فتنته فتنة، کم من رجل یظن به الخیر قد حمله فتنة الحدیث علی الکذب»...قال أبو قلابة: عن علی بن المدینی: سئل یحیی بن سعید عن مالک بن دینار، ومحمد بن واسع، وحسان بن أبی سنان فقال: «ما


1- تاریخ الإسلام للذهبی ج 9 ص 79.
2- تقریب التهذیب لابن حجر ج 1 ص 135.

ص: 641

رأیت الصالحین فی شیء أکذب منهم فی الحدیث، لأنهم یکتبون عن کل ما یلقون لا تمییز لهم فیه»... ویروی عن أبی عبد الله بن مندة قال: «إذا رأیت فی حدیث ثنا فلان الزاهد فاغسل یدک منه»، وقال ابن عدی: «الصالحون قد وسموا بهذا الاسم إن یرووا أحادیث فی فضائل الأعمال موضوعة بواطیل، ویتهم جماعة منهم بوضعها»)(1).

إذن فکون بکر بن عمرو المعافری من أهل الصلاح والعبادة لا یلزم منه توثیقه وقبول حدیثه بل العکس فکونه من أهل العبادة والصلاح موجباً لغسل الید من روایته، وموجباً لاتهام هذا الراوی بالغفلة وسوء الحفظ بل والکذب فیما لو جاء بحدیث منکر، وبکر بن عمرو المعافری قد جاء بحدیث منکر کما صرح احمد ابن حنبل من قبل حینما أمر ولده بالضرب علی هذا الحدیث لأنه منکر، فلا شک حینئذ من کون هذا الحدیث من أکاذیب بکر بن عمرو المعافری، أو من أکاذیب غیره لکنه رواه بسبب ان بکر بن عمرو المعافری من أهل الصلاح والعبادة الذین یروون کل غث وسمین من دون درایة وتمییز.

ولیت ان الأمر توقف عند هذا الحد، فقد ورد تصریح واضح من ابن القطان بعدم علمه لعدالة بکر بن عمرو المعافری، کما ان الدارقطنی أمر بالنظر فی أمره، قال ابن حجر فی (تهذیب التهذیب): (بکر بن عمرو المعافری المصری إمام جامعها... قلت: وقال ابن القطان لا نعلم عدالته وذکره ابن حبان فی الثقات وقال توفی بعد الأربعین ومائة وقال الحاکم سألت الدارقطنی عنه فقال ینظر فی أمره)(2)،


1- شَرْحُ عِلَلِ التِّرْمِذِیِّ للحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلی المسألة الثالثة من ضعف من أهل العبادة لسوء حفظه ص131.
2- تهذیب التهذیب لابن حجر ج 1 ص 426.

ص: 642

وهو صریح فی جهالة عدالته ووثاقته، فإذا ضممنا جهالته مع کونه من أهل العبادة والصلاح المعروفین بقلة الضبط والکذب فی الحدیث وروایتهم للمناکیر، نصل وعلی اقل التقادیر إلی حتمیة التوقف والتحفظ عن قبول روایته وبالخصوص التی یشهد علیها بالنکارة والغرابة، والروایة التی نحن بصدد الکلام عنها مشمولة بهذا الأمر حتما فقد شهد احمد بن حنبل بأنها منکرة، وسیأتی کلام الترمذی وشهادته بأنها غریبة، فالروایة مشتملة علی جهالة وغرابة ونکارة فلا ریب فی ضعفها، ولا عبرة حینئذ بتوثیق أمثال ابن حبان لأنه وکما کررنا مرارا معروف بالتساهل فی توثیق الضعفاء والمجهولین.

ومما تقدم یعلم إفراط الذهبی وشذوذه فی تعدیل بکر بن عمرو المعافری ووصفه بأنه احد الأثبات، کما فی (تاریخ الإسلام) حیث قال: (بکر بن عمرو المعافری الزاهد...وکان أحد الأثبات)(1)، ولا احد غیر الذهبی وصفه بأنه من الأثبات، ولو کان من الأثبات فعلا لما خفی أمره عن ابن القطان والدارقطنی والحاکم وغیره من شیوخ الحدیث وأصحاب الجرح والتعدیل، فعدم معرفتهم بهذا الأمر وعدم ذکره فی ترجمته دلیل علی ان هذا القول هو من أوهام الذهبی واجتهاداته غیر المستندة إلی دلیل وشاهد فتکون مردودة علیه.

ثالثا: لوجود مشرح بن هاعان الذی کان یخطئ ویخالف ویروی المناکیر التی لا یتابع علیها

وهو مشرح بن هاعان المعافری، أبو مصعب المصری، من الطبقة التی تلی الوسطی من التابعین، روی له أربعة من أصحب الکتب الستة، ولم یرو له مسلم فی صحیحه ولا النسائی أی حدیث، وله عدة طامات تمنع کل واحدة منها من


1- تاریخ الإسلام للذهبی ج 8 ص387.

ص: 643

الأخذ بروایته والقول بوثاقته، منها کونه صاحب روایة للمناکیر، ومنها انه کان من أعوان الحجاج بن یوسف الثقفی وبالتحدید کان علی المنجنیق الذی رمیت به الکعبة المشرفة فی حرب الحجاج مع ابن الزبیر، وقد هدمت الکعبة وأحرقت بفعل هذا المنجنیق، فعلیه لعائن الله وعلی من أمره إلی یوم الدین، والذی یروی عن عقبة بن عامر مناکیر لا یتابع علیها، والذی کان یخطئ ویخالف، وقد انقلبت عنه صحائفه فبطل الاحتجاج به، وغیر ذلک من الطامات، والتی سنتعرف علیها فیما یأتی من تصریحات:

قال الذهبی فی (تاریخ الإسلام): («مشرح بن هاعان» أبو مصعب المعافری المصری...وثقه ابن معین، وقد لینه ابن حبان فقال: له مناکیر...وکان علی المنجنیق الذی رمی به الکعبة)(1).

وقال الذهبی أیضا فی (میزان الاعتدال): (مشرح بن هاعان...عن عقبة بن عامر. صدوق، لینه ابن حبان. وقال عثمان بن سعید، عن ابن معین: ثقة. قال ابن حبان: یکنی أبا مصعب. یروی عن عقبة مناکیر لا یتابع علیها...فالصواب ترک ما انفرد به. وذکره العقیلی فما زاد فی ترجمته أکثر من أن قیل: إنه ممن جاء مع الحجاج إلی مکة، ونصب المنجنیق علی الکعبة)(2).

وقال ابن حبان فی (کتاب المجروحین): (مشرح بن هاعان...یروی عن عقبة ابن عامر أحادیث مناکیر لا یتابع علیها، روی عنه ابن لهیعة واللیث وأهل مصر، والصواب فی أمره ترک ما انفرد من الروایات والاعتبار بما وافق الثقات)(3).


1- تاریخ الإسلام للذهبی ج 7 ص 470.
2- میزان الاعتدال للذهبی ج 4 ص 117.
3- کتاب المجروحین لابن حبان ج 3 ص 28.

ص: 644

وقد کرر ابن حبان ذکره فی کتاب (الثقات) فقال: (مشرح بن هاعان من أهل مصر یروی عن عقبة بن عامر روی عنه أهل مصر یخطئ ویخالف)(1).

وقال ابن الجوزی فی (الموضوعات): (وقال ابن حبان: انقلبت علی مشرح صحائفه فبطل الاحتجاج به)(2).

أقول: لا ینفع توثیق ابن معین وغیره لمشرح بن هاعان، لان توثیقهم مجمل، ومن جرحه کابن حبان وغیره فقد جرحه بجرح مفسر، والجرح المفسر مقدم بلا أدنی شک علی التوثیق المجمل، وحتی لو قیل جدلا بوثاقته، فان حدیثه عن عقبة منکر لا یتابع علیه وحدیث نبوة عمر بن الخطاب مروی عن عقبة فیکون منکرا، إضافة إلی ان انفراده بحدیث لا یقبل منه، وسیأتی تصریح الترمذی بأن حدیث نبوة عمر بن الخطاب مما انفرد به مشرح بن هاعان فلا یقبل منه حینئذ هذا الانفراد.

ثم إنی لأعجب کیف سمح البعض لنفسه بتوثیق مشرح بن هاعان هذا وقبول حدیثه وقد رمی الکعبة بالمنجنیق وهدمها وأحرق ستائرها ودمر أسوارها، فکیف یکون مثل هذا الفاسق الکافر ثقة مقبول الروایة، بینما یضعفون رجال الشیعة وأتباع أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین لأسباب تافهة وحجج واهیة وقد مرت بعضها.

رابعا: حکم ابن الجوزی علی الحدیث بأنه موضوع

ومن أعظم الضربات التی وجهت إلی هذا الحدیث حکم ابن الجوزی علی الحدیث بالوضع فی کتابه (الموضوعات) بقوله: (الحدیث الثانی: أنبأنا


1- الثقات لابن حبان ج 5 ص 452.
2- الموضوعات لابن الجوزی ج 1 ص 321.

ص: 645

إسماعیل بن أحمد قال أنبأنا إسماعیل بن مسعدة قال أنبأنا حمزة قال أنبأنا ابن عدی قال حدثنا علی بن الحسن بن قدید قال حدثنا زکریا بن یحیی الوقاد قال حدثنا بشر بن بکر عن أبی بکر بن عبد الله بن أبی مریم عن ضمرة بن حبیب عن غضیف بن الحرث عن بلال بن رباح قال: قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم: "لو لم أبعث فیکم لبعث عمر". قال ابن عدی وحدثنا عمر بن الحسن بن مضر الحلبی قال حدثنا مصعب بن سعد أبو خیثمة قال حدثنا عبد الله ابن واقد قال حدثنا حیوة بن شریح عن بکر بن عمرو عن مشرح بن هاعان عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلی الله علیه وسلم " لو لم أبعث فیکم لبعث عمر " هذان حدیثان لا یصحان عن رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم. أما الأول: یحیی کان من الکذابین الکبار. قال ابن عدی: کان یضع الحدیث، وأما الثانی فقال أحمد: ویحیی بن عبد الله بن واقد لیس بشیء. وقال النسائی: متروک الحدیث. وقال ابن حبان: انقلبت علی مشرح صحائفه فبطل الاحتجاج به)((1).

فیثبت من جمیع ما مر ان حدیث (لو کان من بعدی نبی لکان عمر بن الخطاب)(2)، الذی أخرجه احمد فی مسنده بالسند المتقدم هو من الأحادیث الضعیفة بل والموضوعة باعتراف ابن الجوزی، أو هو من الأحادیث المنکرة التی ینبغی أن لا تکتب ولا تثبت فی الصحاح کما قال أحمد بن حنبل، لذلک لم یخرجه أحد من أصحاب الصحاح، ولو کان یساوی فلسا لما رغبوا عنه.


1- ()الموضوعات لابن الجوزی ج 1 ص 321.
2- مسند احمد لأحمد بن حنبل ج 4 ص154.

ص: 646

الحدیث الثانی والثالث فی سنن الترمذی والمعجم الکبیر للطبرانی

جاء فی سنن الترمذی: (حدثنا سلمة بن شبیب أخبرنا المقری عن حیاة بن شریح عن بکر بن عمرو عن مشرح بن هاعان عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم: لو کان نبی بعدی لکان عمر بن الخطاب)(1).

وقال الطبرانی فی (المعجم الکبیر): (حدثنا هارون بن ملول المصری ثنا أبو عبد الرحمن المقری ثنا حیاة بن شریح عن بکر بن عمرو عن مشرح بن هاعان عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم قال لو کان بعدی نبی لکان عمر)(2).

أقول: وسند هذا الحدیث هو نفس سند الحدیث السابق، فکل ما ورد علی الحدیث السابق من مؤاخذات یرد علی هذا الحدیث أیضا فلا نطیل.

الحدیث الرابع: فی معجم الطبرانی عن عصمة بن مالک الخطمی
اشارة

وقد اخرج الطبرانی فی (المعجم الکبیر) الحدیث عن أحمد بن رشدین المصری ثنا خالد بن عبد السلام الصدفی ثنا الفضل بن المختار عن عبد الله بن موهب عن عصمة بن مالک الخطمی: (قال: قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم لو کان نبی بعدی لکان عمر بن الخطاب)(3).

أقول: والحدیث بهذا الطریق باطل أیضا لا یحتج به، لعدة أسباب منها:


1- سنن الترمذی ج 5 ص 281 __ 282.
2- المعجم الکبیر للطبرانی ج 17 ص 298.
3- المصدر السابق ص 178.

ص: 647

أولا: لوجود احمد بن رشدین فی إسناده وهو ضعیف

وهو أحمد بن محمد بن الحجاج بن رشدین، وقد وصفه الهیثمی بالضعف فی عدة مواضع من کتابه (مجمع الزوائد)(1)، ووصفه ابن الجوزی بالکذاب فی کتابه (الموضوعات) قال المتقی الهندی فی (کنز العمال): (...وأورده ابن الجوزی فی الموضوعات وقال: فیه أحمد بن رشدین کذاب)(2)، وقد نقل عبد الله بن عدی فی (الکامل) اتهامه بالکذب عن عدة من معاصریه فقال: (أحمد بن محمد بن الحجاج بن رشدین سعد أبو جعفر المصری سمعت محمد بن سعد السعدی یقول سمعت أحمد بن شعیب النسائی یقول کان عندی أخو میمون وعدة فدخل ابن رشدین هذا فصعقوا به وقالوا له یا کذاب فقال لی ابن رشدین ألا تری ما یقولون لی فقال له أخو میمون ألیس أحمد بن صالح إمامک قال نعم فقال سمعت علی بن سهل یقول سمعت أحمد بن صالح یقول انک کذاب)(3).

وقال سبط بن العجمی فی (الکشف الحثیث): (أحمد بن محمد بن الحجاج ابن رشدین بن سعد أبو جعفر المصری قال ابن عدی کذبوه وأنکرت علیه عدة أشیاء)(4).

وقال الرازی فی (الجرح والتعدیل): (أحمد بن محمد بن الحجاج بن رشدین...سمعت منه بمصر ولم أحدث عنه لما تکلموا فیه)(5).


1- مجمع الزوائد للهیثمی ج 6 ص 294، و ج 10 ص 69، وغیر ذلک.
2- کنز العمال للمتقی الهندی ج 12 ص 121.
3- الکامل لعبد الله بن عدی ج 1 ص 198.
4- الکشف الحثیث لسبط بن العجمی ص 58.
5- الجرح والتعدیل للرازی ج 2 ص 75.

ص: 648

وقال عبد الله بن عدی فی (الکامل): (ولحجاج أحادیث غیر ما ذکرت وکان نسل رشدین قد خصوا بالضعف رشدین ضعیف وابنه حجاج هذا ضعیف وللحجاج ابن یقال له محمد ضعیف ولمحمد ابن یقال له أحمد بن محمد بن الحجاج ابن رشدین ضعیف)(1)، فجمیع آل رشدین خصوا بالضعف فأحمد ضعیف وکذلک أبوه محمد ضعیف وکذلک جده حجاج ضعیف وکذلک رشدین ضعیف أیضا، وهو من النوادر فی علم الجرح والتعدیل.

ثانیا: لوجود الفضل بن المختار فی الإسناد وهو مجهول منکر الحدیث یروی الأباطیل

وهو الفضل بن المختار، أبو سهل البصری، ذکره العقیلی فی (ضعفاء العقیلی) بقوله: (الفضل بن المختار منکر الحدیث)(2)، وقال الرازی فی (الجرح والتعدیل): (الفضل بن المختار البصری...نا عبد الرحمن قال سألت أبی عنه فقال هو مجهول وأحادیثه منکرة یحدث بالأباطیل)(3).

وقال الذهبی فی (میزان الاعتدال): (الفضل بن المختار...قال أبو حاتم: أحادیثه منکرة، یحدث بالأباطیل. وقال الأزدی: منکر الحدیث جدا. وقال ابن عدی: أحادیثه منکرة، عامتها لا یتابع علیها)(4).

وقد تفنن الهیثمی فی تضعیفه فی (مجمع الزوائد) فقال: (الفضل بن المختار وهو منکر الحدیث ضعیف جدا)(5)، وقال فی موضع آخر: (الفضل بن المختار وهو


1- الکامل لعبد الله بن عدی ج 2 ص 234.
2- ضعفاء العقیلی للعقیلی ج 3 ص 449.
3- الجرح والتعدیل للرازی ج 7 ص 69.
4- میزان الاعتدال للذهبی ج 3 ص 358.
5- مجمع الزوائد للهیثمی ج 1 ص 244.

ص: 649

 منکر الحدیث یحدث بالأباطیل)(1)، وقال فی موضع ثالث: (الفضل بن المختار وهو ضعیف جدا)(2)، هذا وقد صرح الهیثمی ببطلان حدیث نبوة عمر بقوله: («باب قول النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم لو کان بعدی نبی» عن عصمة قال. قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم لو کان بعدی نبی لکان عمر. رواه الطبرانی وفیه الفضل بن المختار وهو ضعیف. وعن أبی سعید الخدری قال: قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم لو کان الله باعثا رسولا بعدی لبعث عمر بن الخطاب. رواه الطبرانی فی الأوسط وفیه عبد المنعم بن بشیر وهو ضعیف)(3).

إذن فالحدیث بهذا الإسناد باطل بلا ریب.

الحدیث الخامس: فی تاریخ مدینة دمشق وغیره

قال ابن عساکر فی (تاریخ مدینة دمشق): (أنا أبو بکر الخطیب أنا أبو الفتح محمد بن الحسین بن محمد بن جعفر السمعانی المعروف بقطیط نا أحمد بن محمد بن الحسین الصفار التستری من حفظه نا سعید بن أحمد أبو سعید النیسابوری نا ظالم ابن کاظم أبو یعیش نا خلف بن حمود البخاری نا عبد الله بن مسلمة نا مالک بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله (صلی الله علیه __ وآله __ وسلم) لعمر بن الخطاب لو کان بعدی نبی لکنته)(4).

أقول: وهذا الحدیث منکر بهذا السند، وقد صرح غیر واحد من أعلامهم بنکارته، منهم ابن عساکر نفسه بعد إیراده لهذا الخبر حیث قال: (قال الخطیب هذا


1- مجمع الزوائد ج1 ص 257.
2- المصدر السابق ج 2 ص 195.
3- المصدر السابق ج 9 ص 68.
4- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج 44 ص 116.

ص: 650

حدیث منکر)(1). وقال المتقی الهندی بعد إیراد هذا الخبر أیضا: (أورده __ الخطیب فی رواة مالک وابن عساکر عن ابن عمر، وقال: منکر)(2).

وقال ابن حجر فی (لسان المیزان) عند حدیثه عن ترجمة خلف بن خمود أو حمود بقوله: («خلف» بن خمود البخاری عن القعنبی لا یعرف وأتی بخبر منکر انتهی... والخبر المذکور أورده الخطیب فی المؤتلف من طریق کاظم بن ظالم عن خلف عن القعنبی عن مالک عن نافع عن ابن عمر رضی الله عنهما قال: قال النبی صلی الله علیه وآله وسلم لعمر لو کان بعدی نبی لکنته قال الخطیب روی خبرا منکرا ثم ساقه والنکارة فیه تتعلق بالسند وتعریف المنکر الذی ذکره مسلم فی مقدمة صحیحه منطبق علیه فان القعنبی من المکثرین حدیثا وتلامذة وقد انفرد هذا من بینهم بهذا ولکن أصل المتن ورد من غیر هذا الوجه)(3).

أقول: عبارة (ولکن أصل المتن ورد من غیر هذا الوجه) موهمة وحمالة لوجوه، فقد یظن البعض ان معنی ورود هذا المتن من غیر هذا الوجه المنکر هو وجود سند صحیح لهذا الحدیث، والحقیقة هی ان لا سند صحیح لهذا الحدیث علی رغم ورود هذا المتن فی أکثر من طریق وفیما سبق استعرضنا جمیع الطرق وأثبتنا إما ضعفها أو وضعها أو نکارتها، وعلیه فلیس من حق ابن حجر أن یترک هذه الحقیقة عائمة ومبهمة فیعبر عنها بعبارة تحمل عدة معانٍ ووجوه، وکان ینبغی علیه أن یصبح شجاعا وعلی قدر المسؤولیة ویقول بضعف جمیع هذه الطرق مراعاة للمنهج العلمی وتبیانا للحق وقولا به حتی لو کان هذا الحق علی خلاف هواه ومیوله المذهبیة.


1- تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر ج 44 ص 116.
2- کنز العمال للمتقی الهندی ج 11 ص 581.
3- لسان المیزان لابن حجر ج 2 ص 402 __ 403.

ص: 651

وبهذا انهینا مناقشة جمیع طرق حدیث نبوة عمر بن الخطاب، وقد وصلنا بالقارئ الکریم إلی نتیجة قطعیة وحاسمة فی عدم وجود طریق واحد صحیح لهذا الحدیث ومعنی أن لا یوجد لهذا الحدیث طریق صحیح هو کونه مکذوباً علی النبی صلی الله علیه وآله وسلم وهو من الأحادیث التی وضعتها السلطة وأعوانها فی سبیل أهداف سبق وبیناها آنفا.

استماتة محدثی أهل السنة لتصحیح هذا الحدیث الضعیف المنکر

اشارة

علی الرغم من ضعف جمیع طرق حدیث نبوة عمر بن الخطاب ونکارته سندا ومتنا، إلا أن محدثی أهل السنة وکعادتهم قاموا بمحاولات کثیرة ومستمیتة فی سبیل إثبات هذا الحدیث وتصحیحه أو تحسینه، إلا ان هذه المحاولات جاءت متحیزة وغیر علمیة، وسنستعرض فیما یأتی جملة من تلک المحاولات مع تبیان مواقع الخلل فیها، وسنقتصر علی المهم منها وترک ما هو مکرر أو لیس له أهمیة کبیرة.

1: محاولة الترمذی لتحسین هذا الحدیث علی رغم کونه غریبا

حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ شَبِیبٍ حَدَّثَنَا الْمُقْرِئُ عَنْ حَیْاَة بْنِ شُرَیْحٍ عَنْ بَکْرِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ مِشْرَحِ بْنِ هَاعَانَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ __ صلی الله علیه __ وآله __ وسلم __: « لَوْ کَانَ نَبِیٌ بَعْدِی لَکَانَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ». __ قَالَ الترمذی __ هَذَا حَدِیثٌ حَسَنٌ غَرِیبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاَّ مِنْ حَدِیثِ مِشْرَحِ بْنِ هَاعَانَ)(1).

أقول: لقد وقع علماء أهل السنة فی حیص وبیص جراء محاولتهم لفهم ما یعنیه الترمذی بقوله (حسن) أو (حسن غریب) أو (صحیح حسن) أو غیرها من


1- سنن الترمذی ج5 ص282 مناقب أبی حفص عمر بن الخطاب.

ص: 652

الاصطلاحات التی أنشأها واستخدمها فی حکمه علی الأحادیث والروایات فی کتابه السنن وغیره، فوقعوا فی خلط عجیب واختلاف شدید فی تحدید المعنی الدقیق لمصطلحات الترمذی عموما، ولمصطلح الحسن علی وجه الخصوص، وهذا الخلط والاختلاف والحیرة منهم ناتج عن خلط واختلاف فی استعمال الترمذی نفسه لهذا المصطلح، وکذلک الفرق ما بین التعریف الذی أطلقه الترمذی علی الحدیث الحسن فی مرحلة التنظیر، وما بین تطبیقه لهذا المصطلح فی مرحلة العمل.

والترمذی قد عرف مراده بالحدیث الحسن فی آخر کتابه (العلل الصغیر) بقوله: (وما ذکرنا فی هذا الکتاب حدیث حسن فإنما أردنا به حسن إسناده عندنا کل حدیث یروی لا یکون فی إسناده من یتهم بالکذب ولا یکون الحدیث شاذا ویروی من غیر وجه نحو ذاک فهو عندنا حدیث حسن)(1)، فالحدیث الحسن وفقا لهذا التعریف ینبغی أن تتوافر فیه ثلاثة شروط أساسیة هی:

1: أن لا یکون فی إسناده راوٍ متهم بالکذب.

2: أن لا یکون هذا الحدیث شاذا.

3: أن لا یأتی من طریق واحد بل یأتی من أکثر من طریق.

ولکن الترمذی وفی مقام التطبیق العملی لم یکن یحسن أو یراعی هذه الشروط فی حکمه علی الأحادیث، والشواهد علی هذا الأمر کثیرة جدا نختار منها شاهدا واحدا ونترک الباقی روما فی الاختصار، فقد اخرج فی (سنن الترمذی) حدیثا حکم علیه بأنه حسن صحیح، وهو: (حدثنا الحسن بن علی الخلال. حدثنا أبو عامر العقدی. حدثنا کثیر بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزنی عن أبیه، عن جده: أن رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم قال «الصلح جائز بین المسلمین،


1- العلل الصغیر للترمذی ص758 معانی الاصطلاح للترمذی.

ص: 653

إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما. والمسلمون علی شروطهم، إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما». __ قال الترمذی __ هذا حدیث حسن صحیح)(1).

ولکننا لو رجعنا إلی رجال سند هذا الحدیث لوجدنا فیهم (کثیر بن عبد الله ابن عمرو بن عوف المزنی) قال ابن حبان فی (کتاب المجروحین): (روی عن أبیه عن جده نسخة موضوعة لا یحل ذکرها فی الکتب ولا الروایة عنه إلا علی جهة التعجب. وکان الشافعی رحمه الله یقول: کثیر بن عبد الله المزنی رکن من أرکان الکذب)(2)، وقال الهیثمی فی (مجمع الزوائد): (کثیر بن عبد الله بن عمرو بن عوف وقد أجمعوا علی ضعفه)(3)، فشرط (أن لا یکون فی إسناده راوٍ متهم بالکذب) مفقود هنا لان کثیر بن عبد الله اتهمه الشافعی بالکذب، ویروی عن أبیه عن جده نسخة موضوعه، وهذا الحدیث الذی صححه وحسنه الترمذی منها فهو عن أبیه عن جده، ومع ذلک صحح الترمذی هذا الحدیث وحسنه.

وکم من حدیث أیضا یعترف الترمذی بأنه (لم یأتِ أو لم یروَ إلا من هذا الوجه) ولکنه مع ذلک یحسنه وأمثلته کثیرة جدا، فیتغافل أو یغفل ما اشترطه للحدیث الحسن وهو (أن لا یأتی من طریق واحد بل یأتی من أکثر من طریق).

وقد وجّه للترمذی نقد کثیر علی ترتیب اصطلاحاته والجمع بینها فی مکان واحد، وکذلک انتقد فی التضارب ما بین القاعدة التی یضعها وما بین تطبیق تلک القاعدة فی الواقع الخارجی، فعلی سبیل المثال فقد: (استشکل جماعة من أهل الاصطلاح اجتماع الغ_رابة والحسن فی حدیثٍ واحدٍ، وهذا باعتبار تعریف الغریب


1- سنن الترمذی ج 2 ص403.
2- کتاب المجروحین لابن حبان ج 2 ص 221 __ 222.
3- مجمع الزوائد للهیثمی ج 1 ص 203.

ص: 654

عندهم بأن_ه «الحدیث الذی یت_فرد به راو إما فی مت_نه أو فی إسناده أو هما معاً»، وباعتبار تعریف الحسن عند الترمذی علی ما أصَّلَه فی «العلل الصغیر» بقوله: «وما ذکرنا فی هذا الکتاب حدیث حسن، فإنما أردنا حسن إسناده عندنا، وهو کلُّ حدیثٍ لا یکون فی إسناده من یتهم بالکذب، ولا یکون شاذاً، ویروی من غیر وجهٍ نحو ذاک، فهو عندنا حدیث حسن» ووجه الإشکال هاهنا: کیف یجتمع الحسن والغرابة، مع أن الترمذی اعتبر فی الحسن تعدد الطرق؟ کیف یکون غریباً والأمر کذلک؟)(1) وقد حاول بعضهم جاهدا أن یجیب علی هذا الإشکال لکنه لم یأتِ بطائل ولم یسطر إلا ما هو مجرد استحسانات وترقیعات لا تطمئن النفس إلیها وقد اعرضنا عن إیرادها طلبا للاختصار.

ولکل هذا وغیره لا یعتمد العلماء علی تحسین الترمذی للأحادیث فی کتابه السنن وغیره، وقد صرح بهذه الحقیقة الذهبی فی (میزان الاعتدال) عند تعرضه لترجمة یحیی بن یمان حیث قال: (...عن حجاج بن أرطاة، عن عطاء، عن ابن عباس أن النبی صلی الله علیه __ وآله __ وسلم دخل قبرا لیلا فأسرج له سراج. حسنه الترمذی مع ضعف ثلاثة فیه، فلا یغتر بتحسین الترمذی، فعند المحاققة غالبها ضعاف)(2).

وقال الذهبی أیضا عند ترجمة (کثیر بن عبد الله بن عمرو بن عوف): (قال ابن معین: لیس بشیء. وقال الشافعی وأبو داود: رکن من أرکان الکذب،


1- انظر: لسان المحدثین (مُعجم یُعنی بشرح مصطلحات المحدثین القدیمة الحدیثة ورموزهم وإشاراتهم وجملة من مشکل عباراتهم وغریب تراکیبهم ونادر أسالیبهم) تألیف: محمد خلف سلامة ج3 ص136.
2- میزان الاعتدال للذهبی ج 4 ص 416.

ص: 655

وضرب أحمد علی حدیثه. وقال الدارقطنی وغیره: متروک. وقال أبو حاتم: لیس بالمتین.... وأما الترمذی فروی من حدیثه: الصلح جائز بین المسلمین. وصححه، فلهذا لا یعتمد العلماء علی تصحیح الترمذی)(1)، وقوله (لا یعتمد العلماء) ومن دون تقیید یدل علی إن عدم الاعتداد بتصحیح الذهبی لیس خاصا بالذهبی بل هو فعل عامة العلماء، فهذا هو حال تصحیحاته فما بالک بما یحسنه الترمذی، وما بالک بما یحسنه ویحکم علیه بالغرابة؟! لان الحدیث الصحیح عندهم واضح التعریف بیّن الحد، والکلام والاختلاف هو فی الحدیث الحسن والغریب، فمن لا یحسن أن یصحح فهو فی تحسین الأحادیث اشد، وفی الحکم علیها بالغرابة اشد واشد.

وقال الزیلعی فی (نصب الرایة): (قال ابن دحیة فی العلم المشهور وکم حسن الترمذی فی کتابه من أحادیث موضوعة وأسانید واهیة)(2)، وتوجد کلمات أخری تدل علی هذا المعنی لابن تیمیة وللألبانی ترکناها طلبا للاختصار وفیما ذکرنا عبرة لمعتبر.

أقول: الحق والإنصاف یقتضی أن لا نحکم علی جمیع ما صححه الترمذی أو حسنه أو ضعفه بعدم الاعتماد، وفی المقابل لا نأخذ ولا نسلم بجمیع ما یصححه أو یحسنه أو یضعفه، بل ینبغی أن نسلک فی ذلک مسلک الوسطیة الممدوحة، فلا نستعجل فی الترک أو الأخذ وننظر فی تلک التصحیحات والتحسینات فان توافرت فیها الشروط أخذنا بها وإلا ترکناها ولم نعتمدها.

وحدیث نبوة عمر بن الخطاب الذی حسنه الترمذی لم یأتِ وباعتراف


1- میزان الاعتدال للذهبی ج 3 ص 406 __ 407.
2- نصب الرایة للزیلعی ج 2 ص 260.

ص: 656

الترمذی نفسه إلا من (حَدِیثِ مِشْرَحِ بْنِ هَاعَانَ) وهذا خلاف شرط الحسن عند الترمذی، لان شرط الحسن عنده هو (أن لا یأتی من طریق واحد بل یأتی من أکثر من طریق) وهو مفقود هنا، فلا یعتد حینئذ بتحسینه ویکون مشمولا بقول الذهبی وغیره.

2: تصحیح الحاکم النیسابوری لحدیث نبوة عمر وموافقة الذهبی له

قال الحاکم النیسابوری فی (المستدرک علی الصحیحین): (أخبرنی عبد الله بن محمد بن إسحاق الخزاعی، بمکة، ثنا أبو یحیی بن أبی مسرة، ثنا عبد الله بن یزید المقرئ، ثنا حیوة بن شریح، عن بکر بن عمرو، عن مشرح بن هاعان، عن عقبة ابن عامر رضی الله عنه قال: سمعت رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم یقول: «لو کان بعدی نبی لکان عمر بن الخطاب». __ قال الحاکم __: «هذا حدیث صحیح الإسناد، ولم یخرجاه»)(1).

وقد وافقه الذهبی فی (تلخیص المستدرک): بقوله: (صحیح)(2).

أقول: ولم یحسن الحاکم النیسابوری ولا الذهبی فی تصحیح هذا الحدیث المکذوب، وذلک لعدة أسباب منها:

ألف: اتفقت کلمة أهل السنة علی ان الحدیث الصحیح هو وکما قال ابن الصلاح فی مقدمته: (أما الحدیث الصحیح فهو الحدیث المسند الذی یتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلی منتهاه ولا یکون شاذا ولا معللا)(3)،


1- المستدرک للحاکم النیسابوری ج3 ص85 لو کان بعدی نبی لکان عمر.
2- تلخیص المستدرک للذهبی ج3 ص92.
3- مقدمة ابن الصلاح لعثمان بن عبد الرحمن ص 15 __ 16، وقال محیی الدین النووی (المجموع ج1 ص59) (فالصحیح ما اتصل سنده بنقل العدل الضابط عن مثله من غیر شذوذ ولا علة).

ص: 657

وهذا التعریف لا ینطبق علی حدیث نبوة عمر بن الخطاب، لان وصف العدل والضبط وانتفاء العلة منتفیة عن هذا الحدیث.

فمن حیث عدالة الرواة وضبطهم، فقد علمنا مما سبق ان بکر بن عمرو المعافری غیر معلوم العدالة، کما صرح به ابن القطان، وأمر الدارقطنی أن ینظر فی أمره(1)، وهو نص صریح علی کونه مجهولا أو مستور الحال، ومن کان مجهولا أو مستور الحال لا یعد من رجال الصحیح، أما من حیث الضبط فقد ذکرنا ان بکر بن عمرو معروف بالصلاح والعبادة المعروفین بقلة الضبط والکذب فی الحدیث وروایة المناکیر وغیر ذلک من الأمور التی کانت مشهورة عن المعروفین بالصلاح والعبادة.

وکذلک الحال بالنسبة لمشرح بن هاعان فانه مقدوح فی العدالة والضبط صاحب مناکیر لا یتابع علیها وبالخصوص عن عقبة، ویخطئ ویخالف، وانقلبت علیه صحائفه فبطل الاحتجاج به،وکان ممن رمی الکعبة بالمنجنیق واحرقها، إلی غیر ذلک من الأمور التی سبق وتعرضنا لها بالتفصیل.

وأما من حیث وجود العلة فالحدیث منکر کما صرح به احمد بن حنبل(2)، وقد أمر احمد بن حنبل ابنه أن یضرب علیه ویخرجه من المسند، والنکارة علة، فینخرم شرط آخر من شروط التعریف السابق للحدیث الصحیح.

باء: ان لعلماء الحدیث من أهل السنة وفقهائهم وأساطینهم تحفظاً کبیراً من تصحیح الحاکم لأحادیث کتابه المستدرک، ولهم تصریحات مهمة بهذا الشأن، ولم أجد فیما تتبعت من کلماتهم من یأخذ بجمیع تصحیحات الحاکم فی کتابه


1- تهذیب التهذیب لابن حجر ج 1 ص 426.
2- المنتخب من العلل للخلال لموفّق الدین عبد الله بن أحمد بن محمّد الشهیر ب_:ابن قدامة المقدسی ص17 الرقم 106.

ص: 658

المستدرک، بل علی العکس وجد من رفض جمیع تصحیحاته، لکن الأغلب فصلوا فی ذلک، وفیما یأتی جملة من أقوالهم:

1: قال ابن عبد الهادی فی (الصارم المُنْکِی فی الرد علی السبکی): (وقد أخطأ الحاکم فی تصحیحه وتناقض تناقضاً فاحشاً کما عرف له ذلک فی مواضع...ثم أنه رحمه الله لما جمع المستدرک علی الشیخین ذکر فیه من الأحادیث الضعیفة والمنکرة بل والموضوعة جملة کثیرة، وروی فیه لجماعة من المجروحین الذین ذکرهم فی کتابه فی الضعفاء وذکر أنه تبین له جرحهم، وقد أنکر علیه غیر واحد من الأئمة هذا الفعل، وذکر بعضهم أنه حصل له تغیر وغفلة فی آخر عمره فذلک وقع منه ما وقع ولیس ذلک ببعید...)(1).

2: وقال الزیلعی فی (نصب الرایة): (ومن أکثرهم تساهلا الحاکم أبو عبد الله فی کتابه المستدرک...وکثیرا ما یجیء إلی حدیث فیه رجل ضعیف أو متهم بالکذب وغالب رجاله رجال الصحیح فیقول هذا علی شرط الشیخین أو البخاری أو مسلم وهذا أیضا تساهل فاحش ومن تأمل کتابه المستدرک تبین له ما ذکرناه قال: ابن دحیة فی کتابه العلم المشهور ویجب علی أهل الحدیث أن یتحفظوا من قول الحاکم أبی عبد الله فإنه کثیر الغلط ظاهر السقط وقد غفل عن ذلک کثیر ممن جاء بعده وقلده فی ذلک)(2).

3: وقال السخاوی فی (الضوء اللامع لأهل القرن التاسع): (من الکتب التی تقید فیها بالصحة کتاب المستدرک علی الصحیحین أو أحدهما للحاکم وهو


1- الصَّارِمُ المُنْکِی فی الرَّدِّ عَلَی السُّبْکِی لمحمد بن أحمد بن عبد الهادی الحنبلی، تحقیق عقیل بن محمد المقطری، تقدیم الشیخ مقبل بن هادی الوادعی ص51.
2- نصب الرایة للزیلعی ج 1 ص 463.

ص: 659

کثیر التساهل بحیث أدرج فی کتابه هذا الضعیف بل والموضوع المنافیین لموضوع کتابه)(1).

4: قال الذهبی فی (میزان الاعتدال): (محمد بن عبد الله الضبی النیسابوری الحاکم، أبو عبد الله الحافظ، صاحب التصانیف. إمام صدوق، لکنه یصحح فی مستدرکه أحادیث ساقطة، ویکثر من ذلک، فما أدری هل خفیت علیه فما هو ممن یجهل ذلک، وإن علم فهذه خیانة عظیمة)(2).

5: وقال الذهبی أیضا فی (تذکرة الحفاظ): (ولا ریب ان فی المستدرک أحادیث کثیرة لیست علی شرط الصحة بل فیه أحادیث موضوعة شان المستدرک بإخراجها فیه)(3)

6: وفی (مقدمة ابن الصلاح): (وهو واسع الخطو فی شرط الصحیح متساهل فی القضاء به فالأولی أن نتوسط فی أمره فنقول ما حکم بصحته ولم نجد ذلک فیه لغیره من الأئمة إن لم یکن من قبیل الصحیح فهو من قبیل الحسن یحتج به ویعمل به إلا أن تظهر ففیه علة توجب ضعفه)(4).

7: وقد علق ابن جماعة علی کلام ابن الصلاح السابق بالقول: (والصواب أنه یتتبع ویحکم علیه بما یلیق بحاله من الحسن أو الصحة أو الضعف ووافقه العراقی وقال إن حکمه علیه بالحسن فقط تحکم)(5).


1- الضوء اللامع لأهل القرن التاسع للسخاوی ج4  ص68.
2- میزان الاعتدال للذهبی ج 3 ص 608.
3- تذکرة الحفاظ للذهبی ج 3 ص 1042.
4- مقدمة ابن الصلاح لعثمان بن عبد الرحمن ص 24 __ 25.
5- تدریب الراوی للسیوطی ج1 ص107.

ص: 660

أقول: ویتبین من کلمات القوم وجوب التحفظ من تصحیحات الحاکم النیسابوری فی کتابه المستدرک، لأنه کثیر الغلط، ولأنه من المشهورین بکثرة التساهل، ومن أدلة تساهله إیراده وإدراجه کثیراً من الأحادیث الضعیفة بل والموضوعة والساقطة وتصحیحه لکثیر منها، إلا أن ذلک لا یعنی عدم وجود الأحادیث الصحیحة فی کتاب المستدرک، والإنصاف یقضی بعدم ترک جمیع ما صححه والحکم علیه بالکذب کما فعل بعضهم، ولا الأخذ بجمیع تصحیحاته، والأولی أن یتبع منهج الوسطیة فی ذلک، فیتتبع تصحیحه للحدیث ویحکم علیه بما هو أهله.

 وحدیث نبوة عمر بن الخطاب مشمول بهذه القاعدة، لان الحاکم قد تساهل فی تصحیحه کما أوضحنا، لأنه غیر داخل فی تعریف الصحیح، وعلیه فلابد أن نخضعه إلی منهج الوسطیة السابق ونحکم علیه بما یلیق به، وقد حققنا ذلک من قبل وتبین لنا ان الحدیث ضعیف وهو أیضا منکر کما قال احمد بن حنبل.

3: محاولة السیوطی الرد علی ابن الجوزی لإخراجه الحدیث فی کتاب الموضوعات
اشارة

سبق وان أوضحنا حکم ابن الجوزی علی الحدیث بالوضع فی کتابه (الموضوعات) بقوله: (الحدیث الثانی: أنبأنا إسماعیل بن أحمد قال أنبأنا إسماعیل بن مسعدة قال أنبأنا حمزة قال أنبأنا ابن عدی قال حدثنا علی بن الحسن ابن قدید قال حدثنا زکریا بن یحیی الوقاد قال حدثنا بشر بن بکر عن أبی بکر بن عبد الله بن أبی مریم عن ضمرة بن حبیب عن غضیف بن الحرث عن بلال بن رباح قال: قال رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم: "لو لم أبعث فیکم لبعث عمر". قال ابن عدی وحدثنا عمر بن الحسن بن مضر الحلبی قال حدثنا مصعب بن

ص: 661

سعد أبو خیثمة قال حدثنا عبد الله بن واقد قال حدثنا حیوة بن شریح عن بکر بن عمرو عن مشرح بن هاعان عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلی الله علیه وسلم "لو لم أبعث فیکم لبعث عمر" هذان حدیثان لا یصحان عن رسول الله صلی الله علیه __ وآله __ وسلم. أما الأول: زکریا بن یحیی کان من الکذابین الکبار. قال ابن عدی: کان یضع الحدیث، وأما الثانی فقال أحمد: ویحیی بن عبد الله بن واقد لیس بشیء. وقال النسائی: متروک الحدیث. وقال ابن حبان: انقلبت علی مشرح صحائفه فبطل الاحتجاج به)(1).

لکن السیوطی فی کتابه (اللآلئ المصنوعة فی الأحادیث الموضوعة) أراد أن یرد علی ابن الجوزی حکمه بوضع هذا الحدیث، ویثبت صحته أو حسنه علی اقل التقادیر، فقال: («قلت» زکریا ذکره ابن حبان فی الثقات، وابن واقد هو أبو قتادة الحرانی وثقه ابن معین وأحمد وغیرهما ومشرح ثقة صدوق روی له أبو داود والترمذی وابن ماجه وقال أبو العباس الزوزنی فی کتاب شجرة العقل حدثنا علی ابن الحسین بالرقة حدثنا أبو عبد الله محمد بن عتبة المعروف بالرملی حدثنا الحسین ابن الفضل الواسطی حدثنا عبد الله بن واقد عن صفوان بن عمرو عن راشد بن سعد عن عبد الله بن جبیر الحضرمی قال: قال رسول الله لعمر لو لم أبعث لبعثت، وقد ورد من حدیث أبی بکر وأبی هریرة قال الدیلمی أنبأنا أبی أنبأنا عبد الملک بن عبد الغفار أنبأنا عبد الله بن عیسی بن هارون أنبأنا عیسی بن مروان حدثنا الحسین ابن عبد الرحمن بن حمران حدثنا إسحاق بن نجیح عن عطاء بن میسر الخراسانی عن أبی هریرة رفعه لو لم أبعث فیکم لبعث عمر أید الله عمر بملکین یوقفانه ویسددانه فإذا أخطأ صرفاه حتی یکون صوابا، قال الدیلمی تابعه راشد بن سعد


1- الموضوعات لابن الجوزی ج 1 ص 321.

ص: 662

عن المقدام بن معدی کرب عن أبی بکر الصدیق والله أعلم)(1).

أقول: وتتلخص کلمات السیوطی هذه عن عدة دعاوی فاسدة مکذوبة نبینها من خلال نقاط لیسهل الرد علیها:

ألف: محاولته توثیق زکریا بن یحیی الوقار الکذاب

وقوله: (زکریا ذکره ابن حبان فی الثقات)، تمویه وتدلیس لان ابن حبان مع انه وثقه إلا انه قال فیه أیضا: (زکریا بن یحیی أبو یحیی الوقار من أهل مصر یروی عن سفیان بن عیینة ثنا عنه إسماعیل بن داود بن وردان المصری وغیره من شیوخنا یخطئ ویخالف...)(2)، وقوله یخطئ ویخالف قدح لا مدح، ومع ذلک فلا اعتداد بتوثیق ابن حبان بوصفه متساهلاً بتوثیق المجهولین والضعفاء وهذا المورد من ذاک.

والسیوطی لجهله أو تدلیسه ذکر توثیق ابن حبان لزکریا بن یحیی الوقار المصری وبتره، ولم یذکر باقی الأقوال فیه، فقد ذکره العقیلی فی کتابه (ضعفاء العقیلی)(3)، وقال عبد الله بن عدی فی (الکامل): (زکریا بن یحیی أبو یحیی الوقار مصری یضع الحدیث ویوصلها وأخبرنی بعض أصحابنا عن صالح جزرة أنه قال: ثنا أبو یحیی الوقار وکان من الکذابین الکبار...یروی عن قوم ثقات أحادیث موضوعات والصالحون قد رسموا بهذا الرسم ان یرووا فی فضائل الأعمال موضوعة بواطیل ویتهم جماعة منهم بوضعها)(4)، وقال ابن کثیر فی (قصص الأنبیاء): (کذبه غیر واحد من الأئمة والعجب أن الحافظ ابن عساکر سکت


1- اللآلئ المصنوعة فی الأحادیث الموضوعة لجلال الدین السیوطی ج1 ص277.
2- الثقات لابن حبان ج 8 ص 253 __ 254.
3- ضعفاء العقیلی ج 2 ص87.
4- الکامل لعبد الله بن عدی  ج 3 ص 215__ 217.

ص: 663

عنه)(1)، بل ان السیوطی نفسه قد اعترف فی کتابه (حسن المحاضرة فی تاریخ مصر والقاهرة) بضعف زکریا بقوله: (زکریا بن یحیی الوقار المصری. قرأ علی نافع بن أبی نعیم، وتفقه بابن وهب وابن القاسم وأشهب. وکان فقیهًا، ولم یکن بالمحمود فی روایته)(2)، إذن فمحاولة السیوطی توثیق زکریا بن یحیی هی محاولة فاشلة.

باء: محاولته توثیق ابن واقد أبو قتادة الحرانی الکذاب المجمع علی ترکه وتضعیفه

وقوله (وابن واقد هو أبو قتادة الحرانی وثقه ابن معین وأحمد وغیرهما) فیه إخفاء للحقیقة وتدلیس علی الجهال، لان أبا قتادة الحرانی هذا قد اتفق أصحاب الحدیث علی ترکه وتضعیفه بل ومنهم من صرح بتکذیبه، فقد ذکره البخاری فی (التاریخ الکبیر) بقوله: (عبد الله بن واقد أبو قتادة الحرانی، ترکوه، منکر الحدیث)(3)، وهذا من اشد أنواع الجرح عند البخاری وهو جرح مفسر، لان البخاری کان یعبر ب_(منکر الحدیث) عن الراوی الذی لا تحل الروایة عنه، کما قال الذهبی فی (میزان الاعتدال): (ونقل ابن القطان أن البخاری قال: کل من قلت فیه منکر الحدیث فلا تحل الروایة عنه)(4)، وکذلک ذکره البخاری فی کتابه (الضعفاء الصغیر)(5) ومعروف عندهم ان البخاری یذکر فی هذا الکتاب الرواة الهالکین الذین لا ترجی فی حدیثهم فائدة.


1- قصص الأنبیاء لابن کثیر  ج 2 ص 223.
2- حسن المحاضرة فی تاریخ مصر والقاهرة  لجلال الدین السیوطی ج1 ص448، تحقیق محمد أبو الفضل إبراهیم، الناشر: دار إحیاء الکتب العربیة __ عیسی البابی الحلبی وشرکاه __ مصر، الطبعة: الأولی 1387 ه_ __ 1967 م.
3- التاریخ الکبیر للبخاری ج 5 ص 219.
4- میزان الاعتدال للذهبی ج 1 ص 6.
5- الضعفاء الصغیر للبخاری ص 71.

ص: 664

وقد ضعفه کثیر من أهل الحدیث، منهم النسائی فی (کتاب الضعفاء والمتروکین) حیث قال: (عبد الله بن واقد الحرانی أبو قتادة متروک الحدیث)(1)، وقال عبد الله بن عدی فی (الکامل): (عبد الله بن واقد أبو قتادة الحرانی مولی بنی حمان سمعت الحسین بن أبی معشر یقول أبو قتادة عبد الله بن واقد مولی بنی تمیم من أهل خراسان کان ینزل حران یحمل علی حفظه فیغلط...وقال ابن أبی حاتم أیضا: سألت أبی عن أبی قتادة الحرانی فقال: تکلموا فیه، منکر الحدیث، وذهب حدیثه...وقال إبراهیم بن یعقوب الجوزجانی: متروک الحدیث)(2).

وقال الذهبی فی (میزان الاعتدال): (عبد الله بن واقد، أبو قتادة الحرانی...وقال أبو زرعة، والدارقطنی: ضعیف...وقال ابن حبان: کان أبو قتادة من عباد الجزیرة فغفل عن الإتقان، فوقعت المناکیر فی أخباره، فلا یجوز أن یحتج بخبره)(3).

وقال ابن حجر فی (تهذیب التهذیب): (قال البزار لم یکن بالحافظ...یقول أبی حنیفة وکان یغلط ولا یرجع إلی الصواب...وقال صالح جزرة ضعیف مهین وقال الجریری غیره أوثق منه وهذه العبادة یقولها الجریری فی الذی یکون شدید الضعف...وقال الحاکم أبو أحمد حدیثه لیس بالقائم وقال أبو نعیم الأصبهانی روی عن هشام وابن جریج منکرات)(4).

فمما سبق وغیره مما لم نذکره نصل إلی نتیجة قطعیة وهی ان أهل الجرح والتعدیل مجمعون علی کون عبد الله بن واقد ضعیفا لا یحتج بحدیثه، وهو ما صرح


1- کتاب الضعفاء والمتروکین للنسائی ص 201.
2- الکامل لعبد الله بن عدی ج 4 ص 192 __ 195.
3- میزان الاعتدال للذهبی ج 2 ص 517 __ 518.
4- تهذیب التهذیب لابن حجر ج 6 ص 61 __ 62.

ص: 665

به ابن حجر بقوله فی (طبقات المدلسین): (عبد الله بن واقد أبو قتادة الحرانی متفق علی ضعفه)(1)، وإذا اجتمعت کلمتهم واتفقت علی تضعیف شخص ما فلا عبرة حینئذ بشذوذ البعض.

وأضیف إلی ما سبق ان یحیی بن معین قد تضاربت أقواله فی خصوص عبد الله بن واقد، کما نقل عبد الله بن عدی فی (الکامل) حیث قال: (عبد الله بن واقد أبو قتادة الحرانی... ثنا ابن حماد حدثنی عبد الله بن أحمد سمعت یحیی بن معین یقول عبد الله بن واقد أبو قتادة الحرانی لیس بشیء ثنا أحمد بن عمیر قال سمعت عباس الدوری سمعت یحیی بن معین یقول أبو قتادة الحرانی ثقة ثنا ابن حماد ثنا عباس عن یحیی قال أبو قتادة الحرانی لیس به بأس ولکن کان کثیر الغلط قال وسمعت یحیی مرة أخری یقول أبو قتادة عبد الله بن واقد الحرانی لیس بشیء)(2)، فلا یمکن الاعتماد لا علی توثیق یحیی بن معین ولا علی تضعیفه لان تضارب الأقوال من شخص واحد وفی راوٍ واحد یستدعی سقوط هذه الأقوال علی اقل التقادیر، هذا إن لم نقل بان یحیی بن معین کان یقول فی البدایة بوثاقته ثم بعد ذلک عاد لرأی الأغلبیة وحکم بکونه لیس بشیء.

فیبقی عندنا توثیق احمد بن حنبل وهو لا یعتد به أمام تلک الکثرة الکاثرة من القادحین بأبی قتادة، رغم أنی رأیت بأن احمد بن حنبل لا یقول بوثاقته مطلقا، فأحمد بن حنبل مع اعترافه بأنه ثقة لکنه رماه بداء آخر هو الاختلاط والتدلیس، فلا قیمة حینئذ لحدیث ثقة یدلس وقد اختلط، قال ابن حجر فی (تقریب التهذیب): (عبد الله بن واقد الحرانی أبو قتادة أصله من خراسان متروک


1- طبقات المدلسین لابن حجر ص55.
2- الکامل لعبد الله بن عدی ج 4 ص 192 __ 193.

ص: 666

وکان أحمد یثنی علیه وقال لعله کبر واختلط وکان یدلس من التاسعة مات سنة عشر ومائتین)(1)، وقال ابن حجر أیضا فی (طبقات المدلسین): (عبد الله بن واقد أبو قتادة الحرانی متفق علی ضعفه وصفه أحمد بالتدلیس)(2).

وبهذا ینکشف کذب السیوطی، وتبوء محاولته لتوثیق عبد الله بن واقد بالفشل.

جیم: السیوطی یوثق أبا قتادة حینما یتعلق الأمر بعمر بن الخطاب ویکذبه حینما یتعلق الأمر بفاطمة الزهراء

اتضح لنا مرارا وتکرارا تناقض محدثی أهل السنة وعلمائهم فی التعامل ما بین فضائل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وما بین فضائل غیرهم من الصحابة وبالخصوص الثلاثة وعائشة بنت أبی بکر، وسنشاهد فیما یأتی صورة من أوضح صور ذلک التناقض والتحیز، صورة یرسمها لنا السیوطی فی نفس کتابه (اللآلی المصنوعة فی الأحادیث الموضوعة)، فالسیوطی وکما رأینا سعی سعیا حثیثا خالف فیه المنهج والأمانة العلمیة، وأخفی الحقیقة ودلس علی قرائه، من أجل توثیق أبی قتادة الحرانی، من أجل أن یحافظ ویصحح فضیلة من فضائل عمر بن الخطاب، التی شهد لها بالوضع والکذب القاصی والدانی.

وقد کرر السیوطی هذا العمل الدنیء فی أثناء محاولته لتصحیح حدیث آخر مروی عن أبی قتادة الضعیف، وهو: (...حدثنا أبو قتادة عبد الله بن واقد حدثنا ابن جریج عن هشام بن عروة عن أبیه عن عائشة أن رسول الله قال لأبی بکر ألا أبشرک برضوان الله الأکبر قال بلی یا رسول الله قال إن الله یتجلی للناس عامة ویتجلی لک خاصة)(3)، فقد علق ابن الجوزی علی هذا الحدیث فی کتابه


1- تقریب التهذیب لابن حجر ج 1 ص 544.
2- طبقات المدلسین لابن حجر ص 55.
3- اللآلی المصنوعة فی الأحادیث الموضوعة لجلال الدین السیوطی: ج1، ص264.

ص: 667

(الموضوعات) بقوله: (هذا الحدیث لا یصح من جمیع طرقه... قال أبو بکر الخطیب: هذا حدیث لا أصل له عند ذوی المعرفة بالنقل...وأما حدیث عائشة ففیه عبد الله بن واقد قال أحمد ویحیی: لیس بشیء. وقال النسائی: متروک الحدیث. وقال ابن حبان: غفل من الإتقان وحدث علی التوهم فوقعت المناکیر فی أخباره)(1)، لکن السیوطی خالف الحق وحاول أن یصحح الحدیث ویخالف طعن ابن الجوزی بقوله فی (اللآلی المصنوعة فی الأحادیث الموضوعة): («قلت» قال فیه أحمد ما به بأس)(2)، فترک السیوطی کلمات جمیع أعلام أهل السنة وطعونهم علی أبی قتادة وأصر علی التمسک بکلام احمد بن حنبل لأنه رأی منه منفذا ومخرجا یستطیع من خلاله تصحیح فضیلة من فضائل أبی بکر.

لکن هذه الاستماتة من السیوطی لتوثیق عبد الله بن واقد تتبدل حینما یتعلق الأمر بفضائل سیدة نساء العالمین فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه علیها، ففی حدیث: (...حدثنا عبد الله بن واقد أبو قتادة الجراحی عن سفیان الثوری عن هشام بن عروة عن أبیه عن عائشة أن النبی کان کثیرا ما یقبل نحر فاطمة، فقلت یا رسول الله أراک تفعل شیئا لم تفعله قال أو ما علمت یا حمیراء أن الله عز وجل لما أسری بی إلی السماء أمر جبریل فأدخلنی الجنة ووقفنی علی شجرة ما رأیت أطیب منها رائحة ولا أطیب ثمرا فأقبل جبریل یفرک ویطعمنی فخلق الله فی صلبی منها نطفة فلما صرت إلی الدنیا واقعت خدیجة فحملت بفاطمة کلما اشتقت إلی الجنة ورائحة تلک الشجرة شممت نحر فاطمة فوجدت رائحة تلک الشجرة منها وأنها لیست من نساء أهل الدنیا ولا تضل کما یضل نساء أهل الدنیا)، فعلق السیوطی علی هذا الحدیث ما نصه:


1- الموضوعات لابن الجوزی ج1 ص307.
2- اللآلی المصنوعة فی الأحادیث الموضوعة لجلال الدین السیوطی ج1 ص264.

ص: 668

(«قلت» قال الذهبی فی المیزان هذا حدیث موضوع مهتوک الحال أو ما اعتقد أن أبا قتادة رواه قال ثم وجدت له إسناداً آخر رواه الطبرانی عن عبد الله بن سعید الرقی عن أحمد بن أبی شیبة الرهاوی عن أبی قتادة فهو الآفة والله أعلم)(1).

 أقول: فلماذا عدّ السیوطی أبا قتادة هنا آفة، واتخذه ذریعة لتکذیب فضیلة کهذه من فضائل سیدة نساء العالمین، واستشهد بکلام الذهبی لتحقیق هذا الغرض، بینما ضرب بعرض الجدار کلمات الذهبی وغیره وأصر علی توثیقه فی فضائل أبی بکر وعمر بن الخطاب، وهل هذا إلا دلیل آخر علی تحیز القوم وتضاربهم فی منهجیة التعامل مع فضائل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین، وفضائل غیرهم من الصحابة وبالخصوص رموز الدولة وأرکان السلطة الحاکمة.

هذا بعض ما یتعلق بتصحیح السیوطی لحدیث نبوة عمر بن الخطاب وقد ترکنا عدة ملاحظات أخری للاختصار ولان ما سبق من الملاحظات یغنی عن ذکر ما لم نأتِ علی تسطیره.

4: محاولة صاحب کتاب (تنزیه الشریعة المرفوعة) تصحیح الحدیث

قال علی بن محمد بن عرّاق الکنانی فی کتابه: (تنزیه الشریعة المرفوعة عن الأحادیث الشنیعة الموضوعة): (حدیث لو لم أبعث فیکم لبعث عمر «عد» من حدیث بلال بن رباح وفیه زکریا بن یحیی الوقار ومن حدیث عقبة بن عامر وفیه عبد الله بن واقد متروک ومشرح بن هاعان لا یحتج به «تعقب» بأن زکریا ذکره ابن حبان فی الثقات وابن واقد قدمنا قریبا أن أحمد وثقه ومشرح ثقة روی له أبو داود


1- المصدر السابق ص360.

ص: 669

والترمذی وابن ماجه وللحدیث شاهد من حدیث أبی بکر وأبی هریرة أخرجهما الدیلمی «قلت» ومن حدیث عصمة ابن مالک أخرجه الطبرانی فی الکبیر ومن حدیث أبی سعید الخدری أخرجه الطبرانی فی الأوسط وأسانید الکل ضعیفة فیتقوی بعضها ببعض والله أعلم)(1).

أقول: ومحاولة صاحب هذا الکتاب تقویة هذا الحدیث الضعیف بطرق أخری ضعیفة هی محاولة سقیمة لا طائل منها، وقد مر وسبق أن ناقشنا مثل هذا الموضوع، وأثبتنا ان الحدیث الضعیف لا یمکن أن یتقوی بحدیث ضعیف آخر، وقدمنا عدة تصریحات عن علماء أهل السنة ومحدثیهم بعدم إمکان تصحیح الطریق الضعیف بمثله، حتی وان تعددت هذه الطرق وکثرت، بل ان الحدیث الضعیف لا تزیده کثرة الطرق الضعیفة إلا ضعفا فراجع.

تم إلی هنا بحمد الله وشکره الفصل الخامس، وبه یتم جمیع فصول هذا الکتاب الموسوم ب_(فضائل أهل البیت علیهم السلام بین تحریف المدونین وتناقض مناهج المحدثین) راجین من الله سبحانه القبول، ومن أهل بیت العصمة والطهارة الرضا والتوفیق والتسدید، ومن القراء الکرام غض الطرف عما فیه من خلل وقصور وإطالة، والحمد لله أولا وآخرا والصلاة والسلام علی خیر الأنام محمد بن عبد الله وأهل بیته الطیبین الأطهار، ((رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّکَ أَنْتَ السَّمِیعُ الْعَلِیمُ)).


1- تنزیه الشریعة المرفوعة عن الأحادیث الشنیعة الموضوعة لأبی الحسن علی بن محمد بن عرّاق الکنانی ج1 ص373 الحدیث رقم 92، حققه وراجع أصوله وعلق علیه عبد الوهاب عبد اللطیف، عبد الله بن محمد الغماری.

ص: 670

ص: 671

فهرس المصادر

1. أبکار الأفکار فی أصول الدین / سیف الدین الآمدی / تحقیق: أ.د أحمد محمد المهدی / مطبعة دار الکتب والوثائق القومیة / مرکز تحقیق التراث القاهرة 2002.

2. إتحاف الخیرة المهرة بزوائد المسانید العشرة / للحافظ أحمد بن أبی بکر بن إسماعیل البوصیری / موافق لطبعة دار الوطن / 1420ه_ __ 1999م.

3. الأحکام / ابن حزم / المطبعة: مطبعة العاصمة __ القاهرة / الناشر: زکریا علی یوسف / ملاحظات: قوبلت علی نسخة أشرف علی طبعها الأستاذ العلامة أحمد شاکر.

4. أدب الإملاء والاستملاء / السمعانی / شرح ومراجعة: سعید محمد اللحام بإشراف: مکتب الدراسات والبحوث العربیة والإسلامیة / الطبعة: الأولی / سنة الطبع: 1409 ___ 1989م / الناشر: دار ومکتبة الهلال __ بیروت __ لبنان.

5. الأدب المفرد / البخاری / الطبعة: الأولی / سنة الطبع: 1406 __ 1986م / الناشر: مؤسسة الکتب الثقافیة __ بیروت __ لبنان.

ص: 672

6. الإرشاد إلی قواطع الأدلة فی أصول الاعتقاد / إمام الحرمین الجوینی / حققه وعلق علیه وقدم له وفهرسه: محمد یوسف موسی وعلی عبد المنعم عبد الحمید / الناشر مکتبة الخانجی.

7. إرواء الغلیل / محمد ناصر الألبانی / إشراف: زهیر الشاویش / الطبعة: الثانیة / سنة الطبع: 1405 __ 1985م / الناشر: المکتب الإسلامی __ بیروت __ لبنان.

8. الاستذکار / ابن عبد البر / تحقیق: سالم محمد عطا __ محمد علی معوض / الطبعة: الأولی / سنة الطبع: 2000م / المطبعة: بیروت دار الکتب العلمیة.

9. الاستیعاب / ابن عبد البر / تحقیق: علی محمد البجاوی / المطبعة: بیروت __ دار الجیل / الناشر: دار الجیل.

10. أسد الغابة / ابن الأثیر / الناشر: دار الکتاب العربی __ بیروت __ لبنان / انتشارات إسماعیلیان __ طهران.

11. إسعاف المبطأ برجال الموطأ / جلال الدین السیوطی / تحقیق: موفق فوزی جبر / المطبعة: دار الهجرة للطباعة والنشر والتوزیع __ بیروت / الناشر: دار الهجرة للطباعة والنشر والتوزیع __ بیروت.

12. أسماء الصحابة وما لکل واحد منهم من العدد / ابن حزم الظاهری / تحقیق وتعلیق مسعد عبد الحمید السعدنی / مکتبة القرآن للطباعة والنشر والتوزیع.

13. الإصابة / ابن حجر / تحقیق: الشیخ عادل أحمد عبد الموجود، الشیخ علی محمد معوض / الطبعة: الأولی سنة الطبع: 1415 / الناشر: دار الکتب العلمیة. بیروت.

ص: 673

14. أضواء البیان / الشنقیطی / تحقیق: مکتب البحوث والدراسات / سنة الطبع: 1415 __ 1995م / المطبعة والناشر: بیروت دار الفکر للطباعة والنشر.

15. أضواء علی السنة المحمدیة / محمود أبو ریة / الطبعة: الخامسة / نشر البطحاء / الطبعة الخامسة، مزیدة محققة.

16. الأعلام / خیر الدین الزرکلی / الطبعة: الخامسة / سنة الطبع: أیار __ مایو 1980 / الناشر: دار العلم للملایین __ بیروت __ لبنان.

17. الاقتراح فی فن الاصطلاح / للحافظ ابن دقیق العید / الناشر: مُلتقی أهل الحدیث www.ahlalhdeeth.com.

18. إکمال تهذیب الکمال فی أسماء الرجال / علاء الدین مغلطای / تحقیق: أبی عبد الرحمن أبی محمد عادل بن محمد أسام بن إبراهیم / الطبعة: الأولی / سنة الطبع: 1422 __ 2001م / المطبعة: الفاروق الحدیثة للطباعة والنشر / ردمک: 2 __ 16 __ 5704 __ 977.

19. الإمام مسلم وصحیحه / لعبد المحسن بن حمد العباد البدر / الناشر: الجامعة الإسلامیة، المدینة المنورة / السنة الثالثة __ العدد الأول، 1390ه_ / 1970م.

20. إمتاع الأسماع / المقریزی / تحقیق وتعلیق: محمد عبد الحمید النمیسی / الطبعة: الأولی / سنة الطبع: 1420 __ 1999م / الناشر: منشورات محمد علی بیضون، دار الکتب العلمیة __ بیروت __ لبنان.

21. الأنساب / السمعانی / تقدیم وتعلیق: عبد الله عمر البارودی / الطبعة: الأولی / سنة الطبع: 1408 __ 1988م / الناشر: دار الجنان للطباعة والنشر والتوزیع __ بیروت __ لبنان.

ص: 674

22. الباعث الحثیث شرح اختصار علوم الحدیث / المؤلف الحافظ ابن کثیر / تألیف أحمد محمد شاکر / الناشر: دار الکتب العلمیة بیروت __ لبنان.

23. بحار الأنوار / العلامة المجلسی / الطبعة: الثانیة المصححة / سنة الطبع: 1403 __ 1983م / الناشر: مؤسسة الوفاء بیروت لبنان / ملاحظات: دار إحیاء التراث العربی.

24. بدائع الفوائد / محمد بن أبی بکر أیوب الزرعی أبو عبد الله / الناشر: مکتبة نزار مصطفی الباز __ مکة المکرمة / الطبعة الأولی، 1416 __ 1996 / تحقیق: هشام عبد العزیز عطا __ عادل عبد الحمید العدوی __ أشرف أحمد الج.

25. البدایة والنهایة / ابن کثیر / تحقیق وتدقیق وتعلیق: علی شیری / الطبعة: الأولی / سنة الطبع: 1408 __ 1988م / الناشر: دار إحیاء التراث العربی __ بیروت __ لبنان.

26. بصائر الدرجات / محمد بن الحسن الصفار / تصحیح وتعلیق وتقدیم: الحاج میرزا حسن کوچه باغی / سنة الطبع: 1404 __ 1362 ش / المطبعة: مطبعة الأحمدی طهران / الناشر: منشورات الأعلمی طهران.

27. بیان الوهم والإیهام الواقعین فی کتاب "الأحکام" للإشبیلی / علی بن محمد ابن القطان / المحقق: الحسین آیت سعید / الناشر: دار طیبة __ الریاض __ الطبعة: الأولی / سنة الطبع 1418ه_.

28. البیان والتوضیح لمن أخرج له فی الصحیح ومس بضرب من التجریح / أحمد بن عبد الرحیم العراقی / المحقق: کمال بن یوسف الحوت / الناشر: دار الجنان __ الطبعة: الأولی __ سنة الطبع 1410ه_

ص: 675

29. تاریخ ابن معین، الدارمی / یحیی بن معین / تحقیق: الدکتور أحمد محمد نور سیف / المطبعة: دار المأمون للتراث __ دمشق.

30. تاریخ أسماء الثقات / عمر بن شاهین / تحقیق: صبحی السامرائی / الطبعة: الأولی / سنة الطبع: 1404 / المطبعة: دار السلفیة __ تونس.

31. تاریخ الإسلام / الذهبی / تحقیق: د. عمر عبد السلام تدمری / الطبعة: الأولی / سنة الطبع: 1407 __ 1987م / المطبعة: لبنان / بیروت __ دار الکتاب العربی.

32. التاریخ الصغیر / البخاری / تحقیق: محمود إبراهیم زاید / الطبعة: الأولی / سنة الطبع: 1406 / المطبعة: دار المعرفة __ بیروت.

33. تاریخ الطبری / الطبری / مراجعة وتصحیح وضبط: نخبة من العلماء الأجلاء / الطبعة: الرابعة / سنة الطبع: 1403 __ 1983م / الناشر: مؤسسة الأعلمی للمطبوعات __ بیروت __ لبنان / ملاحظة: قوبلت هذه الطبعة علی النسخة المطبوعة بمطبعة "بریل" بمدینة لندن فی سنة 1879 م).

34. التاریخ الکبیر / البخاری / الناشر: المکتبة الإسلامیة __ دیار بکر __ ترکیا.

35. تاریخ الیعقوبی / الیعقوبی / الناشر: دار صادر __ بیروت __ لبنان.

36. تاریخ بغداد / الخطیب البغدادی / دراسة وتحقیق: مصطفی عبد القادر عطا / الطبعة: الأولی سنة الطبع: 1417 __ 1997م / الناشر: دار الکتب العلمیة __ بیروت __ لبنان.

37. تاریخ مدینة دمشق / ابن عساکر / تحقیق: علی شیری / سنة الطبع: 1415 / المطبعة: دار الفکر للطباعة والنشر والتوزیع __ بیروت __ لبنان.

ص: 676

38. تحریر علوم الحدیث / عبد الله بن یوسف الجدیع / الناشر: الجدیع للبحوث والاستشارات __ لیدز __ / الطبعة: الأولی __ سنة الطبع 1424ه_.

39. تخریج الأحادیث والآثار / الزیلعی / تحقیق: عبد الله بن عبد الرحمن السعد / الطبعة: الأولی / سنة الطبع: 1414 / المطبعة: الریاض __ دار ابن خزیمة.

40. التخریج ودراسة الأسانید / حاتم بن عارف الشریف / الناشر: ملتقی أهل الحدیث.

41. تدریب الراوی فی شرح تقریب النواوی / عبد الرحمن بن أبی بکر السیوطی / الناشر: مکتبة الریاض الحدیثة __ الریاض / تحقیق: عبد الوهاب عبد اللطیف.

42. تذکرة الحفاظ / الذهبی / الناشر: دار إحیاء التراث العربی __ بیروت __ لبنان / صحح عن النسخة المحفوظة فی مکتبة الحرم المکی تحت إعانة وزارة معارف الحکومة العالیة الهندیة.

43. تذکرة الموضوعات / طاهر الفتنی الهندی / الناشر: المطبعة المیمنیة.

44. التعدیل والتجریح / سلیمان بن خلف الباجی / تحقیق: الأستاذ أحمد البزار / المطبعة: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامیة __ مراکش.

45. تعریف أهل التقدیس بمراتب الموصوفین بالتدلیس / أبو الفضل أحمد بن علی بن محمد بن حجر الکنانی العسقلانی / المحقق: د.عاصم بن عبد الله القریوتی / الناشر: مکتبة المنار __ الأردن / الطبعة: الأولی.

46. تغلیق التعلیق / ابن حجر / تحقیق: سعید عبد الرحمن موسی القزقی / الطبعة: الأولی / سنة الطبع: 1405 / المطبعة: عمان __ الأردن __ المکتب الإسلامی، دار عمار.

ص: 677

47. تفسیر البغوی / البغوی / تحقیق: خالد عبد الرحمن العک / المطبعة: بیروت __ دار المعرفة.

48. تفسیر القرطبی / القرطبی / تصحیح: أبو إسحاق إبراهیم أطفیش / سنة الطبع: 1405 __ 1985م / الناشر: دار إحیاء التراث العربی __ بیروت __ لبنان.

49. التفسیر الکبیر المعروف بتفسیر الرازی / الرازی / الطبعة: الثالثة.

50. تفسیر روح المعانی فی تفسیر القرآن العظیم والسبع المثانی المشهور بتفسیر الآلوسی / أبو الفضل شهاب الدین محمود الآلوسی / قرأه وصححه محمد حسین العرب / بإشراف هیأة البحوث والدراسات / نشر دار الفکر للطباعة والنشر والتوزیع.

51. تقریب التهذیب / ابن حجر / دراسة وتحقیق: مصطفی عبد القادر عطا / الطبعة: الثانیة / سنة الطبع: 1415 __ 1995م / الناشر: دار الکتب العلمیة __ بیروت __ لبنان / ملاحظات: طبعة مقابلة علی نسخة بخط المؤلف وعلی تهذیب التهذیب وتهذیب الکمال.

52. التقریب والتیسیر لمعرفة سنن الهادی البشیر / یحیی بن شرف الدین النووی / المحقق: محمد بن عثمان الخشت / الناشر: دار الکتاب العربی __ بیروت __ / الطبعة: الأولی / سنة الطبع: 1405ه_.

53. تقیید العلم / أحمد بن علی الخطیب البغدادی / المحقق: یوسف العش / الناشر: دار إحیاء السنة النبویة __ الطبعة: الثانیة __ سنة الطبع1974م.

54. تمام المنة / محمد ناصر الألبانی / الطبعة: الثانیة / سنة الطبع: 1409 / الناشر: دار الرایة للنشر والتوزیع __ الریاض __ السعودیة، المکتبة الإسلامیة __ عمان __ الأردن / ملاحظات: طبعة جدیدة منقحة ومزیدة / الطبعة الأولی 1373.

ص: 678

55. التمهید / ابن عبد البر / تحقیق: مصطفی بن أحمد العلوی، محمد عبد الکبیر البکری / سنة الطبع: 1387 / المطبعة والناشر: المغرب وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامیة.

56. تنزیه الشریعة المرفوعة عن الأحادیث الشنیعة الموضوعة / لأبی الحسن علی بن محمد ابن عرّاق الکنانی / حققه وراجع أصوله وعلق علیه عبد الوهاب عبد اللطیف، عبد الله ابن محمد الغماری.

57. تنویر الحوالک / جلال الدین السیوطی / تصحیح: الشیخ محمد عبد العزیز الخالدی / الطبعة: الأولی / سنة الطبع: 1418 __ 1997م / الناشر: منشورات محمد علی بیضون __ دار الکتب العلمیة __ بیروت __ لبنان.

58. تهذیب التهذیب / ابن حجر / الطبعة: الأولی / سنة الطبع: 1404 __ 1984م / الناشر: دار الفکر للطباعة والنشر والتوزیع __ بیروت __ لبنان.

59. تهذیب الکمال / المزی / الوفاة: 742 / تحقیق وضبط وتعلیق: الدکتور بشار عواد معروف / الطبعة: الرابعة / سنة الطبع: 1406 __ 1985م / الناشر: مؤسسة الرسالة __ بیروت __ لبنان.

60. توضیح الأفکار لمعانی تنقیح الأنظار / محمد بن إسماعیل الأمیر الحسنی الصنعانی / الناشر: المکتبة السلفیة __ المدینة المنورة / تحقیق: محمد محی الدین عبد الحمید.

61. الثقات / ابن حبان / الطبعة: الأولی / سنة الطبع: 1393 / المطبعة: مجلس دائرة المعارف العثمانیة بحیدر آباد الدکن الهند / الناشر: مؤسسة الکتب الثقافیة.

ص: 679

62. جامع الأحادیث / جلال الدین السیوطی / ویشتمل علی جمع الجوامع للإمام السیوطی / والجامع الأزهر وکنوز الحقائق للمناوی، والفتح الکبیر للنبهانی / النسخة الوحیدة المرتبة هجائیا فی قسمی الأقوال والأفعال.

63. الجامع الصغیر / جلال الدین السیوطی / الطبعة: الأولی / سنة الطبع: 1401 __ 1981م / الناشر: دار الفکر للطباعة والنشر والتوزیع __ بیروت.

64. جامع بیان العلم وفضله / ابن عبد البر / سنة الطبع: 1398 / المطبعة: بیروت __ دار الکتب العلمیة.

65. الجرح والتعدیل / الرازی / الطبعة: الأولی / سنة الطبع: 1371 __ 1952م / المطبعة: مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانیة __ بحیدر آباد الدکن __ الهند / الناشر: دار إحیاء التراث العربی __ بیروت / ملاحظات: عن النسخة المحفوظة فی کوپریلی ( تحت رقم 278) وعن النسخة المحفوظة فی مکتبة مراد ملا ( تحت رقم 1427) وعن النسخة المحفوظة فی مکتبة دار الکتب المصریة ( تحت رقم 892)

65.جامع التحصیل فی أحکام المراسیل / أبو سعید بن خلیل ابن کیکلدی أبو سعید العلائی / المحقق: حمدی عبد المجید السلفی / الناشر: عالم الکتب __ بیروت / الطبعة: الثانیة 1407 __ 1986.

66. حاشیة السندی علی النسائی / ابن عبد الهادی / الناشر: دار الکتب العلمیة __ بیروت __ لبنان.

67. الحد الفاصل / الرامهرمزی / تحقیق: د. محمد عجاج الخطیب / الطبعة: الثالثة / سنة الطبع: 1404 / الناشر: دار الفکر __ بیروت.

ص: 680

68. الحدیث حجة بنفسه فی العقائد والأحکام / محمد ناصر الدین الألبانی / الطبعة الأولی / سنة الطبع 1425 ه_ - 2005م / الناشر: مکتبة المعارف للنشر والتوزیع __ الریاض.

69. حسن المحاضرة فی تاریخ مصر والقاهرة / لجلال الدین السیوطی / تحقیق محمد أبو الفضل إبراهیم / الناشر: دار إحیاء الکتب العربیة __ عیسی البابی الحلبی وشرکاه __ مصر / الطبعة: الأولی 1387 ه_ __ 1967م.

70. حلیة الأولیاء وطبقات الأصفیاء / أبو نعیم أحمد بن عبد الله الأصبهانی / الناشر: دار الکتاب العربی __ بیروت / الطبعة الرابعة، 1405.

71. خصائص مسند الإمام أحمد / محمد بن عمر بن أحمد المدینی أبو موسی / الناشر: مکتبة التوبة __ الریاض، 1410.

72. دفع شبه التشبیه بأکف التنزیه / أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزی الحنبلی / تحقیق وتقدیم: حسن السقاف / الطبعة: الثالثة، مزیدة ومنقحة / سنة الطبع: 1413 __ 1992م / الناشر: دار الإمام النووی __ عمان __ الأردن.

73. ذکر أسماء من تکلم فیه وهو موثق / محمد بن أحمد بن عثمان الذهبی / المحقق: محمد شکور بن محمود الحاجی أمریر المیادینی / الناشر: مکتبة المنار __ الزرقاء / الطبعة: الأولی 1406ه_ __ 1986م.

74. ریاض الصالحین / یحیی بن شرف النووی / الطبعة: الثانیة / سنة الطبع: 1411 __ 1991م / الناشر: دار الفکر المعاصر بیروت لبنان.

ص: 681

75. زیادات أبی الحسن القطان علی سنن ابن ماجة / للدکتور مسفر الدمینی / مجلة البیان __ العدد [11] ص__ 18 شعبان 1408 __ أبریل 1988.

76. سؤالات الآجری لأبی داود / سلیمان بن الأشعث / تحقیق: عبد العلیم عبد العظیم البستوی / الطبعة: الأولی / سنة الطبع: 1418 __ 1997م / الناشر: مکتبة دار الاستقامة __ السعودیة، مؤسسة الریان للطباعة والنشر والتوزیع بیروت __ لبنان.

77. سؤالات البرقانی / الدارقطنی / تحقیق: مجدی السید إبراهیم / الناشر: مکتبة القرآن.

78. سؤالات حمزة / الدارقطنی / تحقیق: موفق بن عبد الله بن عبد القادر / الطبعة: الأولی / سنة الطبع: 1404 __ 1984م / الناشر: مکتبة العارف __ الریاض.

79. سلسلة الأحادیث الصحیحة وشیء من فقهها / تألیف: محمد ناصر الدین الألبانی / الناشر مکتبة المعارف الطبعة الأولی.

80. السلسلة الضعیفة / محمد ناصر الدین الألبانی / مصدر الکتاب: برنامج منظومة التحقیقات الحدیثیة __ المجانی __ من إنتاج مرکز نور الإسلام لأبحاث القرآن والسنة بالإسکندریة.

81. سنن ابن ماجه حققه وعلق علیه وأخرج أحادیثه الدکتور بشار عواد معروف ، ط. دار الجیل __ بیروت.

82. سنن ابن ماجه لمحمد بن یزید القزوینی المعروف بابن ماجه / تحقیق محمد فؤاد عبد الباقی.

ص: 682

83. سنن أبی داود / ابن الأشعث السجستانی / الجزء: 1 / تحقیق وتعلیق: سعید محمد اللحام / الطبعة: الأولی / سنة الطبع: 1410 __ 1990م / الناشر: دار الفکر للطباعة والنشر والتوزیع / ملاحظات: طبعة جدیدة منقحة ومفهرسة / أخرجه وراجعه ووضع فهارسه: مکتب الدراسات والبحوث فی دار الفکر.

84. سنن الترمذی / الترمذی / تحقیق وتصحیح: عبد الوهاب عبد اللطیف / الطبعة: الثانیة / سنة الطبع: 1403 __ 1983م / الناشر: دار الفکر للطباعة والنشر والتوزیع __ بیروت __ لبنان.

85. سنن الدارمی / عبد الله بن بهرام الدارمی / سنة الطبع: 1349 / المطبعة: مطبعة الاعتدال __ دمشق / ملاحظات: طبع بعنایة محمد أحمد دهمان.

86. السنن الکبری / البیهقی / الناشر: دار الفکر.

87. السنن الکبری / النسائی / تحقیق: عبد الغفار سلیمان البنداری، سید کسروی حسن / الطبعة: الأولی / سنة الطبع: 1411 __ 1991م / الناشر: دار الکتب العلمیة __ بیروت __ لبنان.

88. سنن النسائی / النسائی / الطبعة: الأولی / سنة الطبع: 1348 __ 1930م / الناشر: دار الفکر للطباعة والنشر والتوزیع __ بیروت __ لبنان.

89. سیر أعلام النبلاء / الذهبی / إشراف وتخریج: شعیب الأرنؤوط / تحقیق: حسین الأسد / الطبعة: التاسعة / سنة الطبع: 1413 __ 1993م / الناشر: مؤسسة الرسالة __ بیروت __ لبنان.

ص: 683

90. شرح إحقاق الحق / السید المرعشی / تعلیق: السید شهاب الدین المرعشی النجفی / تصحیح: السید إبراهیم المیانجی / الناشر: منشورات مکتبة آیة الله العظمی المرعشی النجفی __ قم ___ ایران.

91. شرح الزرقانی علی الموطأ / تألیف: الزرقانی / طبعة دار الکتب العلمیة.

92. شرح علل الترمذی لابن رجب / زین الدین أبی الفرج عبد الرحمن بن أحمد البغدادی المعروف ( بابن رجب الحنبلی ) / المحقق: د.نور الدین عتر، مع مقدمة تحقیق د.همام عبد الرحیم سعید. / مصدر الکتاب: ملتقی أهل الحدیث.

93. شرح مسلم / النووی / سنة الطبع: 1407 __ 1987م / الناشر: دار الکتاب العربی __ بیروت __ لبنان.

94. شرح نهج البلاغة / ابن أبی الحدید / تحقیق: محمد أبو الفضل إبراهیم / الطبعة: الأولی / سنة الطبع: 1378 __ 1959م / الناشر: دار إحیاء الکتب العربیة __ عیسی البابی الحلبی وشرکاه.

95. شواهد التنزیل / الحاکم الحسکانی / تحقیق: الشیخ محمد باقر المحمودی / الطبعة: الأولی / سنة الطبع: 1411 __ 1990م / الناشر: مؤسسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامی __ مجمع إحیاء الثقافة الإسلامیة.

96. الصارم المنکی فی الرد علی السبکی / ابو عبد الله محمد بن احمد بن عبد الهادی الحنبلی المقدسی / طبعئ مصر سنة 1902.

97. الصحاح / الجوهری / تحقیق: أحمد عبد الغفور العطار / الطبعة: الرابعة / سنة الطبع: 1407 __ 1987م / الناشر: دار العلم للملایین __ بیروت __ لبنان.

ص: 684

98. صحیح ابن حبان / ابن حبان / تحقیق: شعیب الأرنؤوط / الطبعة: الثانیة / سنة الطبع: 1414 __ 1993م / الناشر: مؤسسة الرسالة.

99. صحیح ابن خزیمة / ابن خزیمة / تحقیق وتعلیق وتخریج وتقدیم: الدکتور محمد مصطفی الأعظمی / الطبعة: الثانیة / سنة الطبع: 1412 __ 1992م / الناشر: المکتب الإسلامی.

100. صحیح ابن خزیمة / ابن خزیمة / تحقیق وتعلیق وتخریج وتقدیم: الدکتور محمد مصطفی الأعظمی / الطبعة: الثانیة / سنة الطبع: 1412 __ 1992م / الناشر: المکتب الإسلامی.

101. صحیح البخاری / البخاری / سنة الطبع: 1401 __ 1981م / الناشر: دار الفکر للطباعة والنشر والتوزیع / ملاحظات: طبعة بالأوفست عن طبعة دار الطباعة العامرة بإستانبول.

102. صحیح الترغیب والترهیب / محمد ناصر الدین الألبانی / الناشر: مکتبة المعارف __ الریاض / الطبعة: الخامسة.

103. صحیح مسلم / مسلم النیسابوری / الناشر: دار الفکر __ بیروت __ لبنان / ملاحظات: طبعة مصححة ومقابلة علی عدة مخطوطات ونسخ معتمدة.

104. الصواعق المحرقة علی أهل الرفض والضلال والزندقة / أبی العباس أحمد بن محمد ابن محمد بن علی بن حجر الهیتمی / الناشر: مؤسسة الرسالة __ بیروت / الطبعة الأولی، 1997 / تحقیق: عبدالرحمن بن عبدالله الترکی وکامل محمد الخراط.

105. ضعفاء العقیلی / العقیلی / تحقیق: الدکتور عبد المعطی أمین قلعجی / الطبعة: الثانیة / سنة الطبع: 1418 / المطبعة: دار الکتب العلمیة __ بیروت.

ص: 685

106. ضعیف سنن ابن ماجه / محمد ناصر الدین الألبانی / الناشر: المکتب الإسلامی بیروت / الطبعة: الأولی / سنة الطبع 1408ه_.

107. ضعیف سنن النسائی / تألیف محمد ناصر الدین الألبانی / الناشر: المکتب الإسلامی، بیروت الطبعة الأولی، سنة الطبع 1411ه_.

108. الضوء اللامع لأهل القرن التاسع / شمس الدین محمد بن عبد الرحمن السخاوی / طبعة مصر، سنة 1937.

109. طبقات الشافعیة الکبری / تاج الدین أبو نصر عبد الوهاب بن علی بن عبد الکافی السبکی / المحقق: محمود محمد الطناحی __ عبد الفتاح الحلو / الناشر: فیصل عیسی البابی الحلبی / سنة النشر: 1383 __ 1964.

110. الطبقات الکبری / محمد بن سعد / المطبعة: دار صادر __ بیروت.

111. ظلال الجنة فی تخریج "السنة" لابن أبی عاصم / تألیف محمد ناصر الدین الألبانی / الناشر: المکتب الإسلامی / الطبعة: الأولی لسنة 1400للهجرة.

112. العلل / أحمد بن حنبل / تحقیق: الدکتور وصی الله بن محمود عباس / الطبعة: الأولی / سنة الطبع: 1408 / المطبعة: المکتب الإسلامی __ بیروت / الناشر: دار الخانی __ الریاض.

113. علل الترمذی / محمد بن سورة / الطبعة: الثانیة / سنة الطبع: 1403 / المطبعة: دار الفکر للطباعة والنشر والتوزیع __ بیروت.

114. علل الدارقطنی / الدار قطنی / تحقیق: محفوظ الرحمن زین الله السلفی / الطبعة: الأولی / سنة الطبع: 1405 / المطبعة: دار طیبة __ الریاض.

ص: 686

115. العلل الصغیر للترمذی / محمد بن عیسی أبو عیسی الترمذی السلمی / الناشر: دار إحیاء التراث العربی __ بیروت / تحقیق: أحمد محمد شاکر وآخرون.

116. العلل المتناهیة فی الأحادیث الواهیة / عبد الرحمن بن علی بن الجوزی / الناشر: دار الکتب العلمیة __ بیروت / الطبعة الأولی، 1403 / تحقیق: خلیل المیس.

117. عمدة القاری / العینی / المطبعة: بیروت __ دار إحیاء التراث العربی.

118. الفایق فی غریب الحدیث / جار الله الزمخشری / الطبعة: الأولی / سنة الطبع: 1417ه_ / الناشر: دار الکتب العلمیة __ بیروت.

119. فتح الباری / شهاب الدین ابن حجر العسقلانی / الطبعة: الثانیة / المطبعة والناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر بیروت __ لبنان.

120. فتح المغیث شرح ألفیة الحدیث / شمس الدین محمد بن عبد الرحمن السخاوی / الناشر: دار الکتب العلمیة __ لبنان / الطبعة الأولی، 1403ه_.

121. الفصل فی الملل والأهواء والنحل لابن حزم الظاهری

122. فضائل الصحابة / أبی عبد الرحمن أحمد بن شعیب المعروف بالنسائی / الناشر: دار الکتب العلمیة __ بیروت __ لبنان.

123. فضائل الصحابة / أحمد بن حنبل / المحقق: وصی الله بن محمد عباس / الناشر: دار ابن الجوزی / سنة النشر: 1420 ه_ __ 1999م / الطبعة الثانیة.

124. فهارس صحیح مسلم بشرح النووی / النووی / الناشر: دار إحیاء التراث العربی __ بیروت.

ص: 687

125. فیض القدیر شرح الجامع الصغیر / محمد عبد الرؤوف المناوی / تحقیق: أحمد عبد السلام / الطبعة: الأولی / سنة الطبع: 1415ه_ / الناشر: دار الکتب العلمیة __ بیروت.

126. القاموس الفقهی / الدکتور سعدی أبو حبیب / الطبعة: الثانیة / سنة الطبع: 1408ه_ / المطبعة: دار الفکر __ دمشق __ سوریا.

127. قصص الأنبیاء / أبی الفداء إسماعیل بن کثیر / تحقیق: مصطفی عبد الواحد / الطبعة: الأولی / سنة الطبع: 1388ه_ / المطبعة: دار التألیف __ مصر / الناشر: دار الکتب الحدیثة.

128. الکاشف فی معرفة من له روایة فی کتب الستة / شمس الدین أبی عبد الله محمد ابن أحمد بن الذهبی الدمشقی / قابلها بأصل مؤلفیهما وقدم لهما وعلق علیهما: محمد عوامة / الطبعة: الأولی / سنة الطبع: 1413ه_ / المطبعة: دار القبلة للثقافة الاسلامیة __ جدة / الناشر: مؤسسة علوم القرآن __ جدة.

129. الکافی / أبی جعفر محمد بن یعقوب بن إسحاق الکلینی الرازی / تصحیح وتعلیق: علی أکبر الغفاری / الطبعة: الثالثة / سنة الطبع: 1388ه_ / المطبعة: حیدری / الناشر: دار الکتب الإسلامیة __ طهران.

130. الکامل فی التاریخ / عز الدین أبی الحسن علی بن أبی الکرم محمد بن محمد ابن عبد الکریم بن عبد الواحد الشیبانی المعروف بابن الأثیر / سنة الطبع: 1386ه_ / المطبعة: دار صادر __ بیروت.

131. کتاب الضعفاء والمتروکین / النسائی / الطبعة: الأولی / سنة الطبع: 1406 __ 1986م / الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزیع __ بیروت __ لبنان.

ص: 688

132. کتاب العین / الخلیل الفراهیدی / تحقیق: الدکتور مهدی المخزومی، الدکتور إبراهیم السامرائی / الطبعة: الثانیة / سنة الطبع: 1409 / الناشر: مؤسسة دار الهجرة.

133. کتاب المجروحین / ابن حبان / تحقیق: محمود إبراهیم زاید / توزیع: دار الباز للنشر والتوزیع __ عباس أحمد الباز __ مکة المکرمة.

134. الکشاف عن حقائق التنزیل وعیون الأقاویل / الزمخشری / سنة الطبع: 1385 __ 1966م / الناشر: شرکة مکتبة ومطبعة مصطفی البابی الحلبی وأولاده بمصر، عباس ومحمد محمود الحلبی وشرکاهم __ خلفاء.

135. الکشف الحثیث عمن رمی بوضع الحدیث / إبراهیم بن محمد بن سبط ابن العجمی أبو الوفا الحلبی الطرابلسی / الناشر: عالم الکتب، مکتبة النهضة العربیة __ بیروت / الطبعة الأولی، 1407 __ 1987 / تحقیق: صبحی السامرائی.

136. کشف الخفاء ومزیل الإلباس عما اشتهر من الأحادیث علی ألسنة الناس / الشیخ إسماعیل بن محمد العجلونی الجراحی / الطبعة: الثالثة / سنة الطبع: 1408ه_ / الناشر: دار الکتب العلمیة __ بیروت.

137. کشف الظنون / حاجی خلیفة / الناشر: دار إحیاء التراث العربی __ بیروت __ لبنان.

138. الکفایة فی علم الروایة / أبی أحمد بن علی المعروف بالخطیب البغدادی / تحقیق: الدکتور أحمد عمر هاشم / الطبعة: الأولی / سنة الطبع: 1405ه_ / الناشر: دار الکتاب العربی __ بیروت.

ص: 689

139. الکلم الطیب / ابن تیمیة / تحقیق: محمد ناصر الدین الألبانی / الناشر: المکتب الإسلامی __ بیروت / الطبعة: الثالثة __ 1977.

140. کنز العمال فی سنن الأقوال والأفعال / علاء الدین علی المتقی بن حسام الدین الهندی البرهان فوری / ضبط وتفسیر: الشیخ بکری حیانی / تصحیح وفهرسة: الشیخ صفوة السقا / سنة الطبع: 1409ه_ / الناشر: مؤسسة الرسالة __ بیروت __ لبنان.

141. اللآلی المصنوعة فی الأحادیث الموضوعة / جلال الدین السُّیوطی / الناشر: دار الکتب العلمیة.

142. لسان العرب / ابن منظور / سنة الطبع: محرم 1405 / الناشر: نشر أدب الحوزة __ قم __ إیران.

143. لسان المحدثین (مُعجم یُعنی بشرح مصطلحات المحدثین القدیمة والحدیثة ورموزهم وإشاراتهم وشرحِ جملة من مشکل عباراتهم وغریب تراکیبهم ونادر أسالیبهم) / محمد خلف سلامة / مصدر الکتاب: ملفات ورد نشرها المؤلف فی ملتقی أهل الحدیث / قام بفهرسته وإعداده للشَّاملة: أبو أکرم الحلبیّ من أعضاء ملتقی أهل الحدیث.

144. لسان المیزان / ابن حجر / الطبعة: الثانیة / سنة الطبع: 1390 __ 1971م / الناشر: مؤسسة الأعلمی للمطبوعات __ بیروت __ لبنان / ملاحظات: الطبعة الأولی بمطبعة مجلس دائرة المعارف النظامیة الکائنة فی الهند بمحروسة حیدر آباد الدکن عمرها الله إلی أقصی الزمن سنة 1329 هجریة.

145. المبسوط / السرخسی / سنة الطبع: 1406 __ 1986م / الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر

ص: 690

والتوزیع __ بیروت __ لبنان / ملاحظات: قد باشر جمع من حضرات أفاضل العلماء تصحیح هذا الکتاب بمساعدة جماعة من ذوی الدقة من أهل العلم والله المستعان وعلیه التکلان.

146. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد / الهیثمی / سنة الطبع: 1408 __ 1988م / الناشر: دار الکتب العلمیة __ بیروت __ لبنان / ملاحظات: طبع بإذن خاص من ورثة حسام الدین القدسی مؤسس مکتبة القدسی بالقاهرة.

147. مجموع الفتاوی / لابن تیمیة / الطبعة الأولی دار الوفاء ومکتبة العبیکان / سنة الطبع 1997 __ 1418.

148. المحدث الفاصل بین الراوی والواعی /  الحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزی / المحقق: د. محمد عجاج الخطیب / الناشر: دار الفکر للطباعة والنشر 1391 ه_ __ 1971 م.

149. محو السنة أو تدوینها / حسین غیب غلامی / الطبعة: الأولی / سنة الطبع: 1419 __ 1998م / المطبعة: الهادی / الناشر: مؤسسة الهادی.

150. مروج الذهب و معادن الجوهر / المسعودی / المطبعة دار الطباعة العامرة __ مصر سنة 1283ه_.

151. المستدرک / الحاکم النیسابوری / إشراف: یوسف عبد الرحمن المرعشلی / ملاحظات: طبعة مزیدة بفهرس الأحادیث الشریفة.

152. مستدرک سفینة البحار /  الشیخ علی النمازی الشاهرودی / تحقیق وتصحیح: الشیخ حسن بن علی النمازی / الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة / ردمک: 964__470__203__4.

153. المستدرک علی الصحیحین مع تعلیقات الذهبی فی التلخیص / محمد بن عبد الله أبو

ص: 691

عبد الله الحاکم النیسابوری / الناشر: دار الکتب العلمیة __ بیروت / الطبعة الأولی، 1411 __1990 / تحقیق: مصطفی عبد القادر عطا.

154. المستصفی /  الغزالی / تصحیح: محمد عبد السلام عبد الشافی / سنة الطبع: 1417 __ 1996م / الناشر: دار الکتب العلمیة __ بیروت __ لبنان / ملاحظات: طبعه وصححه: محمد عبد السلام عبد الشافی.

155. مسند ابن راهویه / إسحاق بن راهویه / تحقیق: الدکتور عبد الغفور عبد الحق حسین برد البلوشی / الطبعة: الأولی / سنة الطبع: 1412 / المطبعة: مکتبة الإیمان __ المدینة المنورة.

156. مسند أبی داود الطیالسی / سلیمان بن داود الطیالسی / الناشر: دار المعرفة __ بیروت __ لبنان / ملاحظات: طبعة مزیدة بفهارس للأحادیث النبویة الشریفة.

157. مسند احمد / الإمام احمد بن حنبل / الناشر: دار صادر __ بیروت __ لبنان.

158. المسند الجامع المعلل / تألیف أبی الفضل السید أبی المعاطی النوری / تحقیق د. بشار عواد معروف أحمد عبد الرزاق عید، أیمن إبراهیم الزاملی، محمود محمد خلیل / الطبعة الثانیة مزیدة ومنقحة.

159. مشارق الأنوار علی صحاح الآثار / القاضی أبو الفضل عیاض بن موسی بن عیاض الیحصبی السبتی المالکی / دار النشر / المکتبة العتیقة ودار التراث.

160. مشاهیر علماء الأمصار /  ابن حبان / تحقیق: مرزوق علی إبراهیم / الطبعة: الأولی / سنة الطبع: 1411 / المطبعة: دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزیع __ المنصورة.

ص: 692

161. المصنف /  ابن أبی شیبة الکوفی / تحقیق وتعلیق: سعید اللحام / الطبعة: الأولی / سنة الطبع: جمادی الآخرة 1409 __ 1989م / الناشر: دار الفکر للطباعة والنشر والتوزیع __ بیروت __ لبنان / ملاحظات: طبعة مستکملة النص ومنقحة ومشکولة ومرقمة الأحادیث ومفهرسة / راجعه وصححه وأشرف علی إخراجه: مکتب الدراسات والبحوث فی دار الفکر.

162. المطالب العالیة بزوائد المسانید الثمانیة لأحمد بن علی بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلانی، تنسیق: الدکتور سعد بن ناصر بن عبد العزیز الشثری، الناشر: دار العاصمة، دار الغیث السعودیة، الطبعة: الأولی، 1419ه_.

163. المعارف / ابن قتیبة / تحقیق: دکتور ثروت عکاشة / المطبعة: القاهرة __ دار المعارف.

164. معجم لغة الفقهاء /  محمد قلعجی / الطبعة: الثانیة / سنة الطبع: 1408 __ 1988م / الناشر: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزیع __ بیروت __ لبنان.

165. معرفة الثقات /  العجلی / الطبعة: الأولی / سنة الطبع: 1405 / الناشر: مکتبة الدار __ المدینة المنورة.

166. معرفة السنن والآثار / البیهقی / تحقیق: سید کسروی حسن / المطبعة: لبنان بیروت __ دار الکتب العلمیة.

167. المغنی /  عبد الله بن قدامة / الطبعة: جدیدة بالأوفست / الناشر: دار الکتاب العربی للنشر والتوزیع __ بیروت __ لبنان.

ص: 693

168. المقاصد الحسنة فی بیان کثیر من الأحادیث المشتهرة علی الألسنة /  شمس الدین أبو الخیر محمد بن عبد الرحمن بن محمد السخاوی / (المتوفی: 902ه_) / المحقق: محمد عثمان الخشت / الناشر: دار الکتاب العربی __ بیروت / الطبعة: الأولی ، 1405 ه_ __ 1985م.

169. مقدمة ابن الصلاح /  عثمان بن عبد الرحمن / تعلیق وشرح وتخریج: أبو عبد الرحمن صلاح بن محمد بن عویضة / الطبعة: الأولی / سنة الطبع: 1416 __ 1995م / الناشر: دار الکتب العلمیة __ بیروت __ لبنان.

170. مقدمة فتح الباری /  ابن حجر / الطبعة: الأولی / سنة الطبع: 1408 __ 1988م / الناشر: دار إحیاء التراث العربی __ بیروت __ لبنان / ملاحظات: الطبعة الأولی بالمطبعة الکبری الأمیریة ببولاق مصر المحمیة سنة 1301 هجریة.

171. الملل والنحل /  الشهرستانی / تحقیق: محمد سید کیلانی / المطبعة: دار المعرفة / الناشر: دار المعرفة __ بیروت __ لبنان.

172. المناظرات فی الإمامة /  الشیخ عبد الله الحسن / الطبعة: الأولی / سنة الطبع: 1415 / المطبعة: مهر / الناشر: أنوار الهدی.

173. مناقب الأئمة الأربعة للباقلانی تحقیق الدکتورة سمیرة فرحات، طبع دار المنتخب العربی ببیروت لسنة 1422.

174. مناهج المحدثین للدکتور سعد بن عبد الله الحمید، اعتنی به أبو عبیدة ماهر صالح آل مبارک، طبعة دار علوم السنة.

175. المنتخب من العلل للخلال / الخلال __ ابن قدامة / المحقق: أبو معاذ طارق بن عوض الله / الناشر: دار الرایة / الطبعة: الأولی / سنة الطبع: 1419 __ 1998.

ص: 694

176. المنتخب من العلل للخلال / المحقق: أبو معاذ طارق بن عوض الله / المحقق: أبو معاذ طارق بن عوض الله / الناشر: دار الرایة / الطبعة: الأولی / سنة الطبع: 1419 __ 1998.

177. منهاج السنة النبویة /  أحمد بن عبد الحلیم بن تیمیة الحرانی أبو العباس / الناشر: مؤسسة قرطبة / الطبعة الأولی ، 1406 / تحقیق: د. محمد رشاد سالم.

178. المواقف /  الإیجی / تحقیق: عبد الرحمن عمیرة / الطبعة: الأولی / سنة الطبع: 1417 __ 1997م / المطبعة: لبنان __ بیروت __ دار الجیل.

179. الموضوعات /  ابن الجوزی / ضبط وتقدیم وتحقیق: عبد الرحمن محمد عثمان / الطبعة: الأولی / الناشر: المکتبة السلفیة __ المدینة المنورة / سنة الطبع: 1386 __ 1966م.

180. الموطأ / الإمام مالک / تصحیح وتعلیق: محمد فؤاد عبد الباقی / الناشر: دار إحیاء التراث العربی __ بیروت __ لبنان / صححه ورقمه وخرج أحادیثه وعلق علیه: محمد فؤاد عبد الباقی / سنة الطبع: 1406 __ 1985م.

181. الموقظة فی علم مصطلح الحدیث / محمد بن أحمد بن عثمان بن قایماز الذهبی شمس الدین أبو عبد الله / المحقق: علی بن أحمد الرازحی / الناشر: دار الآثار.

182. میزان الاعتدال /  الذهبی / تحقیق: علی محمد البجاوی / الطبعة: الأولی / الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر __ بیروت __ لبنان / سنة الطبع: 1382 __ 1963م.

183. نزهة النظر فی توضیح نخبة الفکر فی مصطلح أهل الأثر /  أبو الفضل أحمد بن علی ابن محمد بن أحمد بن حجر العسقلانی (المتوفی: 852ه_) / المحقق: عبد الله بن ضیف الله الرحیلی / الطبعة: الطبعة الأولی / الناشر: مطبعة سفیر بالریاض عام (1422ه_ ).

ص: 695

184. نصب الرایة /  الزیلعی / اعتنی بهما: أیمن صالح شعبان / الطبعة: الأولی / المطبعة: مطابع الوفاء __ المنصورة / الناشر: دار الحدیث __ القاهرة  / سنة الطبع: 1415 __ 1995م / ردمک: 977 __ 5227 __ 61 __ 5.

185. نفحات الأزهار /  السید علی المیلانی / الطبعة: الأولی / المطبعة: مهر / الناشر: المؤلف / سنة الطبع: 1414 / ملاحظات: نفحات الأزهار فی خلاصة عبقات الأنوار للعلم الحجة آیة الله السید حامد حسین اللکهنوی.

186. النکت علی مقدمة ابن الصلاح /  بدر الدین أبی عبد الله محمد بن جمال الدین عبد الله بن بهادر / الناشر: أضواء السلف __ الریاض / الطبعة الأولی ، 1419ه_ __ 1998م / تحقیق: د. زین العابدین بن محمد بلافریج.

187. نیل الأوطار /  الشوکانی / الوفاة: 1255 / الناشر: دار الجیل __ بیروت __ لبنان / سنة الطبع: 1973.

188. هدایة الرواة إلی تخریج أحادیث المصابیح والمشکاة ومعه تخریج الألبانی للمشکاة لأحمد بن علی بن حجر العسقلانی تحقیق: علی بن حسن بن عبد الحمید الحلبی الناشر: دار ابن القیم __ الدمام __ الطبعة: الأولی __ سنة الطبع1422ه_.

189. الوافی بالوفیات / الصفدی / تحقیق: أحمد الأرناؤوط وترکی مصطفی / المطبعة: بیروت __ دار إحیاء التراث / سنة الطبع: 1420 __ 2000م.

190. وسیلة المآل / أحمد بن الفضل الحضرمی / نسخة المکتبة الظاهریة بدمشق.

191. وفیات الأعیان وأنباء أبناء الزمان / ابن خلکان / تحقیق: إحسان عباس / المطبعة: لبنان __ دار الثقافة.

ص: 696

ص: 697

المحتویات

الاهداء

مقدمة اللجنة العلمیة

المقدمة

الفصل الأول:

السنة النبویة المطهرة أهمیتها ومراحل تدوینها حتی العصر العباسی

ماذا نعنی بالسنة النبویة؟

أهمیة السنة النبویة المطهرة فی القرآن الکریم

أهمیة السنة النبویة المطهرة عند المسلمین

إذا کانت السنة النبویة بهذه الأهمیة فلماذا أحرقت ولم تدون کالقرآن؟

1: إتلاف السنة النبویة المدونة فی عهد أبی بکر

2: إتلاف السنة النبویة ومنع تدوینها وروایتها فی عهد عمر بن الخطاب

الشاهد الأول: حدیث عروة بن الزبیر

الشاهد الثانی: عن الزهری عن عروة بن الزبیر

الشاهد الثالث: حدیث الصحابی قرظة بن کعب

الشاهد الرابع: تهدید عمر بن الخطاب لبعض الصحابة بالضرب

ص: 698

الشاهد الخامس: حبس عمر بن الخطاب لبعض الصحابة بسبب إکثارهم للروایة

الشاهد السادس: عمر بن الخطاب یمنع الصحابة من الرحیل عن المدینة لمنعهم عن الروایة

الشاهد السابع: عمر بن الخطاب یکتب لجمیع الأمصار بمحو السنة النبویة

ما حقیقة بعض الأخبار التی صرحت باهتمام عمر بن الخطاب بالسنة النبویة المطهرة؟

القسم الأول من أقسام السنة والمتعلق بالأحکام والتشریع والقضاء

القسم الثانی: السنة المتعلقة بفضائل بعض الذین عاصروا النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم أو مثالبهم

الملامح العامة لسنة الشیخین والتی صارت بدیلا عن السنة النبویة

أولا: التأکید علی بشریة النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم بشکل مبالغ فیه

ثانیا: تضخیم شخصیة السلطة وإعطاؤها مقام الأنبیاء

ثالثا: إیجاد التغطیة الإعلامیة وشراء ذمم المغطین

رابعا: إیجاد طبقة اسمها أهل الحل والعقد

مصیر السنة النبویة المطهرة فی زمن عثمان بن عفان

مصیر السنة النبویة فی خلافة الإمام علی بن أبی طالب علیه السلام

لماذا لم یکتب الإمام علی علیه السلام السنة النبویة فی زمن خلافته؟

مصیر السنة النبویة فی زمن معاویة بن أبی سفیان

الملامح العامة للسنة الأمویة الجدیدة

بدء التدوین الرسمی للسنة النبویة المطهرة فی عهد عمر بن عبد العزیز

تدوین السنة النبویة فی زمن هشام بن عبد الملک بن مروان الأموی

من هو ابن شهاب الزهری؟

تضخیم محدثی أهل السنة لشخصیة الزهری ومرویاته

إکراهه من قبل هشام بن عبد الملک علی التدوین

ص: 699

تلاعب هشام بن عبد الملک بأحادیث ابن شهاب الزهری

لماذا کان الزهری یکذب فی ادعائه عدم الکتابة للأحادیث؟

لماذا لم یکن ابن شهاب الزهری یعید أحادیثه مرتین؟

لماذا دون هشام السنة النبویة ولم یکتف بتدوین عمر بن عبد العزیز لها؟

الإمامان الباقر والصادق علیهما السلام وأثرهما فی تدوین السنة

الفصل الثانی: تدوین السنة النبویة فی العصر العباسی بین تدخل السلطة وتحریف المدونین

أهمیة التدوین للسنة النبویة خلال العصر العباسی

ما هی السنة الرسمیة للدولة العباسیة؟

استغلال المحدثین لوضع فضائل للدولة الجدیدة

فتحهم باب الروایة والتدوین وتقلیص فضائل أهل البیت علیهم السلام

هل دونت السنة النبویة بشکل نزیه وبعید عن التحریف والتزویر؟

الشاهد الأول: سرقة الکتب وإدخال الزیادات فیها

الشاهد الثانی: دسهم لأحادیث مکذوبة فی کتاب عطاء بن عجلان

الشاهد الثالث: دس حبیب بن أبی حبیب کاتب مالک بن انس فی کتبه وکتب غیره

الشاهد الرابع: غالب بن عبید الله یملی بخلاف ما هو مکتوب عنده

الشاهد الخامس: یحیی یحدث بخلاف ما هو مدون عنده ثم یکتشف خطأه بعد ست عشرة سنة

ص: 700

الشاهد السادس: ابن لهیعة یحذ الوسائط ویأتونه بکتاب مجهول المصدر فیرویه

الشاهد السابع: عبد الله بن سلمة یحدث بما لا یسمع ویروی غیر ما دون

الشاهد الثامن: احدهم یشتری کتب غیره ثم یرویها علی أنها کتبه وانطلاء أمره علی أئمتهم

الشاهد التاسع: حقائق مهمة یذکرها ابن حبان

الشاهد العاشر: محمد بن عبد الرحیم الذی کتبت عنه آلاف الأحادیث المکذوبة

خلاصة هذه الشواهد ودلالاتها

هل الصحاح والمسانید الموجودة فی عصرنا مصانة عن التحریف؟

الأنموذج الأول: موطأ مالک بن انس إمام المذهب المالکی

ألف: مالک بن انس بین المدح والذم

باء: منزلة مالک عند السلطة، وعلاقة المنصور العباسی بانتشار کتاب الموطأ

جیم: هل کل رواة الموطأ ثقات ولیس فیهم ضعیف؟

دال: وقوع التزویر والدس فی کتاب الموطأ لمالک بن أنس

الأنموذج الثانی: کتاب العلل وکتاب الفضائل وکتاب المسند لأحمد بن حنبل إمام المذهب الحنبلی

ما هی کتب علل الحدیث، وأین یندرج کتاب العلل لأحمد بن حنبل؟

ملامح عامة لکتاب العلل المنسوب إلی أحمد بن حنبل

کتاب فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل والدس فیه

کتاب مسند أحمد بن حنبل والدس فیه

أولا: کم هی عدد أحادیث المسند وما هو رأی احمد بن حنبل فیها

ثانیا: هل کانت لأحمد بن حنبل قدرة علی تمییز الحدیث الصحیح من غیره؟

ثالثا: شواهد وأدلة تثبت وقوع التزویر والتحریف فی مسند احمد بن حنبل

أولا: الذهبی یعترف بان احمد لم یصنف المسند ولا رتبه ولا هذبه

ثانیا: الذهبی یصرح بتلاعب عبد الله بن احمد وأبی بکر القطیعی بکتاب المسند

ص: 701

ثالثا: الذهبی یشجع علماء المسلمین أن یتلاعبوا هم أیضا فی کتاب المسند بهدف إصلاحه

رابعا: العراقی یصرح ان فی المسند أحادیث مکذوبة وموضوعة وان ولده زاد فیه

خامسا: احمد بن حنبل أمر ولده بإخراج بعض الأحادیث من المسند لکنه لم یمتثل

سادسا: عبد الله روی عن أبیه فی المسند أشیاء لم یأمره بوضعها فیه

الأنموذج الثالث: کتاب صحیح البخاری

اسم البخاری ونسبه

الاختلاف فی الاسم الحقیقی لصحیح البخاری

البخاری یدون سبعة آلاف حدیث بینما یضیع علی الأمة ثلاثمائة ألف حدیث کان یحفظها

البخاری کان من المجبرة وانعکاس ذلک علی مؤلفاته

المدح المفرط لکتاب صحیح البخاری

روایات الضعفاء والکذابین والمدلسین فی صحیح البخاری

اشتراط الإسلام فی الراوی ومخالفة البخاری لهذا الشرط

إخراجه لأحادیث بعض الذین اشتهروا بالکذب علی رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم

إخراجه لأحادیث رواة وصفوا بالجهالة والضعف

إخراجه لأحادیث رواة کانوا یأخذون الأجرة علی الروایة

إخراجه لأحادیث رواة کانوا من المشهورین بالتدلیس

التزویر والتلاعب بنسخ کتاب صحیح البخاری وروایاته وأبوابه

النسخة الأصلیة لصحیح البخاری ناقصة فأتمها النساخ الذین نقلوا لنا صحیحه

من هم الذین نسخوا صحیح البخاری ونقلوا للناس روایاته

أوهام النساخ وتصحیفاتهم فی متون أحادیث صحیح البخاری

اختلاف النساخ فی عناوین الأبواب والکتب التی احتواها صحیح البخاری

الأنموذج الرابع: کتاب صحیح مسلم

اختلافهم فی اسم الکتاب المنسوب لمسلم

اختلافهم فی عدد أحادیث صحیح مسلم

هل أکمل مسلم النیسابوری تألیف کتابه وترتیبه قبل أن یموت؟ ومن الذی وضع

ص: 702

عناوین أبواب کتابه؟

هل کانت العلاقة ما بین مسلم والبخاری علاقة طیبة؟ وهل أثرت حدة أخلاق مسلم علی تدوین السنة؟

موقف أساتذة مسلم من تألیفه لکتاب الصحیح

موقف علماء السنة من بعض أحادیث صحیح مسلم

کیف وصل إلینا کتاب صحیح مسلم؟

ما هو شرط مسلم النیسابوری لقبول الحدیث أو رفضه؟

التناقض والتضارب فی منهج کتاب صحیح مسلم

1: الروایات المرسلة فی صحیح مسلم

أنموذج من مراسیل مسلم فی کتابه

2: روایات المدلسین فی صحیح مسلم

1: الحسن بن أبی الحسن المعروف بالحسن البصری

2: سعید بن أبی عروبة

3: الولید بن مسلم الدمشقی

4: عمر بن علی المقدمی

5: سوید بن سعید الحدثانی

3: روایات أهل البدع فی صحیح مسلم

1: محمد بن خازم أبو معاویة الضریر

2: عبید الله بن موسی العبسی

التلاعب بکتاب صحیح مسلم النیسابوری

زیادات إبراهیم بن محمد بن سفیان علی کتاب مسلم

تعلیقات إبراهیم بن محمد التی کتبها ضمن کتاب مسلم

زیادات الجلودی وتعلیقاته فی أصل کتاب مسلم

هل تضر هذه الزیادات مع وضوح قائلها؟

ص: 703

الفصل الثالث: تناقضات مناهج المحدثین واضطراب قواعد الجرح والتعدیل عندهم

مقدمة الفصل

لماذا أوجدوا قواعد الجرح والتعدیل؟

من هم المتقدّمون من أهل الجرح والتعدیل ومن هم المتأخّرون؟

اختلاف المتقدمین بعضهم مع بعضهم الآخر فی قواعد الجرح والتعدیل

اختلاف المتأخرین مع المتقدمین فی قواعد الجرح والتعدیل

لیست لدی القدماء قواعد واضحة ومنهجیة معلومة فی الجرح والتعدیل

دخول العصبیة والحسد والبغضاء فی منهج التوثیق والقدح

1: تشنیع ابن مندة فی أبی نعیم وکلام أبی نعیم فی ابن مندة بهوی وعصبیة

2: القدح بسبب العصبیة والعداوة

3: القدح بسبب الاختلاف فی الرأی الفقهی

4: القدح بسبب الاختلاف فی العقیدة

بعض نماذج التناقضات فی مناهج المحدثین

1: البخاری یورد أسماء کثیر من الرواة فی کتاب الضعفاء ویخرج لهم فی صحیحه

ألف: أیوب بن صالح بن عائذ الکوفی

باء: ثابت بن محمد الزاهد

جیم: مقسم بن بجرة أو ابن نجدة

دال: حمران بن أبان مولی عثمان بن عفان

2: تناقض ابن حبان فی توثیق الرواة وجرحهم

ص: 704

ألف: إسحاق بن یحیی بن طلحة عن عبید الله القرشی

باء: الحسن بن محمد البلخی

جیم: الحسین بن عطاء بن یسار

دال: فضالة بن الحصین العطار البصری

هاء: ثعلبة بن یزید الکوفی

واو: جنید بن العلاء

3: تناقض ابن معین فی توثیق الرواة وتضعیفهم

ألف: محمد بن إسحاق صاحب المغازی المعروف

باء: کثیر بن شنظیر المازنی البصری

4: بعض تناقضات العالم الوهابی الشیخ الألبانی فی تصحیح الأحادیث وتضعیفها

ألف: حدیث عبد الله بن عمرو بن العاص

باء: حدیث عبید الله بن أبی رافع

جیم: بعض الکتب التی ألفت فی تناقضات الألبانی

5: حکم المحدثین علی بعضهم بعضا بالتعجب

ألف: تعجب وکیع من ابن المبارک

باء: تعجب مالک بن انس من شعبة

جیم: تعجب ابن الجوزی من ابن ماجة واتهامه بالهوی والعصبیة لبلده

دال: بعض تعجبات الذهبی

هاء: بعض تعجبات الحافظ ابن حجر العسقلانی

نتائج الفصول الثلاثة السابقة

ص: 705

الفصل الرابع: جملة من فضائل أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین وموقف محدثی أهل السنة منها

کلمة قبل البدء

الحدیث الأول: حدیث الثقلین کتاب الله سبحانه وتعالی وعترة نبیه صلی الله علیه وآله وسلم

بعض نصوص حدیث الثقلین مع تصحیح علماء أهل السنة ومحدثیهم لها

إخراج مسلم حدیثین من أحادیث الثقلین فی کتابه (صحیح مسلم)

حدیث الثقلین فی مسند أحمد بن حنبل

تصحیحات الهیثمی لحدیث الثقلین فی کتابه (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد)

تصحیح الحاکم النیسابوری لحدیث الثقلین علی شرط البخاری ومسلم

تصحیح ابن حجر العسقلانی لحدیث الثقلین

تصحیح الحافظ أحمد بن أبی بکر بن إسماعیل البوصیری لحدیث الثقلین

تصحیح ابن حجر الهیتمی لحدیث الثقلین

محاولات محدثی أهل السنة وعلمائهم لتحطیم حدیث الثقلین

1: استغلال ابن تیمیة عدم ذکر البخاری حدیث الثقلین

2: حذف الحدیث من مسند ابن راهویه مع ان جمعاً من العلماء اعترف بوجوده فیه

أ: ابن حجر العسقلانی یصرح بوجود حدیث الثقلین فی کتاب مسند ابن راهویه

ب: الحافظ البوصیری یصرح بوجود الحدیث فی مسند ابن راهویه

ج: المتقی الهندی یعترف بورود حدیث الثقلین فی مسند ابن راهویه

د: علماء آخرون یقرون بوجود حدیث الثقلین فی مسند إسحاق بن راهویه

3: محاولاتهم تطبیق حدیث الثقلین علی غیر أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین

إشکال: لماذا لم یبین النبی صلی الله علیه وآله وسلم المقصودین من أهل البیت لیقطع نزاع الأمة من بعده

الجواب الأول: یجب الإیمان بان النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلملم یترک شیئا یهدی الأمة إلا وقد بینه

الجواب الثانی: من قال ان النبی صلی الله علیه وآله وسلم لم یبین للأمة أسماء أهل البیت وأعیانهم؟

ص: 706

أولا: وصیته صلی الله علیه وآله وسلم بالولایة لعلی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه فی غدیر خم نفسه

ثانیا: وصیته صلی الله علیه وآله وسلم فی غدیر خم باثنی عشرة إماماً یأتون من بعده

الجواب الثالث: إن عدم ذکر الأسماء علی التفصیل یعود إلی وضوح مصادیق أهل البیت عند الأمة

4: محاولاتهم استبدال حدیث کتاب الله وعترتی بکتاب الله وسنتی

محاولة ابن عبد البر الاعتذار عن اخراج مالک بن انس للحدیث مقطوعا

محاولة ابن عبد البر اسناد الحدیث وفشله فی ذلک

محاولة الشیخ الالبانی الوهابی تصحیح طریق ابی هریرة وفضح کذبته

محاولة ثانیة للشیخ الالبانی لتصحیح طریق ابن عباس وفشله فی ذلک

الحدیث الثانی: حدیث الطائر المشوی وان أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب أحب الخلق إلی الله سبحانه

نص الحدیث وتصحیح بعض أسانیده

أولا: ما أخرجه ابن عساکر فی کتابه تاریخ مدینة دمشق

وثاقة رجال هذا الإسناد

ألف: أبو غالب بن البنا

باء: أبو الحسین بن الآبنوسی

جیم: أبو الحسن الدار قطنی

دال: محمد بن مخلد بن حفص

هاء: حاتم بن اللیث

واو: عبید الله بن موسی

زای: عیسی بن عمر القارئ

حاء. السدی إسماعیل بن عبد الرحمن الأعور

ثانیا: ما رواه الحاکم النیسابوری وعلق علیه ابن کثیر

وثاقة رجال إسناد ابن کثیر

ألف: عمار بن خالد الواسطی

باء: إسحاق الأزرق

ص: 707

جیم: عبد الملک بن أبی سلیمان

ثالثا: ما رواه الطبرانی وصححه الهیثمی

وثاقة رجال هذا الإسناد

ألف: عبید العجلی

باء: إبراهیم بن سعد الجوهری

جیم: حسین بن محمد

دال: سلیمان بن قرم

هاء: فطر بن خلیفة

واو: عبد الرحمن بن أبی نعم

جملة ممن قال بصحة حدیث الطائر المشوی

1: تصحیح الحاکم لحدیث الطیر

محاولة الذهبی تکذیب الحاکم النیسابوری

محاولة اخری من الذهبی لتکذیب کلام الحاکم النیسابوری

محاولة ثالثة من الذهبی لنقض کلام الحاکم النیسابوری

2: تألیف ابن جریر الطبری کتابا لإثبات حدیث الطیر وتصحیحه

3: تحسین العلائی ومتابعة بدر الدین الزرکشی وابن السبکی وغیرهم له

4: تردد الذهبی ثم اعترافه ان للحدیث أصلاً لکثرة طرقه

إعلان الحرب والنفیر العام ضد حدیث الطائر المشوی من محدثی أهل السنة

أولا: محاولاتهم المستمیتة لرد هذا الحدیث من جهة الإسناد وتضعیفه وتکذیبه

1: ما نقله ابن الجوزی فی العلل المتناهیة

2: تکذیب ابن أبی داود السجستانی لحدیث الطیر

3: تکذیب ابن تیمیة حدیث الطائر المشوی

ألف: زعمه ان الحدیث لم یروه احد من أصحاب الصحیح ولا صححه أئمة الحدیث

باء: زعمه ان الحدیث من المکذوبات الموضوعات وافتراؤه علی الحاکم النیسابوری

جیم: زعمه أن أکل الطیر لا یستوجب أن یکون الآکل أحب الخلق إلی الله

دال: زعمه أنّ هذا الحدیث یناقض مذهب الرافضة ویکذّبه

ص: 708

هاء: زعمه أنّ حدیث الطائر المشوی معارض بحدیث (...لاتخذت أبا بکر خلیلا)

واو: زعمه أنّ عائشة وأباها أحب إلی رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم من فاطمة وعلی صلوات الله وسلامه علیهما

ثانیا: الإرهاب والتعسف فی حق کل من یصحح حدیث الطائر المشوی

ألف: طردهم ابن السقا وغسلهم موضعه بسبب تحدیثه بروایة الطائر المشوی

باء: خوف الحاکم النیسابوری وتخفیه فی داره بعد کسر منبره لأنه حدث بحدیث الطیر وغیره

جیم: مقتل النسائی بسبب تألیفه کتاب (خصائص أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب)

ثالثا: رفضهم الحدیث لیس له أساس علمی وهو رفض مذهبی متعصب

ألف: التوربشتی یحاول إدخال أبی بکر وعمر وعثمان فی حدیث الطائر المشوی

باء: التفتزانی یقول إنّ أبا بکر وعمر مستثنیان من عبارة (ائتنی بأحب خلقک)

جیم: الألبانی یقول یمکن تصحیح الحدیث لو ورد بغیر صیغة التفضیل

الحدیث الثالث: فاطمة علیها السلام سیدة نساء العالمین وسیدة نساء المؤمنات وسیدة نساء أهل الجنة

بعض النصوص الصحیحة التی صرحت بهذه الفضیلة

أولا: ما أخرج فی مسند احمد بن حنبل

ثانیا: ما أخرجه البخاری فی صحیحه

ثالثا: ما أخرجه مسلم فی صحیحه

رابعا: ما رواه الهیثمی وصححه

خامسا: تصحیح الحاکم وابن حجر لطرق تفضیل السیدة خدیجة والسیدة فاطمة صلوات الله و سلامه علیهما

سادسا: تصحیح المناوی لحدیث خیر نساء العالمین أربع

سابعا: تصحیح الآلوسی لحدیث ولم یکمل من النساء إلا أربع

محاولات علماء أهل السنة التغطیة علی هذه الأحادیث وتمییعها

أولا: محاولات متعمدة لتفضیل مریم بنت عمران وآسیة علی خدیجة وفاطمة صلوات الله و سلامه علیهما

ص: 709

ألف: إشاعتهم أحادیث لیس فیها ذکر للسیدة خدیجة والسیدة فاطمة الزهراء صلوات الله و سلامه علیهما

1: تفرد أبی موسی الأشعری وقرة بن إیاس بهذا الحدیث

2: ان رواته متهمون بالانحراف عن أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین فلا یقبل منهم حدیثهم بسبب الخصومة

3: إن الحدیث مقطع من عدة أحادیث ومجموع فی حدیث واحد لأسباب مذهبیة

باء: محاولة ابن حزم إعطاء مقام النبوة لمریم کی تصبح أفضل من السیدتین فاطمة وخدیجة صلوات الله و سلامه علیهما

1: ان القول بنبوة النساء قول شاذ مخالف لإجماع أهل السنة فضلا عن سائر الأمة

2: لا یمکن الاعتماد علی المعنی اللغوی بمفرده لإثبات نبوة النساء

ثانیاً: محاولاتهم تفضیل عائشة علی السیدة خدیجة والسیدة فاطمة صلوات الله و سلامه علیهما

ألف: محاولات لابن حزم فی تفضیل زوجات النبی صلی الله علیه وآله وسلم علی ابنته فاطمة صلوات الله وسلامه علیها

1: ان من زوجاته صلی الله علیه وآله وسلم من کانت تمیل إلی الدنیا ومنهن من کن یؤذینه

2: ان التفضیل مشروط بالتقوی وطاعة الله ورسوله، فمن فقدت الشرط فقدت الاحترام

3: ان الأفضلیة فی الآیة تخص الثواب والعقاب لا غیر

4: ان مضاعفة الثواب والعقاب یشمل غیر زوجات النبی صلی الله علیه وآله وسلم  فلا اختصاص لهن به

5: لیس فی کون المرأة زوجة للنبی صلی الله علیه وآله وسلم فضل لذاته ولابد ان یکون مقرونا بالتقوی والطاعة

6: عائشة لم تلتزم بالشروط التی وضعتها الآیة لزوجات النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم

7: خدیجة أفضل نساء النبی صلی الله علیه وآله وسلم وسائر نسائه أفضل من عائشة وفاطمة أفضل الجمیع

باء: محاولة أخری من محاولات ابن حزم لتفضیل عائشة علی السیدة الزهراء صلوات الله وسلامه علیها

1: معنی السیادة فی (سیدة نساء العالمین) و(سیدة نساء أهل الجنة) هو بمعنی أفضلهن

2: لا یمکن لحدیث الثرید من معارضة حدیث (سیدة نساء العالمین) و(سیدة نساء أهل الجنة)

3: دس ابن حزم لسمومه فی العسل محاولة منه لتجرید السیدة الزهراء صلوات الله وسلامه علیها من فضائلها

ص: 710

4: إبطال کون ابن عمر حجة فی اللغة العربیة وهو الذی عجز عن طلاق زوجته

جیم: محاولة ابن القیم تفضیل عائشة علی السیدة فاطمة صلوات الله وسلامه علیها بالعلم والمعرفة

1: السیدة فاطمة صلوات الله وسلامه علیها أعظم ثوابا عند الله سبحانه من عائشة

2: السیدة الزهراء صلوات الله وسلامه علیها أعظم علما واکبر فائدة من عائشة

3: عائشة تصور نفسها للناس بأنها سفیهة قلیلة المعرفة وکثیرة اللهو واللعب

4: السیدة فاطمة صلوات الله وسلامه علیها أفضل من عائشة بشرف الأصل وجلالة النسب

دال: تصریح خطیر لابن کثیر بان من فضّل عائشة علی خدیجة حملته قوة التسنن علی ذلک

1: العصبیة والعناد أساس لجمیع محاولات تفضیل غیر أهل البیت علیهم

2: لا یمکن لابن کثیر إثبات هذه الکذبة

3: السیدة خدیجة صلوات الله وسلامه علیها أعلم من عائشة لهذه الأسباب

4: اعتراف علماء أهل السنة بوفور علم السیدة خدیجة صلی الله علیه وآله وسلم وفقهها

5: تکذیب حدیث خذوا شطر دینکم عن الحمیراء یعنی عائشة

هاء: محاولة استدلالهم بحدیث الثرید علی حسن خلق عائشة وحلاوة منطقها ونحو ذلک

1: إثبات ان حدیث الثرید صدر عن النبی الأعظم صلی الله علیه وآله وسلم من باب المزاح وتخفیف الغیرة

2: کل ما ذکر للثرید من الفوائد موجود فی غیره من الأطعمة مثله أو أحسن منه

3: لا روایة صحیحة تنص علی وجود فضل للثرید، وروایة فضل عائشة غریبة المتن شاذة المعنی

4: لا ارتباط بین فوائد الثرید وحسن خلق عائشة وحلاوة نطقها وفصاحتها وغیر ذلک

5: هل روت عائشة عن النبی صلی الله علیه وآله وسلم ما لم ترو الرجال عنه صلی الله علیه وآله وسلم

ثالثا: حذف حدیث فی فضل فاطمة من صحیح مسلم وإضافة حدیث الثرید مکانه

الحدیث الرابع: الحسن والحسین سیدا شباب أهل الجنة

بعض نصوص هذا الحدیث مع ذکر تصحیحها ومن قال بتواترها

1: ما رواه احمد بن حنبل فی مسنده

ص: 711

ألف: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَیْرِیُّ

باء: یَزِیدُ بْنُ مَرْدَانُبَةَ

جیم: ابْنُ أَبِی نُعْمٍ

دال: أَبو سَعِیدٍ الْخُدْرِیِّ

2: ما رواه احمد بن حنبل فی مسنده أیضا

ألف: حُسَیْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ

باء: إِسْرَائِیل

جیم: مَیْسَرَةُ بْنُ حَبِیبٍ

دال: الْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو

هاء: زِرُّ بْنُ حُبَیْشٍ

واو: حُذَیْفَةُ

3: ما رواه النسائی فی السنن الکبری

ألف: عمرو بن منصور

باء: أبو نعیم

جیم: یزید بن مردانبة

دال: عبد الرحمن بن أبی نعم

هاء: أبو سعید الخدری

4: تصحیح زیادة (وأبوهما خیر منهما)

5: بعض من قال بتواتر حدیث الحسن والحسین سیدا شباب أهل الجنة

محاولات أهل السنة للتشویش علی هذا الحدیث

1: محاولتهم إقحام نبی الله عیسی ویحیی فی ضمن الحدیث

ألف: مناقشة ما صححه الحاکم النیسابوری

أولا: ان الذهبی تعقب تصحیح الحاکم ولم یقره علی قوله

ثانیا: فی السند عبد الحمید بن عبد الرحمن الحمانی وهو ضعیف متهم بالإرجاء ویخطئ

ص: 712

ثالثا: أبو العباس محمد بن یعقوب الأصم کان أموی الانتماء فهو متهم فی هذا الحدیث

باء: مناقشة روایة النسائی فی کتابه (السنن الکبری)

أولا: لوجود (مروان) فی إسناده وهو مدلس وقد عنعن

ثانیا: لوجود الحکم بن أبی نعیم بن عبد الرحمن

جیم: مناقشة روایة الطبرانی فی کتابه المعجم الکبیر

أولا: لوجود أسباط بن نصر الهمدانی الذی یقلب الأسانید والموصوف بالأهوج

ثانیا: لوجود جابر بن یزید الجعفی

2: محاولتهم اختلاق حدیث (أبو بکر وعمر سیدا کهول أهل الجنة) وتصحیحه

أولا: الجنة لیس فیها شیوخ بإجماع المسلمین وأهل الجنة شباب جرد مرد کما ورد فی الحدیث

ثانیا: طعن أصحاب الحدیث وأهل الجرح والتعدیل بطرق هذا الحدیث

1: تضعیف الهیثمی لعدة طرق من طرق الحدیث

2: تضعیف أبی داود لبعض طرق الحدیث لوجود عبد الرحمن بن مالک الکذاب فی سنده

3: رمی الطبرانی لأکثر أسانید الحدیث بالتفرد

ألف: الروایة الأولی

باء: الروایة الثانیة

جیم: الروایة الثالثة

دال: الروایة الرابعة

هاء: الروایة الخامسة

واو: الروایة السادسة

4: طعن الدارقطنی فی عدة طرق من طرق الحدیث

ألف: طعنه فی طریق الحسین عن علی

باء: طعنه لطریق الحارث عن علی

جیم: طعنه فی طریق زر بن حبیش عن علی

دال: طعنه فی طریق الشعبی عن أبی هریرة

فضح الشیخ الألبانی الوهابی ورد تحسینه لحدیث أبو بکر وعمر سیدا کهول أهل الجنة

1: تضعیفه لطریق الحارث عن علی

ص: 713

2: تحسینه لطریق زر بن حبیش عن علی

3: تحسینه لحدیث فی زوائد مسند احمد بن حنبل

4: تضعیفه لطریق الزهری عن علی ولطریق أنس بن مالک

5: تحسینه لطریق مالک بن مغول عن عون بن أبی جحیفة

6: تضعیفه لطریق جابر وأبی سعید وابن عمر

7: کذبته الکبری بان الحدیث بمجموع طرقه صحیح بلا ریب

الفصل الخامس: اختلال موازین أهل الحدیث وتساهلهم المفرط فی معالجة فضائل الصحابة... بعض فضائل أبی بکر وعمر أنموذجا

الحدیث الأول: لو وزن إیمان أبی بکر بإیمان الناس لرجح إیمان أبی بکر

ولنا علی حدیث عمر بن الخطاب عدة ملاحظات منها:

1: ان حدیث عمر لیس حدیثا نبویا وإنما هو من أقوال عمر وآرائه الشخصیة

2: ان حدیث عمر وان صح سنده إلا انه لا قیمة علمیة له ولا تثبت به فضیلة

3: ان فی هذا الحدیث منقصة وظلماً لأمة محمد صلی الله علیه وآله وسلم

4: لا تکفی صحة السند وحدها لقبول متن الحدیث ومضمونه

5: هذا الحدیث من ضمن الأحادیث المسروقة من أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه

وأما حدیث ابن عمر فیرد علیه عدة ملاحظات منها

1: فی احد طرقه عبد الله بن عبد العزیز وهو کذاب وأحادیثه عن أبیه لا یتابع علیها

2: فی الطریق الثانی عیسی بن عبد الله ضعیف یسرق الحدیث

3: حدیث ابن عمر مضطرب الإسناد کما فی علل الدارقطنی

استماتتهم فی سبیل إثبات هذا الحدیث الضعیف

ص: 714

1: تدلیس السخاوی واستماتته لإثبات هذا الحدیث

ألف: إنصاف السخاوی فی قوله ان الحدیث من قول عمر لا من قول النبی صلی الله علیه وآله وسلم

باء: تدلیسه وإیهامه للقارئ بان للحدیث متابعاً من دون أن یشیر إلی ضعف سنده

جیم: إثبات کذب ادعائه بان للحدیث شاهداً صحیحاً

أولا: لان فیها محمد بن المثنی الذی کان فی عقله شیء

ثانیا: وفیها محمد بن عبد الله المثنی لم یکن من فرسان الحدیث وقد اختلط اختلاطا شدیدا ولم یسمع من أشعث

ثالثا: وفیها الأشعث وهو ممن اختلف فی توثیق أحادیثه وفی حدیثه أوهام

رابعا: وفی السند (الحسن) المعروف ب_(الحسن البصری) وکان کثیر التدلیس والإرسال وقد دلس هنا وأرسل

خامسا: کیف یوضع النبی صلی الله علیه وآله وسلم مع أبی بکر وغیره ویقاس فی میزان واحد؟

2: خطأ الحاکم النیسابوری فی تصحیح هذا الشاهد الضعیف

ألف: فیه مؤمل بن إسماعیل ضعفه الجمهور منهم البخاری وغیره

باء: وفیه حماد بن سلمة الذی اختلط، والذی کانت الأحادیث تدس فی کتبه

جیم: وفیه سعید بن جمهان الأسلمی البصری وهو مختلف فی وثاقته وعدالته

الحدیث الثانی: لو کان بعدی نبی لکان عمر... وما فی معناه

بعض نصوص هذا الحدیث المکذوب علی رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم

الحدیث الأول فی مسند احمد بن حنبل

أولا: لان احمد بن حنبل أمر بحذف هذه الروایة من المسند لنکارتها إلا ان ابنه أبقاها

ثانیا: لوجود بکر بن عمرو المجهول العدالة والوثاقة

ثالثا: لوجود مشرح بن هاعان الذی کان یخطئ ویخالف ویروی المناکیر التی لا یتابع علیها

رابعا: حکم ابن الجوزی علی الحدیث بأنه موضوع

الحدیث الثانی والثالث فی سنن الترمذی والمعجم الکبیر للطبرانی

الحدیث الرابع: فی معجم الطبرانی عن عصمة بن مالک الخطمی

أولا: لوجود احمد بن رشدین فی إسناده وهو ضعیف

ص: 715

ثانیا: لوجود الفضل بن المختار فی الإسناد وهو مجهول منکر الحدیث یروی الأباطیل

الحدیث الخامس: فی تاریخ مدینة دمشق وغیره

استماتة محدثی أهل السنة لتصحیح هذا الحدیث الضعیف المنکر

1: محاولة الترمذی لتحسین هذا الحدیث علی رغم کونه غریبا

2: تصحیح الحاکم النیسابوری لحدیث نبوة عمر وموافقة الذهبی له

3: محاولة السیوطی الرد علی ابن الجوزی لإخراجه الحدیث فی کتاب الموضوعات

ألف: محاولته توثیق زکریا بن یحیی الوقار الکذاب

باء: محاولته توثیق ابن واقد أبو قتادة الحرانی الکذاب المجمع علی ترکه وتضعیفه

جیم: السیوطی یوثق أبا قتادة حینما یتعلق الأمر بعمر بن الخطاب ویکذبه حینما یتعلق الأمر بفاطمة الزهراء

4: محاولة صاحب کتاب (تنزیه الشریعة المرفوعة) تصحیح الحدیث

فهرس المصادر

ص: 716

ص: 717

 إصدارات قسم الشؤون الفکریة والثقافیة فی العتبة الحسینیة المقدسة

 تألیف

 اسم الکتاب

 ت

 السید محمد مهدی الخرسان

 السجود علی التربة الحسینیة

 1

 

 زیارة الإمام الحسین علیه السلام باللغة الانکلیزیة

 2

 

 زیارة الإمام الحسین علیه السلام باللغة الأردو

 3

 الشیخ علی الفتلاوی

 النوران ___ الزهراء والحوراء علیهما السلام __ الطبعة الأولی

 4

 الشیخ علی الفتلاوی

 هذه عقیدتی __ الطبعة الأولی

 5

 الشیخ علی الفتلاوی

 الإمام الحسین علیه السلام فی وجدان الفرد العراقی

 6

 الشیخ وسام البلداوی

 منقذ الإخوان من فتن وأخطار آخر الزمان

 7

 السید نبیل الحسنی

 الجمال فی عاشوراء

 8

 الشیخ وسام البلداوی

 ابکِ فإنک علی حق

 9

 الشیخ وسام البلداوی

 المجاب بردّ السلام

 10

 السید نبیل الحسنی

 ثقافة العیدیة

 11

 السید عبد الله شبر

 الأخلاق (تحقیق: شعبة التحقیق) جزآن

 12

 الشیخ جمیل الربیعی

 الزیارة تعهد والتزام ودعاء فی مشاهد المطهرین

 13

 لبیب السعدی

 من هو؟

 14

ص: 718

 السید نبیل الحسنی

 الیحموم، أهو من خیل رسول الله أم خیل جبرائیل؟

 15

 الشیخ علی الفتلاوی

 المرأة فی حیاة الإمام الحسین علیه السلام

 16

 السید نبیل الحسنی

 أبو طالب علیه السلام ثالث من أسلم

 17

 السید محمدحسین الطباطبائی

 حیاة ما بعد الموت (مراجعة وتعلیق شعبة التحقیق)

 18

 السید یاسین الموسوی

 الحیرة فی عصر الغیبة الصغری

 19

 السید یاسین الموسوی

 الحیرة فی عصر الغیبة الکبری

 20

 الشیخ باقر شریف القرشی

 حیاة الإمام الحسین بن علی (علیهما السلام) ___ ثلاثة أجزاء

 21 __ 23

 الشیخ وسام البلداوی

 القول الحسن فی عدد زوجات الإمام الحسن علیه السلام

 24

 السید محمد علی الحلو

 الولایتان التکوینیة والتشریعیة عند الشیعة وأهل السنة

 25

 الشیخ حسن الشمری

 قبس من نور الإمام الحسین علیه السلام

 26

 السید نبیل الحسنی

 حقیقة الأثر الغیبی فی التربة الحسینیة

 27

 السید نبیل الحسنی

 موجز علم السیرة النبویة

 28

 الشیخ علی الفتلاوی

 رسالة فی فن الإلقاء والحوار والمناظرة

 29

 علاء محمد جواد الأعسم

 التعریف بمهنة الفهرسة والتصنیف وفق النظام العالمی (LC)

 30

 السید نبیل الحسنی

 الأنثروبولوجیا الاجتماعیة الثقافیة لمجتمع الکوفة عند الإمام الحسین علیه السلام

 31

 السید نبیل الحسنی

 الشیعة والسیرة النبویة بین التدوین والاضطهاد (دراسة)

 32

 الدکتور عبدالکاظم الیاسری

 الخطاب الحسینی فی معرکة الطف ___ دراسة لغویة وتحلیل

 33

 الشیخ وسام البلداوی

 رسالتان فی الإمام المهدی

 34

 الشیخ وسام البلداوی

 السفارة فی الغیبة الکبری

 35

 السید نبیل الحسنی

 حرکة التاریخ وسننه عند علی وفاطمة علیهما السلام (دراسة)

 36

 السید نبیل الحسنی

 دعاء الإمام الحسین علیه السلام فی یوم عاشوراء __ بین النظریة العلمیة والأثر الغیبی (دراسة) من جزءین

 37

 الشیخ علی الفتلاوی

 النوران الزهراء والحوراء علیهما السلام ___ الطبعة الثانیة

 38

ص: 719

 شعبة التحقیق

 زهیر بن القین

 39

 السید محمد علی الحلو

 تفسیر الإمام الحسین علیه السلام

 40

 الأستاذ عباس الشیبانی

 منهل الظمآن فی أحکام تلاوة القرآن

 41

 السید عبد الرضا الشهرستانی

 السجود علی التربة الحسینیة

 42

 السید علی القصیر

 حیاة حبیب بن مظاهر الأسدی

 43

 الشیخ علی الکورانی العاملی

 الإمام الکاظم سید بغداد وحامیها وشفیعها

 44

 جمع وتحقیق: باسم الساعدی

 السقیفة وفدک، تصنیف: أبی بکر الجوهری

 45

 نظم وشرح: حسین النصار

 موسوعة الألوف فی نظم تاریخ الطفوف __ ثلاثة أجزاء

 46

 السید محمد علی الحلو

 الظاهرة الحسینیة

 47

 السید عبد الکریم القزوینی

 الوثائق الرسمیة لثورة الإمام الحسین علیه السلام

 48

 السید محمد علی الحلو

 الأصول التمهیدیة فی المعارف المهدویة

 49

 الباحثة الاجتماعیة کفاح الحداد

 نساء الطفوف

 50

 الشیخ محمد السند

 الشعائر الحسینیة بین الأصالة والتجدید

 51

 السید نبیل الحسنی

 خدیجة بنت خویلد أُمّة جُمعت فی امرأة – 4 مجلد

 52

 الشیخ علی الفتلاوی

 السبط الشهید – البُعد العقائدی والأخلاقی فی خطب الإمام الحسین علیه السلام

 53

 السید عبد الستار الجابری

 تاریخ الشیعة السیاسی

 54

 السید مصطفی الخاتمی

 إذا شئت النجاة فزر حسیناً

 55

 عبد السادة محمد حداد

 مقالات فی الإمام الحسین علیه السلام

 56

 الدکتور عدی علی الحجّار

 الأسس المنهجیة فی تفسیر النص القرآنی

 57

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.